أصول الفقه الذي لا يسع الفقيهَ جهلُه
أصول الفقه
الذي لا يسع الفقيهَ جهلُه
تأليف
أ.د. عياض بن نامي السلمي
عضو هيئة التدريس بقسم أصول الفقه
بكلية الشريعة بالرياض
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، وترفع الدرجات، أحمده على آلائه ونعمه، وأعوذ به من عذابه وغضبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، بعثه الله بالحق بشيراً ونذيراً، فبشر ويسر، وحذر وأنذر، حتى تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد : فقد طلب مني كثير من الإخوان في مناسبات عديدة أن أكتب كتاباً في أصول الفقه يكون متوسطاً في حجمه، جامعاً لأهم مسائل هذا العلم، مع وضوح العبارة وضرب الأمثلة التي تقربه للفهم وتظهر فوائده لطلاب العلم.
وقد رأيت أن أجيب طلبهم بتأليف كتاب يحتوي على ما لا يستغني عنه الفقيه من أصول الفقه، مع تجنب الإطالة في مسائل الخلاف، والاكتفاء بالأقوال المشهورة وأهم أدلتها، والعناية ببيان حقيقة الخلاف، وتصحيح ما يقع من الوهم أو سوء الفهم للمشتغلين بهذا العلم في تحرير مسائله وتقريرها وتصويرها.
وقد عُنيتُ عنايةً خاصة بثمرات الخلاف، والوقوف عند بعض القضايا الشائكة وتحريرها وتقريبها للفهم، وقد أخالف ما عليه أكثر الأصوليين في اختيار رأي أو تعريف، أو نحو ذلك، لا رغبةً في المخالفة، ولكن إيضاحاً لما أعتقده من الحق، أو تصحيحاً لخطأ نشأ عن سوء الفهم أو تضارب النقول عن أئمة الأصول.
وقد اجتهدتُ في أن يكون الكتاب شاملاً للمناهج التي تدرس في كليات الشريعة وأصول الدين في الجامعات السعودية؛ رجاء أن يكون الطلابُ أولَ المستفيدين منه.
وليشمل الكتاب جميع المسائل المهمة في أصول الفقه قسمته إلى تمهيد وستة أبواب وخاتمة، على النحو التالي :
التمهيد : التعريف بأصول الفقه.
الباب الأول : الحكم الشرعي.
الباب الثاني : أدلة الأحكام الشرعية.
الباب الثالث : دلالة الألفاظ.
الباب الرابع : التعارض وطرق دفعه.
الباب الخامس : الاجتهاد.
الباب السادس : التقليد.
وقد رأيت أن لا أثقل الكتاب بالهوامش والحواشي، فاقتصرت على توثيق المعلومات التي لا يتكرر وجودها في كتب التخصص، أو التي فيها شيء من الغرابة.
وفي تخريج الأحاديث اقتصرت على عزو الحديث لمن خرَّجه في الصلب، وإذا خُرّج في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت به.
واللهَ أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم.
والحمد لله أولا وآخرا. وصلى الله وسلم على رسوله وآله وصحبه أجمعين.
عياض السلمي
الرياض 1/1/1426هـ
التمهيد
التعريف بأصول الفقه
1 ـ نشأة أصول الفقه :
أصول الفقه ككثير من العلوم الإسلامية لم يأخذ شكله النهائي الذي يميزه عن سائر علوم الشريعة إلا في آخر القرن الثاني، أما في العهد النبوي وعهد الصحابة وأوائل عهد التابعين فلم يكن أصول الفقه علما مستقلا متميزا عن غيره من علوم الشريعة، ولكن قواعده العامة كانت موجودة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأدلة الشرعية التي هي موضوع هذا العلم الرئيس كانت معروفة، والاستدلال بالكتاب والسنة والقياس كان حاصلا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلالة الكتاب والسنة كانت معروفة للصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بحكم معرفتهم بلغة العرب التي نزل بها القرآن وتكلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم أمراء الفصاحة والبيان، وأعرف الناس بمعاني اللغة من حقيقة ومجاز، وإطلاق وتقييد، وعموم وخصوص، ومنطوق ومفهوم، ولم يكونوا بحاجة إلى أن توضع لهم قواعد تبين طرق الدلالات.
وهم بالإضافة إلى ما سبق قد عرفوا أسباب النزول، والظروف التي قيلت فيها الأحاديث القولية، وشهدوا الحوادث التي قضى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بقضاء أو سنَّ فيها سنة، فأغناهم ذلك عن كثير مما احتاج إليه المتأخرون، وكانوا يجمعون إلى ذلك سلامة النية وحسن القصد في طلب الحق من غير هوى ولا تعصب.
كان الصحابة رضي الله عنهم يفزعون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يعرض لهم من الحوادث، فإن كان الحكم قد أوحي إليه به أفتاهم وأرشدهم، سواء أكان الوحي متلواً أم غير متلو، وإن لم ينزل عليه في ذلك وحي صريح نظر فيما أوحي إليه، فإن ظهر له حكم المسألة أخبرهم به وإلا انتظر الوحي الذي لا يلبث أن يأتيه عن قرب بحكم ما أشكل عليه.
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة بالحمر الأهلية، فقال : « ما أُنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: { * }[الزلزلة 7-8]» (متفق عليه).
فهذا استدلال من الرسول صلى الله عليه وسلم بعموم الكتاب على مسألة جزئية، ومثله إنكاره على أبي بن كعب رضي الله عنه تأخره عن إجابة ندائه لاشتغاله بالصلاة، واستدلاله عليه بعموم قوله تعالى : { }[الأنفال 24] (أخرجه أحمد والترمذي)، ومثل هذه القصة ما حصل لأبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه (أخرجه البخاري).
ومن اجتهاداته فيما لم يرد فيه نص بخصوصه ولا بعمومه اجتهاده في أخذ الفداء من أسرى بدر، وعقد الصلح مع أهل مكة عام الحديبية، وسيأتي لهذا مزيد بيان في باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى.
وأما الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يجتهدون في فهم النصوص من الكتاب والسنة، ويسأل بعضهم بعضا فيما خفي عليه، ويقيسون المسائل بما يشبهها، ولم يكونوا بحاجة إلى وضع قواعد تضبط استدلالهم مع حضور تلك القواعد في أذهان المجتهدين منهم، وكذلك كان الحال في عهد كبار التابعين مع ظهور التفاضل بينهم في العلم والفتوى.
وفي أواخر عهد التابعين بدأت المدارس الفقهية تظهر قدرا أكبر من التمايز والاختلاف، فبرز في العراق ما سمي أخيرا بمدرسة أهل الرأي، وبرز في المدينة ما عرف بمدرسة أهل الحديث ( ). وكان طلاب الفتوى يترددون بين علماء هذا الاتجاه أو ذاك، وربما سأل بعضهم في النازلة أكثر من عالم من غير أن ينكر هؤلاء أو أولئك على عوام الناس سؤالهم لمن يثقون به.
وكان في كل بلد من حواضر الإسلام علماء يرجع إليهم الناس في الفتيا والقضاء، ولهؤلاء العلماء طلاب تأثروا بمنهجهم واقتفوا آثارهم وربما التقى العلماء فتناظروا وأدلى كل منهم بحجته، فإما أن يرجع أحدهم إلى قول صاحبه أو يبقى على رأيه لقناعته بصحته لا حبا في الخلاف، وربما التقى الطلاب فتفاخر كل منهم بأستاذه ومعلمه.
وفي هذه الأثناء بدأ التعصب لرأي الشيخ والإعجاب به يطغى على الإنصاف عند بعض الطلاب، ولم تكن هناك قواعد يرجع إليها لوزن الآراء ومعرفة الراجح منها والمرجوح.
وفي هذا الوقت كثر اختلاط العجم بالعرب، وضعف اللسان العربي، ودخل الوضع في الحديث لنصرة مذهب سياسي أو لتأييد رأي، وتصدر للرواية من لم يكن أهلا، واحتاج القرآن إلى تفسير وإيضاح، واحتاجت السنة إلى تمييز الصحيح منها عن الضعيف.
ولذلك كله شرع الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في وضع قواعد تضبط الاستدلال، وتبين ما يصلح دليلا وما لا يصلح، وتبين عمل الفقيه عند تعارض الأدلة عنده، وتؤسس قواعد الفهم لنصوص الكتاب والسنة، فكتب الرسالة، وجعلها بمثابة مقدمة لكتاب الأم، فتلقاها أكثر الناس بالقبول وأعجبوا بها حتى قال الإمام أحمد : « ما أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا وللشافعي عليه مِنَّة، فقلنا : يا أبا محمد كيف ذلك؟ قال : إن أصحاب الرأي كانوا يهزأون بأصحاب الحديث حتى علمهم الشافعي وأقام عليهم الحجة»( ). ولم يكن كتاب الرسالة هو كل ما كتبه الشافعي في أصول الفقه، بل كتب كتبا أخرى لكنها لم تكن في شمول الرسالة ولا في تمحضها لمسائل هذا العلم، ومن تلك الكتب اختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وجماع العلم، وكتاب أحكام القرآن( ).
وبعد الإمام الشافعي تتابع التأليف في هذا العلم فكتب الإمام أحمد بن حنبل كتاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتب داود الظاهري : الإجماع، وإبطال التقليد، وخبر الواحد، والخصوص والعموم، وكتب عيسى بن أبان كتابا في خبر الواحد، وكتب الكرخي رسالة في أصول الفقه طبعت مع كتاب تأسيس النظر لأبي زيد الدبوسي وهي تقع في ورقات قليلة أشبه بقواعد فقهية لعلماء الحنفية، ومن أقدم كتب الحنفية الموجودة : الفصول، لأبي بكر الجصاص، وهو مطبوع محقق.
وكان القرنان الخامس والسادس هما عصر ازدهار التأليف في أصول الفقه، حيث ظهرت فيهما أهم كتب أصول الفقه مثل العمد للقاضي عبد الجبار، والمعتمد لأبي الحسين البصري، واللمع، والتبصرة كلاهما لأبي إسحاق الشيرازي، والعدة للقاضي أبي يعلى، والمستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل للغزالي، والواضح لابن عقيل، والتمهيد لأبي الخطاب الكلوذاني، وأصول السرخسي، وأصول البزدوي، وإحكام الفصول، والإشارة، لأبي الوليد الباجي.
وفي أواخر القرن السادس وما بعده انتشرت المختصرات والشروح، فأما المختصرات فكان القصد منها الحفظ وجمع أكبر قدر من المسائل الأصولية في كتاب صغير يمكن حفظه. وأما الشروح فكان القصد منها حل ما في المختصرات من إشكال، وتفصيل ما فيها من إجمال، وتقريب المسائل بضرب الأمثلة وبيان الراجح من الأقوال بذكر الأدلة.
وفي العصر الحديث ضعفت همم الناس عن حفظ المختصرات، وقصرت أفهامهم عن إدراك ما فيها من المبهمات، ولم يجدوا من الوقت ما يقضونه في دراسة المطولات، من الشروح والمؤلفات، فاحتاجوا إلى نوع جديد من المؤلفات، يكون سهل العبارة محصلا للمقصود من أصول الفقه بأيسر طريق.
ولما كان أصول الفقه من علوم الآلة لا من العلوم التي تقصد لذاتها وإنما للتوصل إلى الفقه في الدين ومعرفة الحلال من الحرام بطريق يطمئن إليها العالم ويقتنع بها طالب العلم، لم أر بأساً من الإسهام في إعادة صياغة هذا العلم بأسلوب ميسر، مع المحافظة على أسسه وقواعده، ومحاولة التقريب بينه وبين الفقه، ليمتزج العلمان فتؤخذ الثمرة من المثمِر طرية يانعة.
وما يتخوّف منه بعض الغيورين من ابتعاد الناس عن كتب التراث وجهلهم بلغتها وأسلوبها إن هم اكتفوا بتلك المؤلفات الحديثة، لا أرى له ما يؤيده من النقل ولا من العقل؛ فإن النقل إنما جاء بالأمر بالتفقه في الدين ومعرفة حكم الله جل وعلا بالطريق الصحيح والعمل به : { } [التوبة 122] «رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها »، ولم يتعبدنا الله جل وعلا بقراءة كتاب غير كتابه ولا بحفظ كلام سوى كلامه، ولم يتعبدنا الله بالاجتهاد في فهم معميات المختصرات، ولا بالاجتهاد في منطوق كلام أحد من خلقه ومفهومه إلا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو حجة يجب تأملها والنظر فيها وفق ما تقرر من قواعد الفهم والاستدلال.
وأما العقل فإنه يقتضي ضرورة البحث عن الحق بأيسر وسيلة وأقربها، وأن لا يضيع الإنسان عمره في سلوك الدروب المتعرجة مع تمكنه من الوصول إلى الغاية بالطريق المستقيم.
وليس معنى هذا الكلام الدعوة إلى ترك كتب المتقدمين والاكتفاء عنها بكتب المتأخرين، وإنما المقصود أن لا يظن من لم يسعفه ذهنه بإدراك كتب المتقدمين أن الطريق أمامه موصدة فيرضى بمرتبة التقليد، بل عليه أن يعرف مما كتبه المحدثون ما يمكنه من الاختيار والترجيح، ويعينه على معرفة القول الباطل من الصحيح.
2 ـ تعريف أصول الفقه :
لا أظن أن هذا العلم بعد اشتهاره وكثرة المؤلفات فيه بحاجة إلى تعريف، فهو أشهر من أن يعرف، ولكن العادة جرت بأن كل من كتب في أصول الفقه يذكر تعريفه، إما لأن هذا العلم متداخل مع علوم شتى من علوم الشريعة مثل الفقه والحديث والتفسير، ومتداخل مع علوم اللغة كعلم المعاني والبيان والنحو، وإما لأن الذين كتبوا في هذا العلم من المتقدمين اعتادوا أن يذكروا تعريفه لأنه لم يتميز في عهدهم تميزا كاملا عن غيره من العلوم ثم جاء من بعدهم فقلدهم، وإما لأنهم تأثروا بما يقوله أهل المنطق من أنه يجب على كل من درس علما أن يعرف تعريفه وموضوعه وغايته، ثم يشرع في تعلم مسائله.
وإرضاء لرغبة عامة طلاب العلم أذكر التعريف المختار لهذا العلم بالنظر إلى كونه مركباً إضافياً، وبالنظر إلى كونه عَلَماً على عِلم مخصوص من علوم الشريعة.
أ ـ تعريف أصول الفقه بالنظر الأول :
أصول الفقه مركب من مضاف ومضاف إليه، وتعريفه يقتضي معرفة جزءيه، والمضاف إليه آصل من المضاف، فينبغي أن نعرفه أولا ثم نعرف المضاف.
تعريف الفقه :
الفقه في اللغة : الفهم، أو هو معرفة باطن الشيء والوصول إلى أعماقه، كما يقول الراغب الأصفهاني في المفردات، أو هو فهم الأشياء الدقيقة، ومنه قوله تعالى : { } [الإسراء44] { } [هود91].
وفي الاصطلاح : « العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية ».
شرح التعريف :
قولهم : (العلم): جنس، يشمل العلم بالأحكام الشرعية وبغيرها من التصورات والأحكام. والمراد به هنا مطلق الإدراك الشامل للظن واليقين. وليس المراد به الإدراك القطعي اليقيني؛ لأن كثيرا من مسائل الفقه ظنية، بل إن من العلماء من خص الفقه بمعرفة المسائل الاجتهادية ولم يجعل المسائل الظاهرة التي يشترك في معرفتها العامة والخاصة من الفقه. أو يقال : المراد بالعلم مجموعة المعارف المندرجة تحت هدف كلي واحد، كما يقال: علم الطب، وعلم الفلك، مع أن كثيرا من قضاياهما ظني. وهذا أولى من جواب الرازي الذي زعم فيه أن الفقه ليس من باب الظنون؛ لأنه مبني على مقدمتين قطعيتين فيكون قطعياً.
وهاتان المقدمتان هما :
1ـ مقدمة وجدانية، وهي ما يجده المجتهد في نفسه من الظن بأن هذا حكم الله.
2ـ مقدمة إجماعية، وهي الإجماع على أن ما هذا شأنه يجب العمل به.
وإنما قلت : إن هذا أولى؛ لما في جواب الرازي من التكلف.
وقولهم : (بالأحكام): قيد أخرج العلم بما لا حكم فيه وهو التصور. والحكم يراد به هنا : إثبات أمر لآخر أو نفيه عنه.
وقولهم : (الشرعية) : أخرج العلم بالأحكام غير الشرعية كالحكم بصحة العبارة لغة أو بخطئها، وكالعلم بنفع هذا الدواء للمريض وضرره، فالأول حكم لغوي، والثاني طبي.
وقولهم : (العملية) أي : المتعلقة بما يصدر عن الناس من أعمال كالصلاة والزكاة والصوم والبيع، وهذا القيد يخرج الأحكام الاعتقادية، فإن العلم بها لا يسمى فقها في الاصطلاح؛ لاختصاص الفقه بالعلم بالأحكام العملية، وهذا لا ينفي أنهم كانوا يطلقون اسم الفقه الأكبر على مسائل الاعتقاد، ولكن هذا العلم اختص باسم آخر وهو علم التوحيد أو علم الكلام.
وقولهم : (المكتسب) : صفة للعلم، والعلم المكتسب هو الحادث الذي يحصل باجتهاد وعمل، فيخرج علم الله جل وعلا فإنه أزلي، وعلم جبريل عليه السلام فإنه حصل بإعلام الله له ولا كسب له فيه، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه فإنه علم لدُنِّيٌّ فلا يسمى فقها في الاصطلاح، وأما ما حصل باجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم فيدخل في مسمى الفقه.
وقولهم: (من أدلتها التفصيلية)، متعلق بقولهم المكتسب، فالأدلة هي وسيلة اكتساب هذا العلم، وهذا يخرج علم المقلد فإنه ليس مكتسبا من الأدلة بل اكتسبه بتقليد غيره.
والأدلة التفصيلية : هي الأدلة الجزئية الخاصة بكل مسألة فقهية، مثل آية : { } [المائدة 3] الدالة على تحريم كل أجزاء الميتة. وحديث: « أيما إهاب دبغ فقد طهر » (أخرجه أحمد وأصحاب السنن من حديث ابن عباس مرفوعا، ومعناه في صحيح مسلم) الدال على طهارة جلد الميتة بالدبغ، وقياس الخنزير على الكلب في وجوب غسل الإناء من سؤره سبعا، وهكذا سائر الأدلة التفصيلية.
ومع أن كلمة الفقه لم تكن تطلق في الاصطلاح الأول إلا على الأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية بنوع من الاجتهاد، غير أن المتأخرين أصبحوا يطلقون هذه الكلمة على جميع الأحكام العملية التي تحويها كتب الفقه المصنفة مع أن فيها ما يشترك في معرفته الخاص والعام من المسلمين؛ لدلالة النصوص القطعية المشتهرة عليه، فيكون الفقه اسما لمجموع تلك المسائل لا للعلم بها أو ببعضها.
وتأسيساً على ما سبق أصبح اسم الفقيه يطلق على من عرف تلك الأحكام، سواء عرفها بنظر واجتهاد، أو عرفها تقليدا لإمام من الأئمة.
ولو راعينا المعنى المراد من كلمة الفقه في عرف القرآن والسنة وعرف الصحابة والتابعين، لقصرنا اسم الفقيه على من عرف الأحكام الشرعية التي تحتاج في إدراكها إلى نظر واجتهاد دون ما يشترك فيه عامة المسلمين، وكانت معرفته مبنية على إدراك أدلتها لا تقليداً لغيره، ولم نفرق بين الأحكام الاعتقادية والعملية.
وهاهنا سؤال أورده الآمدي وغيره، خلاصته : أن الفقه إذا كان هو العلم بالأحكام الخ، فينبغي أن لا يسمى فقيها إلا من علم تلك الأحكام كلها، وهذا لا يجتمع لواحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عن العلماء توقفهم في بعض المسائل ولم يمنع ذلك من إطلاق وصف الفقه عليهم، ولم يخرجوا من الفقهاء لتوقفهم.
والجواب عنه : أن المراد بالعلم بتلك الأحكام ليس حضورها في ذهن العالم بالفعل، وإنما حضور أكثرها في ذهنه، وقدرته على استنباط بعضها بعد النظر والاجتهاد، فيكون علمه لبعضها بالفعل وللباقي بالقوة القريبة بحيث يستطيع معرفتها دون حاجة إلى تعلم علم جديد.
تعريف الأصول :
الأصول : جمع أصل، وهو في اللغة : ما يبنى عليه غيره. ويطلق على منشأ الشيء.
وفي الاصطلاح : أطلق لفظ الأصل على عدة معان، أهمها ما يلي :
1ـ الدليل : كما يقول الفقهاء: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة والإجماع، أي : الدليل عليها.
2ـ القاعدة المستمرة : كما يقول الأصوليون : الأصل أن الخاص مقدم على العام عند التعارض، وكما يقول النحاة : الأصل في المبتدأ التقديم وفي الخبر التأخير.
3ـ الراجح : كما يقول الأصوليون : الأصل بقاء ما كان على ما كان. والأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعية.
4ـ مخرج المسألة الفرضية، أي : العدد الذي تخرج منه الفروض المقدرة بلا كسر، كما يقول الفرضيون: أصل هذه المسألة كذا، وأصول المسائل 2، 3، 4، 6، 8، 12، 18، 24.
5ـ المقيس عليه، كما يقول الأصوليون في باب القياس : أركان القياس أربعة: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم.
وأقرب هذه المعاني لإطلاق الأصل هنا هو المعنى الأول ثم الثاني.
ب ـ تعريف أصول الفقه باعتباره علَماً :
وأما أصول الفقه الذي هو علَم على علم من علوم الشريعة فهو : كما عرفه الرازي : « مجموع طرق الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد ».
شرح التعريف :
قوله : (مجموع طرق الفقه) أي : مجموع الطرق التي توصل إلى إدراك الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
وعبَّر بالطرق دون الأدلة؛ لأن الأدلة عند كثير من العلماء لا تشمل ما يفيد الظن مثل القياس والاستصلاح ونحوهما من الطرق التي جعلها الفقهاء أمارات على الأحكام، وإنما تطلق على النصوص القطعية والإجماع القطعي فحسب.
قوله : (الإجمالية): نسبة إلى الإجمال وهو ضد التفصيل، وعبر بالإجمالية ليخرج طرق الفقه التفصيلية التي يعد الاشتغال بها من عمل الفقيه كما أسلفنا.
وبحث الأصولي لا يتعلق بآية من القرآن بخصوصها كيف تدل على ما دلت عليه من الأحكام، ولا حديث بعينه، ولا قياس بعينه، وإنما يبحث في حجية الكتاب وحجية السنة وحجية القياس، وهكذا. فهو يبحث في عوارض تلك الأدلة وما توصف به من قوة أو ضعف وإحكام أو نسخ، وفي شروطها وترتيبها وكيفية الجمع بينها عند تعارضها في نظر من لم يتأملها جيدا.
قوله : (وكيفية الاستفادة منها) أي : طرق استفادة الأحكام من الأدلة والأمارات الموصلة إليها، وهذا يشمل طرق الدلالة اللفظية والعقلية، وطرق نصب الدليل الذي يوصل إلى معرفة الحكم الشرعي، سواء أكان الدليل نصّاً من قرآن أو سنة ونحوهما أم معقولا من النص كالقياس والاستصلاح وغيرهما، وهذا يدخل ما ذكره الأصوليون في دلالات الألفاظ من العام والخاص والمطلق والمقيد، والأمر والنهي، والمنطوق والمفهوم، كما يُدخل طرق معرفة العلة المستنبطة ونحو ذلك مما لا يخفى.
قوله: (وحال المستفيد) أي: وكيفية حال المستفيد، والمراد بالمستفيد صنفان: المجتهد والمقلد، فالمجتهد يستفيد الحكم من الدليل أو الأمارة التي نصبها الشرع لتهدي إلى الحكم. والمقلد يستفيد الحكم من المجتهد بسؤاله عنه.
وحال المجتهد والمقلد مما يدخل في أصول الفقه، فالعلم بشروط الاجتهاد وحكمه، وأنواع المجتهدين وآداب الاجتهاد وحكم التقليد وآداب الاستفتاء، وما يتبع ذلك كله داخل في أصول الفقه.
وهذا التعريف من أجود التعريفات التي ذكرها الأصوليون، غير أنه عبر بلفظ الكيفية، وهي مصدر صناعي من الكيف، وليست فصيحة كما يقول أهل اللغة، والأولى أن يستعاض عنها بلفظ صفة.
كما أنه يمكن الاستعاضة عن قوله : « طرق الفقه » بـ « أدلة الفقه »؛ لأن الدليل يطلق على القطعي والظني على الصحيح من قولي العلماء كما سيأتي.
وهناك من جعل أصول الفقه هو العلم بتلك الأدلة على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها. الخ.
والأصولي: هو من عرف طرق الفقه الإجمالية وصفة الاستفادة منها وحال المستفيد.
وقد شاع إطلاق اسم الأصولي على كل من له اشتغال بعلم أصول الفقه تعليما وتأليفا، كما شاع إطلاق أصول الفقه على الجملة الغالبة من مسائل هذا العلم، فصح أن يسمى أصوليا من أدرك غالب مسائله بالفعل وكانت له ملكة تمكنه من إدراك ما عداها دون حاجة إلى تعلم علم جديد أو التلقي عن عالم آخر.
3 ـ موضوع أصول الفقه :
موضوع هذا العلم : الأدلة، سواء أكانت قطعية أم ظنية.
وقيل: موضوعه: الأدلة والأحكام.
والذي يظهر من تعريف الفخر الرازي الذي نقلناه فيما سبق، أن هذا العلم له ثلاثة موضوعات رئيسة هي :
1ـ طرق الفقه على سبيل الإجمال، ويقصد بها الأدلة بنوعيها القطعي والظني، أو المتفق عليه والمختلف فيه، والبحث فيها يشمل حجيتها وقوتها في الإيصال إلى الحكم، وشروط حجيتها وترتيبها وجميع عوارضها.
2ـ صفة الاستفادة منها، وهذا يشمل طرق الدلالة أهي عقلية أم لفظية؟ حقيقية أم مجازية؟ بطريق المنطوق أم المفهوم؟ بطريق الخصوص أم العموم؟. وهذا يعرف عند المتأخرين بطرق الاستنباط، كما يشمل طرف معرفة العلة وإجراء الأقيسة.
3ـ صفة المجتهد والمقلد وما يتبع ذلك من شروط الاجتهاد وأحكامه، وسبيل دفع التعارض والمرجحات، ومعنى التقليد وأحكامه.
4 ـ فوائد علم أصول الفقه :
لا شك أن العلم يشرف بشرف الغاية من تعلمه، وأصول الفقه له غايات عظيمة وفوائد كبيرة في الدنيا والآخرة، وأهم غاياته وأهدافه ما يلي :
1ـ التفقه في الدين، ومعرفة ما للمكلف وما عليه من الحقوق والواجبات، وهذا يحصل بمعرفة أصول الفقه وتطبيق قواعده على الأدلة التفصيلية وعلى الحوادث الجزئية.
وقد يقول قائل إن الفقه قد جمع من قبل العلماء السابقين، ودونت فيه الدواوين الكبيرة فلا حاجة إلى البدء من حيث بدأوا، فلم تبق حاجة لدراسة علم أصول الفقه.
والجواب أن كثرة ما كتب في علم الفقه يدعو طالب العلم إلى تعلم أصول الفقه؛ ليعرض هذه الثروة الفقهية الضخمة التي اختلفت فيها أقوال الفقهاء وتعددت أدلتهم على الميزان العادل، والمحك المظهر للخطأ من الصواب، وهو أصول الفقه، فمن عرف أصول الفقه نظرا وتطبيقا يمكنه أن يعرف من تلك الأقوال والمذاهب ما هو أقرب إلى الحق وأجرى على قواعد الشريعة. والخلاصة أن كثرة المؤلفات الفقهية تدعو إلى تعلم هذا العلم والتعمق فيه لنقد الأقوال وبيان الراجح من المرجوح.
2ـ معرفة الحكم الشرعي لكل ما يجدُّ من الحوادث والوقائع التي لم يرد فيها بخصوصها نص صريح ولا ظاهر بيِّن، ولم يتكلم عنها الفقهاء السابقون لعدم وجودها في عصرهم. ونحن نرى في هذه الأيام حجم المسائل التي تعرض على المجامع الفقهية من حيث عددها ومن حيث خطورتها وأهميتها وتعقيدها، حتى إن بعضها يتوقف فيه علماء المجمع الفقهي ولا يصدرون فيه فتوى لعدم اكتمال صورته في أذهانهم، أو للحاجة إلى مزيد بحث في الأدلة، أو للاختلاف في تكييفه.
ومن القضايا التي جدت في هذا العصر على غير مثال سابق : التلقيح الصناعي، وأطفال الأنابيب، والرحم المستعار، وتجميد الأجنة والبويضات، والاستنساخ، وقضايا الحاسوب وبرامجه، وقضايا الانترنت، وإجراء العقود عن طريقه، والقضايا السياسية وكيفية حلها كالقضايا الحدودية بين الدول وما أشبه ذلك.
3ـ معرفة حِكَم الشريعة وأسرارها بالتأمل في علل الأحكام ومقاصدها ومعرفة المقاصد الشرعية الضرورية والحاجية والتحسينية، وتنزيل كل مقصد في منزلته عند التزاحم، ومعرفة ترتيب الواجبات والمستحبات لتقديم الأقوى دليلا والأكثر نفعا على ما سواه، ومعرفة المصالح والمفاسد ومعرفة المعتبر منها في الشرع والملغى، ومعرفة درجات المعتبر لتقديم ما يستحق التقديم.
4ـ مواجهة خصوم الشريعة الإسلامية الذين يزعمون أن الشريعة لم تعد صالحة للتطبيق في هذا الزمن، وذلك ببيان قدرة الشريعة على استيعاب حاجات الناس في الحاضر والمستقبل، وقدرتها على حل مشاكل الناس بما يتفق مع نصوص الوحي وعمل الصحابة والتابعين، وهذا لا يتم إلا بمعرفة أصول الفقه والقدرة على القياس والتخريج، والإحاطة بطرق الاستنباط من منطوق ومفهوم، وخصوص وعموم، وإطلاق وتقييد ونحو ذلك مما يدرس في أصول الفقه، ولو انصرف الناس عن دراسة هذا العلم لانسد باب الاجتهاد، ووقف الناس عندما اشتملت عليه كتب الفقه القديمة التي كتبت لتستوعب مشاكل العصر الذي هي فيه.
5ـ حماية الفقيه من التناقض، فالفقيه الذي لم يتعمق في دراسة هذا العلم تأتي فتاواه متناقضة فيفرق بين المتماثلات،ويسوي بين المختلفات، وهذا يضعف الثقة فيما يقول، ويسيء إلى الشريعة ويقلل من قيمتها في نفوس الجاهلين بها من المسلمين أو غيرهم. وأما من أحاط بأصول الفقه تأصيلا وتطبيقا فإنه يبرز الوجه المشرق للشريعة الربانية، ويكون بفتاواه وآرائه داعيا للإسلام مرغبا فيه ذابا عنه شبه الأعداء.
وأخيراً ربما يظن كثير من الناس أن أصول الفقه تقتصر فائدته على الفقه في المسائل العملية، والحق خلاف ذلك؛ فإن فائدة هذا العلم لا يستغني عنها المفسر والمحدث والمتكلم والباحث في العقائد، وكل من يحتاج إلى فهم نصوص الوحي والاستدلال بها، فإن هذا العلم عبارة عن قواعد للفهم الصحيح والاستدلال الصحيح، والجمع بين ما ظاهره التعارض، ولهذا نستطيع القول إن تسميته بأصول الفقه لا يعني اقتصار فائدته على استنباط الأحكام الفقهية، ولعل الذين سموا مؤلفاتهم بالأصول من غير تقييد بالفقه لحظوا هذا الملحظ فعمموا، ومن هؤلاء الغزالي الذي سمى كتابه : «المستصفى من علم الأصول» والرازي سمى كتابه : « المحصول من علم الأصول » والبيضاوي سماه : « منهاج الأصول في علم الأصول » والشوكاني سماه : « إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ».
والناظر في مسائل هذا العلم يجد كلامهم عن أصول التفسير وأصول الحديث إلى جانب طرق الاستنباط من الأدلة النقلية التي يستوي في الحاجة إليها المفسر والمحدث وغيرهما.
5 ـ استمداد أصول الفقه:
يستمد علم أصول الفقه مادته مما يلي :
1 ـ القرآن الكريم والسنة النبوية :
فإن هذين المصدرين هما أساس العلوم الشرعية كلها، فكل علم لا أصل له في الكتاب والسنة فليس من علوم الشريعة.
ووجه استمداده من هذين المصدرين أن موضوعات علم أصول الفقه ثلاثة أنواع كما سبق، أهمها أدلة الأحكام، والقرآن والسنة ترجع إليهما جميع الأدلة التي يذكرها الأصوليون سواء أكانت نقلية أم عقلية، محل اتفاق أم محل اختلاف، فحجية الإجماع والقياس والمصالح والاستحسان والعرف وشرع من قبلنا وأقوال الصحابة، راجعة إلى الكتاب والسنة، وطرق الدلالة، وطرق دفع التعارض بين الأدلة، وبيان منزلة كل دليل، راجع إلى الكتاب والسنة، ولهذا نجد أن أكثر القواعد الأصولية قد استدل عليها بالقرآن أو بالسنة أو بهما معاً.
2 ـ علم أصول الدين، ويعبر عنه أكثرهم بعلم الكلام :
ووجه استمداد أصول الفقه منه أن العلم بالأدلة الإجمالية وصحة الاستدلال بها مبني على معرفة الله تعالى وصفاته وما يجب له سبحانه وما يجوز له وما يمتنع إطلاقه عليه، والعلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه وما يجوز أن يقع من الرسول صلى الله عليه وسلم وما لا يجوز.
3 ـ اللغة العربية :
ووجه استمداده من اللغة العربية : أن اللغة هي وعاء الكتاب والسنة، والكتاب نزل بلغة العرب، والسنة القولية جاءت بلسان الرسول العربي، والاستدلال بهما مبني على معرفة طرق العرب في الإفهام والفهم، ومن جملة أصول الفقه طرق دلالة الألفاظ على المعاني من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، واشتراك وإجمال، ومنطوق ومفهوم، وحقيقة ومجاز، وهذه كلها إنما يتبع فيها ما جرى عليه عرف أهل اللغة الذين نزل القرآن بلغتهم وتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بها، إلا أن يكون للشرع عرف حادث فيقدم عند الاحتمال.
وفي هذا يقول إمام الحرمين : « ومن مواد أصول الفقه العربية؛ فإنه يتعلق طرف صالح منه بالكلام على مقتضى الألفاظ، ولن يكون المرء على ثقة من هذا الطرف حتى يكون محققا مستقلا باللغة العربية » ( ).
4 ـ الفقه :
وجَعْل الفقه مما يستمد منه أصول الفقه مشكل؛ من جهة أن الفقه كما عرفوه هو : « العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية » فلو كان الأصول مستمدا من الفقه لما عرف إلا بعد معرفة الفقه، والحال أن الفقه لا يعرف إلا بعد معرفة الأصول فيكون دوراً ممتنعاً.
وعدل الآمدي وغيره إلى الاستعاضة عن الفقه بالأحكام الشرعية، وأوضح أن المقصود تصوُّر تلك الأحكام ومعرفة حقائقها حتى يتصور إثباتها أو نفيها، ولا يقصد معرفة وجودها أو نفيها في آحاد المسائل؛ فإن هذا لا يعرف إلا بمعرفة أصول الفقه.
ومراد من عبر بالفقه : أن أصول الفقه يحتاج في إدراكه إلى إدراك أمثلة من الفقه يمثل بها لتتضح القواعد الأصولية، فالأصولي حين يتكلم عن طرق الدلالة يحتاج إلى ضرب أمثلة فقهية توضح مقصده، وإلا كان كلامه نظريا يصعب استيعابه وفهمه، كما أنه لا بد له من معرفة معنى الأحكام الفقهية كالواجب والمندوب والحرام والمكروه الخ؛ لأنه حين يقرر حجية السنة يقرر أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة، وأن معصيته حرام، ولا بد من تصور معنى الواجب والحرام، وهكذا سائر القواعد الأصولية.
وأما من جعل المستمد منه الأحكام الشرعية كالآمدي ومن تبعه، فمراده تصور معنى المحرم والمكروه والمباح والواجب والمندوب والصحيح والفاسد، ونحو ذلك من الأحكام.
الباب الأول
الحكم الشرعي
تعريفه :
الحكم في اللغة : المنع، ومنه سميت حَكَمَةُ الدابة وهي حديدة في اللجام، لأنها تمنع الدابة من مخالفة مراد صاحبها. ويطلق الحكم بمعنى القضاء، وفيه معنى المنع؛ لأن قضاء القاضي يمنع ضياع الحقوق.
وفي اصطلاح جمهور الأصوليين : « خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع ».
وعند الفقهاء : هو مقتضى خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين الخ، أو مدلول خطاب الله الخ.
ومال بعض الأصوليين إلى اختيار هذا التعريف؛ لأن التعريف الأول يلزم منه اتحاد الدليل والحكم في التعريف، والمعروف عند الفقهاء التفريق بينهما.
شرح التعريف :
قولهم : (خطاب الله)، الخطاب في اللغة توجيه الكلام نحو الغير لإفهامه. والمرادا بخطاب الله هنا : أمره ونهيه، وخبره وما تفرع عنه من وعد ووعيد، وتعليق على سبب أو شرط ونحو ذلك. وهو يشمل ما عرف من كلامه المقروء الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم سواء أكان قرآنا أم سنة، وما عرف من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عرف من سائر الأدلة فإنها عائدة إلى الوحي المتلو أو غير المتلو، وما هو عائد إليهما أو إلى أحدهما فهو بمنزلتهما.
وهذا التفسير أولى من تفسير بعضهم للخطاب بأنه الكلام النفسي؛ لأن إطلاق هذا اللفظ يجر إلى الوقوع في مذهب القائلين إن كلام الله ليس هو اللفظ المسموع، بل هو معنى قائم بذاته، وأن القرآن المسموع عبارة عن كلام الله وليس كلام الله. وهذا مردود بقوله تعالى : { }[التوبة 6]. فإنه يدل على أن كلام الله هو ذلك اللفظ المسموع المقروء، وما تضمنه من المعنى المراد لله جل وعلا.
ولا يمكن تفسير الخطاب هنا بأنه كلام الله بلفظه ومعناه؛ لأنه حينئذ لا يشمل إلا الخطاب الوارد في القرآن فيخرج ما دلت عليه السنة وما دل عليه الإجماع والقياس وغيرهما من الأدلة؛ لأن لفظها ليس من الله.
وقولهم: (المتعلق بأفعال المكلفين)، أي: الذي له ارتباط بأفعال المكلفين من جهة كونها مطلوبة أو غير مطلوبة، ومن جهة صحتها وفسادها وما يتبع ذلك.
وأفعال المكلفين: كل ما يدخل تحت قدرة المكلف، فتشمل الأعمال القلبية، وأعمال الجوارح فيدخل في ذلك إيجاب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره، كما تدخل أفعال الجوارح من صلاة وحج وزكاة ونحو ذلك.
وتشمل الإقدام على الفعل والكف عنه، فيدخل إيجاب الصوم الذي هو كف عن الطعام والشراب والجماع بنية، كما يدخل إيجاب الصلاة التي هي عبارة عن أفعال وأقوال مخصوصة.
والمراد بالمكلفين : من توافرت فيهم شروط التكليف الآتي ذكرها. والأولى أن يعبر بلفظ العباد؛ ليشمل المكلف وغيره؛ لأن من الأحكام ما يتعلق بالصغير والمجنون، وليسا مكلفين.
وقولنا : المتعلق بأفعال المكلفين (أو العباد على ما هو الأولى)، يخرج كل خطاب من الله جل وعلا تعلَّق بما عدا ذلك، كالخطاب المتعلق بما لا يعقل من وصف للكون وما فيه من جبال وأشجار وأنهار وشمس وقمر ونحو ذلك، كقوله: { * } [الذاريات 47-48]، وكذلك ما ورد من ذكر أحوال الماضين كقوله تعالى : { * * * * } [الفجر 7-11] فهذه الآيات وأمثالها ليست بالنظر إلى ذاتها حكما شرعيا، ولكن إذا ضم إليها ما ورد من الأمر بالتصديق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي وما ورد من وجوب الاعتبار في أحوال الماضين والاتعاظ بما جرى لهم صارت متعلقة بأفعال المكلفين فتكون حكما.
