نصائح منهجية
لطالب علم السنة النبوية
تأليف
الشريف حاتم بن عارف العوني
جدول المحتويات
تمهيد...................................................................................................... 6
شرف علم الحديث وشرف حملته......................................................................... 8
أهم مميزات علم الحديث وأوضح خصائصه............................................................ 14
فمن الأسباب التي يستعان بها في حفظ الحديث:....................................................... 31
الأول حسن النية:...................................................................................... 31
الثاني: اجتناب ارتكاب المحرمات ومواقعة المحظورات:.................................................. 32
الثالث: العمل بالحديث الذي يرويه ويحفظه:.......................................................... 32
الرابع: اغتنام الأوقات المناسبة في اليوم للحفظ:....................................................... 33
الخامس: اغتنام فترة الصبا والشباب:.................................................................. 33
السادس: اختيار الأماكن المناسبة للتحفظ:............................................................. 34
السابع: الجهر بقراءة ما يراد حفظه:................................................................... 34
الثامن: إحكام الحفظ بكثرة تكريرة.................................................................... 34
التاسع: تعهد المحفوظ، بإعادة النظر فيه وتكريره، في أوقات مختلفة:................................... 35
ولهذه الطريقة مميزات وعيوب:......................................................................... 38
وأما الطريقة الثانية للحفظ:............................................................................ 38
الميزة الثالثة: ولك في سيرة العلماء قدوة:.............................................................. 42
الميزة الرابعة: منهج القراءة والتعلم لكتب الحديث والمصطلح........................................ 47
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وصلى الله أفضل صلاة وأكمل تسليم على سيد ولد آدم المبعوث رحمة للعالمين محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وأصحابه والتابعين:
أما بعد: فإن طلب العلم من أعظم العبادات، وثوابه يفضل ثواب أكثر القربات، وسبل تحصيله سبل الجنات، تظله الملائكة فيها بأجنحتها خاضعات، وتنزل على مجالسه السكينة والرحمات.
فرضي الله عن سهر تلك الليالي في الجد والتحصيل، وأنعم بتلك الخطى في طلب علوم التنزيل، وأعظم بالزاهدين إلا في ميراث النبوة، الهاجرين المضاجع والأوطان الآخذين الكتاب بقوة.
فإن عجب أحد من هذا الثناء القليل، في طالب العلم الجليل ؛ سألته بالله:
هل دبت على وجه الأرض خطى أشرف من خطى طالب علم ؟!
وهل حوت الأسحار والأبكار أجد منه في طلبه ؟! وهل مر على الأسماع ألذ من دندنة المتحفظين وزجل القارئين ؟! وهل امتلأت القلوب هيبة لمثل منكب على كتاب ؟! وهل انشرحت الصدور إلا في مجالس الذكر ؟! وهل انعقدت الآمال جميعها إلا على حلق التعليم ؟! وهل نزلت السكينة والرحمة على مثل الدارسين لكتاب الله العظيم ؟! وهل تضاءلت عروش الملوك إلا عند منابر العلماء ؟! وهل عمرت المساجد في غير أوقات الصلوات بمثل مجالس التعليم ؟!
أخبروني ؟ بالله عليكم!!!
ثم أسألكم بالله: هل تعلمون خيراً من شاب في هذا العصر، هجر الدنيا وزهد ملذاتها، ونأى بعيداً عن شهواتها، وانعزل عن فتنها التي تستفز الحليم، وانقطع عن إغواءاتها التي تستخف بالرزين، وترك الناس على دنياهم يتكالبون، وهجر من أهله وإخوانه تنافسهم على القصور والأموال والمناصب، فإن مر على اللغو مر مر الكرام، وإن تعرض له الجاهلون أعرض وقال: سلام ؛ وهو مع ذلك شاب في عنفوان الشباب، أمامه مستقبل عريض، وعليه مسئولية بناء جديد، وينظر إلى الأفق البعيد نظرة ملؤها الآمال والأحلام، تفور فيه غرائز الشهوات، ويجيش فؤاده بالعواطف، وتتفجر دماؤه حماساً ؛ ثم هو هو ذلك الذي تجاوز هذا كله!! وجعله وراءه ظهرياً!! وأقبل على العلم.. على مرارته، وانكب على الكتاب.. على ملالته، وإذا حن إلى عناق كاعب..خالفته يدا كاتب، وإذا اشتهت شفتاه أن يرتشف الرضاب.. تمتم ملتذاً بقراءة كتاب ؛ قطع الأيام في التحصيل، وسهر الليالي على الدرس والترتيل ؛ يقرأ حتى تزوغ عينه، ويكتب حتى تكل يده، ويدرس حتى يكد ذهنه!!!
أخبروني.. من أفضل من هذا ؟!!
مع ذلك فإنه يرى أن الذي هو فيه: هو الحياة حقاً، وجنة دار الفناء صدقاً، يرحم أهل الدنيا، ويحنو على أبناء الملذات ؛ لأنه يعرف أنه على برنامج العلماء، ومنهج الأولياء، وخطة الفقهاء، وغاية الكبراء، ومعارج الأتقياء.
فيترنم بقول القائل :
لمحبرة تجالسني نهاري
أحب إلي من أنس الصديق
ورزمة كاغد في البيت عندي
أحب إلي من عدل الدقيق
ولطمة عالم في الخد مني
ألذ لدي من شرب الرحيق
ولست أنا بالذي يذكر فضل طالب العلم، إذ قد رددت ذلك المحاريب وأصداؤها، وضجت به أروقة المساجد وقبابها، وتعبد بترتيله المتهجدون، وتقرب بتدبره أهل العلم الراسخون ؛ وقبل ذلك نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ؛ وقبل ذلك تكلم به الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ؛ فقال تعالى : في الحث على سؤال التعلم – الذي هو أول درجاته – (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) [النحل: 43]، وقال عز وجل في الأمر بالرحلة لطلب العلم: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) [التوبة:122]، وما أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة في شــيء في الدنيا،إلا من العلم، فقال تعالى: (وقل رب زدني علماً) [طه:114] ؛ وأشاد سبحانه – أيما إشادة! – بفضل أهل العلم، ورفع من شأنهم، وأعلى من قدرهم، بما يعجز عن بيانه إلا البيان المبين، من كلام رب العالمين، فقال عز من قائل (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل عمران: 18]، وقال سبحانه وتعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطـر: 28]، وقال سبحانه (يرفع الله الذين ءامنوا والذين أوتوا العلم درجات) [المجادلة: 11]، وقال عز شـانه (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) [الزمر: 9].
فلما كانت لطالب العلم مكانته التي نوهنا ببعضها، تبين أنه على صغر سنة طالب جليل، وعلى قلة عمله بسلوكه مسالك الطلب استحق التبجيل.
ومن حق هذا الذي يقفو آثار العظماء، ويلوث على رأسه عمامة العلماء ؛ أن يكون له نصيب من التوجيه كبير، وحظ من النصح وفير.
ولما طلب مني مكتب التوعية بمكة المكرمة أن ألقي كلمة على منهج القراءة في كتب الحديث والمصطلح، ورأيت أن الرفض لا يسعني، أجبتهم إلى رغبتهم، على ضعف وعجز. لكني من حين أجبت، عزمت على أن أجعل المنهج المطروح منهجاً مستقى من مناهج العلماء، ودرباً نص الأئمة على أنهم قد ساروا عليه، أو دلت سيرهم وأخبارهم وعلومهم على أنهم قد طرقوه. وإنما عزمت على هذا العزم، لأن منهج تعلم أي علم يجب أن يؤخذ عن العلماء بذلك العلم، الذين عرفوا دروبه، وأحاطوا بسبله، وملأتهم الخبرة به بصيرة بالأسلوب الصحيح في تلقيه، وأشبعتهم فنونه بالوسائل المبلغة إليه.
وتم ما أعددته لتلك الكلمة في الشهر الأول من عام (1418هـ)، وألقيتها في هذا التاريخ.
ثم تكرر إلى الطلب بنشرها مكتوبة، حسن ظن من الطالبين، فرأيت أن إجابة سؤالهم فيه تحقيق فائدة وإن صغرت، وتوجيه نصيحة لطلبة العلم لا تخلو من نفع.
وعلى هذا فهذه الرسالة في أصلها كلمة ملقاة، ضمن سلسة من الكلمات نظمتها إدارة مكتب التوعية بمكة المكرمة مشكورة مأجورة إن شاء الله تعالى. وقد سبقت هذا الكلمة كلمات حول آداب العلم وطلبه ومناهجه عموماً، ثم خصصت علوم الحديث بالدرس الذي أقوم بنشره اليوم. وعلى هذا فرسالتنا هذه مسبوقة بما يغني عن تكراره هنا، ولذلك فقد جاءت مقتصرة على الوسائل المبلغة لطالب العلم إلى أن يصبح محدثاً عارفاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، دون التطرق إلى أبواب العلم الأخرى على جلالتها وفضلها.
فأسأل الله عز وجل أن ينفع بهذه الورقات وأن يستخرج بها من قلب مؤمن بظهر الغيب دعوات صالحات، وأن يجعلها في موازين الحسنات.. آمين.
والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وكتب
الشريف حاتم بن عارف بن ناصر العبدلي العوني
تمهيد
هناك مبادئ عامة ينصح بها كل طالب علم، ليضعها أمام عينيه عند أول ما ينوي السير في طريق العلم الطويل. وبعض هذه المبادئ العامة سوف تكون مدخلنا إلى الجواب عن السؤال الذي يسأل عنه قارئ هذه الورقات، وهو: كيف أصبح محدثاً عارفاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فلا شك أن أول ما يلزم من أراد أن يكون طالب علم (أي علم من العلوم)، أن يتعرف على العلوم من جهة موضوعاتها وغاياتها والثمرة الناتجة عنها. لأنه بذلك يعرف شرف كل علم وفضله، ومنقبة حملة ذلك العلم ورفعة قدرهم. وهذا يجعله قادراً على ترتيب العلوم على حسب أهميتها، ووضعها في مراتبها من أولوية التعليم.
فإذا ما ابتدأ طلب علم من العلوم بعد ذلك، وقد عرف أنه فضائله ومناقب حملته، وعرف إنما ابتدأ به لأنه أحق من غيره ببداية التعلم، وأولى مما سواه بأن يكون باكورة الطلب ؛ زاده ذلك إقبالاً على العلم، وحرصاً عليه، وصبراً في تحصيله، وثقة بصواب خطواته، واطمئناناً على صحة منهجه. فلا يزيده بعد ذلك طول الطريق إلا جلداً، ولا وعورته إلا جداً، ولا صعوبته إلا مثابرةً، ولا تعب جسده فيه إلا راحة نفسه، ولا اغترابه من أجله إلا أنساً به، ولا قلة ذات يده إلا فرحاً بالاستكثار منه. حتى يبلغ المنى، ويحصد الجنى.
لذلك حرصت أن لا تخلو هذه الورقات من إلماحات عن شرف علم الحديث وبيان فضل المحدثين؛ وهذا هو العنوان الأول بعد هذا التمهيد.
وبعد أن تعرف طالب العلم على ما سبق، ينبغي عليه أن يستنصح أهل العلم الذي رأى أن يبدأ به، ويطلب منهم أن يوقفوه على خصائص ذلك العلم التي تميزه عن غيره من العلوم، وأن يقرأ بعض ما ألف في التعريف بذلك العلم وفي بيان مميزاته التي تختص به. حيث إن لكل علم ملامح كبرى تفارقه عن غيره من العلوم، وقسمات خاصة به كالتي تباين بين الأشخاص المختلفين. وهذه الملامح والقسمات هي في الحقيقة سر كل علم، وكاشف لغز كل فن، ومفتاح كنوز دقائق العلوم. وتظهر آثار العلم بهذه الملامح (أو عدم العلم بها) على كل مسألة جزئية منه، لأن بصماتها لا تخلوا منها جميع جزئياته.
وتعرف أهمية الابتداء بإدراك خصائص علم ما، وضرورة فهم مزاياه من أول الإقبال عليه ؛ من جهتين اثنتين:
الأولى: أن تلك المزايا والخصائص تمكن طالب العلم من أن يقدر إن كان باستطاعته استيعاب ذلك العلم وأن يبرع فيه، أولا يستطيع ؛ على حسب مواهبه الفطرية وميوله العلمية. وذلك فيما إذا وازن طالب العلم – بصدق وموضوعية – بين تلك المميزات وقدرته على التعلم. فكم من طالب علم تعثر في حياته العلمية بسبب عدم قيامه بهذه الموازنة، وكم من طالب علم لو حاول إدراك تلك المميزات للعلوم لوضع قدمه في أول الطريق الصحيح لعلم منها، ثم برع وأبدع فيه بعد ذلك.
الثانية: أن تلك الخصائص والمميزات الكبرى لأي علم من العلوم تستلزم أسلوباً خاصاً في طلبه ؛ ولكل خصيصة منها منهج معين في التحصيل بمواجهتها. فإدراك طالب ذلك العلم، يجعله واعياً للأسلوب الصحيح في طلب ذلك العلم، عارفاً بعقبات علمه وبوسائل تجاوزها بسرعة ؛ فهو بهذا الوعي والمعرفة محيط بالغاية التي يريد، حتى كأنه بلغها (وإن لم يبلغها)، لشدة وضوح طريقها أمامه، ولعدم خوفه من حواجز تحول بينه وبينها.
وهذا ما جعلني أثني (بعد ذكر شرف علم الحديث وشرف أهله) بأربع مميزات لعلم الحديث، هي في ظني أهم خصائصه، وأوضح ملامحه، تستوجب تجاهها طريقة خاصة في الطلب ومنهجاً معيناً في تعلم علم الحديث.
