عبدالله الزاعبي
بسم الله الرحمن الرحيم
في ظل التغيرات المتسارعة والمتلاحقة، واضطراب المفاهيم والرؤى، فإننا بحاجة إلى الوقوف والتأمل والنظر والتدقيق فيما يجري.
إن الإسراع في تبني الأفكار والآراء بالتأييد أو الرفض في ظل الاضطراب أو الفوضى بعد خللا في الرؤية ورأيا مجانبا للصواب. هذه التغيرات والتحولات في المجتمعات العربية اليوم، ليست تغيرات سياسية فقط بل هناك أصعدة أخرى طالتها هذه التغيرات ومنها التغيرات النفسية/الاجتماعية/الاقتصادية/الفكرية ُرفعت في هذه القضايا وفي غيرها سقف التغيرات، إذا ثمة قضايا وأبعاد أخرى تحتاج إلى الوقوف والتأمل حيالها.
إن الأجيال القادمة أبدا لن تكون كأجيال ما قبل ثورة تونس، بحق إن جيلنا الذي أدرك وعاش ثورة تونس قد تغير فكريا (رُبما). أما الأجيال القادمة –الناشئة اليوم- هي من سيلمس نتائج هذه الثورات. هل هي السنة الربانية (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ)؟ فيذهب جيل ويأتي جيل آخر. والعجيب أن هذه الأنظمة كذلك عاشت أربعين سنة أو دون ذلك بقليل.
أمر آخر خيوط اللعبة الدولية والعالمية بل مخالبها السياسية/الاقتصادية/الفكرية لن تكون في منأى عن هذه التغيرات، لهم مصالح تتقاطع أو تتقابل مع هذه الثورات. لن يقفوا مكتوفي الأيدي فهذا من المحال وضرب من الخيال، هل نسينا أم تناسينا أن من استراتجيات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تتمثل في التحرك لتغيير الأنظمة العربية وإعادة تشكيل المنطقة برمتها. كما تحدث جون لوبس غاديس عن وجود \"إستراتيجية كبرى\" لتغيير الشرق الأوسط بأكمله وجلبه إلى الحداثة. وقال فؤاد عجمي أن الدافع الأمريكي الآن هو تحديث العالم العربي. أما مارتن أنديك فتحدث عن ضرورة إصلاحات كاسحة في الأقطار العربية وتشجيع الطبعات المعتدلة من الإسلام. ويرى توماس بارنيت –وهو يعتبر أبرز محلل استراتيجي في وزارة الدفاع الأمريكية- أن العدو في العالم الجديد ليس الإسلام ولا المكان. بل عدم الارتباط بالعولمة والحرمان والقمع. أم هل تجاهلنا الفوضى الخلاقة؟ أم نسينا الغاية المرجوة لإسرائيل وهي إعادة تشكيل المشرق الإسلامي على أسس دينية وطائفية. وبناء دويلات جديدة على هذا الأساس؟ أم لم نرى الدخول القوي لتركيا والمطالبة بتعديل هذه الأنظمة، وكذلك إيران المطالبة بإطاحة الأنظمة برمتها!!! وهذا تأكيد على أن سؤال الأزمة في المشرق الإسلامي لم يكن ولن يكون سؤالا محليا بحتا؟
إن نهوض الأمم لا يكون بإسقاط نظام فقط، وإن كان هذا مطلب في الأنظمة الدكتاتورية الاستبدادية، ولكن العجلة لا تقف هنا. فلو سقط دكتاتور وأتى آخر باسلوب جديد وعصري يجيد فن الخطاب الثقافي/السياسي/الاجتماعي ويجيد التقنية الحديثة \"الفيس بوك\" دكتاتور ليس بوليسي، ولكنه دكتاتور اجتماعي/ثقافي ... وهذه الدكتاتورية هي ما تمارسه الدول الديمقراطية منذ القدم في تخدير الشعوب وتضليلها وخاصة العربية المشرقية، ففي الماضي سطع مفهوم \"تلقي المساعدات من الخارج\" لنشر الحرية في العراق العثماني، وانطلق الأمريكان اليوم من تحرير العراق من ظلم الدكتاتورية الممتلكة للسلاح النووي!!
إن عالم المشرق الإسلامي الروحي/الثقافي/السياسي/الاجتماعي/الاقتصادي هو الحقل الذي يدرسه الغرب اليوم بأدق التفاصيل.
في مجتمعاتنا العربية المشرقية العاطفة الدينية جياشة، وطافحة على السطح. والعجيب أننا نحاكم منعطفات أمتنا التاريخية عاطفيا فقط ب\"مع\" أو \"ضد\" والتاريخ لا يخضع للعواطف بل للحقائق.
إن ما يجري اليوم ليس جديدا إلا على الأجيال التي لم ترى الثورات والانقلابات في أوساط القرن الماضي أو بدايته، وكان خروج الجماهير في تلك الفترة شبيها بخروجها اليوم من طرد للمستعمر ثم إطاحة بالملكيات ثم الانقلابات ثم فرحهم بالمنقذ والمخلص للبلد وصاحب الحريات والحقوق، ولكتها كانت فرحة بجلادها الجديد المعاصر لها والمتنور والمنفتح في ذلك الوقت. أم أنها آية البعث (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) إنها بداية كل مائة عام والتغيرات التي تجري معها، وبداية كل تقنية جديدة والتحولات التي تواكبها.
أخشى أن فرحة النخب بهذه التغيرات والثورات من باب تصفية الحساب إبان مرحلة الإقصاء والتهميش، وقد رأينا من بعضهم الصمت أو التلميح في بعض الثورات بينما في بعضها الآخر التوجيه والتصريح والإشادة والإعجاب!!
إن استخدام كلمة \"ثورة\" يشير بوضوح تام إلى الافتقار لتوقع ما لا سابق له من جانب الفاعلين الذين لم يكونوا أكثر استعدادا من مشاهدي الفعل المعاصرين لهم. ويرى أفلاطون في \"الثورات\" أنها تحول شبه طبيعي في شكل من أشكال الحكومة إلى شكل آخر.
إن الصعود إلى الأعلى أوضح للرؤية وأنقى للهواء.