وكذلك الآيات المتعلقة بذوات المكلفين كأصل خلقهم الوارد في قوله تعالى: { } [طه 55] وقوله تعالى : { } [ص 71]، فمن حيث إنها متعلقة بذوات المكلفين لا يصدق عليها تعريف الحكم، ولكن إذا ضممنا إلى ذلك ما أراده الله جل وعلا وأمر به من وجوب شكر النعمة صارت أحكاما. ولهذا المعنى قال بعض العلماء إن جميع آيات القرآن الكريم تستنبط منها أحكام شرعية، وأنكروا على من حصر آيات الأحكام في خمسمائة آية أو نحوها.
وقولهم : (بالاقتضاء)، المراد بالاقتضاء : الطلب، سواء أكان طلب فعل أم طلب ترك.
وطلب الفعل نوعان: طلب الفعل طلبا جازما، وهذا يسمى إيجابا، وطلب الفعل طلبا غير جازم ويسمى الندب.
وأما طلب الترك فنوعان أيضا وهما : طلب الترك طلبا جازما، وهو المسمى بالتحريم، وطلب الترك طلبا غير جازم، وهو المسمى بالكراهة.
ويعرف كون الطلب جازما أو غير جازم بطرق سيأتي بيانها عند الكلام عن أقسام الحكم التكليفي وتعريف كلٍّ منها.
وقولهم : (أو التخيير)؛ لإدخال القسم الخامس من أقسام الحكم التكليفي وهو الإباحة، وهو تخيير الشارع بين الفعل والترك، وقد أسقط بعضهم هذه الزيادة؛ لأن الإباحة ليست حكما شرعيا عنده بل هي حكم عقلي سابق للأحكام الشرعية، وهذا خطأ؛ فإن الإباحة حكم شرعي ولكنها قد تعرف بخطاب التخيير، وقد تعرف بسكوت الشارع عن الأمر والنهي، وقد تعرف بما سوى ذلك.
وقولهم : (أو الوضع)، المراد بالوضع : جعْلُ الشيءِ سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو وصفه بالصحة أو الفساد أو البطلان.
وهذه الزيادة أسقطها بعضهم من تعريف الحكم؛ لأن ما عرف بالأحكام الوضعية راجع عنده إلى الأحكام التكليفية فلا حاجة إلى هذه الزيادة، وأما الذين أثبتوها فقد رأوا أن نصب الأسباب والشروط والموانع والإخبار عن التصرفات بأنها صحيحة أو فاسدة لا يدخل في التعريف إلا بهذه الزيادة.
وأما تعريف الحكم الشرعي عند الفقهاء فهو: مقتضى خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين الخ. والسبب في ميلهم إلى هذا أن الحكم عندهم صفة لفعل المكلف، ولهذا يقسمونه إلى حرام ومكروه وواجب ومندوب ومباح.
وعند الأصوليين الحكم اسم للخطاب الوارد من الله جل وعلا، فلا يقسمونه إلى حرام وواجب الخ , بل إلى تحريم وإيجاب الخ كما سيأتي.
أقسام الحكم الشرعي :
الحكم الشرعي عند الأصوليين قسمان: الحكم التكليفي، والحكم الوضعي.
هذا هو الشائع عندهم، ولكن الأولى أن يقسم ثلاثة أقسام كما هو واضح من تعريفه السابق، وهذه الأقسام هي :
1ـ الحكم التكليفي.
2ـ الحكم التخييري.
3ـ الحكم الوضعي.
وذلك لأن الإباحة ليست من الأحكام التكليفية على الصحيح، وإنما عدت مع الأحكام التكليفية للاكتفاء بتقسيم الحكم إلى تكليفي ووضعي، وعدم زيادة قسم ثالث في أقسام الحكم الشرعي غير القسمين المذكورين.
وقد تكلف بعضهم لإدخال الإباحة في الحكم التكليفي فقال : إن دخولها في هذا القسم جاء من جهة وجوب اعتقاد الإباحة فيما سوَّى الشرع فيه بين الفعل والترك، ولا يخفى أنها حينئذ ليست إباحة وإنما هي إيجاب، وأن الحكم الوضعي يساوي الإباحة في ذلك، فلا بد أن نعتقد سببيَّة ما جعله الله سببا وشرطيَّة ما جعله شرطا.
والحكم التكليفي هو : خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء. وهذا يشمل الإيجاب، والندب، والتحريم، والكراهة.
فالإيجاب : طلب الفعل طلباً مشعراً بالذم على الترك. كقوله تعالى : { } [الإسراء 78].
والندب: طلب الفعل طلباً مُشعراً بعدم الذم على الترك. كقوله: { } [النور 33]، وقد عرف كونه مشعرا بعدم الذم على الترك من جهة أن الكتابة بيع العبد نفسه، وقد استقر في الأفهام أن الله لا يوجب على الإنسان بيع ماله، أو من حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه؛ فإنه لم يلزم أحدا منهم بمكاتبة عبده.
والتحريم : طلب ترك الفعل طلبا مشعراً بالذم على الفعل. كقوله تعالى : { } [الإسراء 32].
والكراهة: طلب ترك الفعل طلبا مشعرا بعدم الذم على الفعل. كقوله صلى الله عليه وسلم: « لا يمش أحدكم بالنعل الواحدة »، وقد علم إشعاره بعدم الذم من كونه أدبا قصد به عدم تضرر الماشي.
وأما الحكم التخييري فهو : التسوية بين الفعل والترك. كقوله تعالى : { } [البقرة 187].
وأما الحكم الوضعي فهو : خطاب الله بجعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا أو صحيحا أو فاسدا. وسيأتي تعريف كل منها وأمثلته بعد الفراغ من أقسام الحكم التكليفي عند الفقهاء.
تقسيم الحكم التكليفي عند الفقهاء :
الفقهاء يتكلمون في بيان حكم أفعال العباد، ولذلك جعلوا الحكم صفة لفعل العبد وقسموه إلى خمسة أقسام هي: الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، والمباح.
والحنفية زادوا على هذه الأقسام قسمين آخرين هما : الفرض، والمكروه كراهة تحريم.
وسنتكلم عن كل واحد من هذه الأقسام باختصار؛ لأن المقصود من ذكرها معرفة اصطلاحات الفقهاء، والقدرة على تصور الأحكام الشرعية.
الواجـب
تعريفه :
الواجب في اللغة : الساقط، يقال : وجب إذا سقط. ويطلق الواجب بمعنى اللازم. وهذا الإطلاق ذكره بعض أهل اللغة ولكنه قد يكون متأثرا بالمعنى الشرعي للكلمة.
وفي الشرع هو : كل ما ورد الشرع بذم تاركه مطلقا.
وهو يشمل ما جاء في الشرع ذم لتاركه سواء أكان عملاً أم اعتقاداً.
ولفظ (مطلقاً) متعلق بتاركه، أي أن الذم يتناول من ترك الواجب تركا مطلقا، فلم يتركه في أول الوقت دون آخره، ولم يتركه ليفعل ما يقوم مقامه، ولم يتركه لقيام غيره من المكلفين به.
وهذا القيد في التعريف جيء به ليكون الحد جامعا لثلاثة أنواع من الواجبات هي :
1ـ الواجب الموسع : كالصلاة التي يجوز تركها في أول الوقت مع فعلها في أثنائه، فلولا زيادة لفظ مطلقا لقيل إن الواجب الموسع في أول الوقت ليس بواجب؛ لأنه لا يذم تاركه.
2ـ الواجب المخير : مثل وجوب التكفير عن اليمين الحانثة بواحد من ثلاثة : العتق، والإطعام، والكسوة. فكل واحد من هذه الثلاثة بخصوصه يجوز تركه من غير ذم لكن بشرط أن يفعل غيره، فلولا زيادة وصف الترك بالإطلاق لقيل الواجب المخير ليس داخلا.
3ـ الواجب الكفائي : مثل غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه، فهذا واجب على عموم المسلمين العالمين بموت ذلك المسلم، ولكن لو تركه بعضهم وفعله آخرون لم يأثم التارك ولم يذم، فلو لم نصف الترك بقولنا مطلقا، للزم خروج الواجب الكفائي لأن تاركه لا يذم، ولما زدنا هذا الوصف دخل الواجب الكفائي؛ لأن تركه ليس مطلقا بل من بعض المكلفين دون بعض.
أقسام الواجب
1 ـ تقسيم الواجب بالنظر إلى ذاته :
ينقسم الواجب بالنظر إلى ذاته قسمين : معين، ومخير.
فالمعيَّن هو : ما طلبه الشرع بعينه من غير تخيير بينه وبين غيره. مثل الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحو ذلك.
والمخير هو : الواجب الذي خُيِّر فيه المكلف بين أشياء محصورة. مثل كفارة اليمين فإنها واجبة، ولكن المكلف مخير بين ثلاثة أشياء : العتق، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوة عشرة مساكين.
وهذا النوع أنكره المعتزلة؛ لوجود التضاد بين الإيجاب والتخيير، وقالوا كيف يسمى واجباً ثم يوصف بالتخيير.
والخلاف بينهم وبين الجمهور خلاف لفظي لا فائدة فيه؛ لأن المنكرين لوجود الواجب المخير يقولون: هذه الخصال واجبة على البدل، ولا يقولون يجب على المكلف أن يفعل الثلاثة ولا أنه يأثم على ترك الثلاثة كل على حدة، والمثبتون يقولون الواجب واحد غير معين. وقد جعل بعضهم من أثر الخلاف أن المكلف لو فعل اثنتين من خصال الكفارة دفعة واحدة فهل يثاب ثواب الفرض عليهما؟ وجعل مقتضى مذهب المعتزلة أنه يثاب عليهما ثواب فرض، ومقتضى مذهب الجمهور أنه يثاب على إحداهما ثواب الفرض وعلى الأخرى ثواب النافلة، ولا يخفى أن تقدير الثواب غيب عنا، وتحكمه عوامل أخرى من الإخلاص وطيب النفس بما يبذل الإنسان وغير ذلك.
2 ـ تقسيم الواجب بالنظر إلى وقته :
ينقسم الواجب بهذا الاعتبار إلى مؤقت وغير مؤقت :
فالمؤقت : هو ما حدد له الشرع وقتا معينا، له بداية ونهاية. مثل الصلاة.
وغير المؤقت : هو المطلق عن التوقيت الذي لم يحدد له الشرع وقتا معينا. مثل أداء النذور والكفارات.
والمؤقت ينقسم قسمين : مضيق، وموسع.
فالواجب المضيق : هو الذي حدد له الشرع وقتا لا يتسع لغيره من جنسه معه. مثل الصيام، فإن الصيام له وقت محدد يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا الوقت لا يتسع إلا لصيام واحد، فلا يمكن أن يصوم يوما واحدا عن القضاء وعن النذر مثلا، ولكن هذا الوقت يتسع لغير الصيام من الواجبات والمندوبات التي ليست صياما، ولهذا المعنى قلنا : لا يتسع لغيره من جنسه معه.
والموسع : عكس المضيق، فهو : الذي حدد له الشرع وقتا يتسع له ولغيره من جنسه معه. ومثاله : الصلاة، فإن الوقت المحدد لصلاة العشاء مثلا يبدأ من غروب الشفق الأحمر ويمتد إلى نصف الليل لمن لا عذر له. فهذا الوقت يتسع لصلاة الفرض ولصلاة أخرى غير فرض العشاء.
وهذا النوع أنكر بعض الحنفية وجوده، فقالوا : ليس في الشرع واجب موسع؛ لأن التوسع ينافي التوقيت، ولأن ما يسميه الجمهور واجبا موسعا يجوز تركه في أول الوقت ولا يجوز تركه إلى خروج الوقت باتفاق. والحجة عليهم قائمة بوجوده في الشرع، كالصلاة التي لها وقت حدده الشرع وهو أوسع مما يحتاج إليه المكلف لأدائها، وقد ورد في الحديث الصحيح أن جبريل عليه السلام صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس مرة في أول الوقت، ومرة في آخره ثم قال: « الوقت ما بين هذين » (أخرجه الترمذي وأحمد والنسائي بألفاظ متقاربة).
وقد انقسم الحنفية عند الجواب عن هذا الدليل إلى فرق :
أ ـ فرقة قالت : الصلاة في أول الوقت نفل سد مسد الفرض، ولا تكون فرضا إلا حين يضيق الوقت فلا يبقى منه إلا ما يكفي لأدائها.
ب ـ وفرقة قالت : من صلى الصلاة في أول الوقت تكون في حقه فرضا إن جاء آخر الوقت وهو مكلف بالصلاة أي : بالغ عاقل. وإن جاء آخر الوقت وهو ليس بأهل للصلاة عددنا صلاته قبل ذلك نافلة.
ج ـ وفرقة قالت : الوقت يتضيق عليه بالشروع فيها، فإذا شرع فيها فذلك وقتها.
وقولهم : إنه يجوز تركه في أول الوقت دون آخره، يجاب عنه بأنه في أول الوقت يجوز تركه بشرط العزم على الفعل في الوقت الآتي، وهذا يختلف عن حد المندوب؛ فإن المندوب يجوز تركه بلا شرط.
والخلاف بين الفريقين راجع إلى أن سبب وجوب الصلاة أهو آخر الوقت أم كل جزء من أجزاء الوقت يصلح سببا؟ فمن جعله آخر الوقت أنكر التوسع في الوجوب، ومن جعل كل جزء من أجزاء الوقت يصلح سببا أثبته.
وقد بنوا على الخلاف مسائل فرعية، أهمها :
1 ـ أن من سافر بعد دخول الوقت يقتضي مذهب الجمهور أنه لا يجوز له القصر، ويقتضي مذهب الحنفية أنه يجوز له ذلك. ولكن جمهور العلماء على جواز القصر، وعذرهم عن عدم تطبيق قاعدتهم : أن القصر صفة في الصلاة فيراعى بها حالة أدائها، فالمقيم الذي دخل عليه الوقت وجب عليه أداء الصلاة من غير تحديد لعدد ركعاتها، فإن صلاها في الحضر صلاها أربعا، وإن صلاها في السفر صلاها اثنتين. قال النووي : « ففي وجه قاله المزني وابن سريج لا يجوز القصر، وعلى الصحيح المنصوص وقول جمهور أصحابنا يجوز القصر، فعلى هذا إنما جاز القصر لأنه صفة للصلاة، والاعتبار في صفتها بحال فعلها لا بحال وجوبها، ولهذا لو فاته صلاة في حال قدرته على القيام أو الماء ثم عجز عنهما صلاها قاعدا بالتيمم وأجزأته » ( ).
2 ـ إذا حاضت المرأة بعد دخول وقت الصلاة بزمن كان يمكنها أن تؤدي الصلاة فيه، فعلى القول بأن كل جزء من الوقت سبب للوجوب فيجب عليها القضاء إذا طهرت، وعلى القول بأن سبب الوجوب آخر الوقت فلا قضاء عليها.
والمنصوص عليه عند الحنفية أنها لا قضاء عليها، وعلله بعضهم بأنها لم تدرك الوقت الذي تعلق به الوجوب، وعلله آخرون بأنها إذا لم تصل في أول الوقت انتقلت السببية إلى الوقت الذي يليه، وهكذا إلى أن يتضيق الوقت.
والجمهور اختلفوا في ذلك : فمنهم من أوجب القضاء؛ لأن كل جزء من الوقت يصلح سببا، فإذا حاضت بعد دخوله استقر الواجب في ذمتها، ومنهم من قال لا قضاء عليها لأنها فعلت ما يجوز لها فعله وهو ترك الصلاة في أول الوقت، مع العزم على فعلها في آخره ثم حيل بينها وبين أدائها بسبب ليس من جهتها، والقول الأول أقرب؛ لقاعدتهم في الواجب الموسع.
3 ـ إذا أخر الواجب الموسع فمات في أثنائه قبل ضيق الوقت، فعلى القول بإنكار التوسع لا إثم عليه، وعلى القول بإثبات التوسع اختلفوا :
فمنهم من قال : إن أخرها ذاكرا، ولم يعزم على الفعل في الوقت يكون آثما، وإن أخرها ناسيا أو عازما على الفعل في الوقت فلا إثم عليه، وهذا هو المناسب للقول بالتوسع، وبأن أول الوقت سبب لوجوب الصلاة.
وقيل : لا إثم عليه وإن لم يعزم على الفعل في آخر الوقت، وهو مرجوح؛ لأنه إذا كان ذاكرا فإما أن يفعل أو يعزم على الفعل أو يعزم على الترك، فإذا لم يفعل فليس أمامه سوى خيارين، وأحدهما محرم، فيكون الثاني واجبا لأنه لا يتم ترك الحرام إلا به فيكون واجبا، وهو العزم على الفعل في تالي الوقت ( ).
الفرق بين الواجب الموسع والواجب المضيق :
1ـ الواجب الموسع لا يصح أداؤه إلا بنية اتفاقا، وأما الواجب المضيق كالصوم في رمضان، فعند أكثر الحنفية أنه لا يحتاج إلى نية الفرض، بل ينصرف الصوم إليه من غير نية تخصيصه، وعند الجمهور لا بد من النية ( ).
2ـ أن الواجب الموسع لا يمتنع صحة غيره من الواجبات في زمنه، فله أن يصلي في وقت الظهر ظهرا فائتة أو صلاة أخرى، وأما الواجب المضيق فليس له أن يؤدي في وقته غيره إلا إذا كان ممن يجوز له ترك هذا الواجب كالمسافر في رمضان، فقد اختلفوا هل يجوز أن ينوي بصيامه في رمضان واجبا آخر كالكفارة والنذر مثلا؟ فقال بعضهم : لا يجوز؛ لأن وقت رمضان مضيق فلا يتسع لغيره، وقال بعضهم : إذا كان معذورا لا يكون مطالبا بصيام رمضان، ولا دليل على منعه من صيام نذر أو كفارة ( ).
3 ـ تقسيم الواجب بالنظر إلى المخاطب بفعله :
ينقسم الواجب بالنظر إلى المخاطب بفعله قسمين : عيني وكفائي :
الواجب العيني : وهو ما طلب الشرع فعله من كل مكلف بعينه، كالصلاة والزكاة والحج.
الواجب الكفائي : وهو ما طلب الشرع حصوله من غير تعيين فاعله.
وهذا النوع يدخل فيه ما أوجبه الله على الأمة بمجموعها من غير تخصيص أفراد بأعيانهم كالجهاد، وما أوجبه على جماعة محصورة من غير تحديد من يقوم به منهم بعينه كوجوب غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه، فإن ذلك واجب على من حوله من المسلمين.
أهم الفروق بين الواجب العيني والواجب الكفائي :
1ـ أن الواجب العيني مطلوب من كل واحد من المكلفين بعينه، فلا يقوم فعل غيره مقام فعله إلا بإذنه، فإن أذن له في فعله نيابة عنه فإن كان الواجب مما تدخله النيابة أجزأه ما يفعله ذلك الغير عنه وإلا فلا. وأما الواجب الكفائي فلا يطلب من كل واحد ولا من واحد معين، بل إذا قام به من يكفي أجزأ، ولا يشترط فيه الإذن، بل مهما فعل أجزأ عمن لم يفعل وسقط عنه الإثم.
2ـ أن الواجب العيني مصلحته ترجع إلى فاعله، أما الواجب الكفائي فمصلحته عامة.
3ـ الواجب الكفائي ينوب فيه البعض عن الكل، وأما الواجب العيني فلا يكفي فعل بعض المكلفين عن بعضهم الآخر.
4ـ الأمر في الواجب العيني موجـه لجميع المكلفين، أي : لكل واحـد منهـم،
والأمر في الواجب الكفائي اختلف فيه :
فقيل : إنه موجه للجميع لكن يسقط بفعل البعض.
وقيل : موجه إلى بعض غير معين.
وقيل : متوجه إلى المجموع من حيث هو مجموع.
واستدل الأولون بأدلة منها:
1ـ أن الواجبات الكفائية الواردة في القرآن والسنة جاءت بصيغة العموم كالواجبات العينية، فقوله تعالى : { } [البقرة 216]، كقوله : { } [البقرة 183]، مع أن الأول كفائي والثاني عيني.
2 ـ أن الإثم يلحق الجميع إذا تركوا، ولو لم يكونوا مخاطبين به ما أثموا.
واستدل القائلون بأنه موجه إلى بعض مبهم بدليلين :
1 ـ قوله تعالى: { } [التوبة 122]. فالخطاب هنا موجه إلى بعض مبهم وهو متعلق بواجب كفائي.
2 ـ أنه يسقط بفعل بعض المكلفين، ولو خوطب به الجميع لما سقط إلا بفعل الجميع كسائر الواجبات العينية.
وأما القائلون إن الخطاب موجه إلى المجموع لا إلى الجميع، أي إلى الهيئة الاجتماعية، فاستدلوا بدليل واحد هو : أنه لو وجه الخطاب فيه إلى الجميع (إلى كل فرد) لما سقط بفعل بعضهم، ولو وجه إلى بعض مبهم لترك؛ لأن كل مكلف سيقول لست مقصودا، فلم يبق إلا أن نقول متوجه إلى المجموع من حيث هو مجموع.
والراجح : أنه متوجه إلى الجميع ويسقط بفعل بعضهم؛ لرجحان أدلة هذا القول.
وأما استدلال من أوجبه على بعض مبهم بقوله تعالى: { } [التوبة 122] فيجاب بأن الأمر هنا ليس أمر إيجاب بل ندب واستحباب؛ بدليل أنه جاء بصيغة الحض والترغيب في النفقة.
وأما استدلالهم بأنه يسقط بفعل بعض المكلفين، فيجاب بأنه لا تلازم بين الأمر بالشيء والمخاطبة به، وسقوط الفعل، فإن الواجب العيني لا خلاف في توجه الأمر فيه إلى كل واحد من المكلفين، ومع ذلك يسقط من غير فعل بالنسخ، أو بفوات الوقت المحدد للعبادة عند من يرى ذلك، أو بأخذ الواجب منه دون إذنه، أو بإسقاط صاحب الحق إن كان حقا لآدمي.
وأيضا فإن سقوط الواجب الكفائي بفعل بعض الأمة؛ لأجل أن المقصود من فرضيته إيجاده بغض النظر عن موجده. ومما يدل على صحة هذا القول أنهم لو فعلوه جميعا أثيبوا ثواب الفرض، ولو تركوه جميعا عوقبوا عقاب تارك الفرض.
4 ـ انقسام الواجب إلى محدد وغير محدد :
مما يذكره الأصوليون هنا انقسام الواجب إلى محدد وغير محدد.
ويعنون بالمحدد : ما ورد تقديره في الشرع بمقدار ظاهر لكل أحد، كمقادير الزكاة، وأروش الجنايات، ومدة المسح.
ويعنون بغير المحدد : ما طلب فعله من غير تحديد مقداره، مثل الطمأنينة في الركوع والسجود. وهو تقسيم لا يترتب عليه كبير فائدة.
ما لا يتم الواجب إلا به
هذه القاعدة من القواعد الأصولية المهمة التي انبنى عليها فقه كثير، وهي ليست على الإطلاق المذكور في العنوان، ولا تصدق بعمومها. وإنما نقول : ما لا يتم الواجب إلا به ينقسم قسمين :
1 ـ ما لا يتم الوجوب إلا به، كشروط الوجوب، وأسبابه، وانتفاء موانعه، فهذه ليست واجبة باتفاق، فليس على المكلف أن يمسك عن إنفاق ما عنده من مال حتى يتم الحول ويزكيه، وليس عليه أن يمسك ما عنده من بهيمة الأنعام أو يزيدها حتى تبلغ نصابا لتجب فيها الزكاة مثلا. وإنما يتصرف في ماله تصرفا عاديا من غير هروب من الزكاة، فإذا حال الحول وعنده نصاب زكاة زكاه وإلا فلا. فهذه الشروط والأسباب وإن كانت داخلة في عموم « ما لا يتم الواجب إلا به » لكنها غير مرادة.
2 ـ ما لا يمكن عقلاً أو شرعاً أو عادةً أن يفعل الواجب تاما إلا بفعله، وهذا ينقسم أيضا قسمين :
أ ـ ما ليس بمقدور للمكلف، كغسل اليد في الوضوء إذا تعذر لقطع ونحوه، وكالركوع والسجود إذا تعذر ليبس في ظهره ونحو ذلك. فهذا خارج عن القاعدة فلا يجب باتفاق.
ب ـ ما هو مقدور للمكلف، مثل غسل جميع الثوب الذي أصابته نجاسة ولا يدري موضعها، وإمساك جزء من الليل مع النهار حتى يتم صيام النهار، والوضوء للصلاة، ونيتها. وهذا ينقسم أيضا قسمين :
1ـ ما ورد في إيجابه نص مستقل كالوضوء والنية للصلاة، وهذا واجب باتفاق، ولم ينقل عن أحد فيه خلاف.
2ـ ما لم يرد فيه بخصوصه دليل مستقل، وهذا هو موضع النزاع، وهو الذي قال بعض العلماء فيه : لا نسميه واجبا وإن وجب فعله تبعا.
والخلاف في هذه القاعدة ضعيف، والقاعدة معمول بها عند جميع الأئمة، ومن نقل فيها خلافا فإنما هو في التسمية، وفي استحقاق هذه الزيادة ثوابا مستقلا. وإنما قال الجمهور : تسمى هذه الزيادة واجبا؛ لأنها لا يجوز تركها أبدا إلا بترك الواجب، وترك الواجب يذم عليه المكلف فكذلك ما لازمه.
ومن فروع هذه المسألة :
1 ـ إذا اشتبهت أخته بأجنبية اشتباها لا يمكن معه معرفة المحرمة عليه منهما بأي طريق، وجب عليه ترك نكاح الاثنتين. ويؤيده حديث : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ». ولكن لو اشتبهت أخته بنساء قرية لا يحرم عليه النكاح من نساء تلك القرية؛ لأن القاعدة هنا عارضتها قاعدة أخرى وهي قاعدة : « العبرة بالغالب لا بالنادر ».
2 ـ إذا اشتبهت الميتة بمذكاة وجب اجتنابهما معا؛ لأن إحداهما منصوص على تحريمها، والأخرى لا يتم اجتناب الحرام إلا باجتنابها.
3 ـ إذا أصابت النجاسة طرفاً من ثوبه كالكم ـ مثلا ـ ولم يعرف موضعها، فإنه يغسل ما يتيقن بغسله أنه غسل النجاسة، وحينئذ يكون قد غسل ما وجب غسله بالنص وما لا يتم فعل ذلك الواجب إلا به.
4 ـ إذا امتنع المدين من سداد الدين وعنده عقار زائد عن حاجة السكنى وجب عليه بيعه لسداد الغرماء، فإن امتنع أجبره القاضي.
زيادة الواجب غير المحددة هل تكون واجبة؟ :
هذه المسألة تذكر بعد قاعدة « ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب »؛ لشبهها بها، وذلك لأن كلا منهما زيادة في الواجب، غير أن الأولى كالشرط للواجب فلا يتم بدونها، والثانية متصلة به من آخره، وهذه الزيادة إذا كانت متميزة لا يختلفون في أنها ليست واجبة، مثل أن يدفع في زكاة الفطر كيسا من الأرز فيه عشرون صاعا، وزكاته هو وأسرته خمسة عشر صاعا، فهذه الزيادة مندوبة، وأما إن كانت غير متميزة مثل الزيادة في الركوع والسجود على القدر الذي تحصل به الطمأنينة، فهذه اختلفوا فيها على قولين، ولا يترتب على الخلاف فيها كبير فائدة؛ إذ لا يظهر للخلاف فائدة إلا مقدار الثواب أيثاب عليها ثواب فرض أم ثواب نافلة؟ ومقدار الثواب يرجع إلى أمور أخرى من الإخلاص وإتقان العمل، وهو أمر مغيب عنا، فلا نطيل بذكر الأدلة.
المندوب
تعريفه وطرق معرفته:
المندوب في اللغة : اسم مفعول، من الندب، وهو الدعاء، فيكون معنى المندوب: المدعو إليه.
وفي الاصطلاح : هو ما طلب الشرع فعله طلبا غير جازم.
ويعرف كون الفعل مندوباً بطرق كثيرة منها :
1ـ الأمر المقترن بما يدل على جواز الترك، كالأمر في قوله تعالى : { } [النور 33] فالأمر بمكاتبة العبيد للندب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشدد على الصحابة في مكاتبة عبيدهم، بل أقرهم على إمساك الأرقاء مع علمه بما فيهم من الخير.
2ـ الترغيب فيه بذكر ثوابه من غير أمر، كقوله صلى الله عليه وسلم : « من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل » (متفق عليه).
3ـ بيان محبة الله للفعل، كقوله صلى الله عليه وسلم : « كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم » (متفق عليه).
4ـ مدح فاعله، كقوله تعالى: { } [الفرقان 63].
5ـ فعل الرسول صلى الله عليه وسلم للفعل تقربا من غير أن يأمر به، مثل الاعتكاف.
هل المندوب مأمور به حقيقة؟:
اختلف العلماء في تسمية المندوب مأموراً به حقيقة :
فذهب الأكثر إلى أنه مأمورٌ به حقيقة، واستدلوا بأن فعله يسمى طاعة، والطاعة هي امتثال الأمر، وبأن انقسام الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب شائع ذائع عند حملة الشرع.
وذهب آخرون إلى أنه ليس مأمورا به حقيقة، بل مجازا، واستدلوا بحديث: « لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة » (متفق عليه).
ووجه الاستدلال من الحديث أنه يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالسواك خشية المشقة، مع أنه ندبهم إليه بقوله وفعله، فعلم من هذا أن الندب ليس أمرا حقيقة وأن المندوب ليس مأمورا به حقيقة، وهذا الاستدلال قوي.
وقد أجاب عنه الأولون بأن المراد لأمرتهم أمر إيجاب. وفي الجواب نظر؛ لأنه تأويل لا حاجة له.
ومما يشكل على القول الأول أنه يلزم منه أن الأمر مشترك بين الإيجاب والندب، وهذا خلاف ما عليه الجمهور في مقتضى الأمر كما سيأتي.
أسماء المندوب :
يسمى المندوب عند جمهور العلماء من المذاهب الثلاثة غير المذهب الحنفي بأسماء كثيرة، أهمها : السنة، والمستحب، والرغيبة، والنافلة، والتطوع، ونحو ذلك.
وعند بعض الحنفية ينقسم المندوب إلى :
سنة هدى : وهي ما كان أخذها هدى، وتركها ضلالة، ويمثلونها بصلاة العيد، والأذان، والإقامة، والصلاة في جماعة، وتركها يستوجب اللوم والعتاب. وهذا النوع يسميه الجمهور سنة مؤكدة، ويمثلونه بصلاة الوتر، ولهذا قال أحمد : « تارك الوتر رجل سوء » مع أنه لا يرى وجوب الوتر.
سنة مطلقة : وهي ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به أمر إيجاب، مثل السنن الرواتب، وصيام الاثنين والخميس، ونحو ذلك.
نافلة : وهي ما شرع من العبادات الزائدة على الفروض.
وذهب بعض الحنابلة إلى تقسيم المندوب إلى ثلاثة أقسام :
سنة : وهي ما عظم أجره.
نافلة : وهي ما قل أجره.
فضيلة ورغيبة : وهو ما توسط أجره.
وهذا تقسيم مبني على عظم الأجر، وذلك أمر مغيب عنا، والأجر يختلف باختلاف النية والإخلاص وإحسان الفعل.
ومن الألفاظ المشهورة عند الفقهاء:
السنة المؤكدة : وهي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه في الحضر والسفر، مثل الوتر وسنة الفجر.
والمستحب : وهو ما رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم فعله أو لم يفعله، مثل صيام يوم وترك يوم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : « خير الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما» ولم يفعل هذا، ومما فعله صيام الاثنين والخميس، وصيام عاشوراء.
هل يلزم المندوب بالشروع فيه؟:
اختلف العلماء في ذلك، ومحل الخلاف فيما عدا الحج والعمرة والصدقة، فأما الحج والعمرة فقد اتفقوا على وجوب إتمامهما؛ لقوله تعالى : { } [البقرة 196]. وأما الصدقة بالمال كالنفقة على الفقير فلا خلاف في جواز قطعها.
1ـ ذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلى أن المندوب يجب بالشروع فيه، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها :
أ ـ قوله تعالى : { } [محمد 33]، ووجه الدلالة : أن الآية فيها نهي عن إبطال العمل، والنهي يقتضي التحريم، وإذا حرم إبطال المندوب وجب إتمامه.
ب ـ ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد الصحابة ـ وكان صائما صوم تطوع ـ : « كل وصم يوما مكانه » (أخرجه الدارقطني من حديث جابر ) ووجه الدلالة من الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالقضاء، والأصل في الأمر الوجوب، ولا يأمر بقضائه إلا إذا كان واجبا.
ج ـ أن المندوب ينقلب واجبا إذا نذره، فالنذر صير المندوب واجبا بالقول، أي بقوله : لله علي كذا، والشروع في المندوب فعل صيّر المندوب لله فوجبت صيانته عن الإفساد. وخلاصة هذا الدليل قياس الشروع في الفعل على النذر.
د ـ القياس على الحج والعمرة.
وذهب الجمهور إلى عدم وجوبه بالشروع فيه، واستدلوا بأدلة منها :
أ ـ قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر »، ووجه الدلالة من الحديث ظاهرة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الصائم المتطوع مخيرا بين الصيام والفطر، وإذا كان الصيام المندوب لا يجب بالشروع فيه فكذلك سائر المندوبات، إلا ما قام عليه دليل بخصوصه كالحج .
ب ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأل أهله: « أعندكم طعام؟» فإن قالوا نعم أكل منه، وإلا قال: « إني إذا صائم » (أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عائشة). ووجه الاستدلال أنه يكون ناويا الصوم، ثم إن وجد طعاما أكل وإلا أكمل صيامه.
ج ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الذي كان صائما أن يفطر كما مر في الحديث الذي استدل به للحنفية. ووجه دلالته على عدم الوجوب أنه لو كان إتمامه واجبا لما أمره بالفطر؛ لأنه يكون آمرا بمعصية، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر بمعصية.
وقول الجمهور أرجح.
وأما الاستدلال بالآية فالمقصود بها إبطال الأعمال بالرياء أو بالردة.
وأما الحديث فهو دليل للجمهور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز للصائم المتطوع أن يفطر، وقوله : « صم يوماً مكانه » ندب؛ لأنه عوض عن ندب.
وأما تشبيه الشروع بالنذر فبعيد جدا، وإلا لوجب على من شرع في الإنفاق على فقير أن يستمر، ولم يقل بذلك أحد.
وأما القياس على الحج والعمرة فمردود؛ للفرق بينهما وبين سائر الواجبات.
وثمرة الخلاف تظهر في إيجاب القضاء، فعند أبي حنيفة إذا شرع في نفل ثم قطعه وجب عليه القضاء، وعند الجمهور لا يجب.
الحـرام
تعريفه وطرق معرفته:
هو ما يذم شرعا فاعله. أي : ما عُرف من الشرع ذم فاعله، سواء عرف ذلك بقرآن أو سنة أو إجماع أو دليل آخر.
ويعرف كون الفعل حراماً بطرق منها :
1ـ النهي عنه من غير أن تصحبه قرينة تدل على أنه للكراهة. مثل الزنا، فقد نهى الله عنه بقوله : { } [الإسراء32].
2ـ النص على الخبر بتحريمه، كقوله تعالى : { } [البقرة275].
3ـ ذم فاعله، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه » (أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس مرفوعا).
4ـ توعد الفاعل بالعقاب، كقوله تعالى ـ بعد ذكر بعض المحرمات ـ : { * } [الفرقان68-69].
أقسام الحرام :
يقسم بعض العلماء الحرام قسمين :
1ـ حرام لذاته : وهو ما كان مفسدة في ذاته. مثل القتل، والسرقة، وأكل لحم الخنزير.
2ـ حرام لغيره : وهو ما تكون مفسدته ناشئة من وصف قام به لا من ذاته. مثل الصلاة في المقبرة، والبيع وقت نداء الجمعة الثاني.
وقد يطلق الحرام لغيره على ما حرِّم لكونه وسيلة إلى الحرام، مثل النظر إلى مفاتن المرأة الأجنبية.
التضاد بين الحرام والواجب :
الحرام ضد الواجب، والنهي ضد الأمر، ولهذا لا يمكن أن يكون الشيء الواحد بالعين حراما واجبا، مأمورا به منهيا عنه من جهة واحدة.
وما قد يبدو أنه كذلك فإما أن يكون واحداً بالجنس لا بالعين كالسجود، فإنه إذا وقع للصنم كان حراما، وإذا وقع لله كان واجبا أو مندوبا، فهذا ليس من الواحد بالعين، بل من الواحد بالجنس أو بالنوع، وإما أن يكون الواحد بالعين له جهتان تنفك إحداهما عن الأخرى فيكون حراما من جهة وطاعة من جهة أخرى، ومثّل له بعضهم بالصلاة في الدار المغصوبة؛ فإنها من حيث كونها صلاة طاعة لله، ومن حيث كونها في دار مغصوبة معصية؛ لأن الغصب محرم، ولذا قالوا إنها صحيحة ومجزئة وعليه إثم الغصب، ونظيرها أن يأمر السيد عبده بخياطة ثوبه وينهاه عن دخول دار بعينها، فلو دخل الدار وخاط الثوب استحق المدح على خياطة الثوب واستحق الذم على دخول الدار.
وذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة في الدار المغصوبة ليس لها إلا جهة واحدة فلا يمكن أن تكون صحيحة، واستدلوا على ذلك بأن الصلاة عبارة عن قيام وقعود وركوع وسجود، ولا بد لهذه الأفعال من مكان تفعل فيه عادة، فالمكان شرط عادي لأداء الصلاة، فإذا كان المكان منهيا عن اللبث فيه كان البقاء فيه حراما وجميع ما يفعل فيه باطلا محرما لا يمكن أن يكون طاعة.
والصحيح : أن الواحد بالعين إذا كان النهي ليس منصبا عليه بذاته، ولا على هيئته المكونة من الفعل وصفته لا يبطل، وإلا كان باطلا، فالوارد في الشرع في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ليس فيه النهي عن الصلاة ولا عن الصلاة في الدار المغصوبة، بل فيه النهي عن الغصب والأمر بالصلاة، فالجهة منفكة فتصح الصلاة ويأثم على الغصب.
أما إذا انصب النهي على ذات المأمور به فيكون نسخا كالنهي عن المتعة بعد الأمر بها، وكذلك إذا اتجه النهي إلى الموصوف مع صفته كالنهي عن بيع الملامسة والمنابذة، والنهي عن الصلاة في المقبرة ونحوها، فالمنهي عنه باطل.
فإذا ضبط الطالب هذه القاعدة أمكنه أن يعرف الفعل الذي له جهتان تنفك إحداهما عن الأخرى فيمكن أن يكون حراما من جهة وطاعة من جهة، والفعل الذي ليس له إلا جهة واحدة أو له جهتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى فلا يمكن أن يكون حراما طاعة.
المكـروه
تعريفه وطرق معرفته :
المكروه في اللغة : المبغَض.
وفي الشرع : هو المحرَّم؛ لأن الله تعالى ذكر بعض المحرمات، ثم قال : { } [الإسراء38]، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة ).
والمقصود بقيل وقال : نقل الكلام للنميمة أو للغيبة، والمذكورات في الحديث محرَّمة.
وفي اصطلاح الأصوليين والفقهاء، يطلقه الجمهور على : « ما نهى عنه الشرع نهيا غير جازم » أو : « ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله » مثل المشي بنعل واحدة، والإعطاء والأخذ بالشمال.
ويطلقه الحنفية على شيئين :
1ـ المكروه كراهة تحريم، وهو : ما نهى عنه الشرع نهيا جازما، ولكنه ثبت بطريق ظني، مثل أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
2ـ المكروه كراهة تنزيه، وهو: ما نهى عنه الشرع نهيا غير جازم. وهو مرادف للمكروه عند الجمهور.