ثم ختمت هذه الورقات بذكر خطة دراسية منهجية مختصرة للحديث النبوي الشريف ولعلومه، حاولت خلالها وضع مستويات دراسية مرتبة على نظرية التدرج في طلب العلم، من البداية بالمجملات إلى الوصول إلى المفصلات الموسعات من كتب العلم.
ومن خلال هذه العناصر أحسب أني قد ساهمت في الإجابة على سؤال يقول: كيف أصبح محدثاً عارفاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وإليك الإجابة (بعون الله تعالى).
شرف علم الحديث وشرف حملته
لا يشك مسلم من المسلمين أن القرآن الكريم وعلومه أشرف العلوم على الإطلاق، وأنه أنفع العلوم وأجلها وأعظمها بلا استثناء.
وأهم علوم القرآن الكريم وأعظمها، وما من أجله أنزل، هو تدبر آياته، وفهم معانيه ؛ لأن الغاية العظمى من إنزال القرآن هي العمل به، والاعتبار بمواعظه، والاستضاءة بحكمه ؛ وذلك لا يحصل أبداً قبل فهم معانيه وتدبر آياته ؛ وإلا فكيف يعمل بالقرآن من لم يفهم القرآن ؟!
ولا يتم فهم كلام الله تعالى، ولا يمكن أن ندرك معاني كتاب الله المجيد، وإلا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلومها، لأن السنة هي الشرح النظري والعملي للقرآن الكريم.
ومن هنا ندخل إلى أعظم ما يبين مكانه السنة وعلومها، وإلى منزلتها بين العلوم على الإطلاق ؛ وهو أنه لا سبيل إلى فهم القرآن الكريم، وإلى معرفة دين الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى سواه، إلا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلومها!!
أو بعبارة أخرى: بما أن القرآن الكريم أشرف العلوم، وأشرف علومه فهم معانيه لا يكون إلا بالسنة ؛ فالسنة إذا أشرف علوم القرآن، أو قل: أشرف العلوم!!
قال الله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) [النحل:44]، فمنطوق هذه الآية الكريمة يخبر أن إنزال القرآن الكريم كان من أجل بيان النبي صلى الله عليه وسلم له ؛ بسنته القولية والفعلية والتقريرية!! وهذا المنطوق غريب جداً لمن تأمله، لأنه يخالف المتبادر إلى الذهن، من أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت من أجل أن تبين القرآن الكريم، أي أن القرآن هو الغاية التي من أجلها جاءت السنة، أما الآية فقد قالت بضد ذلك، حيث جعلت السنة وبيانها غاية من أجلها انزل القرآن!!!
وهذا من إعجاز القرآن في الإشادة بمكانة السنة من القرآن، وفي التأكيد على عدم استغناء القرآن عنها، بل وعلى بطلان مثل ذلك الاستغناء.. إن زعم!!
ولهذه المنزلة العليا للسنة، ولعلاقتها القوية الوشائج والصلات بالقرآن الكريم، كان يقول غير واحد من السلف، منهم مكحول الشامي (ت 118 هـ): (القرآن أحوج للسنة من السنة للقرآن) ([1]). وذلك لأن إجمال القرآن يحتاج إلى تفصيل السنة، ومتشابه القرآن تفسره السنة ؛ في حين أن السنة – غالباً – مفصلة مبينة واضحة.
ولهذا يصح أن يقال عمن يتعلم السنة: إنه يتعلم القرآن، ولمن يقرأ السنة: إنه يقرأ تفسير القرآن!!
وقد كان ذلك واضحاً تمام الوضوح عند السلف، ولهذا لما قيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير (ت 95 هـ): (لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال مطرف: والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا ) ([2]).
ويجب التنبه إلى أن تفسير السنة للقرآن ليس هو وحده التفسير الصريح لمعانيه من النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم آية ثم يشرحها شرحاً مباشراً. نعم هذا من تفسير السنة للقرآن، لكن الخضم الأعظم منه هو جميع سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية والتقريرية وسيرته ومغازيه وحياته. ولهذا لما سئلت عائشة – رضي الله عنها – عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، أرشدت السائل إلى النظر في القرآن، عندما قالت: (كان خلقه القرآن) ([3])وعلى هذا يحق لمن سأل عن القرآن أن يحال إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما أحالت عائشة السائل عن السنة إلى القرآن!
وهذا أكبر ما يبين مكانة السنة، وعظم أهميتها، وأولويتها على غيرها من العلوم.
ولقد بين الله عز وجل مكانة السنة وشرفها في القرآن العظيم، في آيات كثيرات؛ منها آيات كثيرة في الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالفته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. كقوله تعالى: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) [آل عمران: 132[، وكقوله عز وجل: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) [النساء: 80]، وكقوله سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) [النساء:65]، وكقوله عز شأنه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكــم الله ويغفر لكـــم ذنوبكم والله غفور رحيم) [آل عمران: 31]، وكقوله عز من قائل: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور: 63]، وكقوله عز حكمه: (وما ءاتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر:7]، وكقوله لا رب سواه: (لقد كان لكم فى رســول الله أسوة حسنة لمن كان يرجـوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [الأحزاب:21]، في غيرها من آيات مباركات كثيرات.
ففي هذه الآيات حث على تعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بتعلم أصولها ومصطلحها ، من العلوم التي يميز بها صحيح السنة من سقيمها. لأن الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والترغيب في الاقتداء به لا يمكن امتثاله (بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم) إلا بالنقل والإسناد اللذين اجتمعت فيهما شروط القبول، وشروط القبول (تحققها أو عدم تحققها) في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتوصل إلى إدراكه إلا بالعلوم التي تخدم ذلك، وهي علوم الحديث: أصوله ومصطلحه. إذن فالأمر الإلهي بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به متضمن أمراً إلهياً بتعلم علم الحديث، لأنه لا سبيل إلى امتثال الأمر الأول إلا بعد امتثال الأمر الثاني، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وإذا كان فهم القرآن الكريم، وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والعلم بأحكام هذا الدين (دين الإسلام) وشرائعه وآدابه = لا يكون إلا بعلوم الحديث ؛ علمت ما هي مكانة هذه العلوم!! وفي أي قمة من مراتب العلوم تكون!! ثم علمت شرف أهل الحديث!! وعظيم فضلهم وكبير أثرهم في الأمة!!!
وقد جاءت السنة نفسها ببيان فضل أهل الحديث وشرفهم، في أحاديث كثيرة وآثار ذوات عدد؛ حتى صنف الخطيب البغدادي ( ت 463هـ) كتاباً في ذلك بعنوان (شرف أصحاب الحديث).
ومن هذه الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى تقوم الساعة) ([4]).
قال عبد الله بن المبارك (ت 181 هـ)، ويزيد بن هارون (ت 206هـ)، وعلي ابن المديني (ت234 هـ)، وأحمد بن حنبل (ت 241هـ)، والبخاري (ت 256 هـ)؛ قال هؤلاء الأئمة كلهم في بيان الطائفة المنصورة: (هم أصحاب الحديث) ([5]). بل عبارة الإمام أحمد، وقبله يزيد بن هارون: (إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم).
وأي طائفة أحق بأن يكونوا هم تلك الطائفة الظاهرة المنصورة، من الذين حفظوا الدين، ونقلوا الملة، ونشروا السنة، وقمعوا البدعة ؛ وهم أصحاب حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وحراسه، أهدى الناس بالسنة، وأتبعهم للأسوة الحسنة، بقية الأصحاب، ومرآة الرسول صلى الله عليه وسلم!! فلولا هم لما كان هناك فقيه ولا مفسر، ولا عالم ولا فاضل!! بل لولاهم لما كان هناك مسلم موحد!!!
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة) ([6])، وذكر أهل العلم أن أسعد الناس بهذا الحديث هم المحدثون!
قال ابن حبان (ت 354هـ) بعد إخراجه هذا الحديث في صحيحه: (في هذا الخبر دليل على أن أولى الناس برسوله صلى الله عليه وسلم في القيامة أصحاب الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه صلى الله عليه وسلم منهم) ([7]).
وقال أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ): (وهذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها، لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخاً وذكراً) ([8]).
ومن تردد في هذا الذي ذكراه (عليهما رحمة الله)، فليوازن بين صفحة أو صفحات من صحيح البخاري مثلاً وصفحة أو صفحات من أي كتاب في أحد العلوم الفاضلة (مما سوى الحديث)، كالتفسير والفقه وأصوله والعقيدة، لتظهر مصداقية قول ذينك الإمامين (عليهما رحمة الله)، ليعرف حقاً أن أهل الحديث هم أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة!!
و (الجزاء من جنس العمل)، فكما كان أهل الحديث أهل حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وأولى الناس به صلى الله عليه وسلم فيها ؛ كانوا أيضاً أولى الناس به يوم القيامة!!
وياله من شرف ومكانة وفضل!! لا يدانيه شيء أبداً!!!
ولله در القائل:
ديـن النبي محـمد أخبــار | | |
| نعم المطية للفتى الآثــار | |
لا تخـدعن عن الحديث وأهله | | |
| فالرأي ليل والحديث نهـار | |
ولربما غلط الفتى سـبل الهدى | | |
| والشمس بازغة لها أنـوار ([9]) | |
ورحم الله القائل:
دين الرســـول وشرعه أخباره | | |
| وأجــل علم يقتنى آثاره | |
من كان مشتعلاً بها وبنشرهـــا | | |
| بين البرية لا عــفت آثاره | |
ثم إن مكانة السنة تزداد أهمية فوق ما سبق كله، وتشتد حاجة الأمة لها زيادة على ما تقدم، عند ظهور الفتن وكثرة البدع والمحدثات.
ولذلك لما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ووعظهم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت لها العيون ؛ قال في وصيته تلك عليه الصلاة والسلام:
(فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدبين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ([10]).
ويقول أحد أتباع التابعين، وهو يحيى بن يمان (ت 189هـ): (ما كان طلب الحديث خيراً منه اليوم. قيل له: يا أبا عبد الله، إنهم يطلبونه وليس لهم نية ؟ قال: طلبهم إياه نية) ([11]).
فينبه هذا الإمام (رحمه الله) على ازدياد فضل طلب الحديث في زمانه، عن الأزمان التي سبقته ؛ وهو من أتباع التابعين!! وفي القرون الفاضلة!! فكيف بزماننا!! وقد عمت الفتن، وكثرت، وتتابعت، واستحكمت الأهواء والبدع وطمت، واحلولكت ليالي الأمة.. وإلى الله الملتجأ وهو المستعان!
وأما قوله (رحمه الله) لمن قال له عن أهل الحديث: (إنهم يطلبونه وليس لهم نية، فقال: طلبهم إياه نية)، فهو ينبه إلى فقه دقيق، إذ يجيب ذاك الذي اتهم طلبة الحديث بقلة الإخلاص في طلبهم، بأن مجرد طلبهم للحديث عمل فاضل يؤجرون عليه بإذن الله تعالى. لأن الأعمال الفاضلة، وخاصة التي يتعدى نفعها نفس العامل، إذا لم يكن الدافع للقيام بها نية سيئة، كالرياء والسمعة ومطامع الدنيا، فإن صاحبها مأجور بالعمل نفسه إذا كان الدافع للقيام به محبة العمل والتعلق به (وهو عند أهل الحديث شهوة الحديث ومحبته)، مثاب وإن غفل العامل عن الإخلاص لله تعالى وابتغاء ثوابه!! وذلك لأن العمل ذاته فاضل مصلح، لا يخلو من أن ينتفع به غيره، وتتعدى فائدته إلى من سواه.
أو لعله يقصد أن طلب الحديث يوصل إلى حسن النية ويلجئ صاحبة إلى الإخلاص، كما كان يقول غير واحد من السلف: (طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله) ([12]).
وأي المعنيين قبلت – وكلاهما مقبول – فهو وجه آخر لشرف أهل الحديث!!
والنصوص في هذا المعنى كثيرة، أكتفي منها بما سبق.
أهم مميزات علم الحديث
وأوضح خصائصه
تقدم في (التمهيد) أن لكل علم خصائص، وأن للعلم بهذه الخصائص فائدتين، ذكرناهما هناك. ويهمنا هنا إحدى الفائدتين، وهي: أن العلم بخصائص علم ما يوقفنا على الأسلوب الصحيح في تحصيله، وعلى العوائق الحائلة دون بلوغ غايتنا منه، وعلى وسائل تجاوزها ؛ لأن كل ميزة لذلك العلم ينبه إدراكها إلى سبيل احتوائها، في حين أن عدم إدراكها أكبر عقبة (أو يكاد يكون كذلك) دون فهم ذلك العلم والوصول إلى مرادنا منه.
وقد تنبهت إلى أربع خصائص لعلم الحديث، أحسبها أهم خصائصه، فأحببت لفت نظر طلاب العلم إليها، ليبتدئوا طلب علم الحديث بالأسلوب والمنهج الصحيح اللائق بهذا العلم، ولكي لا تتعثر خطاهم ويضيعوا أزماناً (لا تقدر بثمن) قبل إدراك ذلك المنهج الصحيح.
وإليك هذه المميزات الأربعة، تحت عناوين أربعة فيما يلي ؛ متبعاً كل ميزة منها بالمنهج الذي تستلزمه في الطلب، وبأسلوب التحصيل الصحيح في مواجهتها، وما هي وسائل احتوائها دون أن تصبح عقبة كأداء في طريق علم الحديث.