وكون الشيء مكروها كراهة تنزيه يعرف بأمور، منها:
1ـ النهي عنه مع وجود قرينة تدل على عدم العقاب على الترك، مثل : المشي بنعل واحدة؛ فإن النهي عنه خرج مخرج التأديب والحمل على ما يناسب المروءة، وترك ما يضادها.
2ـ أن يترتب على فعل الشيء الحرمان من فضيلة، مثل : أكل الثوم والبصل، فمن أكلهما ممنوع من دخول المسجد.
المباح
تعريفه وطرق معرفته:
وهو في اللغة : المأذون فيه، والمطلق.
وشرعا : ما خير الشرع فيه بين الفعل والترك. مثل : أكل اللحوم وغيرها من الأطعمة مما لم يأت نهي عن أكله.
والإباحة تعرف بطرق منها :
1ـ النص على التخيير بين الفعل والترك. مثل :
ـ قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الوضوء من لحوم الغنم: « إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ » (رواه مسلم)، وهو يدل على إباحة الأمرين، وقد يستدل على فضل الوضوء بدليل آخر.
ـ وتخيير بريرة ـ حين عتقت وزوجها عبد ـ بين المفارقة والبقاء تحته (متفق عليه) فهو يدل على إباحة الأمرين.
ـ وقوله ـ لمن سأل عن صيام رمضان في السفر ـ : « إن شئت فصم وإن شئت فأفطر » (رواه البخاري).
2ـ نفي الإثم والمؤاخذة، كقوله تعالى : { } [البقرة 173]، وقوله تعالى : { } [البقرة 229].
3ـ النص على الحل، كقوله تعالى : { } [البقرة 187].
4ـ الأمر الوارد بعد الحظر، كقوله تعالى : { } [الجمعة 10].
5ـ كون الفعل مسكوتا عنه؛ فإن الأصل في الأشياء المنتفع بها الحل، ومن أمثلة ذلك: الانتفاع بوسائل الحياة المتطورة في هذا العصر، من مآكل ومشارب، ووسائل الاتصال الحديثة، والنقل، ونحو ذلك.
القسم الثاني
الحكم الوضعي
تعريفه:
الحكم الوضعي : هو خطاب الله تعالى بجعْلِ الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو صحيحاً أو فاسداً.
أقسام الحكم الوضعي :
أ ـ السبب :
السبب في اللغة : ما يحصل الشيءُ عنده لا به. ومنه سمي الحَبْل سببا، كما في قوله تعالى : { } [الحج 15].
وفي الاصطلاح : يطلق على عدة معانٍ هي :
1ـ العلامة المعرِّفة للحكم، مثل قولهم : غروب الشمس سبب للفطر، وطلوع الفجر سبب لوجوب الإمساك في رمضان.
2ـ العلة الكاملة، أي : العلة المستكملة شروطها المنتفية موانعها، كما يقال : أخذ المكلف، المال البالغ ربع دينار فصاعدا، خفية، من حرز مثله، بلا شبهة، سبب القطع في السرقة. وكقولهم : الوطء في فرج محرم، بلا شبهة، من مكلف، هو سبب حد الزنى.
وبالنظر إلى هذين المعنيين عرفه بعضهم بأنه : « ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته »، وهذا التعريف ينطبق على المعنى الثاني (العلة الكاملة)؛ وذلك لأن السرقة إذا توافرت فيها الشروط وانتفت الموانع لزم من وجودها وجوب القطع، وإذا انعدمت انعدم القطع لأجلها، ولا يمتنع قصاصا، وهذا فائدة قولهم : « لذاته » أي : أن وجود المسبب لذات السبب وعدمه لعدم ذات السبب.
3ـ العلة مع تخلف شرطها، كما يقولون : ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة وإن لم يحُلِ الحول.
4ـ ما يقابل المباشرة، فمن حرَّض على القتل ولم يقتل يسمى متسببا، والقاتل يسمى مباشرا، والفقهاء يقولون : إذا اجتمع المباشر والمتسبب في الجناية يكون الحكم على المباشر إلا إذا كان غير مكلف لجنون أو لصغر فيحكم على المتسبب.
ب ـ العلة :
العلة في اللغة : المرض، أو ما اقتضى تغييرا في المحل.
وفي الاصطلاح : « وصف ظاهر منضبط دل الدليل على كونه مناطا للحكم ».
ومثالها : الإسكار علة لتحريم الخمر، والطعم مع اتحاد الجنس علة لتحريم التفاضل في بيع البر بالبر والتمر بالتمر وما جرى مجراهما.
والفقهاء قد يجعلون العلة مرادفة للسبب، وقد يجعلونها مباينة له، فيطلقون السبب على ما لا تعرف حكمته مما هو علامة على ثبوت حكم أو نفيه، مثل غروب الشمس، الذي هو علامة على وجوب صلاة المغرب، ويطلقون العلة على ما عرفت حكمته مما هو علامة على ثبوت حكم أو نفيه، مثل الإسكار علة للتحريم.
وقد يجعلون السبب أعم من العلة، فيقولون : السبب يطلق على ما عرفت حكمته وما لم تعرف. وأما العلة فلا تطلق إلا على ما عرفت حكمته. فهذه ثلاثة اصطلاحات لهم مشهورة.
ج ـ الشرط :
وهو في اللغة التأثير، أو العلامة.
وفي الاصطلاح : وصف يلزم من عدمه عدم ما علق عليه، ولا يلزم من وجوده وجوده ولا عدمه.
مثاله : الطهارة شرط لصحة الصلاة، فيلزم من عدم الطهارة عدم صحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الطهارة صحة الصلاة ولا عدمها؛ لأن الطهارة قد تحصل ولا تحصل صلاة، أو تحصل صلاة غير مستوفية لبقية الشروط والأركان.
والشرط ينقسم أربعة أقسام بالنظر إلى طريق معرفته :
1ـ شرعي : وهو ما عرف اشتراطه بالشرع، مثل : الطهارة للصلاة.
2ـ عقلي : وهو ما عرف اشتراطه بالعقل، مثل : الحياة شرط للعلم.
3ـ عادي : وهو ما عرف اشتراطه بالعادة، مثل : وجود السلم شرط لصعود السطح.
4ـ لغوي : وهو التعليق الحاصل بإحدى أدوات الشرط المعروفة في اللغة، كإن وإذا ونحوهما.
وهذا النوع الأخير يسمى شرطا من حيث الاسم، وهو سبب من حيث المعنى؛ لأنه ينطبق عليه تعريف السبب؛ لأنه يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته. وهذا معنى قولهم : « الشروط اللغوية أسباب ».
د ـ المانع :
هو في اللغة بمعنى : الحاجز أو الحائل.
وفي الاصطلاح : وصفٌ يلزم من وجوده عدم متعلقه، ولا يلزم من عدمه وجوده ولا عدمه.
مثل : الرق مانع من الإرث، والدَّين الحال مانع من الزكاة على الصحيح. فالرق وصف متعلق بشخص هو ابن للميت مثلا، فلولا هذا الوصف لورث من تركته، ولكن لوجود هذا الوصف منع من الإرث، فيكون هذا الوصف مانعا من موانع الإرث. وعدم الرق لا أثر له في وجود الإرث ولا عدمه، فقد يعدم الرق ولكن يكون الشخص ليس من الوارثين أصلا أو محجوبا بوارث آخر، كأن يكون الميت له ابن وابن ابن وكلاهما حر غير رقيق، فابن الابن لا يرث مع أنه ليس برقيق؛ لأنه محجوب بالابن.
هـ ـ الصحة :
الصحة في اللغة : ضد المرض.
وفي الاصطلاح : ترتب الآثار المقصودة من الفعل عليه.
وهذا التعريف يصلح للصحة في العبادات وفي المعاملات؛ فإن الآثار المقصودة من فعل العبادة عند الفقهاء هي براءة الذمة وسقوط المطالبة به، وهذه تحصل من الفعل الصحيح للعبادة. وعند المتكلمين المقصود من فعل العبادة موافقة الأمر، ولهذا جعلوا الصحة هي موافقة الأمر، سواء أسقط القضاء بالفعل أم لا.
والآثار المقصودة من المعاملة تختلف باختلاف نوعها، فإن كانت بيعا فهي دخول الثمن في ملك البائع والمبيع في ملك المشتري، وهذا يترتب على العقد الصحيح، وإن كانت إجارة فالمقصود منها تمكين المستأجر من العين المستأجرة لينتفع بها، وتمكين المؤجر من تملك الأجرة لينتفع بها، وهذا كله يحصل من العقد الصحيح.
ومن العلماء من فرق بين تعريف الصحة في العبادات وتعريفها في المعاملات؛ فجعل التعريف الذي ذكرته صالحا لتعريف الصحة في المعاملات، وأما تعريف الصحة في العبادات فقد ذكروا له تعريفين : أحدهما للمتكلمين، وهو : موافقة الفعل لأمر الشارع. والآخر للفقهاء، وهو : سقوط القضاء.
والصحيح: ما ترتبت آثاره المقصودة منه عليه، وهذا يصدق على الصحيح من العبادات والعقود والإيقاعات كالطلاق والعتاق.
و ـ الفساد والبطلان :
الفساد في اللغة : ضد الصلاح.
والبطلان : ذهابُ الشيء خُسْراً وهَدَراً.
وفي الاصطلاح : تخلف الآثار المقصودة من الفعل عنه. فإن كانت عبادة ففسادها أن لا تبرأ بها الذمة، ولا يحصل بها الثواب. وإن كان عقدا أو نحوه ففساده أن لا يترتب عليه أثره من نقل الملك أو حل الاستمتاع ونحو ذلك.
الفرق بين الفاسد والباطل :
الفاسد والباطل عند الجمهور بمعنى واحد، وهو : ما لا يترتب عليه أثره.
وعند الحنفية يفرق بينهما بأن الفاسد : ما شرع بأصله ولم يشرع بوصفه، والباطل : ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه.
ومثال الفاسد عندهم : العقود الربوية، فإذا باع رشيد من رشيد درهما بدرهمين فالعقد فاسد وليس بباطل، ومثال الباطل عندهم : إذا باعه حمل الحمل الذي في بطن ناقته، أو باع الدم بدراهم، فالعقد باطل في الصورتين؛ لأن الخلل في المبيع، فحمل حمل الناقة معدوم، والدم نجس.
وبين العقدين ـ عندهم ـ فرق كبير؛ فإن العقد الفاسد إذا اتصل بالقبض يفيد الملك الخبيث، والباطل لا يفيد شيئا. والعقد الفاسد يمكن إصلاحه برد الزيادة إذا كانت هي سبب الفساد فيكون الباقي حلالا طيبا، أما الباطل فهو لغو لا فائدة فيه ولا يمكن إصلاحه.
تنبيه :
وقع التفريق بين الفاسد والباطل للشافعية في عقد الكتابة، فجعلوا منها فاسدا وباطلا، وفرقوا بينهما. ووقع مثل ذلك للحنابلة في النكاح ففرقوا بين العقد الفاسد والباطل وجعلوا الباطل ما اختل ركنه ككون الزوجة معتدة، والفاسد ما اختل شرطه كالنكاح بلا ولي.
والصحة والفساد جعلهما الرازي وأتباعه من الأحكام التكليفية، وقالوا الصحة ليست شيئا زائدا على الاقتضاء والتخيير، بل هي راجعة إلى واحد من الأحكام التكليفية الخمسة.
وجعلها ابن الحاجب من الأحكام العقلية لا من الأحكام الشرعية.
أوصاف العبادة المؤقتة
العبادة المؤقتة بوقت محدد سواء أكانت فرضا أم نفلا تتصف بإحدى صفات ثلاث هي:
أ ـ الأداء: وهو فعل العبادة في وقتها المعين غير مسبوق بفعل مختل.
فقولنا: (فعلها في وقتها المعين)، يخرج فعلها بعد فوات وقتها، فلا يسمى أداء.
وقولنا : (غير مسبوق بفعل مختل)، يخرج الإعادة.
ب ـ القضاء: وهو فعل العبادة المؤقتة بعد فوات وقتها. كأداء صلاة الصبح بعد طلوع الشمس لعذر النوم.
ج ـ الإعادة: وهي فعل العبادة في وقتها بعد فعل مختل.
فقولنا : (بعد فعل مختل)، يخرج الأداء؛ لأنه لا يكون مسبوقا بفعل. ووصف الفعل السابق بالخلل يشمل ما اختل شرطه أو ركنه، وما نقص ثوابه وإن استكمل الشروط والأركان، مثل الصلاة منفردا، فمن صلى منفردا ثم وجد جماعة سن له أن يعيد لاستدراك الفضل الذي فاته، فإن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة.
وأما الواجب الذي لم يؤقت بوقت محدد كالكفارات، فيوصف بالإعادة ولا يوصف بالأداء والقضاء الاصطلاحيين. ولا يمتنع أن يقول : أديت ما وجب علي من كفارة، ولكن لا يقصد بذلك الأداء الاصطلاحي بل مجرد الفعل، يدل على ذلك أنك لا تقول : صيام الكفارة أداء أم قضاء؟ وأما الإعادة فيوصف بها كل فِعل فُعِل أوَّلا على ضرب من الخلل، سواء أكان له زمن محدد أم لا ( ).
تقسيم الحكم إلى عزيمة ورخصة
عَدَّ بعض العلماء من أقسام الخطاب الوضعي وصف الحكم بالعزيمة أو الرخصة، وبعضهم جعله تقسيما آخر للحكم وهو أولى، ولكنه تقسيم للحكم التكليفي والتخييري لا للحكم الوضعي، فلا يوصف السبب والشرط والمانع بالعزيمة والرخصة.
والعزيمة في اللغة : القصد المؤكد، كما قال تعالى : { ـ ـ ـ ـ } [طه 115].
وفي الاصطلاح : وصف للحكم الثابت ابتداء لا لأجل عذر.
ويوصف به الواجب والمندوب والمكروه والحرام والمباح، ولا يطلق إلا في مقابل الرخصة.
والرخصة في اللغة : التسهيل والتيسير، ومنه قولهم : رخص السعر، وقولهم : أرض رخصة أو رخيصة، إذا كانت دمثة لينة.
وفي الاصطلاح: وصف للحكم الثابت على خلاف دليل شرعي باق لعذر.
فقولنا : (على خلاف دليل شرعي)، يخرج كل حكم لم يشرع على خلاف دليل شرعي آخر.
وقولنا : (باق)، يخرج ما شرع على خلاف دليل منسوخ فلا يسمى رخصة اصطلاحا.
وقولنا: (لعذر)، يخرج ما شرع على خلاف دليل شرعي لمخصص لا لأجل العذر.
الفرق بين الرخصة والمخصوص من العموم:
الفرق بين الحكم المخصوص من العموم والحكم الثابت رخصة : أن الأول خصص لعدم وجود الداعي للحكم العام فيه، والثاني خصص مع وجود الداعي للحكم العام فيه ولكن لأجل العذر رخص في تركه مع جواز فعله. وإذا منع تركه فإنما يمنع لسبب آخر كما نوجب على المضطر أن يأكل من الميتة ما تبقى به حياته لئلا يهلك نفسه، مع أن الأصل في أكل الميتة للمضطر أنه رخصة، فالمفسدة التي لأجلها ورد النهي عن أكل الميتة موجودة في الميتة التي رخص للمضطر في أكلها، ولكن أبيح له الأكل دفعا للمشقة، وفي تخصيص الحامل من المطلقات وجعل عدتها وضع الحمل وعدة غيرها ثلاثة قروء، الأمر مختلف، فالحكمة التي أمرت لأجلها المطلقة الحائل بالانتظار ثلاثة قروء هي التأكد من خلو الرحم، والحامل إذا وضعت قطعنا بخلو رحمها، وهذا معنى قولنا : في الرخصة الداعي موجود، وفي التخصيص معدوم.
ما الأحكام التي توصف بأنها رخصة؟ :
الأصل في الرخصة أن لا يوصف بها إلا الإباحة، ولكن قد يعرض للحكم الموصوف بأنه رخصة ما يجعله واجبا أو مندوبا، وذلك كالأكل من الميتة لمن أشرف على الهلاك، الأصل أنه رخصة ولكن يكون واجبا إذا أدى تركه إلى الهلكة.
والفطر للمسافر في نهار رمضان رخصة، ولكن إذا شق عليه الصوم يكون الفطر مندوبا. وأما القصر في السفر فمن العلماء من جعله واجبا؛ لمواظبة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، ولحديث عائشة : « فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر» (أخرجاه في الصحيحين، وهذا لفظ مسلم) ولا وجه لتسميته رخصة حينئذ.
ومنهم من جعله مندوبا لمواظبة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، ولا يمكن أن يواظب إلا على الأفضل. يقول تاج الدين السبكي : « واعلم أن الإيجاب والندب واستواء الطرفين أو رجحان أحدهما أمر زائد على معنى الرخصة؛ لأن معناها التيسير، وذلك بحصول الجواز للفعل أو الترك، يرخص في الحرام بالإذن في فعله، وفي الواجب بالإذن في تركه، وأدلة الوجوب والندب وغيرها تؤخذ من أدلة أخرى » ( ).
الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي
أنكر بعض الأصوليين تقسيم الحكم الشرعي إلى تكليفي ووضعي، وجعلوا ما يسميه الجمهور أحكاما وضعية من السبب والشرط وما ذكر معهما، راجعاً إلى الأحكام التكليفية أو التخيير، وقالوا إنها ليست أحكاما بل هي إعلام بالحكم، فالسبب : علامة على الحكم، وكذلك الشرط والمانع علامة على تخلف الحكم، والصحة راجعة إلى إباحة الانتفاع إذا كانت في العقود، والفساد يعني تحريم الانتفاع.
وأما في العبادة فالصحة كون الفعل موافقا للمشروع، والفساد عكسه، وهذا حكم عقلي لا شرعي؛ لأنه يدرك بالعقل.
والصحيح : أنها أحكام شرعية، ولا يصدق عليها اسم شيء من الأحكام الخمسة المتقدمة، ولا بد لها من تسمية فاصطلح على تسميتها بالأحكام الوضعية؛ لأن الشرع هو الذي جعل السبب سببا والشرط شرطا والمانع مانعا الخ.
وإذا تقرر ذلك فهناك فروق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، تتلخص فيما يلي :
1ـ أن الحكم التكليفي لا يوصف به إلا فعل المكلف، وهو البالغ العاقل، أما الحكم الوضعي فلا يختلف باختلاف الفاعل، فمن فعل ما هو سبب للضمان أُلزم به، سواء أكان بالغا عاقلا أم لا، فالصبي إذا أتلف شيئا لغيره انعقد سبب الضمان.
2ـ أن الحكم التكليفي من شرطه العلم، فالجاهل به لا يثبت في حقه تكليف، والحكم الوضعي لا يشترط العلم به، فمن فعل المحرم جاهلا بتحريمه فلا يؤثّم بل يُعذر، ولكن من فعل سببا من أسباب الضمان لزمه وإن لم يعلم بكونه سببا للضمان، فلو منع فضل طعامه مضطرا حتى مات ضمنه، سواء أعلم بأن ذلك سبب للضمان أم لا. ولكن في العقوبات البدنية كالحدود لا يلزمه الحد إذا كان جاهلا بالتحريم، فمن سرق وادعى عدم علمه بحرمة السرقة، وأمكن تصديقه لكونه حديث عهد بالإسلام مثلا، فلا تُجعل السرقة سببا في إقامة الحد عليه؛ لأن وجوب الحد تابع للتحريم، والتحريم حكم تكليفي لا يثبت مع الجهل.
وأما في ضمان المتلفات فإن الضمان ليس تابعا للتحريم بدليل أنه إذا اضطر يباح له الأكل من مال غيره وعليه ضمانه، ولذا قالوا : « الاضطرار لا يبطل حق الغير ».
ومما يزيد الأمر وضوحا أن المرأة يقع عليها الطلاق علمت به أولا، ولكن لو تكلم الزوج بلفظ الطلاق من غير أن يعرف معناه فلا يقع، وكذلك لو تكلم بلفظ الهبة أو البيع دون علم بمعناه، لعدم القصد.
3ـ أن خطاب التكليف يشترط فيه قدرة المكلف على فعل ما كلف به؛ لقوله تعالى : { } [البقرة 286]، وقوله : { } [الحج 78]. وأما خطاب الوضع فليس من شرطه ذلك ولهذا فإن كثيرا من الأسباب لا قدرة للمكلف على إيجادها أو منعها ولا يمنع ذلك من كونها أسبابا، مثل دخول شهر رمضان سبب لوجوب الصوم مع كون السبب المذكور ليس في مقدور المكلف منعه ولا إيجاده. وموت المورث سبب للإرث وليس هو من فعل الوارث ولا داخلا تحت قدرته. وكذلك الشأن في الموانع تمنع الحكم وإن كانت ليست من فعل الإنسان الذي له علاقة بذلك الحكم، فوجود الجمع من الإخوة يمنع الأم من إرث الثلث وليس لها مدخل فيه ولا تستطيع منعه ولا إيجاده.
4ـ أن الحكم التكليفي توصف به الأفعال التي هي من كسب العبد، وما ليس من كسبه لا يكون مكلفا به، فكل فعل يقع من غير كسب من العبد لا يقال إنه حرام عليه ويستحق عليه العقوبة، ولا يقال إنه واجب أو مندوب في حقه فلا ينال عليه ثوابا : { } [النجم 39]. وهذا لا يتعارض مع حديث : « من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا » (رواه مسلم من حديث جرير البجلي مرفوعا)، وذلك لأن التسبب كسب، فما وقع نتيجة لفعله فله أجره وعليه وزره.
وأما الحكم الوضعي فلا يشترط أن يكون من كسب العبد فقد يكون من كسبه ككثير من الشروط التي تشترط لصحة العبادة، وقد لا يكون من كسبه كالأسباب والشروط والموانع الخارجة عن كسبه، فلو أرضعت زوجته طفلة حرمت عليه مع أنه لم يفعل شيئا؛ لأن الرضاع سبب لانتشار المحرمية مع أنه ليس من كسبه.
التكليـف
تعريفه :
التكليف في اللغة: مصدر كلف يكلف وهو الإلزام بما فيه كلفة، والكلفة هي المشقة، فيكون التكليف بمعنى الأمر بما فيه مشقة. وكلف بالشيء كلفا وكلفه : أحبه، والمتكلف : الواقع فيما لا يعنيه ( ).
والتكليف في الاصطلاح : « الخطاب بأمر أو نهي » وعرفه بعضهم بأنه : « الإلزام بما فيه كلفة ومشقة ».
ومن عرف التكليف بأنه : الخطاب بأمر أو نهي، جعل الأحكام التي تسمى تكليفية حقيقة أربعة، هي : الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، وأما الإباحة فسميت تكليفا إما بالنظر إلى اعتقادها وإما من باب التغليب. وقد تقدم أن الأولى إخراج الإباحة عن الأحكام التكليفية.
ومن عرف التكليف في الاصطلاح بمثل التعريف اللغوي فقال : « هو الإلزام بما فيه كلفة ». فقد قصر الأحكام التكليفية على الواجب والمحرم؛ لأنها هي التي فيها إلزام.
صحة تسمية أوامر الشرع ونواهيه تكاليف:
أنكر بعض العلماء أن تسمى أوامر الشرع ونواهيه تكاليف؛ لأنها ليس فيها مشقة ( ).
والصواب : صحة الإطلاق؛ إما من جهة أن الإطلاق جاء من قولهم : كَلِفت بالأمر، إذا أحببته، وتكاليف الشرع محبوبة للمؤمن، وإما من جهة أن التكاليف الشرعية لا تخلو من مشقة، ولكنها مشقة معتادة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : « حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات » (رواه مسلم من حديث أنس مرفوعا)، وتكون المشقة المنفية هي المشقة الخارجة عن المعتاد المؤدية إلى اختلال الحياة أو المعاش.
ومما يدل على صحة تسمية أوامر الشرع تكليفا قوله تعالى : { } [البقرة 286] فالآية تدل على امتناع التكليف بما خرج عن الوسع والطاقة، وتدل على صحة التكليف بما يدخل تحت الوسع والقدرة بطريق المفهوم.
أركان التكليف :
للتكليف ثلاثة أركان : المكلِّف، والمكلَّف، والمكلَّف به، وقد يزاد ركن رابع هو الصيغة والطلب.
فالمكلِّف : هو الآمر وهو الله جل وعلا.
والمكلَّف : هو البالغ العاقل.
والمكلَّف به : هو الفعل أو الترك.
وصيغة التكليف : هي الأمر والنهي وما جرى مجراهما.
شروط التكليف
التكليف له شروط بعضها يرجع إلى المكلف وبعضها يرجع إلى الفعل المكلف به.
والشروط التي ترجع إلى المكلَّف قسمان :
أ- شروط عامة.
ب- شروط خاصة ببعض التكاليف.
فالشروط العامة في كل التكاليف هي :
1ـ البلوغ :
وهو يحصل ببلوغ الذكر أو الأنثى خمس عشرة سنة، كما يحصل بالإنزال باحتلام أو بجماع، أو بنبات الشعر الخشن حول العانة. وتزيد الأنثى بالحيض والحمل فإنها من علامات بلوغها.
والدليل على كون البلوغ شرطا للتكليف حديث : «رفع القلم عن ثلاثة»، وذكر منهم : « الصغير حتى يحتلم » (أخرجه أحمد وأصحاب السنن).
تكليف المميز :
واختلف العلماء في مَن بلغ عشر سنين ولم تظهر عليه علامات البلوغ هل يعد مكلفا؟
فذهب الجمهور إلى أنه ليس بمكلف؛ للحديث السابق.
وذهب الإمام أحمد في رواية إلى أنه مكلف بالصلاة دون غيرها؛ لحديث : «واضربوهم عليها لعشر»، ولا يضرب على الترك من ليس بمكلف. وذهب بعض المالكية إلى أنه مكلف بالمندوبات والمكروهات دون الواجبات والمحرمات؛ لأنه يثاب على الطاعات إذا فعلها فتكون مندوبة في حقه، ولا يعاقب على المعاصي فتكون مكروهة في حقه.
2ـ العقل وفهم الخطاب:
فمن لا يعقل الخطاب ولا يفهمه لا يمكن أن يخاطب، وخطابه عبث وسفه يتنزه الله عنه.
والدليل على عدم خطاب المجنون قوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة »، وذكر منهم : « المجنون حتى يفيق ». ويلحق بالمجنون كل من لا يعقل الخطاب من نائم أو مغمى عليه أو ذاهل ناس فإنه حال نسيانه لا يخاطب. وهذا لا يمنع وجوب الفعل في ذمته ووجوب قضائه، وقد يسمى مخاطبا بهذا المعنى أي بمعنى لزوم الفعل في ذمته.
3ـ القدرة على الامتثال :
فالعاجز لا يكلف؛ لقوله تعالى : { } [البقرة 286] وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الطلاق 7]، وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الحج 78].
4ـ الاختيار :
وهو أن لا يكون مكرها على الفعل ولا على الترك، والدليل على اشتراط هذا الشرط قوله تعالى: { } [النحل106]، فالآية تدل على عدم مؤاخذة من أكره على النطق بكلمة الكفر، وإذا عذر في النطق بكلمة الكفر فمن باب أولى عذره فيما عدا ذلك من حقوق الله جل وعلا.
وأما حقوق الآدميين فلا تسقط بالإكراه؛ لأن إيجابها من باب الربط بين الأسباب ومسبباتها. وسيأتي بيان للمسألة في موانع التكليف.
5ـ العلم بالتكليف :
فمن لم يعلم بالتكليف لا يُعدُّ مكلفاً، قال تعالى : { } [الإسراء 15]، والحكمة من بعثة الرسل تعليم الناس حكم الله تعالى، ومفهوم الغاية في هذه الآية يدل على أنه بعد بعثة الرسل يمكن مؤاخذة المكلفين على تقصيرهم وتفريطهم.
والتكاليف الشرعية منها ما لا يعذر أحد بجهله بعد الدخول في الإسلام؛ لكونها مما علم من الدين بالضرورة، مثل وجوب الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وتحريم الزنا، والكذب، والظلم، ونحو ذلك.
فهذه الأحكام من ادعى الجهل بها من المسلمين إما أن يكون كاذبا في دعواه أو يكون مفرطا ومضيعا لدينه؛ لأن العلم بها يقارن العلم بالإسلام.
والصنف الثاني من الأحكام يمكن أن يجهلها المسلم لعدم اشتهارها أو لغموض أدلتها أو لحاجتها إلى نظر واستنباط، مثل حرمة بيع العينة، وبعض أنواع البيوع التي قد يجهلها الإنسان العادي، وبعض أحكام الطهارة كالمسح على الخفين، وبعض أحكام الصلاة كصلاة المسبوق وصلاة من لا يجد ما يستره، وبعض أحكام الزكاة كزكاة الحلي وأنصبة الزكاة، وبعض أحكام الصوم كاستعمال الإبر المغذية ونحوها.
فهذا النوع من الأحكام يعذر الجاهل بدعوى الجهل به فلا يلحقه إثم بما فعله أو تركه مما يخالف حكم الله، ولكن يجب عليه استدراك ما فاته إذا علم بحكم الله جل وعلا، ومن العلماء من رأى أنه لا يطالب باستدراك ما فاته ولا يؤاخذ إلا بحقوق الآدميين؛ فإنها لا تسقط بجهله؛ لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير.
والقول الأول هو الصحيح إن شاء الله، ولكن قد يعذر في استدراك ما فاته بجهله إذا كانت مطالبته بذلك توقعه في حرج ومشقة، كمن صلى أكثر عمره وهو يمسح على خف لا يستر محل الفرض أو يمسح على خف لم يلبسه على طهارة ونحو ذلك. وسيأتي للمسألة مزيد بيان في موانع التكليف.
الشروط المقيَّدة :
وأما الشروط التي تختلف باختلاف المكلف به فمنها : الحرية، فهي شرط للتكليف بالجهاد والجمعة، وليست شرطا للتكليف بالصلاة والصوم. ومنها : الذكورية، وهي شرط للتكليف بالجمعة، ومنها : الإقامة، شرط للجمعة، ونحو ذلك.
شروط الفعل المكلف به :
1ـ أن يكون معلوماً :
والمراد بهذا الشرط أن تكون حقيقة الفعل المأمور به معلومة، والأمر به معلوما لدى أهل العلم من المكلفين، والدلائل عليه منصوبة؛ لأن الأمر بغير المعلوم عبث يتنزه الله عنه. وليس معناه أن يعلمه كل مكلف، بل يكفي نصب الدلائل على التكليف به بحيث يعرفها من طلبها.
وهذا الشرط يختلف عن الشرط السابق الذي ذكرناه في شروط المكلف؛ لأن ذلك الشرط يشمل كل مكلف، ولذلك وقع الخلاف في اشتراطه.
أما هذا فهو شرط في الفعل نفسه بغض النظر عن آحاد المكلفين، فإذا كان معلوم المقدار وعُلِم الأمر به من بعض المكلفين صح التكليف به، ويجب على من جهل مقداره أن يطلب العلم به من أهله، وأما مؤاخذة كل مكلف بتقصيره فكما تقدم،تختلف باختلاف اشتهار التكليف به وعدمه، فيعذر في جهل بعض الأفعال دون بعض كما تقدم، ويعذر حديث الإسلام، ومن عاش ببادية فيما لا يعذر به غيره.
2ـ أن يكون معدوماً :
ومعناه أن يكون غير حاصل حال الأمر به إن كان مأمورا به؛ وذلك لأن الحاصل لا يمكن تحصيله، فمن صلى الفجر لا يؤمر به بعد فعله، وهذا الشرط لا ينطبق إلا على المأمور به، أما المنهي عنه فيمكن أن يكون معدوما كما ينهى المسلم عن الزنا وهو لم يرتكبه، وعن الكذب وهو لم يكذب، ويكون موجودا كما ينهى الكاذب عن الكذب، وشارب الخمر عن شربه، مع مباشرته للفعل المحرم، ولم أجد من نبه على اختصاص هذا الشرط بالمأمور به مع ظهوره لمن تأمله، وقد يقال : إن النهي عن الفعل المستقبل ـ وهو معدوم ـ لا عن الموجود الواقع، والأول أظهر.
3ـ أن يكون ممكناً :
ومعنى الإمكان أن لا يكون واجب الوقوع ولا ممتنع الوقوع عقلا، وخالف الأشعرية فأجازوا التكليف بالمحال، واختلفوا في وقوعه في الشرع، وأكثرهم لا يرى وقوعه.
ومحل النزاع هو المستحيل عقلا كالجمع بين الضدين، أو عادة كالصعود إلى السطح بلا سلم، أو ما يقوم مقامه.
أما المستحيل لتعلق علم الله الأزلي بعدم وقوعه فلا خلاف في جواز التكليف به ووقوعه، والصواب أنه لا يسمى مستحيلا؛ لأنه ممكن بمقتضى العقل والعادة، ولأن علم الله بعدم وقوعه غيب عنا ولم نكلَّف بمعرفته ولا ببناء الأحكام عليه.
ومثاله : تكليف من علم الله أنه يموت على الكفر بالإيمان، وتكليف من علم الله أنه لا يدرك الصلاة، بالصلاة، فالمثال الأول لا خلاف في جوازه ووقوعه، والمثال الثاني وقع فيه خلاف لفظي؛ لاتفاقهم على أنه معذور إذا مات وهو عازم على الصلاة في آخر وقتها أو ساه عنها، أما إذا كان ذاكرا عازماً على الترك فيأثم على ذلك القصد السيء على الصحيح، وقد قيل لا يلزمه العزم بل يكون معذورا إذا مات قبل ضيق الوقت.
الأدلة على امتناع التكليف شرعاً بما لا يطاق عقلا أو عادة :
1ـ قوله تعالى: { } [البقرة 286]، ووجه الدلالة أن الله أخبر ـ وخبره صدق ـ أنه لا يكلف الإنسان ما لا يطيق، ولا شك أن المستحيل غير داخل تحت الوسع والطاقة.
2ـ قوله تعالى: { ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الحج 78]، وجه الدلالة: أن الله أخبر ـ وخبره صدق ـ أنه لم يجعل في ديننا حرجا، ولا شك أن التكليف بالمستحيل حرج عظيم.
3ـ قوله تعالى: { }، وجه الدلالة: أن التكليف بالمستحيل عسر ومشقة، والله أخبر ـ وخبره صدق وحق ـ أنه لا يريد بنا العسر.
4ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » (متفق عليه). وجه الدلالة : أن الحديث يدل على عدم وجوب الإتيان بالعمل الشاق الذي لا يستطيعه الإنسان وإن كان ممكنا، ومن باب أولى لا يكلف بالمستحيل.
5ـ استقراء فروع الشريعة الإسلامية يدل على عدم وقوع التكليف بالمستحيل.
6ـ أن المستحيل لا يتصور وقوعه، وما لا يتصور وقوعه فليس بشيء فلا يؤمر به.
7ـ ما ثبت في صحيح مسلم أنه لما نزل قوله تعالى : { } [البقرة 284] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: أيْ رسولَ الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟! بل قولوا : سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير » قالوا : سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ} إلى قوله : { ـ } [البقرة 285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله عز وجل : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } قال : نعم، { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } قال : نعم { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } قال : نعم { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [البقرة 286] قال : نعم. (رواه مسلم). ـ
وذهب أكثر الأشعرية إلى جواز التكليف بما لا يطاق، وزعموا أنه مذهب أهل السنة والجماعة، واختلفوا في وقوعه، فذهب بعضهم إلى أنه جائز وواقع، وذهب آخرون إلى عدم وقوعه رأفة ورحمة من الله عز وجل، وساق الرازي في المحصول عليه أدلة كثيرة أكثرها تدل ـ لو سلمت ـ على وقوعه في الشريعة الإسلامية.
ومن قال بجواز التكليف بما لا يطاق، إن كان مراده الجواز العقلي فإننا لا ندعي أن العقل هو المانع منه بل الدليل على امتناعه الشرع.
وإن ادعوا الجواز الشرعي فهو مردود بالأدلة السابقة.
وأما القائلون بالوقوع شرعا فقد استدلوا على الجواز والوقوع بأدلة منها :
1ـ قوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ }. [البقرة286]، ووجه الدلالة: قالوا: لو لم يكن ذلك ممكن الحصول لما سألوا الله أن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به؛ لأن الممتنع لا يشرع أن يسأل الله منعه، فلا يجوز أن تقول اللهم لا تظلمني.
والجواب من وجهين :
أ ـ أن المراد بما لا طاقة لهم به : الشاق، وليس المستحيل الوقوع عقلا أو عادة.
ب ـ أن الله قد استجاب دعاءهم كما ثبت في صحيح مسلم أن الله قال : قد فعلت، وقد تقدم الحديث بطوله، واستجابته تدل على عدم وقوعه.
2ـ أن أبا لهب مكلف بالإيمان، مع علم الله جل وعلا بأنه لا يؤمن، ووقوع خلاف علم الله محال، فيكون قد كلف بالإيمان وهو محال.
وساق الآمدي هذا الدليل بوجه آخر فقال : إن الله أخبر أن أبا لهب من أهل النار، بقوله : { ـ ـ ـ ـ } [المسد 3]، ومع ذلك أمره بالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هذه الآية التي تدل علىعدم إيمانه، فيكون قد أمر أن يؤمن بأنه لن يؤمن، وهذا محال.
والجواب من وجهين :
أ ـ أن هذا ليس تكليفا بالمحال؛ لأن إيمان أبي لهب لم يكن محالا في حياته؛ إذ لم يحل بينه وبين الإيمان حائل، وإنما منعه كبره وعناده، ومرادنا بالمحال المستحيل عقلا أو عادة.
ب ـ أن الآية ليس فيها نص على أنه لن يؤمن، بل فيها أنه سيصلى النار، وقد يدخل النار المؤمن لتمحص ذنوبه ثم يخرج منها كما قال تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ * ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [مريم 71-72].
وقد نسب الآمدي وغيره إلى أبي الحسن الأشعري القول بأن التكاليف الشرعية كلها مما لا يطاق تفريعا على قوله بأن أفعال العباد مخلوقة والله خالقها، وقوله : إن القدرة على الفعل لا تتقدم الفعل.
والصحيح أنه لا يلزم على القول بأن أفعال العباد مخلوقة لله أن تكون التكاليف الشرعية مما لا يطاق؛ لأن القول بخلق الأفعال لا يناقض القول بأن العبد هو الفاعل لفعله حقيقة، فإذا أثيب أو عوقب فإنما يثاب ويعاقب على فعله. وأما قوله بعدم تقدم القدرة على الفعل فغير مسلم، والكلام فيه ليس من غرض الأصولي والفقيه، ومحله علم الكلام.
موانع التكليف
اعتاد جمهور الأصوليين أن يتكلموا عن التكليف وشروطه، ويذكروا موانعه ضمن كلامهم عن شروطه.
وأما الحنفية فمنهجهم بحث شروط التكليف وموانعه تحت اسم الأهلية وعوارضها.
والأهلية عندهم قسمان : أهلية الوجوب، وأهلية الأداء. ولكل منهما شروط على النحو التالي :
أولا : أهلية الوجوب :
وهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه.
وهي ملازمة للإنسان منذ بداية حياته، وشرط ثبوتها للإنسان الحياة، وقد يطلق عليها الفقهاء الذمة، ويعرفونها بأنها : « وصف شرعي مقدر يصير به الإنسان أهلا لما يجب له وعليه »، وكما يكون للإنسان ذمة صالحة لتعليق الحقوق والواجبات بها، يكون للشخص الاعتباري ذمة كذلك مثل الشركات والأوقاف وبيت المال، وبهذا يصح أن نقول للشخص النائم أو الساهي أو المغمى عليه إنه أهل للوجوب، أي : أن ذمته صالحة لأن يتعلق بها التكليف.
ثانيا : أهلية الأداء :
وهي صلاحية الإنسان لصدور الأفعال والأقوال منه على وجه يعتد به شرعا.
وشرطها الأساس : التمييز، فإذا كان الإنسان مميزا اعتد الشرع بأقواله وأفعاله في الجملة.
تمام الأهلية ونقصانها:
كلٌّ من أهلية الوجوب وأهلية الأداء قد تكون ناقصة أو تامة، فأهلية الوجوب الناقصة تثبت للجنين في بطن أمه؛ لأنه تثبت له حقوق ولا تترتب عليه واجبات، ولكن تلك الحقوق لا بد لثبوتها من ولادته حيا، فإن ولد ميتا لم يثبت له حق الإرث والوصية ونحوها.
وأهلية الوجوب الكاملة تثبت للإنسان منذ ولادته إلى وفاته ولا تفارقه بسبب الصبا أو الجنون أو نحو ذلك، ولكنه إذا لم يبلغ سن التمييز، أو بلغ ولكنه مجنون فلا ينضم إلى هذه الأهلية أهلية الأداء، وما عليه من واجبات يقوم وليه بأدائها من ماله، فيخرج عنه ما يجب عليه من نفقة أو زكاة أو ضمان متلف من ماله.
وأما أهلية الأداء الناقصة فهي تثبت للإنسان منذ بلوغه سن التمييز إلى البلوغ ولا تثبت للمجنون الذي لا يعقل، ولكنها تثبت لضعيف الإدراك ومن به تخلف عقلي.
وهذا النوع من الأهلية يترتب عليه صحة ما يفعله من حصلت له من العبادات، فيصح إسلام الصبي وصلاته وحجه وصيامه ونحو ذلك، ولكن لا يكون ملزماً بأدائها إلا على جهة التأديب والتمرين.
وأما حقوق العباد فتصرفات الطفل التي ترتب له حقوقا وترتب عليه واجبات على أقسام :
1ـ التصرفات النافعة نفعا محضا، أي التي لا ضرر فيها كقبول الهبة والصدقة، وهذه تنفذ وتصح.
2ـ التصرفات الضارة ضررا محضا مثل الطلاق والعتق والهبة والضمان، وهذه لا تصح من الصبي المميز ولو أجازها الولي؛ لأن الولي لا يملكها.
3ـ التصرفات الدائرة بين النفع والضرر، مثل البيع والإجارة والنكاح، وهذه موقوفة على إجازة الولي، إن أجازها صحت وإلا فلا.
وأما أهلية الوجوب الكاملة فتثبت للإنسان بالبلوغ والعقل، وفي التصرفات المالية يشترط لها الرشد أيضا.
ولما كان التكليف عند جمهور العلماء هو الخطاب بأمر أو نهي ذكروا من الموانع كل ما يمنع توجه الخطاب عقلا أو شرعا.
وأهم هذه الموانع :
1ـ الجنون :
وهو ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف وشرط توجه الخطاب للمخاطب.
ولا يختلف العلماء في أن الجنون يمنع التكليف في الجملة. والدليل قوله صلى الله عليه وسلم « رفع القلم عن ثلاثة » وذكر منهم : « المجنون حتى يفيق » (رواه أحمد وأصحاب السنن) وأما الأحكام التي تثبت للمجنون فهي تختلف باختلاف متعلقها على النحو التالي :
أ- أحكام أقواله.
ب- أحكام أفعاله.
ج- أحكام تركه.
فأما أقواله فهي لغو لا يؤاخذ عليها ولا يترتب عليها حكم شرعي لا في الدنيا و لا في الآخرة، فلو قذف أو باع أو اشترى فلا أثر لشيء من ذلك، وهو محل وفاق.
وأما أفعاله، فإذا كانت عبادات، فهي لغو لا أثر لها، وإن كان فيها ضرر بالغير فهو لا يؤاخذ عليها في الآخرة، وأما في الدنيا فعليه ضمانها إن ترتب عليها ضمان، فلو أتلف مالا أو قتل قتيلا فلا إثم عليه ولا قصاص ولكن الضمان يثبت في ماله أو على عاقلته؛ لأن الضمان ليس مشروطا بالتكليف.
وأما الترك فإنه لا يؤاخذ عليه فيما يتعلق بحقوق الله، فلا يطلب منه القضاء لو أفاق من جنونه إلا إذا كانت العبادة لم يذهب وقتها. وهذا مذهب الجمهور.
وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لو أفاق في آخر اليوم لزمه قضاء صلوات ذلك اليوم. وذهب محمد بن الحسن إلى أنه إذا مرت عليه الصلاة السادسة ولم يفق سقط عنه صلوات اليوم السابق، وإلا قضاها.
2ـ النسيان :
وهو ذهول القلب عن الشيء مع سبق العلم به.
والنسيان عذر يمنع المؤاخذة الأخروية لقوله صلى الله عليه وسلم : « إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان » (أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا).
وأما أفعال الناسي وأقواله وتركه فهي لغو لا يعتد بها ولا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، ولكن إذا فعل ما يبطل العبادة ناسيا فقال بعض العلماء : لا تبطل عبادته، وقال بعضهم : تبطل، لأن المبطلات أسباب للبطلان فلا يشترط لها التكليف؛ لأنها من أحكام الوضع، وقال الحنفية بالتفريق بين العبادة التي هيئتها تذكر بها كالصلاة، والعبادة التي ليس لها هيئة خاصة تذكر المتلبس بها كالصوم، فالأولى لا يعذر بالنسيان فيها، والثانية يعذر فيها بالنسيان، كما أنه إذا فعل ما يضر بالآخرين ناسيا ترتب عليه الضمان لإهماله، وأما المؤاخذة الأخروية فهي ساقطة عنه، وأما الحد والتعزير فيسقطان عنه إذا قام على دعوى النسيان دليل أو قرينة، ولا يكتفى بمجرد دعوى النسيان.
3ـ الجهل :
وهو انعدام العلم عمن يتصور منه العلم.
وهو من حيث كونه عذرا رافعا للتكليف على أنواع أربعة :
أ ـ الجهل بالله جل وعلا وإنكار وجوده أو قدرته ونحوهما من صفاته الثابتة بالنصوص القطعية، وما يجب له من العبادة. فهذا لا يعذر به الإنسان بعد علمه بإرسال الرسل إلى الخلق. وذلك لقوله تعالى : { } [الإسراء 15] فمفهومه أنه بعد بعث الرسل سيعذب العصاة والكفار، ولقوله تعالى : { * * } [الكهف 103-105]، ولقوله تعالى : { } [فصلت 23]، فهذه الآيات تدل على أن ظنهم السيء لم يعفهم من العقوبة.
ولأن الله جل وعلا قد أرسل الرسل إلى الخلق ولم يدع أمة إلا أرسل فيها نذيراً { } [فاطر 24]، وغرس الإيمان بوجود الخالق في فطرة الإنسان « كل مولود يولد على الفطرة» { } [الروم 30] وأعطى الإنسان عقلا ليتفكر في خلق الله فيستدل به عليه، فإذا سمع بالإسلام وما يأمر به وما ينهى عنه وجب عليه أن ينظر فيه، فإذا نظر في دين الإسلام بعقل متجرد عن الهوى اهتدى إلى أنه دين الحق. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار» (أخرجه مسلم بلفظ قريب من هذا عن أبي هريرة مرفوعا) فمجرد السماع بمحمد صلى الله عليه وسلم وبعثته ورسالته يوجب على العاقل التفكر فيما جاء به من الدين، فإذا تفكر فيه اهتدى إلى أنه الحق. وإن أعرض ولم ينظر كان مقصرا ملوما معاقبا على إعراضه وتقصيره.
ب ـ الجهل بما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالجهل بوجوب الصلاة والزكاة، والجهل بحرمة الزنى والربا والظلم، ونحو ذلك. فهذا لا يعذر به أحد ممن عاش بين المسلمين؛ لأنه إما ناشئ عن تقصير وتفريط، وإما أنه دعوى كاذبة فيدعى الجهل وهو يعلم.
ج ـ الجهل في موضع الاجتهاد أو الاشتباه، كالجهل بحرمة بعض أنواع البيوع، وبعض الأحوال العارضة للإنسان في صلاته أو في حجه، ونحو ذلك مما يصعب على عامة الناس الإحاطة به. فهذا النوع يسقط عن الجاهل اللوم والذم، ولكنه يلزم باستدراك ما فعله على غير الصفة الصحيحة إذا أمكن ذلك من غير مشقة خارجة عن المعتاد.
د ـ الجهلُ من حديث العهد بالإسلام أو ممن عاش حياته في البلاد الكافرة بما يعرفه عامة المسلمين في البلاد الإسلامية يعد عذرا مسقطا للمؤاخذة الأخروية، ولكن يلزم الجاهل باستدراك ما فاته إذا أمكن استدراكه، وذلك كالجاهل بوجوب الغسل من الجنابة وتحريم الأخت من الرضاعة ونحو ذلك مما هو معلوم للمسلمين الذين يعيشون في البلاد الإسلامية ولكن قد يجهله من عاش في البلاد الأخرى.
4ـ النوم :
يذكر بعض الأصوليين أن النوم مانع من التكليف، وأن النائم غير مكلف، ومرادهم ـ كما سبق ـ أن الخطاب لا يتوجه إليه حال نومه وإنما يتوجه إليه بعد الاستيقاظ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم « رفع القلم عن ثلاثة » وذكر منهم : « النائم حتى يستيقظ ».
والقول بعدم تكليفه حال نومه يعني أن ما يصدر منه من الأقوال لغو لا يعتد به حتى لو نطق بالطلاق أو بكلمه الكفر أو بالقذف أو ببيع أو شراء أو نحو ذلك لا يعتد به. وأما الأفعال فيؤاخذ على ما يوجب الضمان منها؛ لأن الضمان ليس من شرطه التكليف.
ولا يقال : يلزم من عدم تكليفه أنه لو نام حتى ذهب وقت الصلاة لا تلزمه، ولو نام جميع النهار لا يلزم الصوم؛ لأن عدم تكليفه حال نومه لا يمنع من لزوم القضاء عليه لقوله صلى الله عليه وسلم « إنه ليس في النوم تفريط،إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها » (رواه النسائي والترمذي وصححه، ومعناه في صحيح مسلم) والصيام كذلك؛ لأن الله أوجب قضاءه على المعذور لمرض أو سفر. فالنوم عذر يسقط الإثم ولا يسقط القضاء.
5ـ الإغماء :
وهو مرض يتسبب في تعطل قوى الإدراك لدى الإنسان.
وهو مانع من التكليف وأشد من النوم؛ لأن النائم لو نبه لصحا من نومه بخلاف المغمى عليه.
واختلف العلماء في قضاء العبادة التي مر وقتها على الإنسان وهو مغمىً عليه، فقال الشافعي لا قضاء عليه، وقال الحنفية إن كان طويلا فيلحق بالجنون ويسقط القضاء كما مثلنا في المجنون، وإن كان قصيرا فيلحق بالنوم فلا يسقط به القضاء.
وما نقل عن الشافعي هو الصحيح، والفرق بين النائم والمغمى عليه هو أن النوم فيه جانب تقصير من جهة العبد؛ إذ كان ينبغي أن يحتاط لصلاته فلا ينام قرب وقتها، أو ينام عند من يوقظه. وأما الإغماءُ فليس فيه تقصير من العبد ألبتة.
6ـ السكر :
وهو حالة تحصل للإنسان تغطي عقله فيضعف تمييزه بين الأشياء أو يذهب بالكلية.
وقد اختلف العلماء في عدِّ السكر مانعا من التكليف :
فذهب بعضهم إلى أنه ليس مانعا وأن السكران مكلف، و استدلوا على ذلك بقوله تعالى : { }
[النساء 43] وجه الدلالة : أن الله نهاه حال سكره عن الصلاة، فدل ذلك على أنه أهل للخطاب.
واستدلوا أيضا بأنه مرتكب لمحرم، فلا يكون ذلك سببا في عذره، وإلا لجعله الناس ذريعة لارتكاب الجرائم؛ فيسكر ثم يقتل أو يزني أو يسرق.
وذهب آخرون إلى أنه غير مكلف؛ لأنه كالمجنون لا يعقل الخطاب.
وردوا على الاستدلال بالآية السابقة بأن المراد بها : لا تسكروا قرب وقت الصلاة حتى لا تدخلوا في الصلاة وأنتم سكارى، وقالوا: هذا نظير قوله تعالى: { } [آل عمران 102] أي : لا تفارقوا الإسلام حتى لا تموتوا على الكفر.
وفرق بعضهم بين أقواله وأفعاله وقالوا هو مكلف بالأفعال دون الأقوال فيؤاخذ على القتل والزنى وإتلاف المال ولا يؤاخذ على القذف والطلاق، ولا تنفذ عقوده.
وفرق بعضهم بين أن يكون السكر بقصد أو من غير قصد فإن كان قاصدا شرب المسكر فيؤاخذ وإلا فلا. والأولى أن يقال السكر درجات فقد يصل بالإنسان إلى حالة لا يعقل فيها شيئا ولا يعرف طريقه، ولا يعرف أشياءه الخاصة كنعله وعمامته.
وهذا ينبغي أن يقال إنه يمنع التكليف إذا فسرنا التكليف بالخطاب بأمر أو نهي ولا يلزم من ذلك أن يعذر في أقواله وأفعاله المتعلقة بحقوق الآدميين بل يؤاخذ عليها، ويعاقب عقوبة الصاحي إن كان سكره باختيار ويؤاخذ المتسبب في سكره إن كان سكره بفعل غيره.
وأما إذا لم يبلغ به السكر هذا المبلغ فيكون مكلفا بأقواله وأفعاله؛ لأنه يعقل الخطاب ويفهمه فصح خطابه. ولأن كثيراً ممن اعتادوا شرب الخمر من الكفار والفساق لا يذهب عقولهم ولا يفقدهم التمييز فهم يقومون بأعمالهم التجارية والصناعية ويعقدون الصفقات الكبيرة وهم على هذه الحال.
7ـ الإكراه :
وهو حمل غيره على فعل لا يفعله لو خلي ونفسه.
وقد قسمه الحنفية والجمهور إلى ملجئ وغير ملجئ، ولكن اختَلَف اصطلاحهم في تعريف الإكراه الملجئ وغير الملجئ على النحو التالي :
الإكراه الملجئ عند الجمهور : هو الذي لا يكون للمكره فيه قدرة على الامتناع ويكون كالآلة في يد المكره، ومثلوه بما لو ألقاه من مكان مرتفع على صبي فمات، أو ربطه وأدخله في دار حلف ألا يدخلها.
وغير الملجئ عندهم ماعدا ذلك من أنواع الإكراه كالتهديد بالقتل أو الضرب أو السجن.
والإكراه الملجئ عند الحنفية : هو أن يكون التهديد فيه بقتل أو قطع طرف أو جرح أو ضرب مبرح أو حبس مدة طويلة ممن يستطيع أن يفعل ذلك.
فهم حددوا ما يسمى إكراها ملجئا بالنظر إلى نوع التهديد فإن كان متَحَمَّلا سُمّي غير ملجئ وإن كان غير متحمل عادة سُمي ملجئا. ولهذا اختلفوا في بعض أنواع من التهديد هل يعد الإكراه بها مُلجئا؟ مثل حبس الوالد أو الولد، أو ضربهما أو قتلهما، إلى غير ذلك.
وغير الملجئ عند أكثر الحنفية هو ما كان التهديد فيه بأقل مما ذكر في الملجئ.
تحرير محل النزاع :
أما الإكراه الملجئ باصطلاح الشافعية ومن وافقهم فهو يمنع التكليف باتفاق؛ لأن المكلف لا ينسب إليه شيء من العمل فهو كالآلة.
ولكن الحنفية لا يسمون هذا النوع إكراها، بل يقولون الفعل لا ينسب إلى الإنسان أصلا، فلا يقال أكره عليه , فإذا أُلقِي الإنسان من مكان مرتفع على طفل فمات الطفل فالقاتل ليس الملقَى، بل الملقي، والملقى لا يعدو أن يكون آلةً، فهو كالحجر.
وأما الإكراه غير الملجئ باصطلاح الحنفية فهو لا يمنع التكليف باتفاق، لأنه تهديد بما يمكن تحمله، فإقدام المكره على الفعل يكون باختياره؛ لأنه متمكن من الصبر على الأذى الذي هدد به. ويبقى الإكراه الملجئ باصطلاح الحنفية وهو ما كان التهديد فيه بقتل أو قطع طرف أو جرح أو ضرب مؤلم ونحو ذلك ممن يمكنه فعل ما هدد به.
فهذا مختلف فيه على أقوال :
القول الأول: أن الإكراه لا يمنع التكليف وهو مذهب الشافعية والحنفية وجمهور الأصوليين، ولكن الحنفية يعبرون بعبارة أخرى وهى قولهم : « لا يؤثر في أهلية الوجوب ولا في أهلية الأداء » لأنهم لا يعبرون بالتكليف.
القول الثاني: أنه يمنع التكليف بما يوافق مراد الشارع ولا يمنع التكليف بنقيضه، وهذا مذهب أكثر المعتزلة. ومعناه أن من أكره على فعل مراد للشارع فَفَعَله لأجل الإكراه لا يعد مكلفا فلا يثاب على هذا الفعل. وإن امتنع يعد مكلفا فيعاقب على الترك، وإن أكره على فعل يخالف مراد الشارع كالزنا وسب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن امتنع فهو مكلف ويثاب، وإن فعل فليس بمكلف، فلا يعاقب.
والسبب في هذا القول أنهم يربطون بين التكليف والثواب والعقاب، فحيث وجد التكليف فلا بد من الثواب أو العقاب، وحيث عدم التكليف فلا ثواب ولا عقاب.
والجمهور مع قولهم إن الإكراه لا يمنع التكليف لا يقولون إن المكره يؤاخذ على كل ما يقوله أو يفعله؛ لأن التكليف عندهم الخطاب بأمر أو نهي، والمكره مخاطب، وكونه مخاطبا لا يلزم منه حصول الثواب أو العقاب ولا يلزم منه صحة جميع تصرفاته، والحكم الفقهي لما يفعله المكره فيه تفصيل على النحو التالي :
1 ـ الإكراه بحق على بيع ماله لسداد الغرماء أو على عتق عبده، ونحو ذلك فهذا ينفذ ويصح.
2 ـ الإكراه بغير حق، وهذا يختلف حكمه باختلاف المكره عليه، فهو إما أن يكون قولا أو فعلا.
أ ـ فأما الأقوال فهي أنواع نجمل أهمها فيما يلي :
1 ـ العقود المالية، كالبيع والإجارة ونحو ذلك، وهذه لا تصح ولا تنعقد عند الجمهور، وذهب الحنفية إلى أنها فاسدة لا باطلة، ويمكن تصحيحها برضا العاقدين بعد ارتفاع التهديد والإكراه.
2 ـ العتق والنكاح والطلاق، وهي عقود لا تقبل الفسخ، وهذه لا تقع مع الإكراه عند الجمهور، وعند الحنفية تقع؛ لأنها تقع مع الهزل فمع عدم الرضا كذلك، ولكن يرجع على من أكرهه لضمان ما لحقه من الخسارة.
3 ـ الأقوال المحرمة كالنطق بكلمة الكفر وسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه يعد الإكراه عذرا مسقطا لعقوبتها إن نطق بها وقلبه مطمئن بالإيمان كما قال تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [النحل 106]. والنطق بها رخصة فإن صبر على الأذى وامتنع أثيب على ذلك، وأما القذف ونحوه فالإكراه يسقط عقوبته والإثم المترتب عليه.
ب ـ الأفعال، وهي أنواع، أهمها ما يلي :
1 ـ أفعال الكفر، كتمزيق المصحف وإهانته والذبح للصنم ونحو ذلك، وهذه كالنطق بالكفر يرخص للمكره في فعلها إن فعلها وقلبه مطمئن بالإيمان على الصحيح. وذهب بعض العلماء إلى أنه يؤاخذ عليها؛ لحديث الرجلين اللذين مرَّا على صنم لا يجوزه أحد حتى يقرِّب إليه قربانا، فامتنع أحدهما فقتلوه فدخل الجنة، وقال الآخر : لا أجد ما أقرِّبه له، فقالوا : قَرِّب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فدخل النار. (أخرجه ابن أبي شيبة من حديث سلمان)
والصواب عدم مؤاخذته، وهذا الحديث لا دليل فيه على مسألتنا؛ لأن الرجل الذي قرب ذبابا قربه مختارا طائعا بدليل أنه علل عدم التقريب للصنم بعدم وجوده ما يقربه، ولم يعلله بالتحريم والخوف من غضب الله جل وعلا.
ويمكن أن يجاب بأن هذا في شرع من قبلنا وقد جاء شرعنا بخلافه فأباح لنا النطق بكلمة الكفر مع طمأنينة القلب فقال تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [النحل 106]، وقال صلى الله عليه وسلم : « إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » (أخرجه ابن ماجه) ولا فرق بين الأقوال والأفعال الكفرية.
2 ـ قتل المعصوم أو جرحه أو قطع طرف من أطرافه، والإكراه لا يبيح ذلك باتفاق؛ فالفاعل يأثم باتفاق، وهل يقتص منه؟ اختلف في ذلك، فقيل : يقتص من المكرَه، وقيل : يقتص من المكرَه والمكرِه، وقيل : يُقتص من المكرِه (بالكسر) فقط، وقيل : يسقط القصاص، والصواب الاقتصاص من المكرَه (بالفتح).
3 ـ الزنى : والإكراه عليه لا يبيحه باتفاق، واختلفوا في إقامة الحد على المكره، والصواب أنه لا حد عليه؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، والإكراه شبهة قوية، وأما المكرِه فلا حد عليه باتفاق.
وفرق بعضهم بين المرأة والرجل، فقال إذا أكرهت المرأة على الزنى فلا إثم عليها، وإن أكره الرجل ففعل فعليه الإثم؛ لأن زناه لا يكون إلا باختياره؛ إذ لا جماع بغير شهوة وانتشار، فإن حصل منه ذلك كان مطاوعا مختارا.
وبهذا يتبين أن قول جمهور العلماء : « إن المكرَه مكلفٌ، وإن الإكراه لا يمنع التكليف » لا يعني مؤاخذته على كل ما أكره عليه.
ولَمَّا رأى بعض العلماء أن الله قد عفا عن المكره إلا في الحالات التي قدم فيها صيانة نفسه على صيانة غيره من المسلمين، قال : إن المكره غير مكلف، وهو وإن خالف الجمهور في ذلك من حيث اللفظ لكنه موافق لهم في المعنى، غير أنه نظر إلى آثار التكليف ـ وأهمها المؤاخذة الأخروية ـ فوجدها منتفية فنفى التكليف.
والقول بعدم تكليف المكره هو الأليق بمذهب السلف، والأقرب إلى ظاهر القرآن والسنة؛ لأن الله تعالى لم يؤاخذ من نطق بكلمة الكفر مكرها فقال تعالى: { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ }. [النحل106] والرسول صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » (أخرجه ابن ماجه).
والتكليف مع الإكراه فيه حرج شديد ومشقة عظيمة، والله تعالى يقول : { } [البقرة 286]، ويقول : { } [الحج 78] ويقول : { } [المائدة 6].
والإجماع الذي حكوه على أن الإكراه لا يبيح قتل المعصوم والزنى، يحمل على أنه لم يسقط عنه الإثم؛ لأنه في القتل قدم مصلحة نفسه على مصلحة أخيه المسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » (متفق عليه من حديث أنس). وفي مسألة الزنى لأن القرينة تدل على أنه أقدم على الزنى لشهوة وإلا لما استطاع أن يجامع. وأما المرأة المغتصبة غير المطاوعة فهي غير مكلفة على الصحيح.
وقد تكون مسألة تكليف المكره ذات صلة بمسألة أخرى وهي مسألة التكليف بما لا يطاق، فإن أكثر الأشعرية على صحة هذا التكليف كما تقدم، ولهذا ناسبهم أن يقولوا هنا بتكليف المكره.
وعلى القول الصحيح هناك أنه لا يجوز التكليف بما لا يطاق ينبغي أن نقول هنا بمنع تكليفه
الباب الثاني
أدلة الأحكام الشرعية
تعريف الدليل :
الأدلة : جمع دليل، والدليل في اللغة : المرشد إلى الشيء والهادي إليه.
وفي الاصطلاح : «ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري».
والمراد بالنظر : الفكر الموصل إلى علم أو ظن. ووصف بكونه صحيحا ليخرج النظر الفاسد المخالف لمقتضى العقل السليم أو للفطرة المستقيمة أو للغة أو للشرع، والمراد بقولنا مطلوب خبري أي حكم من الأحكام.
وقلنا : ما يمكن التوصل الخ، حتى يدخل الدليل الذي لم يتنبه المجتهدون للاستدلال به، فإنه دليل وإن لم يستدل به فعلا، وهو أفضل من قولنا ما يتوصل؛ لأنه يدل على أن الدليل هو ما حصل التوصل به فعلا.
وقولنا : بصحيح النظر فيه، يخرج النظر الفاسد فإنه لا يوصل إلى الحكم الصحيح، وإن توهم الناظر أنه يوصل إليه. وهذا القيد لا يمنع من دخول الدليل الذي لم ينظر فيه نظرا صحيحا ولم يتوصل به إلى المطلوب؛ لأن عدم الاستدلال به جاء من جهة فساد النظر لا من جهة عدم دلالته.
أقسام الأدلة الشرعية :
1ـ تنقسم الأدلة الشرعية من حيث الاتفاق على العمل بها وعدمه ثلاثة أقسام:
أ ـ أدلة متفق عليها، وهي الكتاب، والسنة.
ب ـ أدلة فيها خلاف ضعيف، وهي الإجماع والقياس.
ج ـ أدلة فيها خلاف قوي، وهي قول الصحابي والاستحسان والمصلحة المرسلة وشرع من قبلنا والاستصحاب وسد الذرائع.
2ـ وتنقسم من حيث طريق معرفتها إلى قسمين :
أ ـ أدلة نقلية، وهي الكتاب والسنة والإجماع وقول الصحابي وشرع من قبلنا والعرف.
ب ـ أدلة عقلية، وهي القياس والمصلحة المرسلة وسد الذرائع والاستحسان والاستصحاب. وليس مرادهم أنها عقلية محضة بل هي عقلية مستندة إلى نقل.
ويقسمها بعضهم إلى ثلاثة أقسام :
نقلية محضة، وعقلية محضة، ومركبة من العقل والنقل. ولا يترتب على ذلك التقسيم كبير فائدة، والتقسيم غير منضبط.
والسبب في اختلافهم في تقسيمها أن بعضهم يعد ما للعقل مدخل في دلالته دليلا عقليا وإن كان مستندا إلى نقل، وبعضهم يعد ما يستدل به العقلاء قبل الشرع دليلا عقليا وما لا يعرف كونه دليلا إلا بعد ورود الشرع يعده دليلا شرعيا.
والظاهر أن الأدلة الشرعية منها ما يدل بمقتضى الوضع اللغوي مثل أكثر نصوص الكتاب والسنة. ومنها ما لا يدل إلا بضميمة إليه كنص شرعي آخر مثل قول الصحابي وشرع من قبلنا والإجماع ونحوها. ومنها ما يستدل به العقلاء قبل ورود الشرع وجاء الشرع مؤيدا له كبعض أنواع القياس والاستصحاب والمصالح المرسلة.
3ـ وتنقسم الأدلة الشرعية من حيث قوة دلالتها إلى قطعية وظنية :
والدليل القطعي : هو ما دل على الحكم من غير احتمال ضده. وقيل ما دل على الحكم ولم يحتمل غيره احتمالا ناشئا عن دليل. فعلى الأول يكون الاحتمال الممكن ـ وإن كان بعيدا لا دليل عليه ـ ناقلا للدليل من القطع إلى الظن، وعلى الثاني لا ينتقل الدليل إلى الظن بمجرد الاحتمال بل لا بد أن يكون الاحتمال مستندا لدليل.
مثاله قوله تعالى : { } [البقرة 196]. فدلالة العدد هنا على الأيام الواجب صيامها دلالة قطعية.
والظني : ما دل على الحكم مع احتمال ضده احتمالا مرجوحا، ومثاله : قوله تعالى : { } [البقرة 264]، فالآية تدل بظاهرها على أن كلا من المن والأذى يبطل الصدقة ويذهب أجرها، ولا يلتفت إلى الاحتمال المرجوح الذي تحتمله الآية وهو أن الصدقة لا تبطل إلا بمجموع الأمرين.
الأصل في الأدلة الشرعية العموم :
الأدلة الشرعية تحمل على العموم سواء وردت بصيغة العموم أم بصيغة الخصوص، إلا أن يدل على خصوصيتها دليل.
ومعنى ذلك أن الدليل الشرعي من القرآن أو السنة يجب أن يعد شاملا لمن ورد في بيان حكمه ومن يماثله من المكلفين على مر العصور.
فالآيات والأحاديث الواردة بصيغة العموم لا إشكال في عمومها بطريق اللغة، وأما الواردة بصيغة الخصوص كالتي وجه الخطاب فيها إلى فرد أو أفراد محصورين فتكون عامة فيمن حاله كحالهم ممن يأتي بعدهم إلا أن تقوم دلالة على أنها خاصة بمن وردت فيه بعينه لا بوصفه.
فالأحاديث الواردة في رجم ماعز لَمّا زنى يدخل فيها كل زان محصن، والأحاديث الواردة في قتل العرنيين الذين قتلوا الرعاة وسملوا أعينهم تشمل من يفعل مثل فعلهم بطريق المعنى، وقوله صلى الله عليه وسلم ـ في المحرم الذي وقصته دابته ـ : « لا تخمروا رأسه » (متفق عليه) يشمل كل من مات محرما على الصحيح من قولي العلماء، ومن قال بخصوص الحديث إنما قال بذلك لدلالة قامت عنده على الخصوصية.
والدليل على ذلك الأصل من وجوه :
1ـ عموم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الشرع؛ لقوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الأعراف158]، وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [سبأ28]، وقوله صلى الله عليه وسلم : « بعثت إلى الناس كافة » (أخرجه البخاري بهذا اللفظ ومسلم بمعناه).
2ـ قوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الأحزاب21]. فإذا كان التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم مطلوباً فيكون ما يثبت في حقه من الأحكام ثابتاً في حق أمته إلا أن يقوم دليل على الخصوصية.
3ـ الأدلة الدالة على مشروعية القياس تدل على عموم الأدلة؛ لأن القياس مبناه على توسيع مجرى النص وإدخال من لا يدخل تحته وضعاً بطريق المعنى.
الدليل الأول
الكـتـــــاب
القراءة الصحيحة والقراءة الشاذة :
القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف تسهيلا وتيسيرا على الناس، يدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « أنزل القرآن على سبعة أحرف » متفق عليه.
والأحرف السبعة التي نزل القرآن بها كلها عربية، ولما جمع القرآن في المصاحف الجمعة الأخيرة اقتصر فيه على حرف واحد، وهو الحرف الذي كانت قريش تقرأ به.
والقراءات العشر لا تخرج عن الحرف الذي أثبت في المصحف العثماني. وقيل إن مصحف عثمان مشتمل على الأحرف السبعة ( ) وليس هذا موضع بسط الكلام في ذلك.
والقراءات منها ما هو صحيح، ومنها ما هو شاذ، ومنها ما هو باطل.
فالقراءة الصحيحة هي : ما صح سندها، ووافقت اللغة ولو من وجه، ووافقت رسم المصحف العثماني.
والقراءة الشاذة : ما صح سندها ووافقت اللغة ولو من وجه، وخالفت رسم المصحف العثماني.
والمخالفة قد تكون بزيادة كلمة أو تغييرها ونحو ذلك، ومثالها قراءة ابن مسعود : « فصيام ثلاثة أيام متتابعات »، فكلمة (متتابعات) غير موجودة في المصحف العثماني، ولهذا أطلق عليها بعض العلماء اسم القراءة الشاذة أو الآحادية.
والقراءة الباطلة : ما اختل فيها أحد الشرطين الأولين، وهما : صحة السند، وموافقة اللغة العربية. فأي قراءة لم يصح سندها أو لم توافق العربية بوجه من الوجوه هي قراءة باطلة لا تجوز القراءة بها ولا الاحتجاج بها باتفاق.
ولما كان رسم المصحف العثماني متواترا، عدوا ما خرج عنه آحادا أو شاذا.
واختلفوا في القراءة الشاذة أو الآحادية هل تجوز القراءة بها في الصلاة؟:
فذهب الجمهور إلى عدم صحة القراءة بها؛ لأنها ليست قرآنا؛ إذ القرآن متواتر وهي ليست متواترة. وذهب بعض العلماء إلى صحة القراءة بها في الصلاة إذا صح سندها، واستدل بأن ابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما كانوا يقرأون بها ولا يمكن أن نقول ببطلان صلاة هؤلاء وأمثالهم.
وهذا القول إحدى الروايتين عن مالك وإحدى الروايتيتن عن أحمد واختاره ابن القيم رحمه الله ( )، ومذهب الجمهور أحوط. وكون القراءة نقلت عن أحد الصحابة بطريق الآحاد لا يلزم منه كونها قرآنا، ولا يلزم أنه كان يقرأ بها في الصلاة؛ لاحتمال أنه كان يقولها تفسيرا لما في القرآن من إجمال، وتقييدا لما فيه من إطلاق.
حجية القراءة الشاذة :
اختلف العلماء في حجية القراءة الشاذة (الآحادية) على قولين :
القول الأول : أنها حجة، وهو منسوب لأبي حنيفة وأحمد، وأكثر أصحابهم، وحكاه البويطي عن الشافعي.
ودليل هذا القول : أن هذه القراءة نقلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسند صحيح فهي لا تخلو إما أن تكون قرآنا أو سنة، وعلى كلا الاحتمالين فهي حجة.
القول الثاني : أنها ليست بحجة، وهو المشهور عن الشافعي رحمه الله.
والدليل على ذلك أن الصحابي نقلها على أنها قرآن، لا على أنها سنة، وهي لا يمكن أن تكون قرآنا؛ لأن القرآن متواتر وهي غير متواترة، ولأن الظاهر أنها تفسير من الصحابي نفسه، ومذهب الصحابي ليس حجة عند الشافعي.
والصواب الأول، وقولهم : لا يمكن أن تكون قرآنا، لا يصح إلا على التسليم باشتراط التواتر في كل كلمة من كلمات القرآن وهذا محل خلاف، قال الشوكاني: « وقد ادُّعِي تواتر كل من القراءات السبع... وليس على ذلك أثارة من علم؛ فإن هذه القراءات كل واحدة منها منقولة نقلا آحاديا كما يعرف ذلك من يعرف أسانيد هؤلاء القراء، وإنما هو قول قاله بعض أهل الأصول، وأهل الفن أخبر بفنهم »( ).
وقولهم: إنها قول صحابي، يجاب بأن قول الصحابي في تفسير القرآن حجة؛ لما علمناه من تورعهم عن القول في كتاب الله بما لا علم لهم به. والله أعلم.
ومن الفروع التي بنيت على هذا الأصل ما يلي :
1ـ وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين، فمن أوجبه استدل بقراءة ابن مسعود « فصيام ثلاثة أيام متتابعات » كالحنفية والحنابلة، ومن لم يوجبه لم يستدل بهذه القراءة كالشافعية والمالكية في الأظهر.
2 ـ المراد بالصلاة الوسطى في قوله تعالى : { } [البقرة238] ورد في قراءة عائشة : « والصلاة الوسطى وصلاة العصر » ( )، فمن احتج بالقراءة الآحادية احتج بهذه القراءة على أن الصلاة الوسطى ليست صلاة العصر؛ لعطفها بالواو على الصلاة الوسطى، والعطف يقتضي المغايرة، ومن لم يحتج بالقراءة الآحادية لم يحتج بهذه القراءة، وربما ذهب إلى أنها صلاة العصر أو غيرها بأدلة أخرى.
ومن العلماء من لم يستدل بهذه القراءة؛ لعدم ثبوتها عنده، لا لأنه لا يقول بحجية القراءة الآحادية.
3 ـ تفسير القروء الوارد في العدة بالأطهار.
قال تعالى : { } [البقرة228] واختلفوا في المراد بالأقراء : أهي الحيض أم الأطهار؟ فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنها الحيص، وذهب مالك والشافعي إلى أنها الأطهار.
ومما استدل به من قال إنها الأطهار، قراءة: « فطلقوهن لقبل عدتهن» بدل قوله: { } [الطلاق1] ذكر ذلك الإمام الشافعي في الأم( )، مع أن المشهور عن الشافعي عدم الاحتجاج بالقراءة الآحادية، ولعله احتج بهذه القراءة لأنها مسندة للنبي صلى الله عليه وسلم لا إلى أحد من الصحابة كما في قراءتي ابن مسعود وعائشة السابقتين، وأما أبو حنيفة وأحمد فلعل القراءة لم تصح عندهما، فتركا الاحتجاج بها. والله أعلم.
الدليل الثاني
الســـــــــــنة
تعريف السنة :
السنة في اللغة : الطريقة، سواء أكانت حسنة أم سيئة، ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح : « من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها... » (أخرجه مسلم).
وفي الاصطلاح : ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير.
هذا تعريفها عند الأصوليين.
وعند المحدثين : زيادة : الوصف، إذ يقولون السنة : ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف. ويريدون بالوصف ما ورد عن الصحابة من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان وصفا خَلْقيا أو خلُقيا.
والأصوليون لم يدخلوا هذا النوع في السنة؛ لأنهم يتكلمون عن السنة التي هي دليل يستدل به ويتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم فيه، ولا شك أن صفات الرسول التي ليست من فعله لا يمكن أن تكون دليلا على الوجوب أو الاستحباب؛ إذ لا يتعلق بها حكم.
وتطلق السنة في كلام العلماء إطلاقات أخرى، فهي تطلق على المستحب والمندوب، وتطلق في مقابل البدعة فيقال هذا صاحب سنة وذاك صاحب بدعة، ولها إطلاقات أخرى.
أقسام السنة :
تنقسم السنة من حيث ذاتها ثلاثة أقسام هي :
1ـ السنة القولية : وهي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول غير القرآن، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « من كذب علي متعمدا فليتبؤا مقعده من النار » (متفق عليه).
2ـ السنة الفعلية : وهي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل، مثل ما نقل من صفة وضوئه وصفة صلاته، والتركُ مع قيام الداعي بمثابة الفعل.
3ـ السنة التقريرية : وهي ما نقل من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول قيل أو فعل فُعل في حضرته، أو علم به ولم ينكره. ومن أمثلة ذلك ما رواه الشيخان : من أكل الضب على مائدته من غير إنكار، وما روياه أيضا : من رؤيته للحبشة وهم يلعبون بالحراب في المسجد، وتمكين عائشة من النظر إليهم.
ومما يوجد في كتب بعض المتأخرين : تقسيمهم السنة من حيث ورودها إلينا إلى متواترة وآحادية، أو متواترة ومشهورة وآحادية، وعندي أن هذا ليس تقسيما للسنة وإنما هو تقسيم للخبر الناقل لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالسنة لا تنقسم إلى هذه الأقسام، بل هذه أقسام الخبر سواء أكان ناقلا لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أم لغيرها.
وكذلك تقسيمهم السنة إلى صحيحة وحسنة وضعيفة ليس راجعا إلى ذات السنة بل راجع إلى الخبر الذي نقل لنا السنة، فلو تيقنا أنها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لما سميناها ضعيفة، بل الضعف في السند الناقل لها، ولهذا نجد المتقدمين يجعلون هذين التقسيمين للخبر أو للحديث، والسنة أخص منهما.
الفرق بين السنة والخبر:
السنة كما عرفناها ـ فيما سبق ـ هي : ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير.
وأما الخبر في اللغة فهو النبأ، وجمعه أخبار. وفي الاصطلاح : ما يحتمل الصدق والكذب لذاته.
ومعنى قولهم : لذاته، أي : بالنظر إلى ذات الخبر دون النظر إلى المخبِر والقرائن التي تحف بالخبر، وبهذا القيد يدخل في تعريف الخبر خبر الصادق، والأخبار التي لا يمكن أن تكذب لحفوف القرائن بها، أو لقيام الدليل القاطع على صدقها كأخبار القرآن والسنة المتواترة، والأخبار التي دلت القرائن على صدقها.
ويطلق الخبر على ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن، وما نقل عن الصحابة والتابعين. وقد يجعلون الخبر ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأثر ما نقل عن الصحابة والتابعين.
أقسام الخبر :
الخبر بمعناه الاصطلاحي ينقسم عند الجمهور قسمين: المتواتر والآحاد.
وعند الحنفية ثلاثة أقسام : المتواتر، والمشهور، والآحاد.