الميزة الأولى:
من أهم مميزات علم الحديث أنه علم شديد المأخذ، صعب المرتقى، دقيق المسالك، بعيد الغور. ولذلك فليس من السهل فهمه، ولا من اليسير تعلمه، ولا يقدر على فقهه كل أحد، ولا يستطيعه كثير أناس.
ولهذا كان الإمام الزهري (ت124 هـ) يقول: (الحديث ذكر، يحبه ذكور الرجال، ويكرهه مؤنثوهم) ([13]). ومعنى هذا أن الحديث يحتاج إلى عقل فحل في عزم وحزمه وإصراره وقوته، ولا ينفع معه العقل الضعيف المتردد المتحير الملول ؛ وهذا غير الذكاء وسرعة الفهم، فربما كان العقل ذكياً لكنه ليس ذكراً!!
ولذلك فقد قل من ينجب في علم الحديث ويتميز، يوم أن كان طالبو الحديث ألوفاً! ويوم كانت ألوفهم من الطراز الأول من طلبة العلم!!
يقول شعيب بن حرب (ت197 هـ): (كنا نطلب الحديث أربعة آلاف، فما أنجب منا إلا أربعة) ([14]).
ولما كثر من يطلب الحديث في زمن الأعمش، قيل له: (يا أبا محمد، ما ترى ؟! ما أكثرهم!! قال:لا تنظروا إلى كثرتهم،، ثلثهم يموتون، وثلثهم يلحقون بالأعمال (يعنى الوظائف الحكومية)، وثلثهم من كل مائة يفلح واحد) ([15]).
ولهذا العمق في علم الحديث نهى نقاد الحديث عن شرح كثر من علل الروايات إلا عند أهل الحديث، لما يخشى من شرح ذلك على غير أهل الحديث أن يكون سبباً في أن يفتتنوا أو يفتنوا!! من باب: (حدثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله) ([16])، وباب: (إنك لست محدثاً قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة) ([17])!!
يقول الإمام أبو داود السجستاني (ت 275هـ) في (رسالته إلى أهل مكة): (وربما أتوقف عن مثل هذه (يعني: إبراز العلل)، لإنه ضرر على العامة لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث، لأن علم العامة يقصر عن ذلك ([18]).
ويقول الخطيب البغدادي (ت 463هـ): (أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصرف ونقد الدنانير والدراهم، فإنه لا تعرف جودة الدينار والدرهم بلون ولا مس، ولا طراوة ولا يبس، ولا نقش، ولا صفة تعود إلى صغر أو كبر، ولا إلى ضيق أو سعة ؛ وإنما يعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف البهرج الزائف والخالص والمغشوش. وكذلك تمييز الحديث، فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب، بعد طول الممارسة له، والاعتناء به) ([19]).
وقلبهما يقول عبد الرحمن بن مهدي (ت 198هـ): (معرفة الحديث إلهام) ([20])، ويقول أيضاً: (إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة) ([21]). ولما أنكر ابن مهدي حديثاً رواه رجل، غضب للرجل جماعة، وقالوا لابن مهدي: (من أين قلت هذا في صاحبنا؟!) فلم يبين لهم العلة الحديثية التي جعلته ينكر على ذلك الرجل، وإنما قال لهم: (أرأيت لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: انتقد لي هذا، فقال الصيرفي: هو بهرج، يقول له: من أين قلت لي إنه بهرج ؟ (فأجاب ابن مهدي على لسان الصيرفي): الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم) ([22]).
ويؤكد أيضاً أحمد بن صالح المصري (ت 248هـ) أن علم الحديث لا يفهمه إلا أهله، عندما قال: (معرفة الحديث بمنزلة معرفة الذهب، إنما يبصره أهله) ([23]).
وبذلك يقرر هؤلاء العلماء وغيرهم من أئمة السنة أن علم الحديث علم تخصصي، لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى إلى صرف الهمة كلها له، ووقف الجهد جميعه عليه، وقصر الحياة على تعلمه وتحصيله ؛ وما ذلك إلا لأنه علم شديد العمق بعيد الغور، كما سبق.
ومع ذلك:
لا يؤيسنك من مجد تباعده | | |
| فإن للمجد تدريجاً وترتيباً | |
إن القناة التي شاهدت رفعتها | | |
| تسمو فتنبت أنبوباً فأنبوبا | |
وقال آخر
اصبر على مضض الإدلاج بالسحر | | ||||
| وبالرواح على الحاجات والبكر | ||||
لا تعجزن ولا يضجرك مطلبها | | ||||
| فالنجح يتلف بين العجز والضجر | ||||
إني رأيت – وفي الأيام تجربة - | | ||||
| للصبر عاقبة محمودة الأثــــر | ||||
وقل من جد في أمر يطالبـه | | ||||
| واستصحب الصبر إلا فاز بالظفـر | ||||
ومن رحمة الله تعالى ولطفه بعباده أن قرن بصعوبة علم الحديث وشدته لذة وشهوة ومتعة عارمة، تملك فؤاد طالبه، وتجعله ينسى الدنيا بما فيها، وتتركه بين رياض السنة جذلان هيمان. إنها (شهوة الحديث)، تلك الشهوة التي صنعت المستحيلات، وتضاءلت أمامها كل العقبات. ولولا هذه الشهوة لمات علم الحديث قبل أن يولد، ولتفتت همم الرجال على سفوح جباله، ولساحت العزائم العظام في صحاريه، ولغرقت عقول العباقرة في لجج بحاره. لقد بلغت هذه الشهوة الحديثية إلى درجة أن خاف بعض الأئمة على أنفسهم من أن تتجاوز بهم إلى طرف مذموم من الغلو في التعمق، إلى درجة التقصير في حقوق الخالق أو المخلوقين أو حق النفس، حيث إنها شهوة تفوق وله العاشقين (وهي أطهر)، وقد فعلت بأصحابها من عجائب الأفاعيل، ما قيدته حقائق التاريخ ؛ فلئن هام العاشقون على وجوههم في الصحاري، فلقد كانت الصحارى بعض ما قطعه المحدثون في طلب الحديث، ولئن تعرض الولهون لغيرة أهل المحبوبة من أجل نظرة عابرة منها، فلقد ركب المحدثون الأهوال وعاشوا مع الأخطار من أجل كتابة حديث بإسناد عال كانوا قد كتبوه نازلاً، ولئن تغرب المدنفون وراء مرابع الأحباب، فلقد هجر المحدثون الأهل والأولاد والأوطان إلى غير رجعة، ولئن كان (مجنون ليلى) وأضرابه بالعشرات، فإن أهل الحديث بعشرات الألوف!!
إنها شهوة الحديث: التي حفظ الله تعالى بها الدين، وحمى بها السنة!!
يقول سفيان الثوري (ت 161هـ): (فتنة الحديث أشد من فتنة الذهب والفضة)([24]).
فأنعم بهذه الفتنة التي يحتقر معها الدينار والدرهم!!!
ولصعوبة علم الحديث قل أهله العارفون به كما سبق!
يقول الإمام البخاري (ت 256هـ): (أفضل المسلمين رجل أحيى سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أميتت ؛ فاصبروا يا أصحاب السنن (رحمكم الله)، فإنكم أقل الناس).
فقال الخطيب عقبه: (قول البخاري: إن أصحاب السنن أقل الناس عنى به الحفاظ للحديث، العالمين بطرقه، المميزين لصحيحه من سقيمه، وقد صدق (رحمه الله) في قوله ؛ لأنك إذا اعتبرت لم تجد بلداً من بلدان الإسلام يخلو من فقيه أو متفقه يرجع أهل مصره إليه، ويعولون فتاواهم عليه، وتجد الأمصار الكثيرة خالية من صاحب حديث عارف به، مجتهد فيه، وما ذاك إلا لصعوبة علمه وعزته، وقلة من ينجب فيه من سامعيه وكتبته. وقد كان العلم في وقت البخاري غضاً طرياً، والارتسام به محبوباً شهياً، والدواعي إليه أكبر، والرغبة فيه أكثر، وقال هذا القول الذي حكيناه عنه!!! فكيف نقول في هذا الزمان ؟!! مع عدم الطالب، و قلة الراغب!! وكأن الشاعر وصف قلة المتخصصين من أهل زماننا في قوله:
وقد كنا نعدهم قليلاً
فقد صاروا أقل من القليل ([25])
وأقول: رحم الله الخطيب! فقد قامت المناحة على أهل الحديث من قرون!!! وما عادوا قليلاً ولا أقل من القليل ، بل هم عدم من دهور، تكاد – والله - آثارهم تنمحي، وأخبارهم تنسى: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [يوسف: 21].
لكننا ننتزع من كلمة الخطيب السابقة الروح التي قد تبعث موتى أهل الحديث، وتنشرهم من القبور ؛ إنه التخصص الدقيق العميق في علم الحديث. إذ إن صعوبة علم الحديث وشدة مأخذه، لا يواجهها إلا التخصص، ولا يجاوزنا عقبتها إلا جمع الهمة كلها في تحصيله والتفرغ الكامل له.
وقبل الحديث عن حاجة علم الحديث إلى التخصص فيه، وأنه علم يستعصي على من قرن به غيره، ولا يقبل له عند طالبه ضرة، كالليل والنهار والدنيا والآخرة ؛ قبل ذلك أتكلم عن أهمية التخصص في جميع العلوم، وبيان أن التخصص منهج ضروري لا حياة ولا بقاء للعلوم إلا به.
وقد نبه العلماء قديماً على أهمية التخصص في العلوم، فقال الخليل ابن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ): (إذا أردت أن تكون عالماً فاقصد لفن من العلم، وإذا أردت أن تكون أديباً فخذ من كل شيء أحسنه) ([26]).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ): (ما ناظرني رجل قط وكان مفنناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجل ذو فن واحد إلا غلبني في علمه ذلك) ([27]).
إن هذه العبارات وأمثالها من الأئمة الدالة على فضل المتخصص في علم واحد على الجامع لأطراف العلوم (أو على رأي الخليل بن أحمد: الدالة على فضل العالم على الأديب المتفنن)، جاءت لتؤكد أن كل علم من العلوم بحر من البحور، لا يعرفه ويصل إلى كنوزه وخفاياه إلا من غاص أعماقه، وقصر حياته على الغوص فيه. أما من اكتفى بالسباحة على ظهر كل بحر من بحور العلم، فإنه إنما عرف ظواهر تلك البحور، وما عرف من كنوزها شيئاً.
وأخص بالذكر أهل عصرنا، فإن العلوم قد ازدادت تشعباً، وعظم كل علم عما كان، بمؤلفات أهله فيه على امتداد العصور السابقة، وبزيادة اختلافهم وأدلة كل صاحب قول منهم ؛ ومع ذلك فقد ضعفت الهمم، ونقصت القدرات عما علمناه من أئمتنا السالفين ؛ وذلك بين واضح لمن عرف سيرهم وأخبارهم ووازن بينهما وبين حالنا؛ أولئك كانوا بما تعلموا وعلموا وألفوا وجاهدوا وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كأن أعمارهم ليست بين الستين والسبعين وإنما بين مائة وستين ومائة وسبعين!! بل والله أكثر!!! أولئك كانت حياتهم كرامة، و وجهدهم معجزة خارقة للعادات!!! فأين نحن من أن نحوي علومهم ؟! وأنى لنا أن نستوعب علم ما خلفوه لنا ؟! ومع ذلك فقد تكلم هؤلاء أنفسهم عن فضل التخصص في العلم، فما أجهلنا إن حسبنا أننا بغير التخصص سنفهم علماً من العلوم!!!
ولقد سبرت بعض أحوال المتعلمين، فوجدت أكثرهم علماً وإنصافاً وتواضعاً، وأدقهم نظراً وفهماً، وأحسنهم تأليفاً وإبداعاً: هم أصحاب التخصصات. في حين وجدت أقلهم علماً وإنصافاً، وأكثرهم كبراً وتعالياً وتعالماً، وأبعدهم عن الفهم والتدقيق وعن الإبداع والإحسان في التأليف: المتفننين أصحاب العلوم، أو سمهم بالمثقفين ؛ إلا من رحم ربك.
ومن فضل صاحب التخصص الفضل الظاهر، الذي يقرني عليه المنصف، أن صاحب التخصص لا يثرب على المتفنن، بل يراه أكثر أهلية منه في أمور كإلقاء المحاضرات والدعوة ومواجهة العامة، ويعتبره بذلك على ثغرة من ثغرات الإسلام، ويرى أن الأمة في حاجة إلى أمثاله. وأما أصحاب الفنون، فعلى الضد من ذلك، فهم أكثر الناس تثريباً وعيباً على المتخصصين، ولا يرون لهم فضلاً عليهم ولا في العلم الذي تخصصوا فيه، وينازعونهم مسائلة (وهم بها جهلاء)، ويشنعون عليهم لعدم معرفتهم ببعض ما لم يتخصصوا فيه.
ولك بعد هذا أن تحكم، أي الفريقين أدخل الله في قوله تعالى (إن الله يحب المقسطين) ([28]).
ولله ما يلاقيه أصحاب التخصصات من إخوانهم المتفننين!! من عدم فهم الأخيرين لتخصصاتهم، مع كلامهم فيها ومنازعتهم أهلها، بل قد يصل الأمر إلى استغلال أصحاب الفنون علاقتهم بالعامة والغوغاء، وانبهار هؤلاء بهم، فيتطاولون على أصحاب التخصصات وعلى علومهم، بما لا يؤلم العالم شيء مثله، وهو الكلام بجهل، وتشويه العلوم.