1 ـ تعريف المتواتر : هو ما رواه جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة وأسندوه إلى حس.
وهو نوعان :
أ ـ المتواتر اللفظي : وهو ما اتفق الرواة على لفظه ومعناه، مثل حديث : « من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار » فقد روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ستين صحابيا.
وقد اعتنى جماعة من العلماء بجمع الأحاديث التي رأوا أنها بلغت حد التوتر. وهي قليلة إذا قيست بما جعلوه من الآحاد.
ب ـ المتواتر المعنوي : وهو ما اتفق الرواة على معناه دون لفظه حتى أصبح المعنى مقطوعا به وإن كان اللفظ لم يبلغ درجه القطع. ومثاله الأحاديث الواردة في المسح على الخفين؛ فإن معناها المشترك بينها وهو (مشروعية المسح على الخفين) متواتر، وإن كانت ألفاظها غير متواترة.
2 ـ الآحاد : وهو ما رواه واحد أو أكثر ولم يبلغوا حد التواتر. وأغلب الأحاديث من هذا القسم.
3 ـ المشهور عند الحنفية : هو ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم واحد أو اثنان ثم تواتر في عصر التابعين أو تابعي التابعين. ومثلوه بحديث عمر بن الخطاب ـ ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى » متفق عليه.
وتقسيم الخبر إلى متواتر وآحاد، أو إلى متواتر ومشهور وآحاد، يكاد يجمع عليه علماء الأصول وعلماء الحديث، ولكنهم لم يتفقوا على تحديد دقيق للعدد الذين تعد روايتهم تواترا والذين تعد روايتهم آحادا، فكل ما ذكروه من تحديد لم يقم عليه دليل صحيح.
وهذا قد حدا ببعضهم إلى أن يعرِّفوا المتواتر بأنه : ما أفاد العلم واليقين، والآحاد ما أفاد الظن، مع أن الناس يختلفون في العدد الذي يفيد اليقين فمنهم من يقطع بما رواه له عدد يسير، ومنهم المولع بالشك الذي لا يتيقن بالخبر وإن رواه عدد كثير، ومنهم المطلع على الأخبار العالم بأحوال الرواة الخبير بألفاظ النبوة الذي ربما قطع بصحة الحديث الذي رواه اثنان أو ثلاثة، ومنهم من ليس كذلك.
ومع اختلاف الناس في ذلك، لكنهم لا يختلفون فيما رواه عدد كثير يفوق الحصر أنه متواتر، ولكن مثل هذا لا وجود له في الأحاديث النبوية، ولهذا نجدهم يمثلون له بالخبر بوجود مكة والمدينة ونحو ذلك مما لا يتصور فيه الخلاف.
والذين عرّفوه بأنه ما أفاد القطع، لا بد أن يعترفوا أن الخبر قد يتواتر عند شخص ولا يتواتر عند غيره، فقد يقطع شخص بصدقه ولا يقطع الآخر، وحينئذ لا يمكن أن نرتب على هذا التقسيم تكفير المخالف للخبر إذا قال إن الحديث لم يتواتر عندي ولم أقطع بصحته عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا قد دعا بعض العلماء إلى إنكار التقسيم من أساسه، وعدم التعويل عليه، وعدم التفريق بين ما سماه المحدثون متواترا وما سموه آحادا متى صح سنده، وقالوا : العبرة بصحة الخبر، فمتى صح وجب العمل به قطعا.
وينقسم الخبر من حيث صحته إلى ثلاثة أقسام: صحيح، وحسن، وضعيف:
1 ـ الصحيح :
وهو ما رواه عدل تام الضبط عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسَلِم من الشذوذ والعلة القادحة.
ومعنى قولهم : (عدل)، أي: مرضي في دينه وخلقه، وهو المواظب على الواجبات المجتنب للكبائر وما يخل بالمروءة من الصغائر.
وقولهم : (تام الضبط)، أي: أنه يغلب عليه حفظ ما سمعه من الحديث وعدم مخالفة الثقات في ذلك.
وقولهم : (عن مثله)، أي: أن رجال السند لا بد أن يكونوا كذلك من لدن الراوي الذي نقل لنا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقولهم : (وسلم من الشذوذ والعلة القادحة):
الشذوذ : هو مخالفة الراوي للثقات الأثبات.
والعلة القادحة : وصف خفي يوجب رد الحديث. وهذا لم يضبطه المحدثون بضابط محدد، وإنما ذكروا أمثلة للأحاديث المعلة كما فعل الترمذي في علل الحديث، وفعله غيره من علماء الحديث.
ويصرح كبار النقاد من المحدثين بأن نقد الحديث صناعة لا يتقنها إلا أهلها، ويدل على ذلك القصة المنقولة عن أبي حاتم الرازي حين أعل بعض الأحاديث، فقال له السائل : تدعي علم الغيب؟ قال : ما هذا ادعاء علم الغيب، قال : فما الدليل على ما تقول؟ قال : سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم، فذهب السائل إلى أبي زرعة فسأله فوجد جوابه مطابقا لجواب أبي حاتم، ثم رجع إلى أبي حاتم وقال : ما أعجب هذا! تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما ( ).
وأما الأصوليون فقد ذكروا صفات يُرَدّ لها خبر الآحاد عند بعض العلماء، وهذا من قبيل إعلال الحديث بعلة قادحة عند من رد الحديث لأجلها، ومن ذلك أن الحنفية قالوا إذا انفرد الراوي برواية ما تعم به البلوى فلا يقبل حديثه، ومثلوا له بحديث : الوضوء من مس الذكر، وحديث : إيجاب الوضوء من أكل لحم الإبل.
وقالوا هم وغيرهم إذا انفرد بما تتوافر الدواعي على نقله من العدد الكثير لا تقبل روايته، وإذا خالف خبر الآحاد النص الصريح من القرآن لا يقبل، ومثلوا للأول بما يحتج به الشيعة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم عهد لعلي بن أبي طالب بالخلافة بعده، وللثاني بما رواه عمر وابنه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» متفق عليه. فإن عائشة رضي الله عنها ردت الحديث لمعارضته لقوله تعالى: { } [فاطر18]، وقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يُبكى عليها، فقال : « إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها » (أخرجه مسلم، ونحوه في البخاري) وجمهور العلماء لم يتركوا الحديث بل تأولوه بما لا يتعارض مع الآية، وهو مراد عائشة رضي الله عنها.
2 ـ الحسن :
وقد اختلف المحدثون في تعريفه، فأدخله بعضهم في الصحيح، ومن أوضح ما قيل في تعريفه أنه : ما نقله عدل خفيف الضبط بسند متصل من غير شذوذ ولا علة قادحة ( ). فيكون الفرق بينه وبين الصحيح في قوة الضبط وخفته.
3 ـ الضعيف :
وهو ما لم يجمع صفات الصحيح أو الحسن.
وهناك تقسيمات أخرى عند المحدثين لا نطيل بذكرها.
شروط الراوي الذي تقبل روايته :
يشترط في الراوي عدة شروط بعضها محل وفاق وبعضها محل خلاف، وأهمها ما يلي:
1 ـ الإسلام :
والدليل على اشتراطه أن الله أوجب التوقف في خبر الفاسق فالكافر أولى بذلك، قال تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الحجرات6]. كما أن الكافر متهم بالإضرار بالدين والكذب عليه فلا يقبل قوله فيه.
وهذا الشرط محل وفاق، ولكن المراد اشتراط هذا الشرط عند الأداء لا عند التحمل، أي أن الكافر لو سمع حديثا من الرسول صلى الله عليه وسلم حال كفره ثم رواه بعد إسلامه قبل منه.
2 ـ البلوغ :
والدليل على اشتراطه أن الصبي مرفوع عنه التكليف وهو آمن من العقوبة على الكذب فلا يبعد أن يكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 ـ العدالة :
وهي صفة راسخة في النفس تحمل المتصف بها على ملازمة التقوى وترك الكبائر، وما يخل بالمروءة من الصغائر ( )، ويعنون بما يخل بالمروءة الأعمال الخسيسة التي لا تناسب مكارم الأخلاق، كالغش في التوافه.
والدليل على اشتراطها قوله تعالى : { } [الحجرات6]؛ حيث أوجب التوقف في خبر الفاسق وعدم الحكم به حتى يروى من طريق آخر رواته عدول. ولأن الفاسق متهم بالكذب فلا يقبل قوله.
4 ـ الضبط :
وهو الحفظ لما يسمعه أو يراه، وقلة الخطأ فيه.
والدليل على اشتراطه أن من كثر منه الغلط فيما ينقله ويرويه لا يغلب على الظن صدقه، ومن لا يغلب على الظن صدقه لا يقبل خبره في الدين.
حجية السنة :
السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، ولا يختلف المسلمون في حجية السنة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا فالأخبار المتواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم حجة باتفاق المسلمين.
وأما أخبار الآحاد فقد خالف فيها بعض المتكلمين، فقال بعضهم إنها ليست حجة، وقال بعضهم يشترط في حجية خبر الآحاد أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنان ويرويه عن كل واحد منهما اثنان حتى يصل إلينا.
وهذه المذاهب لم يعتنقها ـ والحمد لله ـ أحد من الأئمة المتبوعين، بل جميعهم اعتدوا بأخبار الآحاد إذا صحت واحتجوا بها.
ومما استدلوا به على حجية أخبار الآحاد ما يلي :
1ـ قوله تعالى: { } [التوبة122].
وجه الدلالة : أن الطائفة في اللغة تطلق على الواحد وعلى العدد القليل والكثير، وقد أوجب الله عليهم أن ينذروا قومهم، ولولا أن نذارتهم مقبولة لما كان لإيجاب النذراة عليهم فائدة.
2ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله وأمراءه وقضاته وسعاته المأمورين بجمع الزكاة، وهم آحاد فلو لم يجب قبول خبرهم عنه لما أرسلهم، ولما حصل المقصود بإرسالهم.
3 ـ إجماع الصحابة على قبول خبر الواحد والعمل به، ويدل على إجماعهم قضايا ووقائع لا يمكن تكذيبها مجتمعة، ومن ذلك :
ـ أن أبا بكر ورث الجدة السدس بعد أن ردها، وقال : ما علمت لك في كتاب الله حقا، ولا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئا فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الصحابة فشهد المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، وشهد معه محمد بن مسلمة فأعطاها أبو بكر السدس (أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه).
ـ وعمر ورث المرأة من دية زوجها لما روي له أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها (رواه الترمذي وصححه)، وكان لا يرى ذلك قبل سماع الحديث.
ـ ومن ذلك ما روي عن عمر ـ ـ من استدلاله بالحديث الذي رواه عبد الرحمن بن عوف في دخول البلد الذي وقع فيها الطاعون (أخرجه مسلم)، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.
4ـ إجماع العلماء على أن المستفتي مأمور بقبول قول المفتي وهو واحد، وإجماعهم على أن القاضي يجب عليه القضاء بشهادة عدلين مع أن خبرهما يحتمل الكذب.
والذين اشترطوا لقبول خبر الآحاد أن يرويه اثنان عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرويه عن كل واحد منهما اثنان إلى أن يصل إلينا احتجوا بما يلي :
1ـ قياس الرواية على الشهادة.
2ـ ما روي عن عمر أنه طالب أبا موسى الأشعري بمن يشهد معه حينما روى له حديث الاستئذان ولم يقبله حتى شهد له أبو سعيد الخدري (متفق عليه)، وأبو بكر لم يقبل خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى شهد معه محمد بن مسلمة كما تقدم.
وأما الذين أنكروا الاحتجاج بما ليس بمتواتر فأهم ما احتجوا به ما يلي :
1ـ قوله تعالى : { } [الإسراء36]. قالوا وخبر الآحاد لا يفيد العلم فلا يجوز اتباعه.
2ـ ما روي عن بعض الصحابة من ردهم لبعض الأخبار كرد عائشة لخبر عمر وابنه في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، ورد ابن عباس خبر أبي هريرة في الميت: « من حمله فليتوضأ » (أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه) وقال : لا يلزمنا الوضوء من حمل عيدان يابسة.
والجواب عن أدلة المشترطين للقبول رواية اثنين كما يلي :
قياسهم الرواية على الشهادة لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق، فالرواية خبر عام في الدين والشهادة إلزام لشخص بعينه فيتهم الشاهد الواحد بقصد الإضرار بالشخص المعين ولا يتهم الراوي المسلم العدل بالإضرار بالأمة عموما.
وشهادة العبد مردودة عند الجمهور وروايته مقبولة باتفاق. وشهادة المرأة مردودة في بعض الوقائع وروايتها مقبولة باتفاق.
وأما استدلالهم بما روي عن بعض الصحابة من طلب من يشهد للراوي الواحد فيجاب عنه بأنهم طلبوا ذلك لزيادة التثبت ولإشعار الناس بعظم الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يتجرأ عليها كل أحد. وفي هذا يقول عمر رضي الله عنه لأبي موسى : « أما أني لم أتهمك ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد » (أخرجه أبو داود)، وأبو بكر قد يكون طلب من يشهد للمغيرة لأن الله لم يذكر للجدة شيئا حين ذكر أصحاب الفروض فلا بد من زيادة التثبت لتوريثها.
ومما يدل على أنهم لم يردوا خبر الواحد أنهم قبلوا أخبار الآحاد من غير أن تكون من رواية اثنين فأكثر، فقبل أبو بكر خبر : « إنّا معاشر الأنبياء لا نورث » (أخرجه النسائي بهذا اللفظ ومعناه في الصحيحين)، وقبل عمر حديث عبد الرحمن بن عوف في المجوس : « سنوا بهم سنة أهل الكتاب » (رواه مالك والشافعي والبيهقي، وهو معلول، ولكن قال البيهقي : إجماع أكثر المسلمين عليه يؤكده) وقبل خبر توريث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، وخبره في الحكم إذا نزل الطاعون بأرض، وخبر دية الجنين (أخرجه مسلم)، ونحو ذلك.
ثم إن خبر الاثنين كخبر الواحد لا يرتقي إلى درجة التواتر باتفاق المقسمين للخبر.
وأما الذين منعوا الاستدلال بخبر الآحاد مطلقا فيجاب عن أدلتهم كما يلي:
1ـ الآية دلت على النهي عن اقتفاء ما لا نعلم وجوب اتباعه؛ وخبر الآحاد قد أجمع الصحابة والتابعون على وجوب اتباعه، فالعلم بوجوب العمل به حاصل.
أو يقال إن العلم المذكور في الآية ليس المراد به العلم اليقيني الذي لا يحتمل النقيض، بل هو ما يغلب على الظن، وهذا المعنى هو الذي يقصد بالعلم في القرآن كما قال تعالى : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، فإن العلم في هذه الآية لا يمكن أن يحمل على ما لا يحتمل النقيض.
2ـ وأما ما ذكروه عن بعض الصحابة من رد لأخبار الآحاد، فالثابت منه لم يكن الرد فيه لكونه خبر آحاد، بل لكونه معارضا لأدلة قطعية أقوى منه، فعائشة ردت خبر تعذيب الميت بآية : { } [النجم38]. ولهذا فإن الذين قبلوه تأولوه على معنى لا يخالف هذه الآية. وكذلك ما روي عن ابن عباس من رده لخبر أبي هريرة ، له فيه عذر آخر غير كونه خبر آحاد، ولذا لم يحتج في رده بكونه خبر واحد، والذين قبلوا خبر أبي هريرة في الأمر بالوضوء من حمل الجنازة، منهم من حمله على الاستحباب، ومنهم من حمله على الوضوء قبل حمله حتى يكون على طهارة عند الصلاة عليه، وهذا معنى لطيف، والحديث يحتمله.
منزلة السنة من القرآن :
السنة بالنسبة للقرآن على ثلاثة أنواع :
أ ـ سنة مبينة للقرآن، كالسنة التي تخصص القرآن أو تبين مجمله، مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من صفة الصلاة وصفة الحج، فهذا بيان لما في القرآن من الأمر بالصلاة والحج.
ب ـ سنة مؤكدة لما في القرآن من غير زيادة، كقوله صلى الله عليه وسلم : « اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم » الحديث، فهذا موافق لقوله تعالى : { ـ ـ } [النساء19]. وكذلك الأحاديث الواردة في تحريم القتل وأكل المال بالباطل مؤكدة لما ورد في القرآن من ذلك.
ج ـ سنة زائدة على ما في القرآن : وهي السنة التي جاءت بأحكام زائدة على ما في القرآن، مثل السنة الواردة في ميراث الجدة وميراث الأخوات مع البنات: « اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة » وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها.
وهذه الأنواع ذكرها الإمام الشافعي في الرسالة وتبعه عليها أكثر العلماء.
وقد أنكر الشاطبي وجود النوع الثالث، وقال إنه راجع إلى النوع الأول.
شروط الحنفية لقبول خبر الواحد :
اشترط أكثر علماء الحنفية لقبول خبر الآحاد الذي لم يبلغ درجة الشهرة عندهم شروطا خالفهم فيها جمهور العلماء، وفيما يلي نذكر هذه الشروط، ودليل اشتراطها، ورأي جمهور العلماء فيها :
1ـ أن لا يكون الخبر فيما تعم به البلوى، ومرادهم بما تعم به البلوى ما يحتاج إليه أكثر الناس حاجة متأكدة متكررة، فإذا كان الحكم الذي تضمنه خبر الواحد مما يحتاج أكثر الناس إلى بيانه لكثرة وقوعهم في سببه وتكرر حدوثه فلا بد أن ينقله عدد كبير يحصل بنقلهم العلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد أن يبين حكمه لعموم الناس، ولا يكتفي ببيانه لواحد أو اثنين.
ومثلوا هذا بخبر بسرة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من مس ذكره فليتوضأ » (أخرجه مالك وأحمد والترمذي والنسائي) وخبر جابر في الأمر بالوضوء من لحم الإبل، (رواه مسلم) قالوا ليس من المعقول أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان نقض الوضوء بمس الذكر لعموم الناس مع أن أكثرهم لا يلبس السراويل مما يجعل إفضاءه بيده إلى ذكره كثير الحدوث، ثم كيف تختص بسماع هذا الحديث امرأة مع أن المقصود به في المقام الأول الرجال؟.
وفي الحديث الثاني قالوا : إن عادة أكل لحوم الإبل منتشرة في عهد الصحابة، فلو كان أكل لحم الإبل ناقضا للوضوء لتكرر من الرسول صلى الله عليه وسلم التنبيه عليه وإبلاغه إلى عامة الناس، ولو فعل لم يقتصر نقله على واحد أو اثنين من الصحابة.
وجمهور العلماء يقولون إذا صح الحديث وجب قبوله والعمل به، سواء أكان مما تعم به البلوى أم لا، ونقل الحديث من واحد أو اثنين لا يدل على أن البقية لم يسمعوه ولم يعلموا به؛ لأن الصحابة كان أكثرهم يتحرج من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كفاه غيره رواية الحديث سلم من العهدة.
وبعض العلماء حملوا هذين الحديثين وما جرى مجراهما على الندب دون الوجوب، وهم مطالبون ببيان الصارف للأمر عن الوجوب ولا حجة لهم سوى ما ذكره الحنفية.
2ـ عدم مخالفة الخبر للأصول والقواعد الثابتة في الشريعة، وقد يعبر عنه بعضهم بعدم مخالفة الأصول أو عدم مخالفة القياس، ولا يعنون بالقياس معناه الضيق بل ما تقرر من قواعد الشريعة ودلت عليه أصولها وفروعها.
ومثلوا لمخالف القياس بحديث المصراة الوارد في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تُصَرُّوا الأبلَ والغنمَ، فمن ابتاعها فهو بخيرِ النظَرَينِ بعد أن يحتلبَها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر » .
ووجه مخالفة هذا الخبر للأصول : أن قواعد الشرع تقضي بأن ضمان المتلفات يكون بالمثل أو بالقيمة، وفي الحديث ضمان لبن المصراة بصاع من تمر، والصاع ليس مثلا للبن ولا مساويا لقيمته، فهو مخالف لقواعد الشرع.
وحجة الجمهور أن الخبر إذا خالف غيره من الأصول صار أصلا بنفسه، فيجمع بينه وبين غيره بحمل كل من الأحاديث على معناه.
3ـ أن يكون الراوي فقيها، وهذا الشرط ذكره بعضهم مطلقا، وقال بعضهم إنما يشترط هذا إذا كان الحديث مخالفا للقياس ( ).
والصحيح قبول خبر العدل سواء كان فقيها أو غيره إذا لم يعارض بما هو أقوى منه.
والدليل على ذلك أن الأدلة الدالة على قبول خبر الواحد لم تشترط الفقه في الراوي.
4ـ أن لا يعمل الراوي من الصحابة بخلاف روايته، فإن عمل بخلاف ما رواه لم يقبل حديثه، ومثلوه بخبر أبي هريرة مرفوعا: « إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا » مع أن أبا هريرة كان يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا، وعللوا هذا بأن الراوي عدْل فإذا خالف ما روى دل على نسخه؛ إذ لو تركه مع عدم نسخه لكان ذلك قادحا في عدالته.
والجمهور قالوا إن العبرة بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا بما يفعله الصحابي، فالصحابي ليس معصوما من الخطأ والنسيان، فقد يكون ترك العمل به نسيانا أو تقصيراً.
أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم
سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تنقسم ثلاثة أقسام كما تقدم :
1ـ السنة القولية 2ـ السنة الفعلية 3ـ السنة التقريرية.
فالقولية سيأتي الكلام عنها في دلالات الألفاظ، وأما الفعلية فقد خصها بعض العلماء بتأليف مستقل، ومن أفضل ما كتب في أفعال الرسول كتاب أبي شامة المقدسي واسمه : « المحقَّق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول ». وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم على أنواع، لكل واحد منها دلالته، ويمكن اختصارها على النحو التالي :
1 ـ الأفعال الجبلية :
وهي التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى بشريته مما يحتاجه البشر عادة من حركة أو سكون أو نوم أو أكل أو شرب، مثل ما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقة مشيه وأكله القثاء بالرطب ولبسه الجبة الشامية ونحو ذلك.
فهذا النوع يفيد الإباحة عند الجمهور ولا يتعلق به أمر ولا نهي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله من غير قصد إلى القربة به، ومن غير قصد إلى اختصاصه دون غيره في الغالب، بل فعله لكونه الأرفق به، فليفعل كل مكلف ما يناسبه.
وقال بعض العلماء إنه يفيد الاستحباب استدلالا بما روي عن ابن عمر أنه كان يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة فكان ابن عمر رضي الله عنهما يتعاهدها فيصب في أصلها الماء لئلا تيبس. نقله نافع مولى ابن عمر، ونقل عنه أيضا أنه كان يتوخى سلوك طريق النبي صلى الله عليه وسلم في حجه ويقول لعل قدما أن تواطئ قدما.
2 ـ الأفعال التي قام الدليل على كونها خصوصية له صلى الله عليه وسلم :
كزواجه بأكثر من أربع مجتمعات، فهذا لا خلاف في عدم جواز التأسي به فيه، وأما ما ثبت وجوبه عليه وحده دون الأمة فالاقتداء به فيه مندوب كقيام الليل والأضحية ونحو ذلك.
3 ـ ما فعله بيانا لمجمل أو امتثالا للأمر الوارد في الكتاب أو في السنة القولية:
كصلاته وصيامه وحجه بعد نزول الآيات الواردة في ذلك، وبعد قوله صلى الله عليه وسلم: « صلوا كما رأيتموني أصلي » (أخرجه البخاري)، وقوله : « لتأخذوا عني مناسككم » (أخرجه مسلم).
فهذا النوع لا خلاف في أنه لا يخرج عن الوجوب أو الندب، وحكمه حكم المبين، فما كان بيانا لواجب فهو واجب وما كان بيانا لمستحب فهو مستحب، هكذا نص أكثر الأصوليين ( ). وفيه نظر؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين لنا الصلاة بفعله وليس كل ما فعله في الصلاة فرضا مع أن الصلاة فرض.
والأولى أن يقال : إن الأفعال التي تدخل في حقيقة الصلاة وواظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتركها ورواها كل من نقل صفة صلاته تعد واجبة كالركوع والسجود والجلوس بين السجدتين، وأما الأفعال التي ثبت أنه تركها أحيانا أو ترك ذكرها بعض من نقل صفة صلاته كتحريك أصبعه السبابة، وكذا ما لا يعلم إلا بالسؤال عنه من الأذكار الخفية فلا ترقى إلى الوجوب بل تكون مستحبة إلا أن يقترن بالفعل قول يدل على الوجوب.
4ـ الفعل المبتدأ المطلق الذي ليس امتثالا ولا بيانا ولا هو من الخواص ولا أفعال العادة الجبلية فهذا على ثلاثة أضرب :
أ ـ أن يكون معلوم الصفة من وجوب أو ندب أو إباحة، وهذا يحمل على صفته ولا يحتمل خلافا. وإنما تعلم صفته بالقرائن أو اتفاق السلف على حكمه، مثل الاعتكاف فهو مستحب عند جميع الفقهاء، مع أنه لم يثبت فيه إلا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
ب ـ أن يكون غير معلوم الصفة ولم يظهر فيه قصد القربة، فهذا يحمل على الإباحة؛ لأن الأصل عدم التعبد، وقيل على الندب مثل الترجل والتكحل.
ج ـ أن يكون غير معلوم الصفة (الحكم) ولكن ظهر فيه قصد القربة، وهذا فيه خلاف قوي بين العلماء على أقوال :
القول الأول : الوجوب : وهو قول الأكثر، فهو محكي عن الإمام مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، واختاره أكثر أصحابه واختاره ابن السمعاني وقال هو أشبه بمذهب الشافعي، وهو مذهب أكثر المعتزلة ( ).
واستدل لهذا القول بأدلة منها :
1ـ قوله تعالى: { } [الأعراف158].
ووجه الدلالة : أن الأمر في قوله: { } يحمل على الوجوب؛ لأنه الأصل في الأمر.
2ـ قوله تعالى : { } [النور63]. وفعله من أمره.
3ـ قوله تعالى : { } [آل عمران31]. ومحبة الله واجبة فما ترتب عليها كذلك.
4ـ ما رواه أبو سعيد الخدري من أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعله في الصلاة فخلعوا نعالهم. أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم. ووجه الدلالة من الحديث أن الصحابة فهموا وجوب المتابعة في الفعل المجرد.
القول الثاني: الندب : وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد وحكي عن الشافعي.
واستدل لهذا بأن القربات التي يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم لا تخرج عن الوجوب والندب، وأقل درجاتها الندب، وما زاد عليه يحتاج إلى دليل.
القول الثالث : لا يفيد الوجوب ولا الندب بمفرده بل يحمل على الإباحة، وهو مذهب الكرخي واختاره السرخسي، وقال ابن عبد الشكور : «هو الصحيح عند أكثر الحنفية » ( ). وهؤلاء يستدلون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بالتبليغ، والتبليغ لا يكون إلا باللفظ، فالفعل يحتمل الوجوب والندب والإباحة فنجزم بالمتيقن وهو الإباحة وما زاد على ذلك لا بد من دليل آخر عليه.
القول الرابع : الوقف، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو الخطاب، ويبدو أن سببه تعارض الأدلة.
والراجح هو القول الثاني، وهو حمله على الندب.
وما ذكره أصحاب القول بالوجوب لا دلالة فيه؛ فالأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أمر مطلق فلا يدل على اتباعه في كل فعل، وامتثال المطلق يتحقق بالاتباع فيما عرفنا أنه واجب. وفعل الصحابة لا دليل فيه على أنهم اعتقدوا الوجوب، بل يحتمل أنهم فعلوه على الندب، وقوله تعالى: { } [النور63] ظاهره المخالفة فيما أمر به أمر إيجاب، وكلامنا في الفعل المجرد عن الأمر.
وأما حديث أبي سعيد فهو دليل على عدم الوجوب لمجرد الفعل؛ حيث سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب خلع نعالهم سؤال إنكار، ولو كان فعله يقتضي الوجوب لما أنكر عليهم.
وأما القائلون بحمله على الإباحة فيرد عليهم بأن ما يغلب على الظن كونه قربة لا يمكن حمله على الإباحة، وقولهم إن الرسول مأمور بالبلاغ يجاب بأن المندوب يكفي في تبليغه فعل الرسول إياه، بخلاف الواجب.
وأما الوقف فمرده لتعارض الأدلة، وقد بينت رجحانَ أدلة القول الثاني.
وقد حمل بعض العلماء القول بالوجوب على أن المراد بالوجوب وجوب التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، فما فعله الرسول على جهة الوجوب عليه فهو واجب على غيره، وما فعله على جهة الاستحباب فهو مستحب لغيره، وهذا تأويل حسن يتفق مع صنيع الفقهاء في تفريعاتهم.
الدليل الثالث
الإجـمــــاع
تعريفه :
الإجماع في اللغة : العزم المؤكد، يقال : أجمع أن يفعل كذا أي عزم عليه.
وفي الاصطلاح : اتفاق مجتهدي الأمة الإسلامية في عصر من العصور على حكم شرعي.
ويزيد بعضهم قيدا في التعريف فيقول : « بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم » وهذا القيد معروف لدى الجميع وهو غير داخل في حقيقة الإجماع ولكنه بيان للوقت الذي يكون فيه الإجماع المعتد به.
ومحترزات التعريف واضحة.
تصور وقوع الإجماع :
اختلف العلماء في إمكان حصول الإجماع على ثلاثة أقوال :
1 ـ أنه ممكن الوقوع مطلقا في عهد الصحابة وبعدهم، وهو مذهب الجمهور.
وحجتهم : أنه ليس بمحال في ذاته ولا يترتب على فرض وقوعه محال، وهذا حد الممكن، وزادوا على ذلك أنه لا يشترط أن يتكلم الجميع بالحكم الشرعي بل يكفي أن يتكلم به بعضهم ويسكت الباقون وهذا غير ممتنع. ثم زادوا على ذلك بضرب أمثلة للإجماع كإجماع الصحابة على جمع القرآن في مصحف واحد، والوقوع دليل الإمكان وزيادة.
2 ـ وقال بعضهم هو غير ممكن؛ لأن بلاد الإسلام واسعة وعلماء الشريعة متباعدون في الأمصار، وهم إلى جانب ذلك مختلفون في الطباع والقرائح والفهوم، فالعادة تقضي بامتناع إجماعهم كما تقضي بامتناع اتفاق الناس في ساعة معينة على أكل طعام واحد. وقد لخص إمام الحرمين شبههم في ثلاث شبهات :
الأولى : تعذر عرض مسألة واحدة على الكافة.
والثانية : عسر اتفاقهم والحكم مظنون.
والثالثة : تعذر النقل تواتراً عنهم ( ).
3 ـ وقال بعض العلماء هو ممكن في عصرالصحابة دون من بعدهم من العصور؛ لأن العلماء بعد عصر الصحابة تفرقوا في الأمصار تفرقا شديدا يصعب معه معرفة أقوالهم في المسألة.
4 ـ التفصيل على النحو التالي : إن كانت المسألة من كليات الدين ووجدت الدواعي للنظر فيها فالإجماع عليها ممكن وإلا فلا، وهو اختيار إمام الحرمين في البرهان.
والذي يظهر أن مراد الفريق الأول وهم الجمهور الرد على من أنكر إمكان الإجماع مطلقا فيكفي فيه التسليم بإمكانه ولو مع القيود التي ذكرها إمام الحرمين.
وفي العصر الحاضر لا يمتنع أن يجتمع المجتهدون من علماء المسلمين ويتفقوا على حكم واحد وإن لم يكن في المسألة دليل قاطع، وذلك لتوافر وسائل الاتصال.
أنواع الإجماع :
ينقسم الإجماع باعتبارات متعددة أهمها :
أ ـ أقسامه من جهة تصريح المجتهدين بالحكم، وله من هذه الجهة ثلاثة أقسام:
1ـ الإجماع الصريح: وهو ما صرح فيه أهل الإجماع بالحكم، وهذا نادر الوجود بل لو قيل بانعدامه لكان أولى، لكن لا يخرج عن الإمكان ولا يقال بامتناعه.
2ـ الإجماع السكوتي: وهو أن يصرح بعض المجتهدين بالحكم ويشتهر قوله ويسكت الباقون عن إنكاره.
3ـ الإجماع الضمني: وهو المستنتج من اختلاف أهل العصر على قولين أو أكثر، فيدل ذلك على اتفاقهم على أن ما خرج عن تلك الأقوال باطل.
ب ـ تقسيمه من حيث قوة دلالته :
وله بهذا الاعتبار قسمان :
1ـ قطعي، وهو ما تحقق فيه شرطان وهما : التصريح بالحكم من أهل الإجماع، ونقله إلينا بطريق قطعي.
2ـ ظني، وهو ما اختل فيه أحد هذين الشرطين.
حجية الإجماع :
1ـ ذهب جماهير العلماء إلى أن الإجماع حجة مطلقا.
واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
أ ـ قوله تعالى : { } [النساء115].
وجه الاستدلال أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بجهنم، ولا يتوعد بها إلا على فعل محرم، فدل ذلك على أن ترك سبيل المؤمنين محرم واتباعه واجب.
ب ـ قوله تعالى : { } [البقرة143].
وجه الاستدلال : أن الله جعل الأمة شهداء على غيرهم من الأمم، وهذا يدل على قبول قولهم إذا اتفقوا؛ لأن الشاهد قوله مقبول، والشهادة تشمل الشهادة على أعمال الناس وأحكامها.
ج ـ قوله تعالى : { } [النساء59].
وجه الاستدلال : أن الآية تدل بطريق مفهوم المخالفة على أن ما اتفقوا عليه ولم يتنازعوا فيه حق؛ لأنها نصت على رد المتنازع فيه إلى الله والرسول، ففهم من ذلك أن المتفق عليه حق.
د ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها » وفي لفظ : « إن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدا، وإن يد الله مع الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذ شذ في النار » (أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه والطبراني بألفاظ مختلفة، وهو مشهور المتن وله شواهد كثيرة. انظر : المقاصد الحسنة ص 460، وكشف الخفاء 2/488).
وجه الاستدلال : أن الله عصم الأمة إذا اجتمعت من الخطأ والضلالة، فثبت أن ما اجتمعت عليه الأمة صواب، والمعتبر قوله في أمور الشرع هم العلماء المجتهدون دون غيرهم فيكون إجماعهم معصوما من الخطأ، وهذا شرف عظيم لهذه الأمة ليس لغيرها من الأمم.
2ـ وذهب بعض العلماء إلى أن الحجة في إجماع الصحابة وحدهم وهو رواية عن الإمام أحمد، ومذهب الظاهرية ( ).
واحتجوا بأن ما يحكى من إجماعات بعد عهد الصحابة غير صحيح؛ إذ لا يمكن جمع آرائهم في مسألة واحدة مع تفرقهم في الأمصار، ولذا نقل عن الإمام أحمد أنه قال : « من ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا » ( ).
3ـ وذهب النظام وطوائف من الرافضة إلى أن الإجماع ليس حجة. فأما النظام فحجته عدم تصور وقوعه، ولو تصور لم يتصور نقله إلينا بطريق صحيح متواتر، والآحاد لا يعتبر عنده. وأما الروافض فلأن الحجة عندهم في قول الإمام المعصوم دون غيره فإن كان في عصر الأئمة المعروفين لم يعتبر قول غيره، وبعدهم لا حجة في قول أحد حتى يأتي الإمام المعصوم الذي يزعمون أنه اختفى في سرداب وأنه الإمام المنتظر.
وإذا أطلق أحد منهم حجية الإجماع في عصر الصحابة أو التابعين وتابعيهم فهو من باب التعمية على الناس؛ لأن العلماء إذا وافقوا إمامهم فالحجة عندهم في قوله وبقية العلماء تبع، وإن خالفوه فلا إجماع والحجة في قوله وحده ( ).
فأما قول منكري الحجية مطلقا فظاهر البطلان؛ لأنهم عولوا على عدم إمكانه وقد بينا أنه ممكن في القديم والحديث، واحتجوا بعدم إمكان نقله متواترا، وعند الجمهور لا يشترط التواتر لنقله بل يكفي فيه خبر الآحاد.
ثم لو اشترط فهو ممكن كما تواتر نقل اتفاق النصارى على صلب المسيح وهو باطل فكيف لا يمكن نقل الاتفاق على الحق. ولكن إذا نظرنا إلى واقع الإجماعات المنقولة في كتب أهل العلم نجد أن أكثرها غير صحيح وإنما اعتمد ناقله على أنه لم يعلم مخالفا في هذه المسألة أو اكتفى بالمنقول عن الأئمة الأربعة، أو اكتفى بنقل واحد لم ينقل عن معاصريه بل عمن لم يعاصرهم، مما يدل على أنه معتمد على الشهرة بين أهل العلم، وربما اعتمد في نقل الإجماع على قيام الدليل القاطع الذي لا يمكن أن يخالفه أحد من العلماء. ولا شك أن هذا الطريق في نقل الإجماع لا يورث القطع بل غايته الظن بعدم وجود مخالف.
وأما من اعتمد في نقل الإجماع على قيام الدليل القاطع فإن الحجة حينئذ تكون في الدليل القاطع، والإجماع فائدته دفع ما يتوهم من التأويل. ولا يقال بناء على هذا تكون فائدة الإجماع ضعيفة؛ لأننا نقول بل الإجماع دليل مهم فكثير من آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لو جردنا النظر إليها عما فهمه منها الصحابة والتابعون لما قطعنا بمقتضاها، ولأمكن حملها على احتمالات كثيرة، ولكن لما عرفنا اتفاق الصحابة والتابعين ومن بعدهم على تفسيرها لم يجز لنا أن نتأولها على خلافه.
فهذه الأدلة لو خلت عن الإجماع لكانت ظنية، لكنها معه صارت قطعية. مثال ذلك : أن قوله تعالى : { } [النساء12]. لو لم يتفق الصحابة على أن المراد بالأخ والأخت هنا الإخوة لأم لكانت معارضة لآية : { } [النساء176].
وهذه فائدة عظيمة.
ومن فوائده : قطع النزاع في المسائل المستجدة، فإذا اتفق علماء العصر على حكمها لم يكن لأحد خلافهم، ولكن ينبغي أن لا تترك الأدلة الصحيحة لدعوى الإجماع، وأن لا تقبل دعوى الإجماع إلا ممن له إحاطة بأقوال العلماء واطلاع على صحيحها وضعيفها، ومشهورها وشاذها.
حجية الإجماع السكوتي :
اختلف العلماء في الإجماع السكوتي الذي عرف بتصريح بعض العلماء وسكوت الباقين، هل يعد حجة؟
فذهب الجمهور إلى حجيته، واستدلوا بما يلي :
1ـ أن سكوت العالم عن فتوى غيره يدل على موافقته إياه؛ إذ لو كان يعتقد بطلان تلك الفتوى لما سكت عن الإنكار؛ لأن السكوت عن إنكار الباطل محرم لا يقدم عليه العلماء المجتهدون.
2ـ ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : « لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ». فالحديث يدل على أنه لا يمكن أن تخلو الأمة من قائم لله بالحجة وتكون بين مخطئ للحق وساكت عن الإنكار؛ إذ لو كانوا كذلك لم يتحقق ما في الحديث من الوعد ببقاء طائفة من الأمة ظاهرة على الحق؛ لأن ظهورها يقتضي إظهار ما هي عليه من الحق.
وذهب الإمام الشافعي إلى أنه لا يمكن أن ينعقد إجماع مع سكوت بعض العلماء، بل لا بد من تصريح الكل. واستدل على ذلك بأنه لا ينسب إلى ساكت قول، وبأن العالم قد يسكت مع عدم موافقته لأسباب كثيرة منها :
أ ـ أن يغلب على ظنه أن غيره قد كفاه مؤنة الإنكار على الفتوى.
ب ـ أن يسكت خوفا من سلطان أو نحوه.
ج ـ أن يسكت لكونه لم ينظر في المسألة بعد، أو لتعارض الأدلة عنده.
وذهب بعضهم إلى أنه يعد حجة ولكن ليس بإجماع. وهذا القول راجع إلى القول بالحجية؛ إذ إن مراد هذا القائل والله أعلم أن الإجماع السكوتي حجة ظنية بخلاف الإجماع الصريح فهو حجة قطعية، ولذلك لا ينبغي أن يعد هذا قولا جديدا في المسألة.
وذهب بعضهم إلى أنه إن كان الذي تكلم في حكم المسألة حاكما فلا يكون سكوت الباقين دليلا على اتفاقهم، وإلا كان دليلا، وهو رأي ابن أبي هريرة من الشافعية، واستدل بأن العادة جارية بعدم الاعتراض على حكم الحاكم وإن كان غيره من العلماء لا يوافقونه، وأنه من عادة العلماء حضور مجالس الحكم وعدم الاعتراض على حكم القاضي وإن كان على خلاف مذهب الحاضرين، وهذه العادة لم تعهد في الفتاوى والآراء الصادرة من غير القضاة فوجب التفريق بينها على النحو السابق.
والراجح : أن الإجماع السكوتي حجة، ولكنه حجة ظنية ليست في درجة الإجماع الصريح.
وما استدل به الإمام الشافعي من أنه « لا ينسب إلى ساكت قول » يجاب عنه بأن السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان، والعالم يلزمه أن ينكر المنكر، فإذا سكت عن الإنكار دل سكوته على موافقته على الفتوى.
وما ذكر من الاحتمالات التي يمكن أن يحمل عليها سكوته كلها احتمالات ضعيفة؛ إذ لو تحقق بعضها لقامت عليه قرائن تدل عليه، ولما سكت عن الإنكار إلى وفاته، ثم إن عادة العلماء الجهر بالحق وعدم الخوف من سلطان أو غيره، وإذا سكت العالم عن الإنكار علانية فلن يسكت عن بيان الحق لطلابه وخاصته وناقلي فقهه، وأما سكوته لعدم نظره في المسألة فلا ينافي الإجماع؛ لأنه حينئذ لا قول له في المسألة.
وينبغي أن نعلم أننا لو اشترطنا تصريح كل عالم بالموافقة على الحكم لما أمكن أن نجد مسألة نقل إلينا فيها قول جميع المجتهدين، وكل ما نقله العلماء الذين ينقلون الإجماع هو من قبيل الإجماع السكوتي، فليتأمل.
وأما الإجماع الضمني، فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه حجة، وهو مذهب أكثر الأصوليين، واستدلوا على ذلك بأن إحداث قول ثالث لا يخلو من أمرين : أحدهما أن يكون هذا القول المحدث خطأ وحينئذ لا يعتد به. والثاني أن يكون هذا القول صوابا فيكون القولان أو الأقوال التي ذهب إليها أهل العصر السابق كلها خطأ فتخلو الأمة في عصرهم عن قائم لله بالحجة، وهذا مستحيل دل على استحالته أدلة حجية الإجماع، فتبين أن كلا الاحتمالين باطل فيكون إحداث قول جديد باطلا.
القول الثاني : أنه ليس بحجة ولا إجماع، واستدلوا على ذلك بأن الإجماع لا يمكن أن يؤخذ من الخلاف، وأصحاب العصر السابق قد اختلفوا فكيف يستدل باختلافهم على الإجماع. وأيضا فإن أصحاب القرن السابق قد اختلفوا في المسألة، فيستدل باختلافهم على أن المسألة خلافية، وأن الخلاف فيها سائغ، وإذا ساغ الخلاف فيها فلا مانع من إحداث قول جديد.
القول الثالث : التفصيل، فإن كانت أقوال المختلفين بينها قدر مشترك والقول المحدث يرفع ما اتفقت عليه فهو باطل، وإن لم يرفع ما اتفقت عليه الأقوال فهو اجتهاد سائغ.
ومثلوا للقول الذي يرفع ما اتفقت عليه الأقوال السابقة بأن الصحابة اختلفوا في ميراث الجد والإخوة فقال بعضهم : يشَرّك بينهم، وقال الآخرون الميراث للجد، والإخوة محجوبون، والقدر المشترك بين القولين أن الجد لا يمكن أن يحرم من الإرث حينئذ، فلو قال المتأخر : الميراث للإخوة والجد يحجب بهم لكان قوله باطلا مخالفا للإجماع.
ومثلوا للقول المحدث الذي لا يرفع ما اتفق عليه القولان السابقان بما إذا اختلف المتقدمون في العيوب هل يفسخ بها النكاح، فقال بعضهم : لا يفسخ النكاح بالعيوب، وقال بعضهم يفسخ بها، فلو ذهب ذاهب بعد عصرهم إلى أن بعض العيوب يفسخ بها دون بعض لما كان قوله مخالفا للإجماع.
وكذلك مثلوه بالخلاف في متروك التسمية، فلو اختلفوا على قولين : أحدهما بتحريمه والآخر بحله، ثم جاء المتأخر وفرق بين متروك التسمية عمدا ومتروك التسمية سهوا؛ فحرم الأول دون الآخر، لما عد قوله مخالفا للإجماع.
والذي يظهر لي أن قول القائلين إن اختلافهم على قولين إجماع على المنع من إحداث قول ثالث ليس بأولى من قول الآخرين : اختلافهم على قولين تسويغ للخلاف في المسألة وإقرار لكونها اجتهادية لا قطعية، ولهذا فلا يعد اختلافهم على قولين إجماعا على المنع من إحداث قول جديد، والمسائل التي اختلف فيها السابقون على قولين وفصل فيها المتأخرون أكثر من أن تحصى. والعصمة إنما ثبتت للأمة بشرط الاتفاق، أما مع الاختلاف فلم تثبت لهم العصمة، بل ربما أخطأ كل منهم في بعض ما قال وأصاب في بعضه الآخر فلا يمتنع أن يكون القول بالتفصيل هو الصواب.
والأحاديث التي استدل بها من جعل إحداث القول الثالث مخالفا للإجماع، كحديث: « لا تزال طائفة من أمتي على الحق » وما في معناه، لا دليل فيها على الدعوى؛ لأن المراد بالحديث ليس العصمة من الخطأ في كل مسألة وإن صغرت، وإنما المراد بقاء طائفة من المسلمين على الدين الحق، ووقوع الخطأ منهم في مسألة جزئية لا ينفي كونهم على الحق؛ إذ لو لزم من الخطأ مجانبتهم الحق لما سلم من ذلك أحد، ولو سلمنا أن هذا مراد الحديث فإن خطأ الطوائف التي نقلت أقوالهم في هذه المسألة لا يمنع وجود طائفة قالت بالقول الحق فيها وإن لم يصل إلينا قولهم، ثم إن الحديث ليس فيه أنهم يعلنون قولهم، بل فيه أنهم على الحق، أي : في عملهم وسيرتهم.
أهل الإجماع (الذين ينعقد بهم الإجماع) :
يعتد في الإجماع بالعلماء المجتهدين بغض النظر عن سنهم وطبقتهم وبلادهم، فلا ينعقد الإجماع إلا باتفاق علماء العصر المجتهدين وقت النظر في النازلة.
والدليل على ذلك : أن الآية التي هي مستند الإجماع تدل على أن اللوم يحصل بترك سبيل المؤمنين، وإذا اختلف المؤمنون لم يصح أن يسمى ما قاله الأكثر سبيل المؤمنين، بل سبيل بعض المؤمنين. ولو أخذ بظاهر الآية لاعتد بالعوام، ولكن لما كان العوام مأمورين باتباع العلماء لقوله تعالى : { } [النحل43]. أصبح المعتد بقولهم العلماء المجتهدين.
وينبني على ما تقدم أن التابعي إذا بلغ درجة الاجتهاد في حياة الصحابة، يعتد بقوله في المسائل التي لم يقم عليها إجماع قبل بلوغه درجة الاجتهاد، فلو خالف التابعي المعاصرين له من الصحابة لم يعد مخالفا للإجماع إذ لا إجماع حينئذ.
وينبني على ذلك أيضا أن من حصَّل بعض العلوم التي لا بد منها لبلوغ درجة الاجتهاد دون بعضها لا يعتد بقوله، فالمحدث الذي لا يعرف أصول الفقه وقواعده، والفقيه الحافظ للفروع الذي لا يعرف أحاديث الأحكام، والأصولي الذي لا يعرف أدلة الأحكام لا يعتد بقولهم في الإجماع، لكن الأصولي القادر على الاستنباط إذا عرف أدلة المسألة وأحاط بأكثرها اعتد بقوله فيها، والمحدث إذا عرف اللغة وأصول الفقه اعتد بقوله، والفقيه إذا عرف أصول الفقه واللغة وأدلة المسألة موضع البحث اعتد بقوله فيها. وهذا مبني على أن الاجتهاد يتجزأ فيكون العالم مجتهدا في بعض أبواب الفقه ومسائله دون غيرها. كما سيأتي في باب الاجتهاد.
وهذا يجعلنا نجهل أهل الاجتهاد في كل مسألة، فلا نجزم بحصول الإجماع فيها، مع وجود مخالف وإن لم نره من أهل الاجتهاد، فالإجماع مع وجود مخالف لا يمكن الاحتجاج به على الغير؛ لأن الخصم ربما عد المخالف من أهل الاجتهاد فلا يتحقق الإجماع عنده.
هل يشترط لتحقق الإجماع انقراض العصر :
المراد بانقراض العصر موت العلماء المجمعين على حكم الواقعة قبل رجوعهم عن رأيهم. وليس المراد موت جميع علماء العصر، بل موت الذين أفتوا في المسألة.
هذا الأمر اشترطه بعض العلماء واحتجوا عليه بأن العالم لا يمكن منعه من الرجوع عن رأي رآه ثم تبين له خطؤه، وبأن علي بن أبي طالب قال : «اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، وأنا الآن أرى بيعهن» (أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي بسند صحيح) فرجع عن رأي اتفق عليه.
والصحيح أن انقراض العصر ليس شرطا؛ لأن الأمة إذا اتفقت على حكم فهي معصومة من الخطأ؛ لحديث : « لا تجتمع أمتي على ضلالة » وما جاء في معناه من الأحاديث، فإذا حصل الإجماع وجب أن يكون على صواب وإذا كان صوابا فما عداه خطأ؛ لأن الصواب لا يتعدد.
وجواز رجوع العالم إنما هو في المسائل التي لم يحصل فيها إجماع.
وما روي عن علي لا دليل فيه؛ لأنه حكى اتفاقه مع عمر وحده ولم يحك اتفاق المسلمين جميعا، ومع هذا فقد أنكر عليه جابر بن زيد، وقال : رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك، أو قال : من رأيك في الفرقة.
ومما يؤيد القول بعدم اشتراط انقراض العصر أنه لو اشترط هذا الشرط لما تحقق إجماع أبدا؛ لأنه قبل أن ينقرض أهل العصر يبلغ درجة الاجتهاد علماء آخرون من الطبقة التي تليهم ومن حقهم أن يفتوا في تلك المسألة بخلاف ما اتفق عليه من سبقهم إذ لم ينعقد الإجماع بعد، فإن أفتوا بموافقتهم من قبلهم أصبحوا من أهل الإجماع فلا ينعقد حتى يموتوا ثم يأتي في عصرهم علماء من الطبقة الثالثة فيجوز لهم أن يخالفوا في تلك المسألة أو يوافقوا، وهكذا فلا يتحقق الإجماع أبدا.
والمشترطون للانقراض يقولون إنه ممكن؛ لأن العبرة بموت المجمعين من الطبقة الأولى قبل وجود المخالف من الطبقة الثانية أو الثالثة، ولا يشترط موت من لحق بهم من الطبقة الثانية أو الثالثة. وهذا لا دليل عليه إذ كيف يجعل موت فلان من الناس دليلا على التحريم أو الإباحة أو غيرهما من الأحكام؟.
الإجماعات الخاصة :
يذكر الأصوليون خلافا في الاحتجاج بإجماع طائفة معينة من العلماء كإجماع أهل البيت الذي يحتج به الرافضة، وإجماع الخلفاء الأربعة، وإجماع أبي بكر وعمر، وإجماع أهل المدينة، وإجماع أهل البصرة، ونحو ذلك.
والراجح عند الجمهور أن هذه الإجماعات لا حجة فيها؛ لأن الأدلة الدالة على حجية الإجماع إنما دلت على حجية إجماع الأمة إذا اتفقت، وتأولوا الأحاديث الواردة في الأمر باتباع الخلفاء الراشدين واتباع أبي بكر وعمر على أنها تدل على لزوم طريقتهم في سياسة الدولة وتصريف شؤونها، أو لزوم طريقتهم في الاستدلال بالكتاب والسنة وما دلا عليه.
وأشهر ما وقع فيه الخلاف من تلك الإجماعات إجماع أهل المدينة أو عمل أهل المدينة، وكلام أكثر الأصوليين عنه مجمل يحتاج إلى تفصيل وبيان، فأقول :
عمل أهل المدينة :
عمل أهل المدينة ليس المقصود به عملهم في جميع الأعصار، بل في عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين فحسب، وقد جعله القاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي على ضربين : نقلي واستدلالي.
والنقلي كنقلهم الصاع والمد والأذان والأوقات وترك أخذ الزكاة من الخضروات، وهذا حجة عند جمهور العلماء، وقال أبو العباس القرطبي إنه لا ينبغي الخلاف فيه.
وأما الاستدلالي فهو ما ذهبوا إليه بطريق الاجتهاد، وهذا هو محل الخلاف بين المالكية وغيرهم، بل قال القاضي عبد الوهاب إن المالكية مختلفون فيه على ثلاثة أوجه هي :
1ـ أنه ليس بحجة ولا مرجح، وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني والأبهري وأبي الفرج وغيرهم.
2ـ أنه مرجح عند التعارض ولا يستدل به منفردا.
3ـ أنه حجة ( ).
والذين رأوا حجيته من المالكية ونسبوه لإمامهم، أخذوه مما عرف عن الإمام مالك أنه كان يروي الخبر ثم يترك العمل به ويقول : « وليس على هذا العمل عندنا » يعني في المدينة كما فعل في خيار المجلس.
ويشكل على هذا النقل أن الإمام مالكا رحمه الله ذكر في الموطأ في باب العيب في الرقيق إجماع أهل المدينة على أن البيع بشرط البراءة لا يجوز ولا يبرأ من العيب لو اشترطه، ثم خالفهم، ولعل هذا هو ما جعل بعض علماء المالكية ينكرون احتجاج مالك بإجماع أهل المدينة إلا فيما سبيله النقل.
وأظهر ما يستدل به للقول بحجية إجماع أهل المدينة : أن المدينة قد ضمت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناءهم وأبناء أبنائهم، وأن ما اتفقوا عليه لا بد أن يكون ظاهرا معلوما في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون حجة. وكذلك ما تركوه مع قيام الداعي إليه لا يتركونه إلا بحجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الاستدلال بالأحاديث الواردة في فضل المدينة وفضل الأنصار ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأهلها فلا دلالة فيها على حجية إجماعهم أو عملهم.
واستدل الجمهور على عدم الحجية بأن أدلة الإجماع ما خصت أهل المدينة بل عمت الأمة.
انعقاد الإجماع بعد الخلاف :
إذا اختلف أهل العصر الواحد في مسألة على قولين فأكثر، ثم رجع بعضهم عن قوله واتفقوا، هل يعد هذا إجماعا؟:
الصحيح عند الأكثر أنه إجماع، وقال ابن الباقلاني والقاضي عبد الوهاب المالكي لا يكون إجماعا؛ لأن اختلافهم أولا إجماع على تسويغ الخلاف، فلا ينقضه رجوع بعضهم عن رأيه.
وقال الجويني : إن قرب العهد كان اتفاقهم بعد الاختلاف إجماعا، وأما إن تمادى الزمان واستقر الخلاف فليس اتفاقهم بعد ذلك إجماعا.
والصحيح: أنه يعد إجماعا؛ لأنه قول كل المجتهدين في هذا العصر، والقول الذي رجع عنه صاحبه لا عبرة به.
وأما إذا اختلف أهل العصر السابق على قولين ثم اتفق الذين بعدهم على قول من القولين كما لو اختلف الصحابة على قولين ثم اتفق التابعون على أحدهما، فاختلف العلماء في ذلك هل يعد إجماعا؟ :
فذهب بعضهم إلى أنه إجماع؛ لأنه قول كل أهل العصر الثاني.
وذهب بعضهم إلى أنه ليس إجماعا؛ لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها فيبقى جواز تقليدهم فيها بعد موتهم.
والصحيح : أن هذا لا يعد إجماعا؛ لأن متبع القول الذي مات قائله لا يصدق عليه أنه اتبع غير سبيل المؤمنين، والمعتمد في الاستدلال هو الآية المذكورة سابقا، ولأن الأمة لم تجتمع على حكم واحد في تلك المسألة بل اختلفوا فلا يصدق على هذه الصورة حديث : « لا تجتمع أمتي على ضلالة ».
وأما حديث : « لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين » فالمقصود بالحديث ليس مسائل الفروع الاجتهادية، وإنما المقصود بقاء طائفة من الأمة على الدين الحق. ولو سلم أنه يعم كل مسائل الخلاف فإن المتبع لصاحب القول السابق المخالف لما أجمع عليه علماء العصر قد يكون هو الذي على الحق وإن كان مقلدا، والحديث ليس فيه إلا بقاء طائفة على الحق فلا يشترط أن تكون تلك الطائفة من المجتهدين.
مخالفة الواحد والاثنين هل تنقض الإجماع؟:
الجمهور على أن الإجماع لا يتحقق إلا باتفاق كل المجتهدين من أهل العصر، وأن مخالفة واحد أو أكثر تخرم الإجماع؛ لأن الأدلة الدالة على الحجية وعصمة الأمة تدل على ذلك.
وقال ابن جرير الطبري : إن مخالفة الواحد والاثنين لا تخرم الإجماع؛ لحديث : « عليكم بالسواد الأعظم ».
وما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون قول الأكثر من المرجحات عند تعادل الأدلة في نظر المجتهد، كما أنه من المرجحات عند العامي ومن يلحق به من صغار طلاب العلم، ولهذا فلا يستنكر على العالم تهيبه من مخالفة مذهب جماهير العلماء إلا إذا وجد نصا صريحا واضحا على خلاف قولهم، ومن النادر جدا أن يوجد دليل صحيح صريح يخالفه جمهور العلماء.
حكم المخالف للإجماع :
يكثر في كلام العلماء تكفير مخالف الإجماع أو تفسيقه، ولكن ذلك إنما يحمل على الإجماع الصريح المنقول بطريق التواتر والقطع، وقد قلنا فيما مضى إن هذا النوع من الإجماع غير موجود إلا على مسائل دلت عليها نصوص قطعية، وحينئذ يكون تكفير المخالف أو تفسيقه لمخالفة تلك النصوص لا لمخالفة الإجماع وحده.
وأما ما عدا ذلك من الإجماعات فهي لا تعدو أن تكون أدلة ظنية لا يمكن دعوى تكفير المخالف لها أو تفسيقه، وبخاصة حين يكون معه دليل من عموم كتاب أو سنة.
والتكفير والتفسيق من الأمور التي يجب أن لا يتعجل فيها المفتي؛ إذ لا يستحقها إلا من أنكر ما علم من الدين بالضرورة، وقامت عليه الحجة، وانقطع عذره، كما هو معلوم في موضعه.
الدليل الرابع
القياس
تعريفه :
القياس في اللغة : التقدير، يقال : قاس الطبيب الجرح، إذا قدر عمقه، وقاس البزاز القماش إذا قدره بالمتر. ويطلق على المساواة بين شيئين، كما يقال: فلان لا يقاس بفلان، أي : لا يساوى به.
وفي الاصطلاح : نجد أن للأصوليين اتجاهين رئيسين في تعريفه :
الأول : جعل القياس اسما لفعل المجتهد الذي ينظر في المسألة غير المنصوص على حكمها ليلحقها بالمنصوص عليها.
الثاني : جعل القياس اسما للتساوي الواقع بين المسألتين، سواء تفطن له المجتهد فاستدل به على حكم غير المنصوص أم لم يتفطن له.
وعلى هذا يمكن أن نعرفه بناء على الاتجاه الأول بأنه : إلحاق فرع بأصل في الحكم الشرعي الثابت له لاشتراكهما في علة الحكم.
ومثله التعبير بلفظ : حمل فرع على أصل في حكم...الخ. وكذا قولهم: حمل معلوم على معلوم... الخ.
وأما على الاتجاه الثاني فيمكن أن يعرف بأنه : مساواة فرع لأصل في حكم شرعي لاشتراكهما في علة الحكم.
وكل من هذين التعريفين لم يسلم من الاعتراض، ولكن لما كان المقصود بالتعريف تمييز المعرف عن غيره أمكن الاكتفاء بأي منهما.
والقياس ينقسم إلى قياس طرد وقياس عكس، ولكن العلماء حين يعرفونه إنما يعرفون قياس الطرد لأنه الأصل، أما قياس العكس فقل من يراعيه عند تعريف القياس؛ إما لأنه لا يرى حجيته، وإما لقلة وروده في كلام الفقهاء، وإما لاختلاف الحقيقتين وتعذر الجمع بينهما في تعريف واحد.
والمراد بالطرد هنا : ثبوت الحكم لثبوت الوصف المدعى عليته.
والعكس : انتفاء الحكم لانتفاء الوصف المدعى عليته.
وإذا نظرنا إلى تعريفات الأصوليين للقياس نجد أن غالبهم لا يلتفت إلى قياس العكس عند التعريف فلهذا يعبرون بلفظ إثبات أو إلحاق أو حمل أو مساواة، ويعبرون بلفظ : لاشتراكهما في العلة، أو لتساويهما في العلة، ومعلوم أن هذا إنما يصدق على قياس الطرد؛ إذ هو الذي يثبت به حكم للمسكوت عنه مساو لحكم المنطوق، لتساويهما في علة الحكم.
وما جرى عليه جمهرة الأصوليين من قصر التعريف على قياس الطرد دون قياس العكس هو الأولى؛ لاختلاف الحقيقتين وعدم إمكان الجمع بينهما في تعريف واحد. ولهذا فسنذكر التعريف المختار لقياس الطرد لأنه المقصود بالقياس عند الإطلاق. فأقول : أحسن ما يعرف به القياس أن يقال :
« هو إثبات مثل حكم الأصل للفرع لتساويهما في علة الحكم ».
شرح التعريف :
لشرح التعريف لا بدّ من معرفة معاني الكلمات الآتية : الحكم، الأصل، الفرع، العلة.
فالحكم سبق تعريفه، والمقصود به هنا : أي حكم من الأحكام الشرعية، كالوجوب والتحريم والندب.
الأصل : المقصود به هنا : المقيس عليه، أي : الصورة أو المسألة التي ثبت حكمها بنص أو إجماع، أو اتفق عليه الخصمان المتناظران.
الفرع : المقصود به هنا : المقيس، أي الصورة أو المسألة التي يراد إثبات حكمها بالقياس.
العلة : المراد بها هنا : المعنى الذي ثبت الحكم في المسألة المقيس عليها لأجله، سواء عرف ذلك بنص أو باجتهاد ونظر.
فمعنى التعريف : أن القياس هو تسوية المجتهد في الحكم بين مسألتين : إحداهما ثبت حكمها بنص أو إجماع أو اتفاق من المتناظرين، والأخرى محل خلاف، فيقوم المجتهد بإلحاقها بالأولى المتفق على حكمها لأجل اشتراك المسألتين في الوصف الذي يغلب على الظن أنه علة ثبوت الحكم في المسألة المقيس عليها.
مثاله : أن الخمر محرمة باتفاق المسلمين؛ للنصوص الكثيرة الواردة في تحريمها، والنبيذ الذي هو عصير الفواكه أو التمر أو الشعير ونحوه إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه، اختلف في تحريمه. فذهب جمهور العلماء إلى تحريمه قياسا على الخمر. فالخمر هي الأصل في هذا القياس، والنبيذ فرع، والعلة الجامعة بينهما الإسكار، فكل منهما مسكر، والحكم الذي ثبت للفرع هو التحريم.
وهذا المثال يذكره أكثر الأصوليين، مع أن تحريم النبيذ ثابت بقوله صلى الله عليه وسلم : «وكل مسكر خمر»، فالقياس هنا لا حاجة إليه إلا للاستدلال به على من لا يرى صحة الحديث.
مثال آخر : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « البر بالبر مثلا بمثل » الحديث، فقاس جمهور العلماء الذرة على البر، وحكموا بتحريم بيعها بجنسها مع التفاوت في المقدار، ولم يخالف في هذا إلا الظاهرية، فالأصل في هذا المثال البر، والفرع الذرة، والعلة الجامعة أن كلا منهما مكيل يمكن ضبط مقداره بالكيل، والحكم هو تحريم التفاضل إذا بيع بجنسه.
وبعض العلماء عللوا ذلك بالطعم فقالوا : البر مطعوم، والذرة كذلك، فالذرة تأخذ حكم البر.
وبعضهم علل بالاقتيات والادخار، فقال تقاس الذرة على البر ويثبت تحريم بيعها بجنسها مع التفاضل، والعلة الجامعة هي الاقتيات والادخار، فكل من البر والذرة يقتاته الناس ويدخرونه ولا يفسد بالادخار.
أركان القياس :
اتضحت أركان القياس من خلال التعريف والمثال، وتبين أن له أربعة أركان :
1 ـ الأصل، وهو المسألة المقيس عليها. هذا في الاصطلاح الأكثر استعمالا، ولكن قد يطلق الأصل على الدليل المثبت للحكم، وقد يطلق على الحكم نفسه.
2 ـ الفرع، وهو الصورة المقيسة، أو المراد إثبات حكمها بالقياس.
3 ـ الحكم، وهو حكم الشرع الذي ثبت في الأصل، سواء أكان تحريما أم وجوبا أم إباحة أم غير ذلك.
4 ـ العلة، وهي الوصف الذي يشترك فيه الأصل والفرع، ويغلب على الظن أنه مناط الحكم ومتعلقه.
وقد جريت على المشهور، مع أن الأولى أن نعبر بالوصف الجامع لا بالعلة؛ لأن الوصف الجامع أعم من العلة، فقد يكون علة وقد يكون وصفا شبهيا، وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام عن شروط العلة.
تعريف العلة :
العلة في اللغة : المرض، أو هي تغير المحل.
وفي الاصطلاح اختلف في تعريفها، وأحسن ما قيل في تعريف العلة، أنها : « وصف ظاهر منضبط دل الدليل على كونه مناطا للحكم ».
ومعنى قولهم: (وصف) أي: معنى من المعاني، ولهذا كثر في كلام الأصوليين والفقهاء إطلاق المعنى على العلة، بل إن المتقدمين لا يكادون يذكرون (العلة) بل (المعنى).
وقولهم : (ظاهر) : قيد يخرج الوصف الخفي الذي لا يطلع عليه إلا من قام به، مثل الرضى في البيع، فإنه لا يعلل به وإنما يعلل انعقاد البيع بقول الشخص بعت أو قبلت، فالنطق بالصيغة وصف ظاهر، ولهذا جعل هو العلة في انعقاد البيع.
قولهم : (منضبط)، الوصف المنضبط هو الذي لا يختلف باختلاف الأفراد ولا باختلاف الأزمنة والأمكنة.
ومثلوا لغير المنضبط بالمشقة إذا قيل : علة الفطر في السفر المشقة، فإن المشقة تختلف باختلاف الأفراد والأزمان والأمكنة.
ومثلوا للمنضبط بالسفر إذا عللنا جواز الفطر به.
وقولهم : (دل الدليل على كونه مناطا للحكم)، أي : قام دليل معتبر من الأدلة الدالة على العلة على أن هذا الوصف علة الحكم.
ومعنى قولهم : (مناطا للحكم) أي : متعلَّقا للحكم، بمعنى أن الحكم يعلق على هذا الوصف فيوجد بوجوده ويعدم بعدمه.
وهذا التعريف يصلح لجميع المذاهب مع اختلافهم في أثر العلة، وذلك أن العلماء اختلفوا في أثر العلة في الحكم على ثلاثة مذاهب :
1ـ مذهب المعتزلة : أن العلة لها أثر في ثبوت الحكم، فهي المثبتة للحكم، كما أن العلة العقلية هي المثبتة لحكمها، فكما نقول: التسويد علة لكون المحل أسود، والأكل علة للشبع، والشرب علة للري، نقول: اختلاف الوزن علة لتحريم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة مع التفاضل، وهكذا.
2 ـ مذهب الأشاعرة : أن العلة ليس لها أثر في وجود الحكم، وإنما هي علامة مجردة عليه، والحكم يسند لله وحده لا للعلل.
3 ـ المذهب الثالث : أن العلة لها أثر في الحكم، ولكن ليست مؤثرة بذاتها، بل الله جل وعلا هو الذي جعلها مؤثرة، وهذا القول هو اللائق بمذهب السلف؛ لأنه مقتضى نصوص القرآن والسنة، كقوله تعالى : { } [المائدة32] وقوله : { } [الحشر7] وقوله : { } [الزخرف55].
وهذا خلاف نقل إلى أصول الفقه من خلافهم في علم الكلام؛ فإن المعتزلة يثبتون الأسباب ويجعلونها مؤثرة بنفسها، أو يسندون التأثير إليها، والأشعرية ينكرون أثر الأسباب ويجعلون المؤثر هو الله وحده، والأسباب والعلل عندهم ليست إلا علامات على أن الله أراد وجود المسبب، فالمعتزلة يقولون : النار محرقة بذاتها، إلا إن أراد الله أن يسلبها هذه الخاصية فإنه على كل شيء قدير، والأشعرية يقولون : النار لا تكون محرقة إلا إذا أراد الله لها ذلك.
والقول الحق في ذلك هو الجمع بين القولين، فلا ننكر أثر الأسباب والسنن التي جعلها الله في الكون لعمارته وبقائه، وفي الوقت نفسه لا نقول إن ذلك يكون بغير إرادةالله وتدبيره، بل نقول : العلل والأسباب لها تأثير، ولكن تأثيرها ليس بذاتها، بل الله جل وعلا هو الذي جعلها كذلك، وبهذا لا نكون أثبتنا خالقا مع الله، بل الله خالق كل شيء فهو خالق الأسباب والمسببات.
ومذهب المعتزلة والماتريدية أقرب إلى مذهب السلف من مذهب الأشاعرة في هذه المسألة.
وقد بنى الأشاعرة مذهبهم في كون العلة مجرد علامة، على مذهب فاسد وهو عدم تعليل أفعال الله، وهذا يناقض كثيراً من نصوص القرآن والسنة، كقوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [المائدة32] وقوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ} [الحديد23] وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الحشر7].
وهو أيضا يناقض ما ذكروه في مواضع من باب القياس.
وقد نبه الرازي على تناقض الأشاعرة فقال: « وأما الفقهاء فإنهم يصرحون بأنه تعالى إنما شرع هذا الحكم لهذا المعنى، ولأجل هذه الحكمة، ولو سمعوا لفظ الغرض لكفّروا قائله مع أنه لا معنى لتلك اللام إلا الغرض » ( ).
شروط القياس
عرفنا أن أركان القياس أربعة، فينبغي أن نعرف شروط كل واحد من هذه الأركان.
أولا : شروط الأصل :
يذكر علماء الأصول القدماء والمحدثون للأصل شروطا كثيرة، وإذا تأملناها وجدناها شروطا لحكم الأصل، وإذا أردنا أن نذكرها تحت شروط الأصل فلا بد أن نسبقها بقولنا : أن يكون حكمه كذا...
وبعضهم يذكرها تحت شروط الحكم؛ لأن المراد بالحكم هنا الحكم الثابت في الأصل الذي يراد إثبات مثله في الفرع. ولهذا نقول : إن الأصل هو المقيس عليه، وشرطه : أن يكون له حكم شرعي ثابت بنص، أو إجماع، أو اتفاق الخصمين المتناظرين.
مثال ما له حكم ثابت بنص : بيع البر بالبر متفاضلا، ثبت تحريمه بحديث : « لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلا بمثل ». فيجوز أن يقاس عليه العدس.
ومثال ما له حكم ثابت بالإجماع : الأفيون والحشيس، يقاس عليه القات، فتحريم الحشيش ثابت بالإجماع فيقاس عليه القات.
ومثال ما له حكم اتفق عليه الخصمان وليس محل إجماع: قتل الحر بالمكاتب، اتفق الشافعية والحنفية على عدم قتل الحر بالمكاتب، وقاس الشافعية العبد على المكاتب، ورد الحنفية هذا القياس، مع أنهم يوافقون على حكم الأصل؛ لأنهم يخالفون في علته.
ثانيا : شروط الفرع :
1 ـ أن يكون غير منصوص على حكمه؛ لأنه إذا نص على حكمه أو دخل في عموم النص الدال على حكم الأصل فلا حاجة للقياس، هكذا قالوا، مع أنه لا مانع أن يتضافر على الحكم أكثر من دليل، فقد يكون الحكم دل عليه النص والقياس، والممنوع هو معارضة النص بالقياس.
2 ـ أن تكون علة الأصل موجودة فيه؛ لأن شرط تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع وجود العلة في الفرع.
3 ـ اشترط بعض العلماء في الفرع أن لا يكون متقدما على الأصل، فإن كان متقدما على الأصل لم يجز قياس المتقدم على المتأخر، ومثلوا ذلك بالوضوء مع التيمم، فإن مشروعية الوضوء سابقة لمشروعية التيمم فلا يقاس الوضوء على التيمم، وبذلك أبطلوا قياس الشافعية الوضوء على التيمم في إيجاب النية بجامع أن كلا منهما عبادة مشروعة.
ولا يخفى أن هذا الشرط لا يستقيم إلا في الأسماء الشرعية التي عرفت من قبل الشرع، أما في الأسماء اللغوية فلا يستقيم؛ إذ لا يعرف متى وضعت العرب هذا اللفظ لهذا المعنى. والراجح في هذا جواز قياس المتقدم على المتأخر؛ لأن القياس مظهر للحكم الشرعي وكاشف عنه وليس مثبتا له حتى نقول كيف يثبت حكم المتقدم بما هو متأخر عنه.
ثم إن إضافة شروط وقيود على حكم سابق ليس مستغربا في الشريعة، فلا يمتنع أن تكون النية ليست شرطا في الوضوء في أول الإسلام ثم اشترطت بعد نزول آية التيمم.
ثالثا : شروط الحكم :
المراد بالحكم هنا: الحكم الثابت في الأصل المقيس عليه، وله شروط أهمها:
1 ـ أن يكون حكما شرعيا عمليا، لا عقليا ولا لغويا؛ لأن الحكم العقلي لا يثبت بالقياس، واللغوي وإن أمكن ثبوته بالقياس لكنه ليس القياس الشرعي المصطلح عليه عند العلماء.
ومعنى قولهم عمليا : أي ليس من الأحكام الاعتقادية، كاعتقاد وجود الله واتصافه بصفات الكمال، وثبوت الجنة والنار والبعث والجزاء، فهذه أحكام عقدية لا مدخل للقياس في إثباتها، وإنما تثبت بالتوقيف.
2 ـ أن يكون باقيا غير منسوخ، فالحكم المنسوخ لا يجوز إثبات مثله في الفرع بطريق القياس.
وقول بعض العلماء : « الحكم المنسوخ لا يجوز القياس عليه » فيه تساهل في العبارة؛ فإن الحكم ليس مقيسا عليه، بل الأصل هو المقيس عليه، وهذا التعبير ناشئ من عدم الالتزام بالمصطلح، فالأصل يطلق على المقيس عليه، ويطلق على حكم الأصل، ولكن ينبغي أن يسير المؤلف على أحد هذه الإطلاقات ولا يعبر بهذا اللفظ مرة عن المعنى الأول ومرة عن المعنى الثاني، فيوقع القارئ في الحيرة.
ونقل عن بعض الحنفية أنهم أجازوا القياس على ما نسخ حكمه، ولكن ليس في إثبات الحكم المنسوخ نفسه للفرع، بل لإثبات بعض شروطه أو قيوده أو صفاته الأخرى، ومثلوه بقياس صيام رمضان على صيام عاشوراء في جواز صحته بنية من النهار قبل الزوال، وصيام عاشوراء كان واجبا ونسخ وجوبه برمضان، ومع ذلك قاسوا صوم رمضان الذي هو فرض على صيام عاشوراء ـ الذي كان فرضا ـ في صحته بنية من النهار.
وأنكر الجمهور هذا القياس، وتمسكوا بحديث : « لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل ».
3 ـ أن يكون ثابتا بنص أو إجماع أو اتفاق من الخصمين المتناظرين.
فإن كان ثابتا بنص فيجوز القياس عليه وإن خالف فيه من خالف، مثل قياس سؤر الخنزير على سؤر الكلب في النجاسة ووجوب غسله سبعا، وسؤر الكلب ثبت حكمه بحديث صحيح، وخالف فيه الإمام مالك وقال : إن الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب تعبدي لا لأجل نجاسته، وكذلك قياس الإجارة على البيع في ثبوت خيار المجلس وهو ثابت بنص صحيح، وخالف فيه الإمام مالك وخلافه في حكم المقيس عليه لا يمنع غيره من القياس عليه.
وإن كان ثابتا بالإجماع، فقال بعض العلماء : لا يقاس عليه ما لم يعرف مستند الإجماع؛ لأن القياس لا بد فيه من معرفة العلة، ولا تعرف إلا بمعرفة النص الوارد في حكم الأصل.
والصحيح : جواز القياس على ما ثبت بالإجماع؛ لأنه لا يمكن أن يثبت الإجماع إلا لنص صريح واضح أو لعلة معتبرة شرعا.
وأما إذا كان حكم الأصل متفقا عليه بين الخصمين، ولا يعرفان له دليلا من كتاب ولا سنة، فقيل يصح القياس على هذا الأصل بين الخصمين ليقنع أحدهما الآخر برأيه، كما يحصل بين المقلدين لمذهب واحد إذا عرفوا نص إمامهم في مسائل فأراد أحدهم أن يقيس على تلك المسائل فيمكنه ذلك لإقناع خصمه المتفق معه في حكم الأصل، وكذا بين مقلدي المذاهب المختلفة إذا اتفقت مذاهبهم على حكم الأصل المقيس عليه ولم يعرفوا دليله.
والصحيح : أن القياس نوع من الاجتهاد، ولا يجوز أن يشتغل به من لم يبلغ رتبة الاجتهاد، فالذي يعرف مذهب إمامه ولا يعرف دليله، ليس له أن يقيس على أصل لا يعرف دليله إلا أن يكون قياسا بنفي الفارق مما يشترك فيه جميع العقلاء.
وأما إذا كان حكم الأصل قد ثبت بالقياس واتفق الخصمان على ذلك الحكم وهما مجتهدان فهل يجوز لهما القياس عليه؟
اختلفوا في ذلك، والصحيح عدم جواز القياس على ما ثبت بالقياس؛ لأنه إذا عرف دليل الأصل في القياس الأول فينبغي أن يقيس عليه مباشرة بلا واسطة، وإن لم يعرف دليل الأصل في القياس الأول فلا يجوز القياس.
وأيضا فإن العلة التي لأجلها ثبت الحكم في الأصل في القياس الأول، إن كانت موجودة في الفرع في القياس الثاني، فينبغي أن يقاس هذا الفرع على الأصل الأول بلا واسطة، وإن لم تكن موجودة، فلا يصح القياس حينئذ.
وقد بنى الماوردي هذا الخلاف على اختلافهم في تعليل الحكم بعلتين، فمن أجازه أجاز القياس على ما ثبت حكمه بالقياس مع اختلاف العلة.
ومثاله : قياس الأرز على البر في تحريم التفاضل بعلة الكيل، ثم يقيس الموز على الأرز بعلة كونه نبتا لا ينقطع عنه الماء ( )، أو بعلة كونه مطعوما. فالعلة الأولى غير موجودة في البر، والثانية موجودة.
4 ـ أن يكون حكم الأصل معقول المعنى، أي : معروف العلة. فإن كان فيما لا يدخله التعليل فلا يجوز القياس حينئذ، ولهذا قال العلماء : الأحكام التعبدية لا يجري فيها القياس ( ).
ومثال ما ليس معقول المعنى : أن الصلاة فرض عند غروب الشمس فلا نقول إنها فرض عند طلوعها، وصلاة الجنازة على القبر جائزة فلا نقيس عليها صلاة النافلة.