ومن فضل صاحب التخصص إذا وفقه الله تعالى، أنه من أكثر الناس لقالة (لا أدري)، إذا سئل عن غير تخصصه. ولهذه القالة بركة لا يعرفها إلا قليل، فهي باب التواضع الكبير، وباب للعلم أكبر. وأما صاحب الفنون، فهو عن (لا أدري) أبعد ؛ لأنه يضرب في كل علم بسهم، وبكثير جوابه على أسئلة العامة وأنصاف المتعلمين، التي هي – في الغالب – سؤالات عن الواضحات وعن ظواهر العلوم ؛ فينسى مع طول المدة (لا أدري)، ولا يعتاد لسانه عليها، ولا تنقهر نفسه لها ؛ لذلك فهو عن بركاتها ليس بقريب!!
ثم إن للعلم دقائق لا يعرف المتفننون عنها شيئاً، أما المتخصصون فقد خبروها، وقادتهم إلى دقائق الدقائق. فهم فقهاء العلوم حقاً، وأطباء الفنون صدقاً.
يقول الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني تلميذ الشافعي (ت 260هـ): (سمعت الشافعي يقول: من تعلم علماً فليدقق، لكيلا يضيع دقيق العلم) ([29]).
كذا نصائح الأئمة، نور على نور!!
وأما الشافعي فقد كان آمناً من ضياع جليل العلم وعظمه، خائفاً من ضياع دقيقة. أما نحن الآن فنقول: (من تعلم علماً فليدقق، لكيلا يضيع جليل العلم ) ؛ فدققوا يا بني إخوتي ما شئتم من التدقيق، فنحن مع تدقيقكم هذا لعلى جليل العلم وجلون!!!
وهنا أنبه على أن مطالبتنا بالتخصص لا يعني أن نطالب بذلك على حساب فروض الأعيان من العلوم، كتصحيح العقيدة وعلم التوحيد الجملي، وما يحتاج إليه من فقه العبادات، وما شابهها من الفروض العينية من العلوم ؛ فهذا ما لا يجوز على مسلم جهله، فضلاً عن طالب العلم ؛ بل نحن نطالب طالب العلم بما فوق ذلك، وهو أن لا يكون جاهلاً بنفع كل علم نافع (ولا أقول أن يكون عالماً بكل علم نافع، فهذا ضد ما أحث عليه ) ؛ لأن الجهل بنفع علم ذي علم فائدة دنيوية أو أخروية يدعو إلى معاداة ذلك العلم، على قاعدة: من جهل شيئاً عاداه ؛ ويقبح بطالب العلم أن يعادي علماً نافعاً، مهما قل نفعه في رأيه، فإنه لا ينقص على أن يكون فرضاً كفائياً.
وما أجمل وصية خالد بن يحيى بن برمك (ت 165هـ) لابنه، عندما قال له: (يا بني، خذ من كل علم بحظ، فإنك إن لم تفعل جهلت، وإن جهلت شيئاً من العلم عاديته، وعزيز علي أن تعادي شيئاً من العلم) ([30]).
وأخص من العلوم مما يقبح بطالب العلم جهله العلوم الإسلامية جميعاً، كعلم الفقه وأصوله والتفسير وأصوله والعقيدة وعلوم الآلة من نحو وصرف وبلاغة وأدب، مما ينبغي على طالب علم الحديث المتخصص أن يحصل شيئاً منها. وضابط تحصيله لهذه العلوم (حتى لا يناقض ذلك مطالبتي له بالتخصص) أن يجعل مقصوده من طلبه لهذه العلوم تكميل استفادته لتخصصه وعميق فهمه له ؛ حيث إن العلوم الإسلامية بينها ترابط كبير، لا يمكن من أراد التخصص في علم منها أن يكون جاهلاً تمام الجهل بما سواه. بل ربما قادته مسألة دقيقة في علم الحديث (مثلاً) إلى التدقيق في مسألة من مسائل أصول الفقه أو غيره، حتى يخرج بنتيجة في مسألته الحديثية. وليس ذلك بغريب على من عرف العلوم الإسلامية، وقوة ما بينها من أواصر القربى العلمية.
ولأزيد الأمر إيضاحاً أقول: كيف يتسنى لطالب الحديث أن يعرف الصواب في إحدى مشاهير مسائله ؟ وهي مسألة الرواية عن أهل البدع وحكمها، إذا لم يكن عارفاً بالسنة والبدعة، وبصنوف البدع وأقسام المبتدعة، وبالغالي منهم ومن بدعته غليظة ومن يكفر ببدعته ممن هو بخلاف ذلك ؛ وهذا كله باب من أبواب العقيدة عظيم.
وكيف يمكن لطالب الحديث أن يميز بين الروايات المختلفة، مثل زيادات الثقات: مقبولها ومردودها، والشاذة منها والمنكرة، والناسخة والمنسوخة، والراجحة والمرجوحة، إذا لم يكن عنده أصول الفقه والقدرة على الاستنباط والفهم للنصوص ما يتيح له الحكم في ذلك كله ؟!
المهم أن يأخذ من العلوم التي لم يتخصص فيها، بقدر ما يخدم العلم الذي تخصص فيه، ولا يزيد على ذلك، وإلا لم يصبح متخصصاً، وإنما يكون متفنناً.
وطريقة تحصيله لتلك العلوم التي لا ينوي التخصص في واحد منها، مما لا يخرجه عن حد التخصص إلى حد التفنن، هي أن يدرس مختصراً من مختصرات تلك العلوم، تمكنه من مراجعة مطولات تلك الفنون، فيما إذ أحوجه علمه الذي تخصص فيه إلى ذلك، كما سبق التمثيل له. وعليه أيضاً أن لا يقطع صلته بعلماء تلك العلوم المتخصصين فيها، وأن يصوب فهمه من علومهم عليهم، وأن لا يستبد بشيء من علمهم دون الرجوع إليهم.
وأما التخصص في علم الحديث، فقد سبق أنه من أحوج العلوم إلى التخصص فيه، لشدة عمقه وسعة بحور وامتداد آفاقه. مع ذلك فعندي في مشروعية التخصص فيه (ولو على حساب الفقه!) سنة ثابتة وحديث صحيح مشهور! وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع منا مقالة فحفظها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ([31]).
و (نضر) بتخفيف الضاد وتشديدها: من النضارة، وهي الحسن والرونق والبهاء. فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو لراوي الحديث بالحسن والبهاء مطلقاً، في الدنيا والآخرة. وقيل إن المعنى: أبلغه الله تعالى نضارة الجنة.
وراوي الحديث الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالنضارة: هو رواية باللفظ، ولو كان لا يفهم كل معاني الحديث (ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ولو كان لا فهم له في الحديث أبداً (رب حامل فقه لا فقه له)!!
وهذا يدل على مشروعية رواية الحديث دون فقه، بل يدل على استحباب ذلك؛ ويدل على أن رواي الحديث دون علمه بفقهه محمود غير مذموم، وأنه مستحق بفعله هذا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له.
وقد تعقب الرامهرمزي (ت 360هـ) هذا الحديث في كتابه (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) بقوله: (ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين ناقل السنة وواعيها، ودل على فضل الواعي بقوله: (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقه). وبوجوب الفضل لأحدهما يثبت الفضل للآخر ([32])؛ ومثال ذلك أن تمثل بين مالك بن أنس وعبيد الله العمري، وبين الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي، وبين أبي ثور وابن أبي شيبة ([33])، فإن الحق يقودك إلى أن تقضي لكل واحد منهم بالفضل.
وهذا طريق الإنصاف لمن سلكه، وعلم الحق لمن أمه ولم يتعده) ([34]).
ورحم الله السلف! فقد كانوا أسبق إلى كل خير وعلم وإنصاف ؛ ولهذا لما روى مطر بن طهمان الوراق (ت 125هـ فيما يقال) حديثاً، وسئل عن معناه، قال: (لا أدري، إنما أنا زاملة)، فقال له السائل – وكان عاقلاً منصفاً – (جزاك الله خيراً، فإن عليك من كل: حلو وحامض) ([35]).
وانظر إلى إجلال السلف لرواة الحديث، في العبارة التالية: يقول محمد بن المنكدر (ت 130هـ): (ما كنا ندعو الراوية إلا رواية الشعر، وما كنا نقول للذي يروي أحاديث الحكمة إلا: عالم) ([36]).
ومما سبق إليه السلف من العلم والخير والحق، التنبيه إلى أن علم الحديث علم لا يقبل الشركة ولا توزيع الهمة على غيره معه.
يقول الربيع بن سليمان المرادي (ت 270هـ) تلميذ الشافعي: (مر الشافعي بيوسف بن عمرو بن يزيد (وكان من كبار فقهاء المالكية: (ت 250هـ)، وهو يذكر شيئاً من الحديث، فقال: يا يوسف، تريد أن تحفظ الحديث وتحفظ الفقه ؟!! هيهات!!!"([37]).
وقد قدم الخطيب هذه الكلام من الشافعي، وهو يصف الذي يبرع في علم الحديث بقوله: "أن يعاني علم الحديث دونما سواه لأنه علم لا يعلق إلا بمن وقف نفسه عليه، ولم يضم غيره من العلوم إليه" ([38]).
ثم أخرج الخطيب عقب ذلك العبارتين التاليتين:
يقول أبو يوسف القاضي (ت182هـ): "العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك وأنت إذا أعطيته كلك من إعطائه البعض على غرر" ([39]).
ويقول أبو أحمد نصر بن أحمد العياضي الفقيه السمرقندي: "لا ينال هذا العلم إلا من عطل دكانه، وخرب بستانه، وهجر إخوانه، ومات أقرب أهله إليه فلم يشهد جنازته"([40]).فإن كانت هاتان العبارتان حقاً في العلوم جميعها، فهي في علم الحديث أولى أن تقال وأحق. وهذا هو ما قصده الخطيب، عندما ساقها في ذلك السياق.
وللتخصص في كل العلوم معناه، وفي علم الحديث له معناه الخاص به ؛ فهو تخصص لا يقبل الانقطاع إلى غيره، مهما طال زمن التفرغ في تحصيله، ومهما ظن طالبه أنه تملا منه وتضلع. لأنه خبرة دقيقة وحاسة لطيفة، لا تدوم إلا مع بقاء الالتصاق بالعلم. وسرعان ما تفسد تلك الخبرة، وتتعطل تلك الحاسة، إذا انقطع الطالب عن العلم فترة يسيرة.
يقول في بيان ذلك عبدالرحمن بن مهدي (ت 198هـ): "إنما مثل صاحب الحديث بمنزلة السمسار، إذا غاب عن السوق خمسة أيام تغير بصرة ([41]).
وبلسان أهل عصرنا: إنما مثل صاحب الحديث بمنزلة تاجر العملات، لا يستطيع أن يستفيد ويربح، إلا إذا كان متابعاً لأسواق العملات، دون انقطاع ؛ فإذا انقطع يوماً واحداً، أصبح كالجاهل بهذا السوق تماماً، وكأنه لم يكن عليماً به يوماً من الأيام! لأنه لا يستطيع أن يشتري أو يبيع، لعدم علمه باختلاف أسعار العملات الذي يتبدل كل ساعة.
ولذلك لم يجعل الإمام أحمد (ت241هـ) لطلب الحديث زمنا ينتهي عنده، ولم يوقت له فترة يجعلها حده ؛ عندما سئل: "إلى متى يكتب الرجل الحديث ؟ قال: حتى يموت ([42]).
فإن قيل: قد جاءت عبارات كثيرة في كتب العلم، تدل على ذم من لم يجمع مع الحديث فقهاً، أو على ذم إفناء العمر في جمع طرق الأحاديث وتتبع الأسانيد.
فمن الأول، قول القائل:
زوامل للأسفار لا علم عندهم |
بجيدها إلا كعلم الأباعر |
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا |
بأحماله أو راح ما في الغرائر |
ومن الثاني: قصة حمزة بن محمد الكناني الحافظ (ت357هـ)، قال: "خرجت حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق، أو من نحو مائتي طريق، فداخلني من ذلك الفرح غير قليل، وأعجبت بذلك. قال: فرأيت ليلة من الليالي يحيى بن معين في المنام، فقلت له: يا أبا زكريا، خرجت حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق! قال: فسكت عني ساعة، ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت (ألهكم التكاثر) ([43])" ([44]).
فما هو معنى تلك العبارات ؟ مع ما ندعو إليه من التخصص في علم الحديث.
فأقول: أما ما جاء في ذم من لم يجمع مع الحديث فقهاً، فلا يعارض كلام من كان من الناس بقوله النبي صلى الله عليه وسلم الذي سبق ذكره، مما يدل على مشروعية بل استحباب ما عابه ذلك العائب.
ثم إن الذي صدر منه ذلك الذم أحد رجلين: إما أنه من أهل العلم والفضل، وحينها يحمل كلامه على ذم من قصر فيما لا يجوز التقصير فيه من الفقه بالفروض العينية ونحوها، مما تقدم ذكره. وإما أن هذا الذام من أهل الرأي وأصحاب البدع، الذين يعادون السنة وأهلها، وينفرون من علومها ؛ وهؤلاء لا وزن لمدحهم وذمهم، بل ربما كان ذمهم مرجحاً كفة المذموم على الممدوح منهم!!
وأما ما ورد من عيب إفناء العمر في تتبع طرق الأحاديث وجمع الأسانيد، فليس الأمر على إطلاقه.
فهذا يحيى بن معين الذي رآه حمزة الكناني يذم فعله في ذلك، يقول يحيى بن معين هذا: "لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه" ([45]).
ويقول الإمام أحمد: "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً" ([46]).
وقال علي بن المديني: "الباب إذا لم تجمع طرقه، لم يتبين خطؤه" ([47]).
إذن ما هو الأمر المعيب في تتبع الطرق وجمع الأسانيد ؟
أجاب عن ذلك الخطيب البغدادي في كتبه، وحصر سبب عيب ذلك في أمرين:
الأول: جمع الأحاديث وقطع الأعمار في كتابتها، صحيحها وضعيفها وموضوعها، دون تمييز الصحيح بمزيد اعتناء، ولا معرفة الضعيف بعلته، ولا التنبيه على المكذوب والباطل ؛ فهو جمع وتصنيف على الإهمال والإغفال، يضر أكثر مما ينفع.
يقول الخطيب في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع): "ينبغي للمنتخب أن يقصد تخير الأسانيد العالية، والطرق الواضحة، والأحاديث الصحيحة، والروايات المستقيمة. ولا يذهب وقته في الترهات، من تتبع الأباطيل والموضوعات، وتطلب الغرائب والمنكرات … (ثم قال) والغرائب التي كره العلماء الاشتغال بها، وقطع الأوقات في طلبها، إنما هي ما حكم أهل المعرفة ببطلانه، لكون رواته ممن يضع الحديث، أو يدعي السماع. أما ما استغرب لتفرد رواية به، وهو من أهل الصدق والأمانة، فذلك يلزم كتبه، ويجب سماعه وحفظه" ([48]).
وقال الخطيب أيضاً: "ولو لم يكن في الاقتصار على سماع الحديث وتخليده الصحف، دون التمييز بمعرفة صحيحة من فاسده، والوقوف على اختلاف وجوهه، والتصرف في أنواع علومه، إلا تلقيب المعتزلة القدرية من سلك تلك الطريقة بالحشوية ؛ لوجب على الطالب الأنفة لنفسه، ودفع ذلك عنه وعن أبناء جنسه" ([49]).
الثاني: يقول في بيانه الخطيب في (شرف أصحاب الحديث): "إنما كره مالك وابن إدريس وغيرهما الإكثار من طلب الأسانيد الغريبة والطرق المستنكرة، كأسانيد: (حديث الطائر، وطرق حديث المغفر، وغسل الجمعة، وقبض العلم، وإن أهل الدرجات، ومن كذب علي، ولا نكاح إلا بولي.. وغير ذلك، مما يتتبع أصحاب الحديث طرقه، ويعنون بجمعة ؛ والصحيح من طرقه أقلها. وأكثر من يجمع ذلك: الأحداث منهم، فيتحفظونها ويذاكرون بها. ولعل أحدهم لا يعرف من الصحاح حديثاً وتراه يذكر من الطرق الغريبة والأسانيد العجيبة التي أكثرها موضوع وجلها مصنوع، ما لا ينتفع به، وقد أذهب من عمره جزءاً في طلبه. وهذه العلة هي التي اقتطعت أكثر من في عصرنا من طلبه الحديث عن التفقه به، واستنباط ما فيه من الأحكام. وقد فعل متفقهة زماننا كفعلهم، وسلكوا في ذلك سبيلهم، ورغبوا عن سماع السنن من المحدثين، وشغلوا أنفسهم بتصانيف المتكلمين. فكلا الطائفتين ضيع ما يعنيه، وأقبل على مالا فائدة فيه" ([50]).
فبين الخطيب أن سبب كراهة مالك وغيره لتتبع الطرق وجمع الأسانيد من طلبة الحديث، لا لأنه تتبع وجمع وحسب، ولكنه جمع لطرق أحاديث صحيحة أصلاً، وليس هناك أي فائدة زائدة من تتبع أسانيدها الأخرى التي قد يكون أغلبها ضعيفاً أو باطلاً. ومثال ذلك في عصرنا: ذاك الذي سود صفحات طويلات في تخريج حديث واحد، متوسعاً غاية التوسع في ذكر مصادر العزو، من مسانيد ومعاجم ومشيخات وأجزاء وتواريخ، مع أن الحديث صححه الشيخان من قبل، ولعله وافقهما على تصحيحه أئمة آخرون، ولا مخالف لهم في تصحيحه ؛ فيخرج أخونا هذا، دون أي فائدة زائدة على ما كان قد بدأ به، عندما عزا الحديث للصحيحين ، وهو أن الحديث صحيح!!
ثم إنه لا تتحقق كراهية ذلك الجمع للأسانيد إلا بشرط، وهو إذا ما كان الجامع لها من أحداث طلبة العلم وصغارهم، ممن لم يصلوا إلى درجة معرفة قدر جيد من صحيح السنة، فتنقطع أعمارهم في جمع تلك الأسانيد، ولعل أحدهم لا يعرف حديثاً صحيحاً (كما يقول الخطيب)، فذهب عمره فيما لا ينتفع به. فمثل هذا لا تخصص في الحديث، ولا تعلم الفقه ؛ ولذلك عاب عليهم الخطيب انشغالهم عن الفقه بما هم فيه، فالفقه أجل وأشرف بكثير مما هم فيه.
ولذلك قال علي بن المديني: (إذا رأيت طالب الحديث أول ما يكتب الحديث يجمع: حديث الغسل، وحديث من كذب علي ؛ فاكتب على قفاه: لا يفلح " ([51]).
أما إذا كان الجامع لطرق الحديث (ولو كان أصل الحديث صحيحاً بأقل تلك الطرق أو بواحد منها) من الأئمة الكبار في السنة، الذين هم أولاً أئمة في الاطلاع على صحيح السنة والثابت منها، وفي تمييز المقبول من المردود، وهم ثانياً لم يقطعوا أعمارهم في جمع تلك الأسانيد، بدليل إمامتهم واطلاعهم العظيم على السنة ؛ فهؤلاء لو جمعوا أسانيد حديث صحيح بأحد تلك الأسانيد، أي لو قاموا بمثل ما عبناه على الأحداث الصغار في العلم، لما عبناهم بذلك، بل نفرح بجهدهم هذا، ونعتبره من النفائس والأعلاق؛ وذلك لأن جمعهم الأسانيد لم يكن على حساب كمال علمهم بالسنة، ولم يشغلهم عما ينتفعون به من الأحاديث الصحيحة وتمييزها عن السقيمة. ولذلك فإن الأحاديث التي مثل بها الخطيب مما يعاب على الأحداث جمعه، لا يكاد يوجد حديث منها إلا قام بجمع طرقه حفاظ كبار وأئمة أعلام ممن يقتدي بهم.
فحديث الطير للإمام الذهبي فيه مصنف.
وحديث غسل الجمعة جمع طرقه الحافظ ابن حجر، كما نقله الزبيدي في (لقط اللآلي المتناثرة).
وحديث (من كذب علي) جمع طرقه الطبراني وابن الجوزي.
وحديث (لا نكاح إلا بولي) جمع طرقه شرف الدين الدمياطي.
بل إن الخطيب نفسه ذكر جل هذه الأحاديث، في سياق ما ينصح بجمعه، اقتداء بالمحدثين الذين جمعوا تلك الأحاديث ([52]). ومن قبله ذكرها الحاكم في كتابه (معرفة علوم الحديث)، في نوع خاص بها ([53]).
وخلاصة ما سبق، فيما يلام عليه طالب الحديث وما لا يلام عليه من التدقيق في العلم، هو أنه يلام في قضاء العمر: في جمع الأباطيل والمناكير، وعدم تمييزها عن الصحاح المشاهير ؛ وفي تتبع أسانيد حديث صحيح بأحد تلك الطرق، ولا فائدة في تتبع الأسانيد الأخرى، إلا انقضاء الحياة دون معرفة قدر كبير من صحيح السنة وتعلم علوم الحديث.
أما اللوم على التدقيق في العلم مطلقاً، فهو من أعظم الصواد عن العلم، ومن أكبر الدواعي إلى الجهل ؛ وإلا فمتى يصل طالب العلم إلى مصاف العلماء ؟ إذا لم يدقق التدقيق الذي بحسب مرتبته من العلم، والذي هو من باب الترقي في التعلم والتدرج فيه ؛ من هو فهم رؤوس المسائل، إلى فهم فروع المسائل، إلى التفقه في العلم وأدلته وأصوله، إلى الاجتهاد فيه والاستنباط. وقد سبقت عبارة الإمام الشافعي، التي يقول فيها: (من تعلم علماً فليدقق، لكيلا يضيع دقيق العلم).
وإنما أطلت هذه الإطالة في الحث على التخصص، وفي علم الحديث خاصة، لكثرة من يعيب ذلك!! وفي هؤلاء العائبين من نحسن به الظن، وغالبهم من إخواننا المتفننين، كما سبق!!
وأطلت هذه الإطالة أيضاً، لمزيد احتياج علم الحديث إلى التخصص الدقيق حقيقة، وإلى التعمق فيه ؛ وخاصة في هذه الأعصار ؛ فأين هم نقاده وصيارفته ؟! وأين هم أطباء علله ؟!!
الميزة الثانية:
أنه علم مع كثرة أجزائه وتشعب أطرافه، وإلا أنه علم مترابط بقوة، متداخل الأصول والقواعد، فتجد كل جزئية منه تنبني وتتصل بأغلب أو بكثير من أصول وفروع العلم كله. وهذه الميزة في الحقيقة هي صورة من صور الميزة الأولى، فهي صورة من صور صعوبة علم الحديث وشدة مأخذه. فهي لذلك تواجه أيضاً بالتخصص، كما ذكرناه سابقاً.
لكنها تستلزم اتباع أسلوب معين في التخصص، واستخدام طريقة خاصة في التعلم.
فإن تشعب أطراف العلم وكثرتها، مع قوة ترابط ما بينها، وتداخلها بأصول العلم وقواعده ؛ لا يواجه ذلك ويتجاوز هذه العقبة إلا الاستحضار الواسع في الذهن لتلك الأطراف والأصول الكثيرة المتشعبة، وهذا مالا يكون إلا بالحفظ والفهم.
ولأهمية هذا الاستحضار الذهني لمسائل هذا العلم وجزئياته، حرص علماء الحديث على أن ينبهوا إلى أهمية الحفظ وضرورته في علم الحديث، ووضعوا مناهج للحفظ، وبينوا الأسباب التي يستعين بها طالب الحديث في الحفظ.
ولذلك تميز المحدثون بالحفظ دون علماء الفنون الأخرى جميعاً ؛ ويقول الخطيب في التدليل لذلك: (الوصف بالحفظ على الإطلاق ينصرف إلى أهل الحديث خاصة، وهو سمة لهم لا تتعداهم، ولا يوصف به أحد سواهم ؛ لأن الراوي يقول: حدثنا فلان الحافظ، فيحسن منه إطلاق ذلك، إذ كان مستعملاً عندهم يوصف به علماء أهل النقل ونقاده. ولا يقول القارئ: لقنني فلان الحافظ، ولا يقول الفقيه: درسني فلان الحافظ، ولا يقول النحوي: علمني فلان الحافظ. فهي أعلى صفات المحدثين، وأسمى درجات الناقلين" ([54]).
وحث المحدثون على الحفظ، حتى قال عبد الرزاق الصنعاني (ت 211هـ): "كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام (يعني يكون محفوظاً في الصدر)، فلا تعده علماً"([55]).
وأنشد قائلهم:
ليس بعلم ما حوى القمطر |
ما العلم إلا ما حواه الصدر |
فذاك فيه شرف وفخر |
وزينة جليلة وقدر |
فمن الأسباب التي يستعان بها في حفظ الحديث:
الأول حسن النية:
فإنها مفتاح كل خير، وسبب التوفيق والتيسير والبركة في العلم.
وأورد الخطيب في هذا الباب أثر ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: (إنما يحفظ الرجل على قدر نيته) ([56]).
وقال معمر بن راشد (ت 154هـ): "كان يقال: إن الرجل ليطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم، حتى يكون لله عز وجل" ([57]).
الثاني: اجتناب ارتكاب المحرمات ومواقعة المحظورات:
قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: "إني لأحسب الرجل ينسى العلم، بالخطيئة يعلمها" ([58]).
وقال رجل للإمام مالك: "يا أبا عبد الله، هل يصلح لهذا الحفظ شيء ؟ قال: إن كان يصلح له شيء، فترك المعاصي" ([59]).
وفي الأبيات المشهورة:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي |
فأرشدني إلى ترك المعاصي |
وقال بأن حفظ العلم نور |
ونور الله لا يؤتاه عاصي |
الثالث: العمل بالحديث الذي يرويه ويحفظه:
قال سفيان الثوري: (العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل) ([60]).
وقال جماعة من السلف، منهم الشعبي ووكيع: (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به) ([61]).
والسبب الذي من أجله كان العلم بالحديث مثبتا الحفظ، يظهر جلياً في أن العمل بالحديث يجعل معاني الحديث واقعاً عملياً، والمحسوسات أثبت في الذهن من المعنويات. وأهم من ذلك أن العمل بالعلم سبب لتوفيق الله تعالى إلى العلم والزيادة منه، وكما قال تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله ) ([62]).
الرابع: اغتنام الأوقات المناسبة في اليوم للحفظ:
وهذا أمر يختلف فيه الأشخاص، باختلاف أحوالهم وظروف طلبهم للمعاش وغير ذلك. غير أن الذي يذكره أهل التجربة، هو أن أفضل الأوقات للحفظ: الليل عموماً، والفجر ، ويخصون من الليل آخره وهو وقت السحر، بشرط أن يكون طالب العلم قد نام من أول الليل، وأخذ حاجته من النوم.