رابعا : شروط العلة :
أكثر الأصوليين يعبرون عن الوصف الجامع بالعلة، ثم يذكرون من شروط العلة أن تكون وصفا مناسبا، وهذا لا يستقيم على قول من يرى جواز الاستدلال بقياس الشبه وقياس الدلالة؛ لأن الوصف الجامع في هذين القياسين هو الشبه في الأول ودليل العلة في الثاني، ولا يشترط لهما ظهور المناسبة، فالوصف الجامع الذي هو ركن من أركان القياس قد يكون علة، وقد يكون دليل العلة، وقد يكون وصفا شبهيا، كما سيأتي.
والشروط التي تشترك فيها هذه الثلاثة هي :
1 ـ أن يكون وصفا ظاهرا لا خفيا، مثل الإسكار علة لتحريم الخمر، وكون العبد لا يجبر على ابتداء النكاح يعلل به عدم إجباره على فسخه، وكون العبد يصح نكاحه يستدل به على صحة طلاقه وظهاره، وكون الوضوء قربة فيستدل به على اشتراط النية فيه.
2 ـ أن يكون الوصف منضبطا، أي : لا يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة اختلافا كبيرا.
فإن كان غير منضبط، فلا يصح التعليل به كالمشقة في الفطر في السفر، فإن الناس يختلفون في قدرة تحملهم، فمنهم من يشق عليه السفر وإن كان قصيرا، ومنهم من لا يشق عليه السفر، والشرع من مقاصده التساوي بين الناس في الحكم الشرعي، فلهذا جعل السفر مناط الحكم لأنه مظنة المشقة.
هكذا قال كثير من العلماء، والصواب أن المشقة علة للتخفيف، ولكن ليس كل ما فيه مشقة يكون علة للتخفيف، بل المشقة الخارجة عن المعتاد هي التي تصلح علة للتخفيف.
وأما التعليل لجواز الفطر للمسافر بالسفر فهو تعليل بعلة قاصرة على المحل لا تتعداه إلى غيره وهي قليلة الفائدة؛ إذ لا يبنى عليها قياس وإنما هي قصر للنص على محله.
ومع أن كثيرا من العلماء قالوا بقاعدة : المشقة تجلب التيسير، إلا أنهم لم يجعلوا الفطر في السفر مقصورا على من لحقته مشقة، بل عملوا بعموم النص الوارد في جواز الفطر للمسافر وإن كان منهم من حدد السفر المبيح للفطر بيوم وليلة أو بفراسخ محددة؛ لظنه أن ما دون ذلك لا توجد فيه مشقة.
ولم يقولوا : إن من لم يشق عليه السفر لا يجوز له الفطر والجمع والقصر، وذلك لعدم التجرؤ على مخالفة النص، فإن النص عام في كل مسافر فلم يقيدوه بالمشقة. ولا يختلفون في أن من شق عليه الصيام مشقة تفضي به إلى الهلاك أو الضرر الذي لا يتحمل، جاز له الفطر وإن كان مقيما في بيته، وهذه المشقة تختلف من شخص لآخر فما يشق على فلان من الناس ويلجئه إلى الفطر ربما لا يشق على غيره.
3 ـ أن يكون الوصف متعديا، أي : يوجد في غير الأصل كوجوده في الأصل، فإن كان الوصف المعلل به قاصرا، أي : لا يتعدى محل الأصل الذي ثبت حكمه بالنص فتسمى العلة القاصرة، وقد أنكر التعليل بها الحنفية وأثبتها الشافعية، والجميع متفقون على أن العلة القاصرة لا يبنى عليها قياس، فلا تكون ركنا من أركانه.
مثال التعليل بالعلة القاصرة : تعليل جواز الفطر في السفر بالسفر، فإن هذه علة قاصرة لا تتعدى إلى غير المنصوص عليه.
4 ـ ثبوت العلية قطعا أو ظنا، والوصف الجامع يثبت كونه علة بطرق بعضها محل وفاق وبعضها محل خلاف. وستأتي مفصلة إن شاء الله.
5 ـ الاطراد، والمراد به : وجود الحكم كلما وجد الوصف المدعى كونه علة.
وعكسه : الانتقاض، وهو وجود الوصف مع تخلف الحكم.
والنقض هو : إبداء صورة أو أكثر وجد فيها الوصف المدعى عليته، مع تخلف الحكم.
مثاله، لو علل القصاص بالقتل، فإن هذه العلة منتقضة؛ لأن القتل خطأ لا قصاص فيه باتفاق، ولأن القاتل يقتل ولا قصاص في قتله، الخ.
وأما إذا علل القصاص بالقتل عمدا عدوانا فإن هذه العلة مطردة غير منقوضة، فكل من قتل مسلما معصوما يستحق القتل.
واختلف في هذا الشرط، فذهب أكثر الأصوليين إلى أنه شرط لصحة العلة مطلقا، سواء أكانت منصوصة أم مستنبطة.
وذهب بعضهم إلى أنه شرط للعلة المستنبطة فقط.
والصحيح : أنه ليس بشرط لصحة العلة مطلقا؛ لأن العلة يكتفى فيها بالظن الغالب، وتخلف الحكم عن العلة في موضع لا يلغي الظن الغالب إذا شهد لهذا الظن شواهد أخرى، فإن تخلف الحكم في هذا الموضع قد يكون لفوات شرط من شروط العلة أو لوجود مانع، ولكن إذا اعترض على العلة بالنقض فلا بد للمستدل أن يبين سبب تخلف الحكم في هذا الموضع، فإن عجز عن بيان الفرق بين الصورة التي اعترض بها المعترض ومحل النزاع سقط استدلاله.
وهناك شروط أخرى مختلف فيها، وهي تذكر في كتب الأصول في مسائل خاصة، مثل مسألة التعليل بالحكم، أو التعليل بالاسم المجرد، أو عدم التركيب من أكثر من وصف، أو التعليل بالعدم، ونحو ذلك.
فهذه المسائل تشير إلى شروط مختلف فيها، اشترطها بعض العلماء في العلة فقال : يشترط أن تكون العلة وصفا وألا تكون اسما مجردا أو مركبة من أوصاف متعددة، أو عدمية (منفية).
وحيث إن الراجح عدم اشتراطها فنكتفي بضرب أمثلة للتعليل بتلك العلل المختلف في توافر شروط العلة فيها.
مثال التعليل بالحكم : قول الفقهاء في تكبيرة الإحرام : ركن من أركان الصلاة فلا يقوم غيرها مقامها كالركوع. فالعلة التي عللوا بها هي كون تكبيرة الإحرام ركنا في الصلاة، وهو حكم شرعي؛ إذ معنى الركن عندهم الفرض.
وتعليلهم عدم قضاء الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من طواف القدوم بكونه سنة فات محلها، وهو تعليل بعلة ذات وصفين : أحدهما حكم شرعي وهو قولهم سنة؛ إذ المقصود بالسنة هنا المندوب، ويدخل في هذا كثير مما يسمى بقياس الدلالة، كقولهم في الذمي : صح طلاقه فيصح ظهاره، فعلة صحة الظهار هنا هي صحة الطلاق. وكقولهم في المحرمات : حرم أكله فيحرم بيعه، أو حرم أخذه فحرم إعطاؤه، ونحو ذلك.
والصحيح من هذه الأقيسة يرجع إلى قياس الدلالة الذي يكون الجمع فيه بين الأصل والفرع بدليل العلة.
مثال التعليل بعلة مركبة من وصفين فأكثر : قولهم في علة القصاص : إنها القتل عمدا عدوانا، فهي مركبة من ثلاثة أوصاف، وفي علة قطع يد السارق : إنها سرقة نصاب من حرز مثله. وقولهم في قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية : طهارة حكمية فوجبت لها النية كالتيمم.
مثال التعليل بالاسم المجرد : قولهم في تعليل جواز التيمم بالجبس : تراب فيصح التيمم به كسائر ما يطلق عليه الاسم. وكقولهم في الرماد : ليس بتراب فلا يصح التيمم به، فهذا تعليل بنفي الاسم المجرد.
مثال التعليل بالوصف العدمي : قولهم : عدم الملك علة لوجود حرمة الانتفاع، وعدم الطهارة علة لبطلان الصلاة، ويدخل في هذا، التعليلُ بعدم الشرط.
والظاهر لي أن الوصف العدمي لا يصلح أن يكون علة في القياس لإثبات حكم وجودي، والذين استدلوا علىجواز تعليل الوجودي بالعدمي قصدوا التعليل المجرد الذي لا يرجع إلى قياس فرع على أصل.
وأما تعليل العدم بالعدم، والعدم بالوجود، فجائز بلا خلاف يعتد به.
مثال الأول : التعليل بعدم السبب، مثل : عدمت القرابة والنكاح والولاء فانعدم الإرث، ومثال الثاني : التعليل بوجود المانع، كقولهم : وجد الرق فانعدم الإرث، وليس من عادتهم أن يذكروه في القياس إلا نادرا.
طرق معرفة العلة
يتعرف المجتهد على العلة بعدة طرق، بعضها محل وفاق وبعضها محل خلاف، أهمها ما يلي:
1 ـ النص :
والمقصود به أن يرد بيان العلة في النص من قرآن أو سنة، وهو أقوى الطرق لمعرفة العلة.
والنص على العلة قسمان :
أ ـ نص صريح، مثل قوله تعالى : { } [المائدة32]. ومثل قوله صلى الله عليه وسلم : « إنما جعل الاستئذان من أجل البصر » (متفق عليه).
ب ـ النص غير الصريح، ويقصد به الظاهر في التعليل الذي يحتمل غيره.
ومن أمثلته قوله صلى الله عليه وسلم في الهرة : « إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات » (أخرجه الخمسة)، فقوله إنها من الطوافين، يفيد أن علة طهارتها كونها من الطوافين، وصعوبة التحرز منها فيلحق بها الفأرة ونحوها من سواكن البيوت.
2 ـ الإجماع :
الإجماع طريق صحيح من الطرق التي تعرف بها العلة عند جماهير العلماء، وقد استشكل ذلك بعضهم فقال : كيف يكون الإجماع على العلة دليلا على صحتها، مع أن المخالفين للقياس لا يقولون بالتعليل وهم بعض الأمة؟.
وقد أجاب عن ذلك إمام الحرمين فقال : الذي ذهب إليه ذوو التحقيق أنا لا نعد منكري القياس من علماء الأمة وحملة الشريعة؛ فإنهم مباهتون أولا على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواترا، ومن لم يزعه التواتر ولم يحتفل بمخالفته لم يوثق بقوله ومذهبه، وأيضا فإن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد، والنصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة، وهؤلاء ملتحقون بالعوام، وكيف يدعون مجتهدين ولا اجتهاد لهم؟ » ( ).
ومثال العلة المجمع عليها : الصغر علة للولاية على مال اليتيم، فيقاس عليه الولاية في النكاح. والتعدي على المال علة لوجوب الضمان على الغاصب، فيقاس عليه ضمان المسروق.
ولا يلزم من الإجماع على العلة الإجماع على كل قياس تكون ركنا فيه، فقد يتفقون على علة حكم الأصل ولكن يختلفون في وجودها في الفرع، أو في صحة قياس الفرع عليه؛ لوجود نص يخص الفرع، ونحو ذلك.
3 ـ الإيماء :
وهو في اللغة : الإشارة باليد أو بالرأس ونحو ذلك.
وفي الاصطلاح : فهم التعليل من لازم النص لا من وضعه للتعليل. وله أنواع يصعب حصرها، وأهمها :
أ ـ أن يرتب الحكم على الوصف بالفاء، مثل قوله تعالى : { } المائدة38]، وقوله : { } [النور2]، وقوله صلى الله عليه وسلم : « من أحيا أرضا ميتة فهي له »، وقد عد بعض العلماء هذا النوع من النص الظاهر على العلة ( ).
ب ـ أن يأتي الحكم جوابا على سؤال سائل، فيجعل ما في السؤال علة للحكم كما في سؤال الأعرابي الذي قال : هلكت يا رسول الله، قال : « ما أهلكك؟ » قال : وقعت على أهلي وأنا صائم، قال : « فهل تجد ما تعتق رقبة؟ » الحديث (متفق عليه) فما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم بعد سؤال السائل يدل على أن الحكم سببه المذكور في السؤال وهو الجماع من الصائم في رمضان.
ج ـ أن يعلق الشارع الحكم على وصف لو لم يجعل علة لما كانت له فائدة، وكلام الشارع يجب أن يصان عن العبث.
مثاله : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال : «أينقص الرطب إذا جف؟» قالوا : نعم، قال : « فلا إذن » (أخرجه مالك وأصحاب السنن) فقوله: « أينقص الرطب إذا جف »، إيماء إلى أن العلة في التحريم هي النقصان.
د ـ أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا مناسبا لأن يكون علة لذلك الحكم، كقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » (أخرجه الترمذي صححه وابن ماجه)، وقد ذكره بعضهم مثالا للنوع الثالث الوارد في فقرة ج.
هـ ـ ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الشرط والجزاء، كقوله تعالى : { * } [الطلاق2-3]. فالتقوى علة للخروج من المحن، وعلة للرزق.
4 ـ المناسبة والإخالة :
المناسبة في اللغة : المشاكلة، يقال : بينهما مناسبة أي مشاكلة، وبمعنى المشاركة في النسب، يقال : ناسبه إذا شاركه في نسبه، وبمعنى الملاءمة، يقال : هذا اللباس يناسب الشتاء، أي : يلائمه.
والإخالة : الظن، مأخوذة من قولهم خلت هذا الغلام ابني، أي : ظننته كذلك، أو من الخيال، وهو الظل.
وفي الاصطلاح : تعرف المناسبة بأنها : ملاءمة الوصف المعلل به للحكم الثابت في الأصل.
والإخالة : غلبة الظن بعلية الوصف.
والوصف المناسب هو : الوصف الظاهر الذي يحصل من ترتب الحكم عليه مصلحة أو تندفع به مفسدة.
وقيل : ما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول.
وقيل : الملائم لأفعال العقلاء في العادات ( ).
وقال ابن الحاجب : هو وصف ظاهر منضبط يحصل من ترتب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء من حصول مصلحة دينية أو دنيوية أو دفع مفسدة ( ).
وهذه التعريفات متقاربة المعنى.
5 ـ الدوران :
وهو في اللغة : مصدر دار يدور، وهو يعني : عدم الاستقرار.
وفي الاصطلاح : ثبوت الحكم عند وجود الوصف وانتفائه عند انتفائه.
مثاله : التحريم يوجد في الخمر عند وجود الإسكار ويرتفع عند تخلل الخمر وعدم كونها مسكرة، فيستدل به على أن السكر هو علة التحريم. ووجوب الزكاة مع تمام النصاب وعدمه مع عدمه، فيدل على أن علة الوجوب ملك النصاب.
والوصف يسمى الْمَدار، والحكم هو الدائر.
والدوران يسميه بعض الأصوليين بالطرد والعكس، أي : أنه مجموع الطرد والعكس، فالطرد هو الوجود مع الوجود، والعكس هو العدم مع العدم، والدوران هو مجموع ذلك.
وقد اختلف في إفادته العلية على أقوال، أهمها قولان :
القول الأول : أنه يفيد العلية، وهو رأي الأكثر، ومنهم من جعله مفيدا للعلية قطعا، وأكثرهم قالوا يفيدها ظنا، ومنهم إمام الحرمين ونقله عن القاضي.
وقال ابن السمعاني إليه ذهب كثير من أصحابنا. وقال القاضي أبو الطيب الطبري إن هذا المسلك من أقوى المسالك.
ودليلهم : أنا إذا رأينا شخصا يقوم عند دخول شخص ويجلس عند خروجه، وتكرر ذلك مرارا، كان ذلك دليلا على أن علة قيامه دخول ذلك الرجل، وإن كنا لا نجزم بذلك وقد نجزم به إذا تكرر مرارا كثيرة أو حفت به قرائن أخرى.
قالوا : كذلك إذا وجدنا حكما يدور مع وصف ما فيوجد بوجوده ويعدم بعدمه، يصح أن نستدل بذلك على علِّية الوصف وكونه مدار الحكم.
والقول الثاني : عدم إفادة الدوران العلية، وهو مذهب كثير من الأصوليين وهو اختيار ابن السمعاني والغزالي وأبي إسحاق، ونقله ابن برهان عن القاضي الباقلاني، مع أن إمام الحرمين نقل عنه المذهب الأول. واختار هذا القول الآمدي.
دليله : أن الاطراد وحده ليس دليلا على العلة، والانعكاس ليس معتبرا في العلل الشرعية، فمجموعهما لا يكون دليلا على العلة.
وهذا باطل؛ لأن كون الاطراد وحده لا يصلح دليلا على العلة، والانعكاس وحده كذلك، لا يدل على أنهما إذا اجتمعا لا يصلحان دليلا على العلة، كما أن العلة المركبة من أوصاف إذا أخذنا كل واحد من الأوصاف وحده لا يصلح علة، وإذا اجتمعت صلحت علة، مثل قولنا : علة القصاص القتل عمدا عدوانا، وكل واحد من الأوصاف بمفرده لا يصلح علة.
وعلى ذلك يكون الراجح جواز الاستدلال على علية الوصف بدوران الحكم معه، ولكن ينبغي أن نعلم أنه لكي تكون العلة المستنبطة بهذا الطريق متعدية لا بد أن يتكرر دوران الحكم معها في أكثر من موضع، وقد نقل القرافي عن النقشواني قوله : « الدوران عين التجربة، وقد تكثر التجربة فتفيد القطع وقد لا تصل إلى ذلك » ( ).
6 ـ السبر والتقسيم :
السبر في اللغة : الاختبار، ومنه سمي المسبار وهو الميل الذي تختبر به الجراح. والتقسيم في اللغة : التجزئة.
وفي الاصطلاح: يطلق مجموع اللفظين على مسلك من مسالك العلة، وهو يعني : حصر الأوصاف التي توجد في الأصل وتصلح للعلية في بادئ الرأي، ثم إبطال ما لا يصلح منها فيتعين الباقي ( ).
والمعنى : أن المجتهد ينظر في الأصل المقيس عليه الذي قام الدليل على حكمه، ثم يبحث في أوصافه التي يمكن أن يعلل الحكم بها، وليس بالضرورة أن يكون المجتهد قد حصر جميع الأوصاف التي يمكن التعليل بها فعلا، بل يكفي أن يكون عد منها ما يراه كذلك.
وهذه هي المرحلة الأولى.
والمرحلة الثانية أن ينظر في تلك الأوصاف فيبين بطلان التعليل بكل واحد منها حتى لا يبقى إلا واحد فيكون هو العلة.
والتقسيم في الواقع هو حصر الأقسام وذكرها، والسبر هو اختبارها وإبطالها كلها إلا واحدا. ولهذا أورد على التسمية أن التقسيم متقدم فلماذا أخر فقيل السبر والتقسيم، وأجيب بأن تقديم السبر في الاسم لأهميته في الدلالة على العلية.
مثاله : أن يقول حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع البر بالبر متفاضلا، والعلة إما أن تكون الطعم، أو الكيل، أو القوت والادخار، ثم يبطل الأخيرين ويقول فلم يبق إلا الطعم، أو يبطل الأولين ثم يقول : فلم يبق إلا الاقتيات والادخار.
شروط صحة هذا المسلك :
1ـ أن يكون التقسيم حاصرا، أي : لا يترك المستدل شيئا من الأقسام الممكنة، ولا يلزم أن يكون مترددا بين النفي والإثبات.
2ـ أن يكون إبطال ما عدا الوصف المعلل به بدليل مقبول.
3ـ أن يكون الحكم متفقا على تعليله بين الخصمين.
حجيته :
السبر والتقسيم مسلك صحيح من مسالك العلة، وقد يؤدي إلى ثبوت العلة قطعا إذا كان التقسيم حاصرا قطعا، وأُبطل التعليل بما عدا الوصف المبقى قطعا، والإجماع قائم على تعليل الحكم. وفيما عدا ذلك يكون ثبوت العلة ظنيا.
وأما إذا كان الاتفاق على تعليل الحكم بين الخصمين فحسب فيكون هذا المسلك حجة لإثبات العلة على من وافق على انحصار الأقسام في المذكورات دون غيره.
وقد استدل على كونه دليلا لإثبات المدعى بقوله تعالى : { } [الطور35].
ووجه الدلالة : أن الله جل وعلا قد ساق الآية في معرض الاستدلال على من أنكر وجود الخالق، فذكر القسمين الباطلين والقسم الثالث هو الواقع، وفي ذلك تنبيه على حجية مثل هذا الدليل، وإلا لما ساقه في معرض إقامة الحجة علىمنكري وجود الخالق.
ولو أردنا أن ننظم ما في الآية من الاستدلال على نمط كلام الفقهاء لقلنا : لا يخلو الأمر من ثلاثة احتمالات : إما أن يكون الناس خلقوا هكذا من غير خالق، أو يكونوا قد خلقوا أنفسهم، أو يكون خالقهم هو الله. فالأولان باطلان عقلا، فلم يبق إلا الثالث. والقرآن حين يستدل على وجود الله وإثبات أنه الخالق لا يكون ذلك غاية مقصوده ونهايتها؛ لأن العرب الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يؤمنون بأن الله هو الخالق، ولكن يؤكد لهم هذه الحقيقة ليصل منها إلى أن الله وحده هو المستحق للعبادة.
وهذا التقرير يدل على أن الاستدلال بالسبر والتقسيم لا يقتصر على إثبات العلة، بل يصلح استعماله للدلالة على أي مدعى متى أمكن حصر الاحتمالات واتفق عليها.
وهو راجع إلى القياس الاستثنائي؛ لأن المستدل يذكر الاحتمالات التي لا يخرج عنها موضع النزاع ثم يبين بطلانها كلها إلا واحدا، ويستعمل في إثبات بطلانها القياس الاستثنائي، فيقول لو كان كذا لكان كذا، لكن لم يكن فثبت بطلان هذا الاحتمال.
مثال توضيحي : أن يقول الشافعي : تحريم التفاضل في بيع البر بالبر معلل باتفاق، والعلة إما أن تكون الكيل أو الاقتيات والادخار أو الطعم، لا يصلح أن تكون العلة هي الكيل؛ إذ لو كان الكيل علة لما وقع الربا في القليل مما لا يكال، كالحفنة بحفنتين، لكنه واقع بدليل عموم الأدلة الدالة على تحريم الربا، وموافقة أكثر الخصوم عليه، ولو كان الاقتيات لما كان الملح من الربويات لكنه منها بنص الحديث : « والملح بالملح »، فلم يبق إلا أن يكون الطعم هو العلة.
أقسام القياس
يقسم الأصوليون القياس بعدة اعتبارات، أذكر منها ما يلي :
1ـ تقسيمه من حيث ذكر الوصف المعلل به إلى ثلاثة أقسام :
أ ـ القياس في معنى الأصل : وهو القياس الذي لا يحتاج إلى ذكر وصف جامع بين الأصل والفرع، وذلك لانتفاء الفارق المؤثر بينهما، ومثلوه بقياس العبد على الأمة في تنصيف حد الزنى، فإن القائس لا يحتاج إلى ذكر الوصف الجامع، بل يكفيه نفي الفارق المؤثر بينهما، وكذلك قياس الذرة على البر في تحريم الربا.
ب ـ قياس العلة : وهو القياس الذي يحتاج إلى ذكر الوصف المعلل به لينظر فيه المخالف فيوافق على صحة العلة أو يبطلها، وأمثلته كثيرة في كلام الفقهاء، ومنها قياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار.
ج ـ قياس الدلالة : وهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة، ومثاله : قولهم في عدم إجبار العبد على النكاح : لا يجبر على إبقائه فلا يجبر على ابتدائه كالحر. فالأصل في هذا القياس الحر، والفرع العبد، والوصف الجامع بينهما قولهم : لا يجبر على إبقائه، وهذا الوصف في حقيقته ليس هو العلة، ولكنه دليل على العلة التي هي كون النكاح حقا خالصا للعبد، وإذا كان حقا خالصا له لم يجبر عليه، والحكم المراد إثباته عدم الإجبار على ابتداء النكاح، فهذا القياس لم يذكر فيه القائس العلة الجامعة، وإنما جمع بين الأصل والفرع بدليل العلة.
ومن أمثلته : قولهم في ظهار العبد : صح طلاقه فيصح ظهاره كالحر، فالوصف الجامع هنا هو : صحة الطلاق منه، وهو دليل على مؤاخذته على ما يقول، فيكون مؤاخذا بالظهار، كما أن الحر يؤاخذ على طلاقه وظهاره.
2ـ تقسيمه من حيث مناسبة الوصف المعلل به للحكم إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ قياس العلة أو المعنى : ويعنى به هنا : ما كانت مناسبة الوصف المعلل به ظاهرة فيه، مثل قياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار، فالإسكار علة مناسبة للتحريم لما فيها من إفساد العقل.
2 ـ قياس الشبه : وهو الذي يكون التعليل فيه بوصف يوهم الاشتمال على المناسبة ولكن لا تظهر مناسبته ولا عدم مناسبته.
والوصف الشبهي هو: الوصف الذي لا تظهر مناسبته ولكنه يوهم المناسبة.
وهناك من عرف قياس الشبه بتعريف آخر فقال : هو القياس الذي يكون فيه الفرع مترددا بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبها به. مثل قياس المذي على البول مع أنه يشبه المني الطاهر، ولكن لما رأوه أكثر شبها بالبول في كونه لا يتكون منه الولد ألحقوه به.
والتعريف الأول أسلم، وهذا المثال يدخل فيه من جهة أن الوصف الذي ذكروه، وهو كونه لا يتكون منه الولد ليس ظاهرا في المناسبة.
ولما كان ظهور علية الوصف وعدمه راجعا إلى تقدير المجتهد أصبح هذا القسم مترددا بين الأول والثالث، فقد نجد من يمثل له بمثال مع أن غيره يذكره مثالا للأول أو للثالث.
وهو قسمان : شبه حسي، وشبه حكمي. فإن كان التشابه بين الأصل والفرع في الصورة المحسوسة كقياس الجلوس الأول في الصلاة على الثاني سمي شبها حسيا. وإن كان التشابه بينهما في الحكم كقياس ركن على ركن أو شرط على شرط أو ممسوح على ممسوح كقولهم : الخف ممسوح في طهارة فلا يسن له التثليث كالرأس، فهذا قياس شبه حكمي.
3 ـ قياس الطرد : وهو ما كان فيه الوصف الجامع مقطوعا بعدم مناسبته وعدم التفات الشرع إليه.
وهذا يذكر استكمالا للقسمة وإلا فهو ليس بقياس صحيح عند جماهير العلماء، وإن كان قد نقل عن بعضهم الاستدلال به، ولكن الذين يستدلون به لا يوافقون على أنه مقطوع بعدم مناسبته وعدم إفضائه إلى المناسب فهم يجعلونه كقياس الشبه.
وفي واقع الأمر لا خلاف في عدم حجية مثل هذا القياس، إذا قطعنا بأن العلة التي علق عليها الحكم لا يلتفت إلى مثلها.
ومن أمثلته المضحكة : قول بعض الحنفية ـ في الاستدلال على عدم نقض الوضوء بمس الذكر ـ : طويل مشقوق أشبه البوق فلا ينتقض الوضوء بلمسه، فكونه طويلا مشقوقا وصف لا يمكن أن يعلق عليه الشرع حكما.
وأما قول بعضهم في الاستدلال على أن النبيذ لا يجوز الوضوء به : النبيذ مائع لا تبنى علىمثله القناطر فلا يجوز الوضوء به كاللبن. فهذا قد جعله بعضهم من قياس الدلالة؛ لأن كونه لا تبنى على مثله القناطر دليل على قلته وعدم توافره، والشرع يبني على قلة الشيء وندرته أحكاما كما في التيمم، فإن الشرع جعله بالتراب لتوافره ولم يجعله بالمسك مثلا أو بغيره مما يشبه التراب ولا يتيسر لكل أحد.
وقال آخرون : بل هذا المثال من قياس الطرد الباطل؛ فكون الشيء لا تبنى علىمثله القناطر، وصف طردي، لا مناسبة بينه وبين الحكم الذي رتب عليه وهو عدم جواز الوضوء به.
ومن العلماء من جعل قياس الشبه قسما من قياس الدلالة ( ).
وهناك تقسيمات أخرى للقياس لا أطيل بذكرها.
حجية القياس
القياس حجة عند جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة، ولم يخالف في ذلك سوى الظاهرية وبعض المعتزلة وبعض الرافضة.
والدليل على كون القياس حجة من وجوه كثيرة، نكتفي منها بما يلي :
1 ـ قوله تعالى : { } [الحشر2].
وجه الاستدلال أن الله أمر بالاعتبار بحال الكفار، والمراد بالاعتبار أن يقيس المرء حاله بحالهم ليعلم أنه إن فعل مثل فعلهم استحق جزاء مثل جزائهم، وما أمر الله به فهو واجب.
2 ـ قوله تعالى : { } [الأنبياء104].
وجه الاستدلال : أن الله سبحانه قد نبه إلى وجوب القياس؛ حيث قاس البعث على الخلق الأول، فبين أنه قادر على البعث كما أنه قادر على الخلق من العدم.
3 ـ ما روي أن أعرابيا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود ـ وهو يُعَرِّض لنفيه ـ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هل لك من إبل؟ » قال : نعم، قال : « فما ألوانها؟ » قال : حمر، قال : « فهل فيها من أورق؟ » قال : إن فيها لورقا، قال : « فأنى ترى ذلك جاءها؟ » فقال الرجل لعل عرقا نزعه، فقال عليه السلام: « وهذا لعل عرقا نزعه » (متفق عليه من حديث أبي هريرة).
وجه الاستدلال : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاس الغلام الأسود من أبوين أبيضين على الجمل الأورق من الإبل الحمر، فكما أن ذلك الجمل يحتمل أن يكون نزعه عرق من عروق أجداده، فكذلك الغلام.
4 ـ حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال : « لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ » قال : نعم، قال : « فدَينُ الله أحق أن يقضى » (متفق عليه).
وجه الاستدلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم قاس الصوم على الدين في وجوب قضائه.
5 ـ أن الصحابة ـ ـ كانوا يقيسون ويلحقون النظير بنظيره، فمن ذلك أنهم أدخلوا العول على أنصبة الورثة إذا كانت سهامهم أكثر من سهام المسألة، قياسا على إدخال النقص على الغرماء إذا كانت ديونهم أكثر من مال المدين، وقاسوا العبد على الأمة في تنصيف الحد، وقاسوا سائر المطعومات المكيلة على البر في تحريم بيعه بجنسه متفاضلا.
وقال علي رضي الله عنه حين استشاره عمر في عقوبة شارب الخمر : أرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. (أخرجه مالك في الموطأ).
وقال عمر لأبي موسى الأشعري في الكتاب الذي بعثه إليه : الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب أو السنة، اعرف الأمثال والأشباه ثم قس الأمور عند ذلك فاعمد إلى أحبها عند الله وأشبهها بالحق فيما ترى. (أخرجه الدارقطني في سننه والبيهقي في المعرفة).
6 ـ أنه لو لم يشرع العمل بالقياس لأفضى ذلك إلى خلو كثير من الوقائع عن الأحكام الشرعية؛ لأن النصوص محصورة والوقائع تتجدد، وخلو الوقائع عن الأحكام يؤدي إلى قصور الشريعة ونقصانها وهو محال.
بعض أدلة منكري القياس والجواب عنها :
أولاً : أن الصحابة نقل عنهم ذم العمل بالرأي، فمن ذلك :
أ ـ قول عمر بن الخطاب : إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا. (أخرجه الدارقطني في سننه وفيه ضعف).
ب ـ قول علي : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهر خفيه. (أخرجه أبو داود والدارقطني).
ج ـ قول ابن مسعود : لا يأتي عام إلا وهو شر من الذي قبله، أما أني لست أعني عاما أخصب من عام ولا أميرا خير من أمير، ولكن علماؤكم وخياركم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم. (أخرجه الدارمي في سننه).
والجواب عن هذا من وجهين :
1ـ أن الصحابة ذموا من استعمل الرأي والقياس في غير موضعه أو بدون شرطه، فذمُّ عمر ينصرف إلى من قال بالرأي مع جهله بالنصوص من الكتاب والسنة، ألا تراه يقول : أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، أي : عجزوا عن حفظ الأحاديث. وذم علي ينصرف إلى من استعمل الرأي فيما لا يدرك بالرأي وهو الأمور التعبدية كالمسح على الخفين.
2ـ أنهم ذموا الرأي الصادر من الجاهل الذي ليس أهلا للاجتهاد، وهذا هو المفهوم من الأثر المروي عن ابن مسعود ، ولا شك أن رأي الجاهل مهلكة، ولا سيما إذا كان في أمور الدين.
ومما يدل على أن الرأي المذموم هو ما ذكرناه أن أولئك الصحابة الذين نقل عنهم ذم الرأي كانوا أكثر الصحابة عملا بالرأي والقياس، والمتتبع لسيرتهم يدرك ذلك.
ثانيا : قوله تعالى : { } [النساء105].
وجه الاستدلال : أن الله أمر نبيه أن يحكم بما أراه الله لا بما يراه هو، فإذا كان الرسول ليس له أن يحكم برأيه فغيره من باب أولى.
والجواب عن ذلك : أن القياس قد ثبت بالأدلة النقلية والعقلية التي سبق ذكرها فيكون العمل به من العمل بما أمر الله به فلا يكون ممنوعا، بل هو مما مَنّ الله به عليه وهداه إليه وأراه إياه.
مسائل تتعلق بحجية القياس
يذكر الأصوليون مسائل تتعلق بحجية القياس، من أهمها :
1ـ مسألة الاحتجاج بالقياس في الحدود.
2ـ ومسألة القياس في الرخص والتقديرات.
3ـ ومسألة القياس في الكفارات.
فالمسألة الأولى خالف فيها الحنفية وقالوا الحدود لا قياس فيها، واستدلوا بأن الحدود تدرأ بالشبهات، والقياس فيه شبهة فلا يصلح لإثبات حد من حدود الله.
والجمهور أجازوا القياس في الحدود واستدلوا بأنها أحكام لا تختلف عن غيرها من الأحكام الشرعية، فما جاز في غيرها جاز فيها، وبأن الأدلة الدالة على حجية القياس عامة لم تخصص بعض الأحكام دون بعض، ثم إن الصحابة قاسوا شرب الخمر على القذف فأوجبوا فيه ثمانين جلدة لكونه يفضي إلى القذف : « إذا سكر هذى وإذا هذى افترى ».
وأجابوا عن استدلال الحنفية بأن الشبهة التي تدرأ بها الحدود ليست موجودة في القياس؛ إذ المراد بها وجود الظن بكون مرتكب المحرم معذورا، والقياس لا شبهة فيه إلا كونه ظنيا، وهذا ليس مانعا من العمل به في الحدود؛ بدليل أن الحدود تثبت بشهادة اثنين والشهادة لا توجب العلم القطعي وإنما تورث ظنا غالبا، فتبين أن الظن الغالب كاف لإثبات الحدود وهو يحصل بالقياس، ولهذا قضى الجمهور بقطع النباش قياسا على السارق عند بعضهم، وعند آخرين لكونه سارقا حقيقة، وكذلك جلد اللوطي عند بعضهم قياسا على الزاني غير المحصن ورجمه إذا كان محصنا، والذين قضوا بقتله مطلقا استدلوا بأدلة نقلية ليس هذا موطن ذكرها.
وأما القياس في الرخص فقد منعه بعض العلماء. والصحيح جوازه مع وضوح الشبه والاشتراك في المناسبة، ومثاله : قياس الوحل والريح الشديدة والثلج على المطر، في الترخص لأجلها في الجمع، وقياس المريض على الممطور في الجمع بين الصلاتين في الحضر.
وأما القياس في الكفارات فإن أريد بالقياس إثبات كفارة جديدة بمجرد الرأي فلا يصح ذلك.
وأما قياس فعل على فعل في كونه موجبا للكفارة مثله فهذا صحيح، وهو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام العلماء الذين أجازوا القياس في الكفارات حيث قاس المالكية الأكل والشرب عمدا في رمضان على الوطء في وجوب الكفارة. وقاس الشافعي قتل العمد على قتل الخطأ في وجوب الكفارة.
والحنفية نقل عنهم منع القياس في الكفارات، واعتذروا عن إلحاق الأكل عمدا بالوطء بأنه ليس قياسا بل من باب تنقيح المناط وهو عندهم ليس من القياس، فلا يكون بينهم وبين غيرهم من الجمهور خلاف حقيقي؛ لأنهم حين منعوا القياس في الكفارات قصدوا منع تحديد كفارة على عمل محرم بطريق القياس والاجتهاد؛ لأن العقل مهما بلغ لا يمكن أن يعرف القدر الذي يحصل عنده تكفير الذنب وإنما يعرف ذلك بالنص وما في معناه.
والذين أجازوا القياس في الكفارات لم يمثلوا له إلا بقياس اليمين الغموس على اليمين الحانثة، وقتل العمد على قتل الخطأ.
والحنفية لهم مأخذ آخر لرد هذا القياس، وهو أنه زيادة على النص؛ فإن القرآن نص على الكفارة في قتل الخطأ دون العمد، واليمين الحانثة وهي التي تكون على أمر مستقبل كأن يحلف أن يفعل كذا أو أن لا يفعل كذا ثم لا يبر بيمينه، دون اليمين الغموس وهي اليمين الكاذبة على إثبات شيء أو نفيه.
التعليل بالحكمة
الحكمة تطلق عند الأصوليين على أحد معنيين :
أحدهما : مقصود الشارع من شرعية الحكم من تحقيق مصلحة أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تقليلها. أي : أنها تطلق على جلب المصلحة أو دفع المفسدة.
الثاني : إطلاق الحكمة على المصلحة نفسها أو المفسدة نفسها، فيقال مثلا: الحكمة من إيجاب العدة على المطلقة حفظ الأنساب، والحكمة من إباحة الفطر في السفر المشقة، فهنا أطلقت الحكمة على المصلحة والمفسدة. وهذا المعنى هو المراد هنا.
والحكمة اختلف الأصوليون في جواز التعليل بها على ثلاثة أقوال مشهورة، هي:
1 ـ منع التعليل بها؛ لأنها لا يمكن ضبطها، فهي تختلف من شخص لآخر، ومن مكان لآخر، وتعليق الحكم عليها يفضي إلى اختلاف الناس وتفاوتهم فلا يتحقق التساوي بينهم في أحكام الشريعة، ولا يمكن التحقق من حصول الحكمة حتى يرتب الحكم عليها.
وليس قولهم : لا يصح التعليل بالحكمة، على إطلاقه كما ظن بعض المحدثين، فأخذ يستدل بما ورد في القرآن والسنة من تعليل بالحكمة، وإنما مرادهم عدم جواز التعليل الذي يبنى عليه قياس، وجعلوا تلك التعليلات الواردة في الكتاب والسنة قاصرة غير متعدية، فلا يمكن أن يبنى عليها حكم جديد.
2 ـ جواز التعليل بالحكمة مطلقا، ويبدو أن مرادهم جواز بناء الأحكام على الْحِكَم، سواء جاءت في صورة أوصاف ظاهرة منضبطة، أو قام دليل من الشرع على اعتبارها علة لجنس الحكم أو عينه في كل موضع، أو جاء التعليل بتلك الحكمة في موضع ما مع عدم ضبطها بوصف ظاهر.
وهؤلاء هم الذين يجيزون الاستدلال بالمصلحة المرسلة، كما سيأتي بيان ذلك.
وهم يعللون سقوط الواجبات بالمشقة مطلقا، بغض النظر عن سبب المشقة، ويعللون الوجوب بالمصلحة الحقيقية العامة أو الحاجة أو الضرورة.
3 ـ جواز التعليل بالحكمة المنضبطة دون غيرها، وهؤلاء مع ما يظهر في قولهم من التوسط إلا أن بعضهم يقول : لو انضبطت الحكمة جاز التعليل بها لكنها لا تنضبط.
والحقُّ: أنها إن انضبطت بضابط معين نص الشرع عليه، أو قام عليه إجماع، أو دل عليه دليل مقبول من أدلة ثبوت العلة، فلا خلاف في جواز التعليل بها. فهذا القول خارج عن محل النزاع، وليس في التعليل بالحكمة إلا قولان؛ لأن المنضبطة ليست محل خلاف، فالجميع يقول بجواز التعليل بها إلا الظاهرية المنكرين للقياس مطلقا.