ومن جميل الوصايا في ذلك، ما ذكر من أن المنذر قال للنعمان ابنه "يا بني، أحب لك النظر في الأدب بالليل، فإن القلب بالنهار طائر، وبالليل ساكن، وكلما أوعيت فيه شيئاً علقه" ([63]).
فتعقب الخطيب البغدادي هذه الوصية بقوله "إنما اختاروا المطالعة بالليل لخلو القلب، فإن خلوه يسرع إليه الحفظ، ولهذا (لما) قيل لحماد بن زيد: ما أعون الأشياء على الحفظ ؟ قال: قلة الغم. (قال الخطيب( وليس تكون قلة الغم إلا مع خلو السر وفراغ القلب، والليل أقرب الأوقات إلى ذلك" ([64]).
وقال إسماعيل بن أبي أويس: "إذا هممت أن تحفظ شيئاً، فنم، ثم قم عند السحر، فأسرج، وانظر فيه، فإنك لا تنساه – بعد إن شاء الله") [65]( .
الخامس: اغتنام فترة الصبا والشباب:
واشتهرت كلمة الحسن البصري التي يقول فيها: "طلب الحديث في الصغر كالنقش في الحجر" ([66])، وذاد بعضهم ما معناه: والعلم في الكبر كالنقش في النهر ([67]).
ولذلك كان السلف يبكرون بأولادهم إلى مجالس الحديث، حتى قال عبد الله بن داود الخريبي (ت 213هـ): "ينبغي للرجل أن يكره ولده على سماع الحديث" ([68]).
وقال علقمة بن قيس النخعي (ت62هـ)، في بيان قوة حافظة الشاب ورسوخ حفظه: "ما حفظت وأنا شاب، فكأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة" ([69]).
السادس: اختيار الأماكن المناسبة للتحفظ:
وصفة المكان المناسب: أن يكون مريحاً، لا يشق على النفس المكث به. وأن يكون هادئاً، بعيداً عن الأصوات العالية. وأن يكون خالياً من الملهيات وما يلفت الأنظار ؛ فلا يجلس في حديقة، ولا في ممر الناس وأسواقهم . بل يختار مقصورة أو حجرة في منزله، يتحفظ فيها ([70]).
السابع: الجهر بقراءة ما يراد حفظه:
ولذلك حكمة، بينها والد الزبير بن بكار القرشي (ت 256هـ) عندما رأى ابنه يتحفظ سرا، فقال له: " إنما لك من روايتك هذه (أي: تحفظك سراً) ما أدى بصرك إلى قلبك. فإذا أردت الرواية (أي: الحفظ)، فانظر إليها، واجهر بها ؛ فإنه يكون لك ما أدى بصرك إلى قلبك، وما أدى سمعك إلى قلبك" ([71]).
(وهذا تعبير رائع صحيح، وهذا ما يقول فيه علماء التربية وعلم النفس: كلما كثرت الحواس المشاركة في تلقي موضوع أو تعلمه، كان حفظه أسرع وأيسر) ([72]).
الثامن: إحكام الحفظ بكثرة تكريرة.
يقول ابن الجوزي في (الحث على حفظ العلم ): "الطريق إلى إحكامه كثرة الإعادة. والناس يتفاوتون في ذلك، فمنهم من يثبت معه المحفوظ مع قلة التكرار، ومنهم من لا يحفظ إلا بعد التكرار الكثير. وكان أبو إسحاق الشيرازي (ت476هـ) يعيد الدرس مائة مرة، وكان إلكيا الهراسي (504هـ) يعيد سبعين مرة. وقال لنا الحسن بن أبي بكر النيسابوري الفقيه: لا يحصل الحفظ إلي حتى يعاد خمسين مرة. وحكى لنا الحسن أن فقيها أعاد الدرس في بيته مراراً كثيرة، فقالت له عجوز في بيته: قد – والله – حفظته أنا! فقال: أعيديه، فأعادته ؛ فلما كان بعد أيام، قال: يا عجوز، أعيدي ذلك الدرس، فقالت: ما أحفظه، قال: إني أكرر عند الحفظ لئلا يصيبني ما أصابك"([73]).
التاسع: تعهد المحفوظ، بإعادة النظر فيه وتكريره، في أوقات مختلفة:
إذ الحافظة مهما كانت قوية لابد أن تسهو، فالنسيان جبلة الإنسان. ولا يحافظ على ما في الصدر من العلم، إلا مراجعته من حين لآخر، وعدم الاتكال على الحفظ الأول.
قيل للأصمعي: "كيف حفظت ونسي أصحابك ؟! قال: درست وتركوا" ([74]).
وقال علقمة النخعي: " أطيلوا كر الحديث لا يدرس" ([75])، أي: ليكلا يبلى وينسى.
وعلى طالب العلم أن يجعل له جدولاً معيناً لمراجعة محفوظة ؛ فمثلاً: يجعل في نهاية كل أسبوع يوماً لمراجعة ما حفظة في ذلك الأسبوع، وفي نهاية كل شهر يوماً أو يومين لمراجعة محفوظه خلال الشهر كله، وفي نهاية السنة أسبوعاً أو أسبوعين لمراجعة محفوظه خلال السنة جميعها …. وهكذا. العاشر: المذاكرة:
والمذاكرة اصطلاح يستخدمه المحدثون، يعنون بها مطارحات علمية ومساجلات حديثية، يعرض فيها الجلساء من حفاظ الحديث وطلبته لذكر فوائد الأحاديث وغرائب الأسانيد وخفي التعليلات، يسأل بعضهم بعضاً عن ذلك، ويفيد الواحد منهم الآخر ما غاب عنه. وقد كانت المذاكرة هذه من أبرز سمات المحدثين في عصوره الأولى (مثل الرحلة في طلب الحديث)، ولها آدابها وشروطها المنصوص عليها وفوائدها، وأخبارها المروية فيها ([76]).
وللمذاكرة مع الأقران وغيرهم – على المعنى السابق – فائدة عظيمة في تثبيت الحفظ، من جهة أنه تعهد للمحفوظ بتكريره ومراجعته خلال المذاكرة، وتذكير لما نسي منه، ودون إملال أو إضجار، بل في جو من النشاط والتنافس العلمي البناء.
ولذلك قال عبدالله بن بريدة: " قال لي علي بن أب طالب – رضي الله عنه -: تزاوروا، وتذاكروا هذا الحديث، فإنكم أن لم تفعلوا يدرس علمكم" ([77])، أي: يبلى ويخلق.
وقال أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – "تحدثوا، فإن الحديث يهيج الحديث"([78]).
وقال جماعة من السلف عبارة أصبحت شعاراً للمذاكرة، وهي قولهم: "إحياء الحديث مذاكرته" ([79]).
ومن فوائد المذاكرة أيضاً: أنها سبب كبير وداع عظيم للتنافس المحمود بين طلبة العلم. والتنافس في الخير هو الأمل الجاهد لبلوغ الغايات العظام، ولولاه لما سعى للعلياء ماجد، ولما سما للرفعة طامح.
ولشدة التنافس أثناء المذاكرة بين المحدثين كانت من لذائذ علم الحديث ومن متعه الجليلة ؛ حتى قال الوزير ابن العميد: " ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوة ألذ من الرئاسة والوزارة التي أنا فيها، حتى شاهدت مذاكرة سليمان بن أحمد الطبراني وأبي بكر الجعابي بحضرتي، (ثم ذكر تلك المذاكرة، التي غلب فيها الطبراني أبا بكر الجعابي، ثم قال: "فوددت في مكاني أن الوزارة والرئاسة ليتها لم تكن لي وكنت الطبراني، وفرحت مثل الفرح الذي فرح به الطبراني " ([80]).
وقال علي بن المديني: "ستة كادت تذهب عقولهم عند المذاكرة: يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع، وابن عيينة، وأبو داود الطيالسي، وعبد الرزاق ؛ من شدة شهوتهم له. وتذاكر وكيع وعبد الرحمن ليلة في المسجد الحرام، فلم يزالا حتى أذن المؤذن أذان الصبح " ([81]).
وقال عبد الله بن المبارك:
ما لذتي إلا رواية مسندا |
ت قيدت بفصاحة الألفاظ |
ومجالس فيها تحل سكينة |
ومذاكرات معاشر الحفاظ |
نالوا الفضيلة والكرامة والنهى |
من ربهم برعاية وحفاظ |
لاظوا برب العرش لما أيقنوا |
أن الجنان لعصبة لواظ |
ومن فوائد المذاكرة أيضاً ومن آدابها: إفادة طلبة العلم بعضهم بعضا، وفي ذلك استعجال لأجر وثواب التعليم، قبل بلوغ الدرجة التي يحق فيها لطالب العلم جلوس مجالس المعلمين. وما أدرى طالب العلم ؟ لعله يموت قبل أن يصل إلى أن تتحلق حوله الطلبة!!.
يقول عبدالله بن المبارك: "إن أول منفعة الحديث: أن يفيد بعضكم بعضاً" ([82]).
ويقول الإمام مالك: "بركة الحديث: إفادة بعضهم بعضاً" ([83]).
ويقول سفيان الثوري: "يا معشر الشباب، تعجلوا بركة هذا العلم، فإنكم لا تدرون، لعلكم لا تبلغون ما تؤملون منه، ليفد بعضكم بعضاً" ([84]).
هذه هي أهم وسائل حفظ العلم، وأظهر أسباب تثبيته وعدم نسيانه.
ولكن مما ينبغي التنبيه عليه هنا، هو أن للحفظ طريقتين، لا يعجز عن إحداهما جميع الناس. ولكل طريقة منهما مميزاتها وعيوبها ؛ فيحسن أن نذكرهما، بما لهما من محاسن وعيوب. الطريقة الأولى (وهي أشهر الطريقتين):
وهي أنفع للصغار والشباب ومن أوتي موهبة الحفظ: وهي بأن يقرر الطالب على نفسه لكل يوم جزءاً يسيراً من العلم، كأن يكون حديثاً أو حديثين أو أكثر، ويستحسن أن يكون قدراً يسيراً، فإن القليل يثبت والكثير لا يحصل ([85])؛ فيتحفظ هذا المقرر يومياً، حتى يغيبه في صدره ؛ ويستمر على ذلك فترة طويلة، هي سنوات طلبه للعلم ؛ مع تعهد المحفوظ دائماً، على المنهج الذي ذكرناه سابقاً في التعهد.
ولهذه الطريقة مميزات وعيوب:
فمن مميزاتها: أنها طريقة منهجية منضبطة، يمكن للطالب مع التزامها والمداومة عليها حفظ كتب برمتها، وتغيب مصنفات كاملة.
ومن مميزاتها أيضاً: أنها أسرع حفظاً من الطريقة التالية، إذ قد لا يجلس الطالب للتحفظ إلا ربع ساعة أو نصفها.
ومن عيوبها: أنها أسرع في التفلت من الطريقة التالية، وأنها أحوج ما تكون للتعهد للمحفوظ والمراجعة له دائماً، وعدم الانقطاع عنه من فترة لأخرى.
ومن عيوبها: أن الذي يلتزم بها الغالب أضيق في الاطلاع من صاحب الطريقة التالية، لأن الطالب معها مقيد بمقرر معين.
وأما الطريقة الثانية للحفظ:
وهي أنفع لكبار السن، ولمن لم يؤت موهبة الحفظ: وتتلخص في إدمان مجالسة كتب السنة، وإدامة القراءة فيها، والجلد في ذلك والصبر عليه، مع الإكثار من النسخ والكتابة، وتعويد اليد على ذلك.
ولذلك لما قيل للإمام البخاري: ما البلاذر ؟ وهو دواء كانوا يظنون قديماً أنه يقوي الذاكرة وينشط الذهن على الحفظ، فأجاب الإمام البخاري، صارفاً لهم إلى البلاذر حقاً، حيث قال: "هو إدامة النظر في الكتب" ([86]).
وقال عبدالله بن المبارك: "من أحب أن يستفيد، فلينظر في كتبه" ([87]).
وقال الحافظ أبو مسعود أحمد بن الفرات (ت 258هـ): "لم نزل نسمع شيوخنا يذكرون أشياء في الحفظ، فأجمعوا أنه ليس شيء أبلغ فيه من كثرة النظر" ([88]).
وأما الكتابة وأثرها في الحفظ، فقد سبق أن ذكرنا أن المحفوظ كلما اشترك فيه أكثر من حاسة، كلما كان ذلك أقوى له وراسخ. فإذا نظر القارىء، وجهر بالقراءة، ثم كتب ؛ فإنه – على حد تعبير والد الزبير ابن بكار – يكون له ما أدى بصره إلى قلبه، وما أدى سمعة إلى قلبه، وما أدت يده إلى قلبه ؛ فلا ينسى بإذن الله تعالى، لأنه اشترك في تحفظه ثلاث حواس.
وقد قال الحسن بن علي – رضي الله عنهما – لبنيه وبني أخيه:
"تعلموا العلم، فإنكم صغار قوم، يوشك أن تكونوا كبارهم غداً، فمن لم يحفظ منكم فليكتب" ([89]).
وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: " ما سمعت شيئاً إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته إلا نفعني " ([90]).
ولهذه الطريقة في الحفظ مميزات وعيوب:
فمن مميزاتها: أن صاحبها بطيىء النسيان لمحفوظه، لأن طريقة حفظه تتضمن التعهد معها، بل هو إنما حفظ بالتعهد الكبير!!
ومن مميزاتها: أن صاحبها أوسع استحضاراً من صاحب الطريقة السابقة، لأنه أوسع اطلاعاً.
ومن عيوبها: أن صاحبها لا يستطيع الجزم بأنه يحفظ كتاباً ما، خاصة المطولات. وأيضاً لا يستطيع في كثير من الأحيان أن يؤدي ما حفظ باللفظ، وإنما يؤديه بالمعنى ؛ وللرواية بالمعنى شروط، وتحوم حولها أخطار.
ومن عيوبها: أنها تستلزم وقتاً طويلاً للحفظ، وجلداً وصبراً، وانقطاعاً كاملاً ؛ إذا أراد صاحبها أن ينافس صاحب الطريقة الأولى.
وأما من جمع بين طريقتي الحفظ هاتين فهو الحافظ الكامل، الذي جمع بين محاسن الحفظ، ونجا من عيوبه كلها.
الميزة الثالثة:
أن علم الحديث علم لا تضبط جميع جزئياته قواعد مطردة دائماً، ولا توزن مسائله بمقاييس رياضية ؛ وإنما قواعده وأصوله أغلبية. بل في كثير من مسائل علم الحديث يصرح المحققون من أهل العلم أنه ليس لها قاعدة معينة، وإنما يرجع في كل جزئية منها إلى ملابساتها وقرائنها، ثم يكون الحكم عليها بناء على حالتها الخاصة تلك. وذلك في مثل مسألة (ريادة الثقة)، و (التفرد بأصل)، و(الاعتضاد والتقوي بالمتابعات والشواهد)، وما إلى ذلك من أعظم مسائل علم الحديث.
وليس عدم شمول قواعد علم الحديث لجميع جزئياته، ولا عدم وجود قواعد أصلاً لبعض مسائله، بسبب تقصير في تقنين هذا العلم وفي تأصيله من علماء الأمة ؛ بل سببه هو بلوغهم به أقصى غايات التقعيد السليم والتأصيل الصحيح!! وذلك أن علم الحديث مادته الخام هي البشر ونقولهم وأخبارهم، وللبشر باختلاف مواهبهم الخلقية، وبتباين دوافعهم وعقائدهم وسلوكياتهم، وباضطراب أحوالهم من وقت لآخر، وبما يطرأ عليهم من عوامل تغيير نفسية وخارجية ؛ بذلك كله لا يمكن أن يكون لنقول هؤلاء وأخبارهم ضوابط حسابية وموازين رياضية، بل لابد من التعامل مع تلك المادة المتباينة الأجزاء، الكثيرة التغيرات في كل جزء منها، بما يتناسب وذلك ؛ وهذا هو ما فعله أئمة الحديث في عصور تكوين علمهم …. رضي الله عنهم وأرضاهم!!
المهم أن تعلم أن هذه إحدى أعظم مميزات علم الحديث.
وهذه الميزة تعتي: أن تعلم قواعد علم الحديث ودراسة مصطلحه ليس سوى الخطوة الأولى في طلب علم الحديث، مهما تعمق الدارس في تحصيل تلك القواعد والأصول. وما جنى على علم الحديث شيء في العصر الحديث مثل الغفلة عن هذه الحقيقة، وذلك بالتعامل مع الروايات الحديثية بتلك القواعد معاملة من معه قوالب يصب فيها مادته الخام ومعاملة من معه ختوم جاهزة يطبع بها كل مسألة جزئية، دون أن يتنبه إلى أن لكل قاعدة شذوذات، بل يختلق القواعد لما ليس له قاعدة، لعدم استطاعته إلا التعامل مع القوالب الجاهزة!!
وهذه الميزة تعني أيضاً: أن علم الحديث علم حي لا يعيش وينمو في صدر رجل إلا بالممارسة له والتطبيق العملي لقواعده. لأن شذوذات القواعد (وهي كثيرة وإنما سميت شذوذات لأنها بخلاف القاعدة المنصوص عليها)، والمسائل التي لا قواعد لها، لا يحسن الوقوف عليها، ولا يعرف المآخذ والأسس التي تبنى عليها أحكامها، ولا يلحظ الملابسات والقرائن الخاصة بكل مسألة جزئية منها ؛ إلا من عاش علم الحديث تطبيقاً عملياً وممارسة عميقة فترة طويلة من عمره.
وعلى هذا فعلم الحديث يحتاج كل الاحتياج لممارسة طويلة، وتطبيق عملي عميق، ليمكن طالب الحديث بعد مرور زمن طويل من ذلك أن يتنبه لشذوذات القواعد وملابساتها، وأن يقف بنفسه على مآخذ الأحكام في المسائل التي لا قواعد لها وإنما يرجع فيها للقرائن الخاصة بكل مسألة.
يقول الخطيب البغدادي، منبها على أهمية الممارسة العملية في علم الحديث: "قل ما يتمهر في علم الحديث، ويقف على غوامضه، ويستنير الخفي من فوائده، إلا من جمع بين متفرقه، وألف متشتته، وضم بعضه إلى بعض، وانشغل بتصنيف أبوابه، وترتيب أصنافه. فإن ذلك الفعل مما يقوي النفس، ويثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويبسط اللسان، ويجيد البيان، ويكشف المشتبه، ويوضح الملتبس، ويكسب أيضاً جميل الذكر، وتخليده إلى آخر الدهر ". ثم أسند الخطيب إلى عبد الله بن المبارك، أنه قال: "صنفت من ألف جزء جزءاً، ومن نظر في الدفاتر فلم يفلح، فلا أفلح هو أبداً" ([91]).
وهيئة هذه الممارسة التي نطالب بها طالب علم الحديث، هي: أن يقوم الطالب بما يشبه التصنيف والتأليف، إما بتخريج أحاديث كتاب ما أو أحاديث باب فقهي معين، أو بالترجمة لرواة كتاب لم يخدم رواته بالترجمة، أو بالعناية بالرواة المختلف فيهم، أو بجمع أقوال الأئمة وتطبيقاتهم حول قاعدة من علم الحديث أو حول أحد مصطلحاته.. ونحو ذلك من الموضوعات الكثيرة جداً. والأفضل أن ينوع في طبيعة بحوثه، حتى يستفيد فائدة أعم وأشمل.
وبالطبع لا يكون غرضه من هذه البحوث هو تأليف كتاب يخرجه للناس، خاصة في مرحلة تكوينه العلمي، وإنما يكون غرضه من ذلك التعلم والتمرن، للفوائد التي ذكرها الخطيب في كلامه السابق عن الممارسة العملية في علم الحديث.
ولا يمنع ذلك من أن يبتدىء طالب الحديث مشروعاً علمياً كبيراً، من صغر سنه وبدايات طلبه، يجمع له ويرتب ويناقش ويستنبط ويستدل، ويقضي في ذلك عمراً من عمره، وبشرط أن لا يخرج مشروعه هذا إلا بعد بلوغه من العلم ما يكون قد وصل به إلى درجة الإفادة، كأن يشهد له شيوخه وأقرانه باستحقاقه أن يدلي بجهده في تأليف كتاب.
بل إني لأشدد في النصح لطلبة العلم بابتداء مشاريع من هذا القبيل، ولا يستخفوا بأنفسهم ؛ فقد كان الإمام الزهري يقول للفتيان والشباب: "لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان، فاستشارهم، يبتغي حدة عقولهم" ([92]).
ولك في سيرة العلماء قدوة:
فقد بدأ الإمام البخاري تصنيفه للتاريخ الكبير وله من العمر ثمانية عشر عاماً، وبقي في تصنيفه وتحسينه غالب حياته. أما (صحيحه) فمكث في تصنيفه ستة عشر عاماً.
وابتدأ ابن عساكر تصنيف (تاريخ دمشق) بمجلداته الثمانين من صباه، واستمر في جمعه إلى أن شاخ.
وأفنى الطبراني عمره المديد (فقد عمر مائة سنة) في معجمه الأوسط.
فعليك يا طالب العلم أن تختار مشروعاً علمياً حديثياً نافعاً، واستشر العلماء والمأمونين في اختيارك، وابدأ في الجمع له والتأليف من فترة مبكرة، ولا تفوت العمر. ثم أنت خلال هذا الجمع تمارس علم الحديث عملياً، وتطبقه واقعياً ؛ فتستفيد فائدتين، بل فوائد، وتعلي همتك، وتقوي عزمك، وتبذل جهدك في طلبك العلم، وتطرد الملل والسأم وقلة الصبر، بما يتجدد لك في بحثك من فوائد، تنظر قطف ثمرتها في مستقبل حياتك العلمية إن شاء الله تعالى.
الميزة الرابعة:
أنه علم مترامي الأطراف، لا ساحل لبحوره، ولا قاع لأعماقة. هذا وصف حقيقي مطابق لواقع حال علم الحديث، وليس كلاماً أدبياً مجازياً. وتحقيق ذلك عندك وتأكيده لديك يظهر: بتذكرك لعظيم تشعب أسانيد الأحاديث وكثرتها، ولتناثر تراجم رواة وتعديلهم التي في غير مظنتها، ولتباعد ما بين تعليلات الأئمة للحديث الواحد في مصادر هذا العلم ؛ مما لا يجمع ذلك كتاب.. بل مكتبة، ولا يحويه مكان واحد.
ولهذه الميزة فإن طالب الحديث في حاجة ماسة إلى مكتبة عامرة بالكتب، مكتبة ضخمة بمعنى الكلمة، تكون بين يديه وقتما يشاء، مكتبة تنمو وتزيد كل يوم بالجديد من المطبوعات والمقدور عليه من المخطوطات، ولا تقف عن النمو ما دام صاحبها حي العلم والروح. حيث إن تلك الميز لا يحل إشكالها، ولا يمكن مواجهتها، إلا بالمكتبة الجامعة لكتب السنة، والمقربة لأطراف هذا العلم المترامية، المعينة على استيعاب جل أو كثير من جزئياته المتفرقة المتشعبة.
ولذلك فعلى طالب العلم أن يتحلى بالبذل والسخاء في اقتناء الكتب، وأن يقدم شراء الكتاب على طعامه وملبسه وملذاته، وأن يحرص كل الحرص على أن لا يفوت كتاباً صغر أو كبر في علم الحديث، في أي فن من فنونه.
ومن نصائح ذي النون المصري (ت 245هـ) في ذلك: "ثلاثة من أعلام الخير في المتعلم: تعظيم العلماء بحسن التواضع لهم، والعمى عن عيوب الناس بالنظر في عيب نفسه، وبذل المال في طلب العلم إيثاراً له على متاع الدنيا" ([93]).
ولذلك قال غير واحد من أهل العلم، منهم شعبة بن الحجاج: "من طلب الحديث أفلس" ([94])، وقال الفضل بن موسى السيناني: "طلب الحديث حرفة المفاليس"([95])، ولما سأل سفيان بن عيينة رجلاً عن حرفته فأجابه الرجل بأنها طلب الحديث، فقال سفيان: "بشر أهلك بالإفلاس" ([96])، وقال شعبة: "إذا رأيت المحبرة في بيت إنسان فارحمه، وإن كان في كمك شيء فأطعمه" ([97])، ولما أثنت امرأة على رجل بخير، وقالت في ثنائها: "لا يتخذ ضرة، ولا يشتري جارية"، أجابتها زوج ذلك الرجل بقولها: "والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر" ([98]).
أما طالب العلم (بزعمه) الذي يقول يغنيني كتاب في السنة وعلومها عن كتاب في ذلك، فليس بطالب علم! ولا يريد أن يكون طالب علم. فإني لا أقول إنه لا يغني كتاب عن كتاب فقط، بل أكاد أقول: لا تغني طبعة عن طبعة أخرى له!!!
وأما طالب العلم الذي بقول: لا أشتري كتاباً حتى أقرأ وأدرس الكتاب الذي عندي، فلا يفلح في العلم أبداً! فإن شراء الكتب وحده عبادة يؤجر عليها فاعلها، لوجوه، منها أنها مما لا ينقطع العمل به بعد الموت، تبقى ينتفع بها من بعده.
ثم إن تكوين المكتبة العامرة يشبه طلب العلم من جهتين:
الأولى: كما أن طلب العلم لا يكون جملة، في أيام وليالي، كذلك تكوين المكتبة، لا يمكن أن يتم إلا من خلال متابعة للجديد من الكتب في عالم المطبوعات ؛ حيث إن الكتب في السنة وعلومها كثيرة جداً، قلة من الأغنياء – ممن يعرف قيمة الكتب – من يستطيع شراء الموجود منها دفعة واحدة. وهناك كتب نادرة، وكتب سرعان ما تنفد من الأسواق، فمن لم يبادر بشرائها فاتته، وسيندم حين لا ينفع الندم، وسيندم إن كان فيه بقية من طالب علم.
الثانية: أن طلب العلم الصادق يلجيء طالب العلم إلى دراسة مسائل ما كان يظن قبل ذلك أنه سيحتاج دراستها، وكذلك تكوين المكتبة ؛ فإن شراءك الكتاب ومعرفتك لما فيه يدلك على كتاب آخر، ربما لم تسمع به، وربما سمعت به ولم تظن أنك محتاج إليه ؛ فالحاجة للكتب تنمو مع نمو طلبك للعلم. وكم من كتاب ما كنت أظن أني سأنظر إليه، أصبح بعد في حجري لا أستغني عنه ما دمت أبحث في العلم. فمن كان يجمع الكتب من بدايات طلبه للعلم، سيحمد ذلك عندما يعرف قيمة ما جمع. وأما من كان لا يشتري حتى يقرأ ما جمع فإن انصلح شأنه، فسيندم على سوء سياسته تلك بعد حين، ولات حين مندم.
ولو تصفحت تراجم كبار الأئمة، والعلماء المبرزين، لوجدت أن القاسم المشترك بينهم هو حب الكتب والشغف بها، وأنهم من أصحاب المكتبات العظيمة. وأما رحلتهم مع الكتاب وقصتهم معه، فهي قصص تملؤها العاطفة والتفاني والبذل واحتقار الدنيا وملذاتها: فكم من عالم رضي بالجوع دهراً ليقتني الكتب، وكم من عالم آخر باع ثوبه الذي على جسده أو داره التي يسكنها ليمتلك كتاباً، وكم من عالم رضي ببكاء أهله وأولاده عرياً وحرماناً ولم يرض بيع كتاب له، وكم من إمام بكى وغلب حزنه صبره لما فاته كتاب.. وكم وكم!! ([99])
ومن عجائب ذلك قصة الحافظ أبي العلاء الحسن بن احمد بن سهل الهمذاني العطار (ت 569هـ)، وكان قد جمع كتباً كثيرة، ورحل إلى البلدان من أجل ذلك، وعمل داراً للكتب وخزانة، ووقف جميع كتبه فيها لطلبة العلم!
ومن غرائب ما حصل له في جمعه للكتب: أنه كان مرة ببغداد، ونودي بالمزاد على كتب لابن الجواليقي بمبلغ كبير، فاشتراها أبو العلاء العطار، على أن يوفي الثمن بعد أسبوع، ولم يكن لديه ثمنها. فخرج إلى طريق همذان، فرحل، إلى أن وصلها – فأمر بأن ينادى على داره بالبيع!!! فلما بلغت السعر الذي اشترى به الكتب، قال للمنادي: بيعوا، فقال له المنادي: تبلغ أكثر من ذلك، فلم ينتظر خشية أن ينتهي أمد وفاء ثمن الكتب، فباع داره، ثم ركب إلى بغداد، فوفى الثمن، ولم يشعر أحد بحاله إلا بعد مدة!!!
ولما توفي هذا الإمام رؤي في المنام وهو في مدينة جميع جدرانها مبنية بالكتب، وحوله كتب لا تحصى، وهو مشتغل بمطالعتها!! فقيل له: ما هذه الكتب ؟! قال: سألت ربي أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا، فأعطاني!!
فعلى طلبة الحديث أن يبدؤوا في تكوين مكتبة من بداية طلبهم، شيئاً فشيئاً ؛ فإنهم إن استمروا في الطلب فسيجدون غب ما جمعوا خيراً وفائدة واستغناء وسعادة!
منهج القراءة والتعلم
لكتب الحديث والمصطلح
بعد ذكر المميزات السابقة لعلم الحديث، وما تستلزمه كل ميزة منها من أسلوب معين تواجه به في الطلب والتحصيل ؛ بقي وضع تصور عام لمنهج القراءة والتعلم في كتب الحديث وعلومه:
ولن أكون في هذا المنهج بعيداً عن الواقع، فأطالب جيل اليوم بما كان يلزم به السلف طلاب العلم في زمانهم ؛ كما سئل الإمام أحمد "عن الرجل يكون معه مائة ألف حديث، يقال إنه صاحب حديث ؟ قال: لا، قيل: عنده مائتا ألف حديث، يقال له صاحب حديث ؟ قال: لا، قيل له: ثلاثمائة ألف حديث ؟ فقال بيده يمنة ويسرة" ([100]). وقال أبو بكر ابن أبي شيبة: "من لم يكتب عشرين ألف حديث إملاء لم يعد صاحب حديث" ([101]).
بل لن أزن طلاب اليوم بعرف أهل العلم في القرن الثامن الهجري!! فقد قال تاج الدين السبكي (ت 771هـ): "إنما المحدث من عرف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل، وحفظ من ذلك جملة مستكثرة من المتون، وحفظ البعض من الأسانيد، وسمع الكتب الستة ومسند أحمد وسنن البيهقي ومعجم الطبراني، وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية، هذا أقل درجاته ؛ فإذا سمع ما ذكرناه، وكتب الطباق، ودار على الشيوخ، وتكلم في العلل والأسانيد، كان في أول درجات المحدثين، ثم يزيد الله من شاء ما شاء" ([102]).
فهذا كله بحسب عرفهم!! لكن (لكل زمان دولة ورجال). فلن أخاطب إلا أهل زماني، بضعف هممهم، وكثرة الصوارف لهم عن طلب العلم.. وفي الله الخلف وهو المستعان!
فأول ما يلزم طالب الحديث: هو إدمان النظر في الصحيحين (صحيح البخاري وصحيح مسلم)، بل ينبغي أن يضع الطالب لنفسه مقداراً معيناً من الصحيحين يقرؤه كل يوم، ليختم الصحيحين قراءة في كل سنة مرة في أقل تقدير، ويستمر على ذلك أربع سنوات مثلاً، خلال دراسته الجامعية أو الثانوية ؛ فلا يتخرج إلا وقد قرأ الصحيحين عدة مرات، ليكون مستحضراً غالب متون الصحيحين.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى بقية الكتب التي اشترطت الصحة، كصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان، وموطأ مالك، ومنتقى ابن الجارود.
ويتمم هذه بسنن أبي داود والنسائي، وجامع الترمذي، وسنن الدارمي، وسنن الدارقطني، والسنن الكبرى للبيهقي.
فيقرأ الطالب هذه الكتب، بعناية وتدقيق، ويكثر من القراءة فيها، وخاصة التي اشترطت الصحة، وعلى رأسها الصحيحان.
فإن كان طالب العلم هذا ممن أوتي موهبة الحفظ، فليجمع عزمه على ما يستطيعه من هذه الكتب. ويمكنه أن يبدأ بحفظ (الأربعين النووية) وما ألحقه ابن رجب بها لتمام خمسين حديثاً، ثم ينتقل إلى (عمدة الأحكام) لعبدالغني بن عبدالواحد المقدسي، ثم إلى (بلوغ المرام) لابن حجر، أو (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان) لمحمد فؤاد عبدالباقي، ثم إلى الصحيحين ؛ ثم ما شاء مما يوفقه الله تعالى إليه من الكتب. وأنصحه أن ألا يضيف إلى محفوظه إلا ما حكم عليه بالصحة والقبول من إمام معتبر، إلا بعد أن يستوعب ذلك.
ويمكن طالب الحديث أن يكمل قراءته لكتب السنة بقراءة شروح مختصرة لكتب الحديث، مثل (أعلام الحديث) في شرح صحيح البخاري للخطابي، وشرح النووي لصحيح مسلم، وشرح الطيبي لمشكاة المصابيح، وفيض القدير للمناوي. وأسهل من ذلك كله، أن يضع الطالب بجواره أثناء قراءته لكتب السنة كتاب (النهاية في غريب الحديث والأثر) لابن الأثير، لأنه كتاب يعنى بتفسير الكلمات الغريبة لغوياً الواردة في الأحاديث والآثار ؛ ليستطيع من خلال ذلك أن يفهم المعنى العام للحديث، وأن لا يروي ما لا يدري. فإن أراد التوسع: فعليه بمثل (التمهيد) لابن عبدالبر، و(طرح التثريب) للعراقي، و(فتح الباري) لابن حجر.
أما بالنسبة لكتب علوم الحديث والمصطلح: فإن كان الطالب صغير السن (في مثل المرحلة الدراسية المتوسطة) فيبدأ بالبيقونية أو (نخبة الفكر) لابن حجر، مع شرح ميسر لها؛ وإن كان في المرحلة الثانوية أو بداية الجامعة فيبدأ بـ (نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر) لابن حجر، أو (الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير) لأحمد محمد شاكر، أو (الغاية شرح الهداية) للسخاوي. ثم ينتقل إلى كتاب ابن الصلاح في علوم الحديث، ويضم إليه شروحه كـ (التقييد والإيضاح) للعراقي و(النكت على كتاب ابن الصلاح) لابن حجر، ويتلو ذلك كتاب (الموقظة) للذهبي. ثم ينتقل إلى الكتب الموسعة في علوم الحديث، مثل (تدريب الراوي) للسيوطي، و(فتح المغيث) للسخاوي، و(توضيح الأفكار) للصنعاني. ثم يدرس بعمق كتاب (الكفاية) للخطيب، و(معرفة علوم الحديث) للحاكم، و(شرح علل الترمذى) لابن رجب، ومقدمة (التمهيد) لابن عبدالبر، ومقدمة (الإرشاد) للخليلي. ثم ينتهي بالتفقه في كلام الشافعي في (الرسالة)، ومسلم في مقدمة (الصحيح)، وأبي داود في (رسالته إلى أهل مكة)، ونحوها.
وبعد تعلمه لـ (نزهة النظر) أو ما ذكرناه في درجتها، وأثناء قراءته لكتاب ابن صلاح، عليه أن يكثر مطالعة كتب التخريج، مثل (نصب الراية) للزيلعي، و(البدر المنير) لابن الملقن، و(التلخيص الحبير) لابن حجر، و(تنقيح التحقيق) لابن عبد الهادي، والسلسلتين و(إرواء الغليل) للألباني. ويحاول خلال هذه القراءة أن يوازن بين ما عرفه من كتب المصطلح وما يقرؤه في كتب التخريج تلك، ليرى نظرياً طريقة التطبيق العملي لتلك القواعد ومعاني المصطلحات.
وإذا ما توسع في قراءة كتب التخريج السابقة، ويدرس كتاباً من الكتب الحديثة في أصول التخريج، مثل (أصول التخريج ودراسة الأسانيد) للدكتور محمود الطحان. ثم يدرس كتاباً أو أكثر في علم الجرح والتعديل، مثل (الرفع والتكميل) للكنوي، وأحسن منه (شفاء العليل) لأبي الحسن المصري. ويدرس أيضاً كتاباً من الكتب التي تعرف بمصادر السنة، كـ(الرسالة المستطرفة )للكتاني، و(بحوث في تاريخ السنة النبوية) للدكتور أكرم ضياء العمري.
ثم يبدأ بالتخريج ودراسة الأسانيد بنفسه، وكلما بكر في ذلك (ولو من أوائل طلبه) كان ذلك أعظم فائدة وأكبر عائدة ؛ لأن ذلك يجعله يطبق القواعد فلا ينساها، ويتعرف على مصادر السنة ومناهجها، ويتمرن في ساحات هذا العلم. والغرض من هذا التخريج – كما سبق – هو الممارسة للتعلم، لا للتأليف ؛ وقد تقدم الحديث عن أهمية هذه الممارسة في علم الحديث.
وأثناء قيامه بالتخريج، عليه أيضاً أن يخص علم الجرح والتعديل التطبيقي بمزيد عناية كذلك ؛ وذلك بقراءة كتبه الكبار، مثل: (تهذيب التهذيب) لابن حجر، و(ميزان الاعتدال) للذهبي ؛ وكتبه الأصول، مثل: (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم، و(الضعفاء) للعقيلي، و(المجروحين) لابن حبان، و(الكامل) لابن عدي، وكتبه التي هي أصول الأصول، مثل: تواريخ يحيى بن معين وسؤالاته هو والإمام أحمد، (التاريخ الكبير) للبخاري، ونحوها. وهو خلال قراءته هذه يحاول أن يوازن بين استخدام الأئمة لألفاظ الجرح والتعديل وما ذكر عن مراتب هذه الألفاظ في كتب المصطلح. وإن مر به أحد الرواة الذين كثر الاختلاف فيهم، فعليه أن يطيل في دراسته، فإن هؤلاء الرواة مادة خصبة للدراسة والاستفادة.
وما يزال الطالب في الترقي العلمي في قراءة كتب علوم الحديث، فلا يدع منها شاردة ولا واردة، وفي التوسع في التخريج، وفي تمحيص علم الجرح والتعديل ؛ حتى يصل إلى منزلة يصبح قادراً فيها على دراسة كتب العلل، مثل: (العلل) لابن المديني، والترمذي، وابن أبي حاتم، وأجلها (علل الأحاديث) للدارقطني. فيقرأ الطالب هذه الكتب قراءة تدقيق شديد، وتفقه عميق ؛ ليدري بعضاً من أساليب الأئمة في عرض علل الأحاديث، وطرائق اكتشاف تلك العلل، وقواعد الحكم على الأحاديث.
فإذا وصل طالب الحديث إلى هذه المرحلة، فلابد أن رأسه قد أمتلأ بالمشاريع العلمية والبحوث الحديثية، التي تزيده تعمقاً في علم الحديث. فليبدأ (على بركة الله) مشوار العلم الطويل، منتفعاً ونافعاً مستفيداً مفيداً.
فإن بلغ طالب الحديث هذه الرتبة، وأسبغ الله عليه نعم توفيقه وتسديده، ومد عليه عمره في عافية، وطالت ممارسته لهذا العلم ؛ فيا بشرى العالم الإسلامي، فقد ولد له محدث!!
وأنبه – أخيراً – أن هذه المنهج التعليمي إنما نطرحه للطالب الذي لم يجد من يوجهه. أما من وجد عالماً ربانيا يعتني به توجيهاً وتعليماً، فعليه أن يقبل عليه بكليته، وأن يلزم عتبة داره ؛ فهو على خير عظيم، وعلى معارج العلم يترقى، ما دام جاثياً في حلقة ذلك العالم.
والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وكتب
الشريف حاتم بن عارف بن ناصر العبدلي العوني
([13])انظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (64)، والمحدث الفاصل للرامهرمزي (179 رقم 31 – 32)، والمجروحين لابن حبان (1/62)، والكامل لابن عدي (1/58 –59)، والمدخل إلى الإكليل للحاكم (27)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (3/365)، وشرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم150، 151)، ومسألة العلو والنزول لابن طاهر (رقم 9)، وترجمة الزهري من تاريخ دمشق – الترجمة المطبوعة المفردة – (150)