وهذا الموضع من المواضع التي لم تحرر في كتب التراث، وقد حاول تحريرها بعض المتأخرين ( )، ولعل فيما ذكرته ما يعين على تصورها على حقيقتها.
ويبدو أن الذين تناولوها بالبحث من القدماء كانوا متأثرين بنظرة الأشعرية إلى التعليل في علم الكلام، فتكلموا عن التعليل مطلقا، والكلام هنا ينبغي أن يقصر على تعليل يبنى عليه قياس، أو يبنى عليه تعدية الحكم إلى غير المنصوص عليه بطريق الاستصلاح.
فأما بناء القياس على الحكمة غير المنضبطة فغير ممكن عند جماهير العلماء، وأما إثبات الحكم بطريق الاستصلاح فالصواب جوازه كما سيأتي في بابه.
وقد تكرر إطلاق الانضباط والحكمة المنضبطة، ولعل بعض الدارسين لا يدرك المقصود به على حقيقته.
ولإيضاح ذلك أقول : الحكمة : معنى من المعاني يقوم بذهن الفقيه، يفهمه من نص واحد أو نصوص متعددة، فيقول مثلا : الحكمة من قتل القاتل حفظ النفوس؛ لأن المقدم على القتل إذا عرف أنه لو قَتَل قُتِل امتنع عن القتل.
وهذه الحكمة (حفظ النفوس) إذا لم يوضع لها ضابط معين يحدد الوصف أو الأوصاف التي يكون القتل فيها وسيلة لحفظ النفوس فربما قال قائل : ينبغي أن نقتل من هَمَّ بالقتل أو حث عليه أو شجع القاتل على فعله، أو ناوله سلاحا ليقتل به غيره، أو نمنع صناعة الآلات الحادة القاتلة، وهكذا.
أقول : لو تركت هذه الحكمة بلا ضابط لأدّى ذلك إلى ما ذكرنا وزيادة، ولكن الفقهاء وضعوا ضابطا لهذه الحكمة، فقصروا القتل الذي يؤدي إلى حفظ النفوس على القاتل عمدا عدوانا، فهذا الضابط يسمى العلة، وهي مشتملة على الحكمة ولكنها مقيدة ومحددة بما يؤدي إلى حفظ النفوس من القتل، ولهذا قالوا علة القصاص : القتل عمدا عدوانا، ولم يقولوا حفظ النفوس، بل جعلوا حفظ النفوس هو الحكمة التي لأجلها شرع القصاص، وهذه الحكمة ليست على إطلاقها، بل ضبطت بضابط وهو اقتصار القتل على من قَتَلَ عمدا عدوانا، فلا تحفظ النفوس بقتل من همَّ بالقتل أو شجع عليه أو رضيه، وإنما تحفظ بقتل القاتل، كما قال تعالى: { } [البقرة179].
والعلة يدور الحكم معها وجودا وعدما، فإذا وجدت وجد الحكم وإذا عدمت عدم الحكم إذا لم يكن له علة سواها، فإن كان للحكم علة أخرى فلا يلزم أن يعدم عند عدم إحدى العلتين، فوجوب القتل قد يكون لأجل الردة، وقد يكون لأجل الزنى بعد الإحصان، فإذا عدمت الردة فقد يوجد القتل بالعلة الأخرى.
وأما الحكمة فلا يمكن تعليق الحكم بها دائما؛ إذ لا يجوز أن نقول : كل قتل يغلب على الظن أنه يحفظ النفوس يكون مشروعا، ولكنها قد تكون مما ضبطه الشارع بضابط خاص أو عام فيصلح التعليل بها، وقد تكون غير مضبوطة بضابط محدد فلا يعلل بها إلا ما ورد فيه النص، وما كان أولى منه أو مساويا له في الإفضاء إلى الحكمة جزما من غير أن يترتب عليه مفسدة أخرى أو يخالف نصا أو إجماعا.
فما ضبطه الشرع بضابط خاص يسمى علة في القياس الشرعي، وما ضبطه بضابط عام يكون قاعدة كلية شهدت لها جزئيات كثيرة في الشريعة بالاعتبار أخذ من مجموعها هذه القاعدة، ويدخل في ذلك مقاصد الشارع والقواعد الضابطة لها. وما كان مساويا للمنصوص أو أولى منه في تحقيق مقصود الشرع هو مفهوم الموافقة، وهو عند الأكثر في معنى النص فلا يسمى قياسا.
القسم الثالث من الأدلة
قسمنا الأدلة فيما مضى إلى أدلة متفق عليها في الجملة وهي الكتاب والسنة، وأدلة فيها خلاف ضعيف وهي الإجماع والقياس، وأدلة فيها خلاف قوي وهي بقية الأدلة.
وتشمل: قول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستحسان، والاستصحاب، والاستصلاح، وسد الذرائع.
وسوف نتحدث فيما يلي عن كل واحد من هذه الأدلة، فنذكر حقيقته وأمثلته وحجيته، مع توخي الاختصار.
قول الصحابي
تعريفه :
الصحابي عند الأصوليين : من صحب النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به مدة تكفي عرفا لوصفه بالصحبة، ومات على الإسلام.
وعند المحدثين : من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك.
والسر في اختلافهم في المراد بالصحابي أن المحدثين يعنون الصحابي الراوي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن به ومات على إسلامه وجب قبول روايته والحكم بصحة سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجدوا بالاستقراء والتتبع أن الذين ثبت لهم ذلك كلهم عدول، فقرروا أنه لا حاجة للبحث في عدالتهم، وأن روايتهم مقبولة، سواء أكانوا ممن لازموا النبي صلى الله عليه وسلم أو من الأعراب الذين رأواه مرة واحدة بعد إسلامهم.
وأما الأصوليون فإنهم يتكلمون عن الصحابي الذي له اجتهاد في الأحكام الشرعية وله فقه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويمكن تقليده واتباع رأيه، وهذا لا يحصل إلا لمن لازم النبي صلى الله عليه وسلم فترة طويلة وأخذ عنه وأفاد من علمه وخلقه وسيرته، وأما من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مرة فإنه لا يكتسب بهذه الرؤية فقها وعلما يجعله من أهل الاجتهاد في الشريعة، ولذلك لا يمكن أن يقال إن رأيه حجة، وهم إنما عرفوا الصحابي الذي وقع الخلاف في حجية قوله.
والمراد بقول الصحابي : مذهبه الذي قاله أو فعله ولم يروه عن النبيصلى الله عليه وسلم.
أقسامه :
ينقسم قول الصحابي إلى أربعة أقسام :
1 ـ قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه، كالعبادات والتقديرات ونحوها.
وهذا القسم حجة عند الأئمة الأربعة لأنه لابد أن يكون سمعه الصحابي من النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا اجتهاد في الأمور التي لا تعرف إلا بتوقيف، ولكن الأئمة يختلفون في مدى الاحتجاج به قلة وكثرة لعدم الاتفاق على ضابط معين يحدد ما لا مجال للرأي فيه. فقد يرى بعضهم أن هذه المسألة مما لا مجال للرأي فيها فيعمل بقول الصحابي فيها، ويرى الآخر أنها مما يدخله الاجتهاد فلا يعمل بقول الصحابي فيها.
ومن هذا النوع قضاء الصحابة في النعامة إذا اصطادها المحرم ببدنةٍ، وفي الغزال بعنز ( ). فقد أخذ الأئمة بذلك. وكونه من التقديرات يدل على أنه مما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم وليس مما قضي فيه بالاجتهاد.
وقد يقول قائل إن تقدير المثل في جزاء الصيد متروك للاجتهاد فيكون قضاؤهم هذا من باب الاجتهاد.
2 ـ قول الصحابي الذي اشتهر ولم يخالفه غيره فيه، وهذا هو المسمى بالإجماع السكوتي وقد تقدم الكلام فيه.
والشهرة قد يستدل عليها بكثرة خوض الصحابة في المسألة، وقد يستدل عليها بكون الصحابي من الخلفاء الأربعة والمسألة مما تعم به البلوى ويقع لكثير من الناس. مثل جعل عمر رضي الله عنه طلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا توجب البينونة الكبرى.
3 ـ قول الصحابي الذي خالفه فيه غيره من الصحابة، فإنه ليس بحجة، ولكن لا يخرج الفقيه عن أقوالهم إلى قول آخر، بل يتخير من أقوالهم ماهو أقرب للدليل.
هكذا قال كثير من الأصوليين، والذي يظهر من صنيع الفقهاء أن منهم من يستدل بقول الصحابي ولو خالفه غيره إذا رأى رجحانه بقياس أو غيره.
وقولهم : لا يخرج عن أقاويلهم إلى غيرها يؤيد ذلك؛ لأن هذا حال الفقيه عند تعارض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يخرج عما دلت عليه، فإن أمكنه الجمع بينها جمع، وإلا أخذ بما يسنده النظر وتعضده أدلة أخرى.
ويمكن أن يحمل قول الأصوليين : إن قول الصحابي إذا خالفه صحابي آخر ليس بحجة، على أنه لا يكتفى به، ومن اكتفى به فهو مقلد للصحابي لا مستدل بقوله. والله أعلم.
4 ـ قول الصحابي فيما للرأي فيه مجال ولم ينتشر ولم يعرف له مخالف من الصحابة، وهذا هو محل النزاع.
فمن العلماء من يرى حجيته، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد وقول الشافعي القديم.
ومنهم من يرى أنه ليس بحجة، وإلى هذا ذهب الشافعي في قوله الجديد، وجماعة من أتباع المذاهب الأخرى، ولابن القيم كلام في رد هذه النسبة وتقرير أن مذهب الشافعي لا يختلف عن مذاهب الأئمة الثلاثة في ذلك. ولكن علماء الشافعية كلامهم صريح في نقل مذهب الشافعي المتقدم، وهم أعلم برأي إمامهم، علاوة على ما في الرسالة والأم من تصريح بحصر الأدلة في الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
والدليل على حجية قول الصحابي إذا لم يعلم له مخالف من الصحابة، من وجوه :
أ ـ قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » (أخرجه البخاري ومسلم).
فهذه شهادة لهم بالفضل على من سواهم، وهي تقتضي تقديم اجتهادهم على اجتهاد غيرهم.
ب ـ أن قول الصحابي الذي لم يعلم له مخالف يحتمل أن يكون نقلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقدم على الرأي المحض.
ج ـ أن الصحابة شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وحضروا نزول الوحي وهم أعرف الناس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يكون قولهم مقدما على قول غيرهم.
وأما الذين رأوا عدم الحجية فقد استدلوا بعدة أدلة منها :
أ ـ أن الصحابة غير معصومين من الخطأ إذا لم يجمعوا، وقول من لم تثبت عصمته لا يكون حجة.
ب ـ أن التابعين قد أثر عنهم مخالفة آحاد الصحابة، ولو كان قول الصحابي حجة لما صحت مخالفته من التابعي، ولأنكر الصحابي على من خالفه من التابعين، وإذا جاز للتابعي مخالفة الصحابي جاز لغيره ذلك.
والراجح : أن مذهب الصحابي وحده لا يعد حجة إلا إذا غلب على الظن اشتهاره بين الصحابة وعدم إنكاره، كأن يكون من الخلفاء الراشدين الذين هم في موضع القدوة لغيرهم، أو كانت المسألة مما يكثر وقوعه وتعم به البلوى.
وأما إذا اختلف الصحابة على أقوال فالخروج عن أقاويلهم يقتضي تخطئتهم جميعا، وهي بعيدة، فالواجب أن يختار من أقوالهم ما يسنده النظر والدليل.
والاستدلال بحديث : « خير الناس قرني » لا يكفي؛ لأن الخيرية لا توجب حجية قول كل واحد إذا انفرد، بدليل أن التابعين أيضا مشهود لهم بالخيرية في الحديث، ولم يقل أحد إن رأي التابعي حجة يترك لها القياس الصحيح.
وكذلك الاستدلال باحتمال كون ما قاله رواية لا يدل على الحجية؛ لأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
وأما مشاهدتهم الرسول صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي بلغتهم فلا شك أنها ميزة لهم ولكنها لا تكفي لأن يعد قول الواحد منهم دليلا.
وهنا دقيقة ينبغي التنبه لها، وهي أن القول بعدم حجية قول الصحابي لا يدل على المنع من تقليده لمن لا قدرة له على الاجتهاد، أو لمن لم ينظر في المسألة بعدُ وحضره وقت العمل. والله أعلم بالصواب.
شرع من قبلنا
بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بدين الحق، وجعله خاتم النبيين، وجعل شريعته خاتمة الشرائع، والأحكام في كل شريعة قسمان : أصول، وفروع :
فالأصول هي الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، والإيمان بالبعث والجزاء وبالجنة والنار، والاستسلام لله وحده وإفراده بالعبادة.
وهذا القسم قد اتفقت عليه شرائع الأنبياء جميعا، كما قال تعالى : { } [آل عمران19]، وقال : { } [آل عمران85].
وأما الفروع فقد اختلفت فيها الشرائع، وهي المقصودة في هذا الباب.
والمراد بشرع من قبلنا : ما نقل إلينا بطريق صحيح من الشرائع السماوية السابقة.
والطريق الصحيح لمعرفة شرع من قبلنا هو نقل القرآن والسنة النبوية الثابتة، ولا عبرة بما في الكتب التي في أيدي اليهود والنصارى اليوم؛ لأنها قد طرأ عليها التحريف والتبديل.
وما حكي في القرآن والسنة من شرائع الأنبياء السابقين، يمكن تقسيمه إلى الأقسام التالية :
1ـ ما حكاه الله عنهم أو حكاه رسوله صلى الله عليه وسلم وورد في شريعتنا ما يبطله :
وهذا لا خلاف في أنه ليس بحجة، ومثاله قوله تعالى : { } [الأنعام146].
2ـ ما حكاه الله عنهم ووجد في شريعتنا ما يؤيده :
وهذا لا خلاف في أنه شرع لنا، ولكن الدليل على ثبوته هو ما ورد في شريعتنا لا ما ورد في شرائع الأنبياء السابقين.
ومثاله : قوله تعالى : { } [البقرة183] فهذه الآية تدل على أن الصيام كان مشروعا على من قبلنا من الأمم ثم فرض علينا.
3 ـ ما نقل إلينا ولم يقترن بما يدل على نسخه أو مشروعيته في حقنا :
فهذا هو محل الخلاف بين العلماء، أهو شرع لنا يلزمنا العمل به أم لا؟.
ومثاله : ما جاء في قوله تعالى : { } [يوسف72]، فهذه الآية تدل على مشروعية الجعالة ( ) في شريعة يوسف عليه السلام.
وقوله تعالى في قصة ناقة صالح: { } [القمر28]. فهذه الآية تدل على مشروعية قسمة الماء مهايأة ( )، فهل يجوز الاستدلال بالآية علىجواز ذلك في شرعنا؟
ذهب أكثر العلماء إلى الاحتجاج بشرع من قبلنا ما لم يرد في شرعنا نسخه، وهذا المذهب هو المشهور عند الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو أحد القولين عند الشافعية.
والقول الثاني للشافعية أنه لا يحتج به.
والدليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخه شرعنا ما يلي :
1ـ قوله تعالى : { } [الأنعام90].
وجه الاستدلال : أن الله أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء الذين سبقوه، وأمر الرسول أمر لأمته.
2ـ قوله تعالى : { } [النحل123].
وجه الاستدلال: أن الله أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وملته دينه وشرعه.
3ـ قوله تعالى : { } [الشورى13].
وجه الاستدلال : أن الله بين أنه قد شرع لنا ما شرعه لنوح عليه السلام، فثبت أن شرعه شرع لنا ما لم ينسخ.
أمثلة على الاستدلال بشرع من قبلنا :
1ـ الاستدلال على الجعالة بقوله تعالى : { } [يوسف72] وقد ذكر هذا في أكثر كتب الحنابلة الفقهية، وذكره الزركشي في البحر المحيط.
2ـ الاستدلال على مشروعية الضمان بقوله تعالى : { ـ ـ ـ } [يوسف72] أي : كفيل وضامن. وهذا ذكره الزركشي في البحر المحيط ونسبه للشافعي، وهو مذكور في أكثر كتب الفقه الحنبلي.
3ـ الاستدلال على جواز مصانعة السلطان ببعض مال اليتيم حتى يسلم الباقي إذا خشي ولي اليتيم أن يأخذ السلطان المال كله أو يتلفه؛ لقوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الكهف71] فإن الخضر خرق السفينة لعلمه أن الملك الظالم كان يأخذ السفينة الصالحة، فرأى أن انتفاعهم بها بعد إصلاحها أفضل من ذهابها { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الكهف79] والمعنى: كل سفينة صالحة ( ).
4ـ الاستدلال على عدم تضمين الراعي إذا ذكى الشاة المشرفة على الهلاك، بالقياس على خرق الخضر السفينة لينتفع بها أهلها مرقوعة ( ).
الاستحسان
تمهيد :
ظهرت كلمة الاستحسان بكثرة على لسان الإمام أبي حنيفة، وهو في الغالب يذكرها في مقابلة القياس فيقول : القياس كذا ولكن الاستحسان كذا، وقال محمد بن الحسن : كان أبو حنيفة يناظر أصحابه في المقاييس فينتصفون منه ويعارضونه حتى إذا قال : أستحسن لم يلحقه أحد منهم لكثرة ما يورد في الاستحسان من مسائل.
ونقل عن الإمام مالك وتلاميذه الأخذ بالاستحسان حتى قال مالك : الاستحسان تسعة أعشار العلم ( ).
ومع ذلك فلم نجد عند أولئك الأئمة تعريفا للاستحسان، ولذلك أنكره الإمام الشافعي أشد الإنكار، وقال : من استحسن فقد شرع، وألف كتاب إبطال الاستحسان، وبين فيه انحصار الأدلة في الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأن من قال بالاستحسان فقد جعل عقله مشرعا، وكذلك فعل داود الظاهري فأنكر الاستحسان كما أنكر القياس.
وأما الإمام أحمد فهو يعتمد على السنة والأثر، ولا يلجأ إلى القياس إلا عند انعدام الدليل من الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الصحابة، ولكن الأصوليين من أتباع الإمام أحمد ذكروا أنه يحتج بالاستحسان، نص على ذلك ابن قدامة وصفي الدين البغدادي وغيرهما.
ولما ألف الإمام الشافعي إبطال الاستحسان والرسالة وغيرهما من كتبه اضطر علماء الحنفية للدفاع عن إمامهم فلم يبحثوا عن أدلة تؤيد الاستحسان الذي أنكره الشافعي، وإنما لجأوا إلى تفسير الاستحسان الذي عمل به إمامهم بما لا يجعله مجرد ميل نفسي لا يمكن إقامة دليل عليه، أو « دليل ينقدح في ذهن المجتهد يعسر التعبير عنه » ( )، كما فسره بذلك بعضهم.
ولهذا عرف الحنفية الاستحسان بأنه: كل دليل في مقابلة القياس الظاهر( ). أو أنه : ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس ( ).
وجعله السرخسي في أصوله نوعين رئيسين هما :
1ـ العمل بالاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما لم يقدره الشارع، كالنفقة والمتعة.
2ـ الدليل الذي يكون معارضا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إنعام التأمل فيه، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادثة وأشباهها من الأصول يظهر أن الدليل الذي عارضه فوقه في القوة ( ).
ومما ذكروه في تعريف الاستحسان وأنواعه وأمثلته يتبين أنه ليس بدليل مستقل، وإنما هو راجع إلى أحد الأدلة الأخرى، أو أنه ترجيح لدليل على دليل آخر.
أنواع الاستحسان عند الحنفية :
يتنوع الاستحسان بحسب ما يستند إليه إلى ستة أنواع :
1 ـ استحسان سنده النص :
وهو ترك الحكم الذي يقتضيه القياس أو النص العام، والعمل بمقتضى نص خاص.
مثاله : أن الأصل أن لا يبيع الإنسان ما ليس عنده، هذا مقتضى النص والقياس، أما النص فقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه : « لا تبع ما ليس عندك » (رواه الخمسة وحسنه الترمذي وصححه ابن حزم والألباني في إرواء الغليل).
وأما القياس فلأن بيع ما ليس عنده مثل بيع حبل الحبلة أي : ولد الحمل الذي لم يولد بعد، لأن كلا منهما غير معلوم الوصف للبائع والمشتري.
ولكن ورد الدليل بإباحة السلم، وهو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد، مثل أن يبيع المزارع مائة صاع من التمر الموصوف تسلم بعد شهر أو شهرين بمائتي ريال مدفوعة حالا في مجلس العقد، فينتفع المزارع بالنقد فإذا حل الأجل دفع التمر للمشتري.
فهذا النوع من البيوع يسمى السلم، وقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » (أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس، واللفظ لمسلم، ولفظ البخاري : من أسلف في شيء ففي كيل معلوم...).
وتسمية هذا النوع استحسانا غير مسلمة عند من ينكر العمل بالاستحسان؛ لأن هذا عمل بالنص الخاص، وترك لمقتضى العموم، فهو ترك نص لنص أقوى منه.
2 ـ استحسان سنده الإجماع :
وهو ترك مقتضى القياس أو العموم في مسألة جزئية لأجل الإجماع.
مثاله : الإجماع على جواز عقد الاستصناع، وجواز شرب الماء من أيدي السقاة من غير تحديد قيمته، ودخول الحمام من غير تحديد مدة البقاء فيه ولا مقدار الماء المستعمل ولا الأجرة، فالإجماع منعقد على جوازه مع أن القياس يقتضي عدم جوازه.
3 ـ استحسان سنده الضرورة :
ومثاله : الحكم بطهارة الآبار بنزحها حتى يذهب أثر النجاسة من لون أو طعم أو ريح، وطهارة الحوض بصب الماء فيه حتى يذهب أثر النجاسة أيضا.
ووجه الاستحسان في ذلك أن الآبار والحياض لو قيس تطهيرها علىتطهير الآنية لما أمكن؛ لأنه لا يمكن غسل البئر والحوض كما يغسل الإناء والثوب.
فكل ماء يصب في البئر أو الحوض يتنجس بملاقاة الماء النجس، وكذا لو أريد نزحه فإن الماء الذي ينبع من القاع يلاقي النجاسة فيتنجس.
ولأجل الضرورة قلنا إن البئر تطهر بالنزح منها حتى يذهب أثر النجاسة من لون أو طعم أو رائحة، والأحواض تطهر بالمكاثرة أي بإضافة الماء إليها حتى يذهب أثر النجاسة.
4 ـ استحسان سنده القياس الخفي :
مثاله : الحكم بطهارة سؤر سباع الطير المحرمة كالحدأة والصقر، مع أن القياس الظاهر يقتضي نجاسته كسؤر سباع البهائم، مثل الذئب، والأسد، والنمر.
ووجه الاستحسان : أن القياس الظاهر على سباع البهائم معارض بقياس خفي أولى بالاعتبار، وهو أن سباع البهائم حكم بنجاسة سؤرها لاختلاطه بلعابها، ولعابها نجس، وسباع الطير تشرب الماء بمناقيرها والمناقير لا رطوبة فيها فلا تلوث الماء فهي كالدجاج السائب الذي ربما أكل النجاسة بمنقاره فلا يحكم بنجاسة سؤرها وإن كان قد يقال بكراهة استعماله.
5 ـ استحسان سنده المصلحة :
ومثاله: الحكم بتضمين الأجير المشترك، وهو الذي لا يعمل لشخص بعينه، بل يقدم خدمة لكل من يحتاجه مقابل أجرة معينة كالصباغ والغسال والخياط.
فالأصل أن الغسال إذا أعطي الثوب ليغسله فتلف عنده من غير تفريط لا ضمان عليه؛ لأن هذا مقتضى عقد الإجارة، ولأنه قبضه بإذن صاحبه فهو مؤتمن عليه، ولكنهم عدلوا عن مقتضى ذلك القياس وقالوا يضمن ما تلف عنده إلا أن يكون تلف بقوة قاهرة ظاهرة كالحريق ونحوه.
وسند هذا الاستحسان المصلحة، وهي المحافظة على أموال الناس من الضياع؛ نظرا لكثرة الخيانة بين الناس وقلة الأمانة. ولو لم يضمن الأجير لامتنع كثير من الناس من دفع أمتعتهم إليه خوفا عليها من الضياع أو التلف أو الخيانة.
6 ـ استحسان سنده العرف :
ومثاله : أن الأصل أن من حلف لا يأكل اللحم يحنث بأكل السمك لأنه لحم، فالله قد سماه لحما فقال : ومن كل تأكلون لحما طريا، ولكن قالوا : لا يحنث استحسانا؛ لأن العرف جرى على التفريق بين اللحم والسمك، وأن السمك لا يسمى لحما في العرف، ولا يفهم من إطلاق لفظ اللحم دخول السمك فيه.
حكم العمل بالاستحسان :
إذا نظرنا إلى التعريف المختار للاستحسان، وعرفنا أنواعه، يتبين لنا أن الأنواع الثلاثة الأولى منه لا خلاف فيها بين العلماء، غير أن منهم من لا يسميها استحسانا.
وأما النوع الرابع فمن خالف فيه فإنما يخالف في رجحان القياس الخفي على القياس الظاهر، فهو عنده من باب تعارض الأقيسة والترجيح بينها.
وأما النوع الخامس فالنزاع فيه مبني على النزاع في مستنده وهو المصلحة المرسلة هل تعد دليلا؟ وكذا الشأن في النوع السادس.
والاستدلال بالاستحسان بأنواعه المتقدمة مذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة.
وأما الشافعي فقد نقل عنه إنكاره، وأنه كان يقول : من استحسن فقد شرع، أي: جعل نفسه مشرّعا.
والظاهر أن الشافعي لا ينكر الاستحسان بمعناه الذي ذكرناه، بل ينكر الاستحسان بمجرد الهوى من غير دليل، أو ينكر الاستحسان الذي مستنده المصلحه المرسلة والعرف فقط. والله أعلم.
الاستصحاب
تعريفه :
الاستصحاب في اللغة : طلب الصحبة.
وفي الاصطلاح : هو الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على أنه كان ثابتا في الزمان الأول.
ومعنى التعريف : أنه إذا ثبت حكم بدليل معين في وقت معين يبقى ذلك الحكم ثابتا حتى يرد دليل يرفعه.
ووجه تسميته استصحابا : أن المجتهد يستصحب الحكم الأول حتى يرد ما يدل على ارتفاعه.
مثال ذلك : إذا توضأ ثم شك في وجود ما ينقض الوضوء فإنه يستصحب الحكم السابق، وهو كونه طاهرا حتى يثبت خلافه.
أنواع الاستصحاب :
يتنوع الاستصحاب إلى أربعة أنواع هي :
1ـ استصحاب البراءة الأصلية :
أي : براءة ذمة الإنسان من التكاليف الشرعية والحقوق المالية، حتى يقوم دليل على شغلها بشيء من ذلك. فالحكم بعدم فرضية صلاة سادسة، وبعدم وجوب صوم شعبان معلوم بالبراءة الأصلية، وكذا الحكم ببراءة ذمته من الديون التي لم يقم دليل على تعلقها بها.
2 ـ استصحاب الحكم الذي دل الدليل علىثبوته ولم يقم دليل على تغييره:
مثل الحكم بثبوت الزوجية بناء على عقد النكاح الصحيح من غير أن يطالَب الزوج بدليل على بقاء العقد؛ لأن الأصل بقاؤه ما لم يرد دليل يغير ذلك الأصل، فلو ادعت الزوجة الطلاق فالأصل عدمه وعليها البينة.
3 ـ استصحاب الدليل مع احتمال المعارض :
مثل استصحاب حكم الدليل العام حتى يرد ما يخصصه، واستصحاب النص حتى يرد ما يدل على نسخه.
وقد منع بعض العلماء تسمية هذا النوع استصحابا؛ لأن العمل به عمل بالنص لا بدليل الاستصحاب، وخالف بعضهم في العمل بالعام قبل البحث عن المخصص كما سيأتي بيانه في العام.
4 ـ استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محل الخلاف :
مثاله : إذا تيمم من فقد الماء ثم شرع في صلاته وفي أثنائها رأى الماء أو قدم به خادمه، هل تصح صلاته إذا استمر فيها؟ فمن قال بصحة صلاته استدل باستصحاب الإجماع في موضع الخلاف فقال :صحة صلاة من تيمم لفقد الماء ثابتة بالإجماع حتى يدل دليل على أن رؤية الماء في أثناء الصلاة مبطلة لها، ولا دليل على ذلك.
فصحة الصلاة قبل رؤية الماء متفق عليها، وبعد رؤية الماء مختلف فيها، والمستدل استصحب الإجماع في محل الخلاف، أي : استدل بالإجماع في الصورة المتفق عليها علىالصورة المختلف فيها.
ومن أمثلة هذا النوع قول الظاهرية ومن وافقهم : يجوز بيع أم الولد لأن الإجماع منعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل أن يطأها سيدها وتنجب منه، فنستصحب هذا الحكم الثابت بالإجماع بعد الاستيلاد إلى أن يدل دليل على تغييره.
حكم العمل بالاستصحاب :
الأنواع الثلاثة الأولى من الاستصحاب حجة عند جمهور العلماء، وما وقع من خلاف بينهم فهو في مسائل جزئية اختلف في صحة الاستدلال به فيها.
وذهب الحنفية في المذهب المشهور عندهم إلى أن الاستصحاب يصلح الاستدلال به في النفي لا في الإثبات، فهو لا يصلح لإثبات حكم مبتدأ، بل يصلح لإبقاء ما كان على ما كان إلى أن يثبت دليل التغيير.
ولأجل ذلك قال الحنفية: إن المفقود الذي لا يعرف أنه حي أو ميت يحكم بحياته استصحابا للأصل، فإن الأصل فيه الحياة؛ لأنها آخر العهد به، وبناء على ذلك فإن ما يملكه من مال يبقى مملوكا له ولا ينتقل إلى الورثة، وزوجته لا تتزوج بغيره، وإجارته لا تنفسخ، وهكذا كل الحقوق التي كانت ثابتة له تبقى كما هي إلى أن يحكم بموته حاكم بعد الانتهاء من مدة الانتظار، ولكن لو مات ابنه أو زوجته مثلا في تلك المدة فإنه لا يرثهما؛ لأن الحكم بحياته حكم اعتباري فلا يثبت له الإرث بمقتضى استصحاب الحال السابقة، وهذا معنى قولهم إن الاستصحاب يصلح حجة للدفع فقط.
وعند الجمهور أنه في مدة الانتظار يوقف له نصيبه حتى يرجع فإن لم يرجع كان كبقية ماله يأخذه ورثته، وقيل يرد إلى ورثة الميت الأول.
والدليل على حجية الأنواع الثلاثة الأولى من الاستصحاب ما يلي :
1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل يخيل إليه أنه أحدث في الصلاة : « لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا » (متفق عليه من حديث عبد الله بن زيد ).
وجه الاستدلال : أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم باستصحاب حكم الوضوء مع الشك في وجود الناقض حتى يدل الدليل على انتقاضه يقينا.
2 ـ حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه (متفق عليه).
وجه الاستدلال : أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الأصل براءة ذمة المدعى عليه حتى يثبت شغلها بالبينة الصحيحة، وهذا عمل باستصحاب الحال السابقة حتى يثبت تغيرها.
3 ـ أن العمل بالاستصحاب عمل بالظاهر، والعمل بالظاهر حتى يثبت خلافه مما اتفق عليه الصحابة والتابعون والأئمة بعدهم.
وأما النوع الرابع وهو استصحاب الإجماع في محل الخلاف فالمحققون على أنه ليس بحجة؛ لأنه يؤدي إلى التسوية بين موضع الاتفاق وموضع النزاع وهما مختلفان.
ولأن الإجماع على صحة الصلاة بالتيمم مشروط بعدم الماء، فإذا انتفى هذا الشرط انتفى الإجماع، وكذا في بيع الأمة، الإجماع على جوازه مشروط بعدم الاستيلاد فإذا وجد الاستيلاد انتفى الإجماع.
قواعد مبنية على الاستصحاب :
تدور على ألسنة الفقهاء وفي كتبهم قواعد فقهية مبنية على الاستصحاب، منها :
1ـ قاعدة : اليقين لا يزول بالشك، وهي من القواعد العظمى التي تدخل في جميع أبواب الفقه، ويندرج تحتها مسائل وقواعد كثيرة.
2ـ قاعدة : الأصل بقاء ما كان على ما كان، أي : إذا ثبت للشيء صفة معينة فالأصل بقاؤها حتى يرد ما يدل على تغيرها.
3ـ قاعدة : الأصل براءة الذمة، أي : عدم انشغالها بشيء من التكاليف والحقوق إلا بدليل.
4ـ قاعدة : الأصل في الصفات العارضة العدم، أي : الصفات التي تعرض للأشياء وليست ثابتة لها في الأصل، لا يحكم بوجودها إلا بدليل، فمن اشترى سلعة وقبضها ثم ادعى بعد زمن أنها كانت معيبة فلا يقبل قوله إلا ببينة تشهد له؛ لأن العيب من الصفات العارضة والأصل عدمها، وكذا لو ادعى المشتري أنه شرط الخيار لا تقبل دعواه إلا ببينة.
5ـ قاعدة : الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته. وهي قريبة من التي قبلها، ومثالها : إذا اختلف المتبايعان في عيب طارئ حديث، هل وقع قبل البيع أو بعده، فيحكم بأنه حدث في أقرب زمن للزمن الذي اطلعنا عليه فيه.
الاستصلاح
تعريفه :
الاستصلاح في اللغة : العمل على إصلاح شيء ما.
وفي الاصطلاح : بناء الأحكام على المصلحة المرسلة.
والمصلحة في اللغة : المنفعة، سواء أكانت دنيوية أم أخروية، بجلب نفع أو بدفع ضرر.
والعلماء متفقون على أن الشرع جاء بحفظ المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، وأن الله جل وعلا قد راعى في أحكامه مصالح العباد، وأن الشريعة ليست نكاية بالخلق ولا تعذيبا لهم، وإنما هي رحمة وتزكية، قال تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ } [الأنبياء107] وقال : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [البقرة151] وقال في صفة رسوله صلى الله عليه وسلم : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [التوبة128].
وأهل السنة يرون أن مراعاة الشارع لمصالح العباد تفضل منه وكرم وليس بواجب عليه، وأكثر المعتزلة يرون أن مراعاة مصالح العباد واجب على الله أوجبه على نفسه؛ لأنه من لوازم حكمته وعدله.
أقسام المصلحة من حيث اعتبار الشرع لها:
والمصلحة من حيث اعتبار الشرع لها وبناء الأحكام عليها وعدمه تنقسم ثلاثة أقسام :
1ـ مصلحة ملغاة :
وهي كل منفعة دل الشرع على عدم الاعتداد بها وعدم مراعاتها في الأحكام الشرعية، وذلك لانطوائها على مفسدة أعظم منها، أو لأنها تفوّت مصلحة أكبر.
ومثال المصلحة الملغاة ما في الزنى من لذة قضاء الشهوة، وما في ترك قطع السارق من مصلحة تمتعه بأعضائه، وما في التسوية بين الرجال والنساء في الميراث من مصلحة ترغيب النساء في الإسلام، وغير ذلك.
والضابط الذي به نعرف أن المصلحة ملغاة هو مخالفتها لنص أو إجماع أو قياس جلي.
فالمنافع المشار إليها قبل قليل مصادمة لنصوص الشرع الصحيحة الصريحة، وإذا دققنا النظر فيها نجد أنها مصالح جزئية لو روعيت لفوتت مصالح كلية.
2ـ مصلحة اعتبرها الشارع بعينها وراعاها في أصل معين يمكن أن يقاس عليه ما يشبهه:
وهذه هي المصلحة التي تتضمنها العلة في القياس، ويسميها بعضهم المناسبة، ومثالها : مصلحة حفظ العقل التي تضمنها تحريم الخمر، فيقاس على الخمر كل ما يذهب العقل من المخدرات والحشيش ونحو ذلك.
وهذه لا يختلف القائلون بحجية القياس في مراعاة الفقيه لها في اجتهاده، ولكنهم لا يعدونها دليلا مستقلا غير القياس.
3ـ مصلحة اعتبر الشارع جنسها، ولا يشهد لعينها أصل معين بالاعتبار:
بمعنى أن نصوص الشرع العامة تدل على مراعاة جنس هذه المصلحة، ولكننا لا نجد نصا خاصا على تحقيق هذه المصلحة بهذا الحكم المعين بخصوصه؛ إذ لو وجدنا أصلا خاصا وأمكن القياس عليه لكانت من النوع الثاني.
ومثال هذا النوع : المصلحة الناشئة من جمع القرآن في مصحف واحد، فهذا العمل فيه مصلحة حفظ الدين، ولكن لم نجد نصا يدل على حفظ الدين بهذه الطريقة بخصوصها، ولا بشيء يشبهها شبها يمكن معه قياسها عليه.
ومن ذلك المصلحة الناشئة عن وضع إشارات المرور في الشوارع العامة، ومعاقبة من لا يراعيها، فإن هذا العمل فيه مصلحة ظاهرة للناس؛ حيث إن الالتزام بهذه الإشارات يحفظ أرواح الناس وأموالهم، وعدمه يؤدي إلى التصادم وتعطيل الحركة وهلاك الأنفس والأموال، فهذه المصلحة من حيث جنسها قد جاء بها الشرع، ولا يشك مسلم في أن الإسلام يدعو إلى حفظ الأنفس والأموال، ولكن لا نجد نصا خاصا يدل على حفظها بهذه الطريقة (أي: بوضع إشارات المرور) ولا بطريقة تشبهها شبها بينا يمكن قياسها عليها.
وهذه المصلحة هي التي تسمى المصلحة المرسلة، وهي التي اختلف في حكم الاحتجاج بها على إثبات الأحكام الشرعية.
ولا يصح أن نفسر المصلحة المرسلة بالمهملة أو المسكوت عنها؛ فإن الشرع لم يهمل شيئا من المصالح الحقيقية، وإنما أهمل المصالح المتوهمة، والظاهر أن قولهم : المرسلة، لإخراج المقيدة، وهي التي شهد لها أصل خاص بالاعتبار، وأمكن القياس عليها.
حكم العمل بالمصلحة المرسلة :
ذهب جمهور الفقهاء إلى الاستدلال بالمصلحة المرسلة في إثبات الأحكام الشرعية، وأكثر الإمام مالك من العمل بها حتى ظن بعض الناس اختصاصه بها.
والأصوليون يذكرون خلافا قويا في عدها من الأدلة، وينقلون عن الإمام الشافعي إنكار الاحتجاج بالمصلحة التي لا ينتظم منها قياس صحيح، ورأى الغزالي أن ما يقع منها في مرتبة الضروريات يمكن الاحتجاج به وإن لم يشهد له أصل معين، بخلاف ما يقع في رتبة الحاجيات والتحسينيات، وأنكر ابن قدامة الاحتجاج بها في روضة الناظر، ولكنه في كتبه الفقهية يعلل بالمصلحة المرسلة أحيانا.
وفي المقابل نجد الطوفي يرى أن المصلحة إذا كانت ضرورية تقدم على النص، وقد أنكر عليه هذا من جاء بعده واستبشع قوله.
والحق أن المصلحة الضرورية القطعية لا يمكن أن يوجد في النصوص ما يعارضها.
فهذا القول وإن كان في ظاهره شناعة، إلا أنه لا يترتب عليه عمليا ما يحملنا على اتهام الطوفي في عقيدته، كما فعل بعض من رد عليه؛ لأنه لا يوجد مثال صحيح تتعارض فيه مصلحة ضرورية مع نص شرعي صحيح.
وخلاصة القول أن الذين خالفوا في الاحتجاج بالمصلحة المرسلة إنما خالفوا في عدها دليلا مستقلا أو في تقديمها على النصوص أو في المصالح المعارضة بمثلها أو بما هو أعظم منها.
أدلة العمل بالمصلحة المرسلة :
يستدل للعمل بالمصلحة المرسلة بأدلة كثيرة، ومنها :
1ـ أن الصحابة رضي الله عنهم عملوا بالمصالح المرسلة فيما طرأ لهم من الحوادث، فمن ذلك :
ـ جمع القرآن في مصحف واحد.
ـ وإيقاع عمر الطلاق الثلاث بكلمة واحدة.
ـ وقتل الجماعة بالواحد، وهذا يعد إجماعاً منهم.
2ـ الآيات الدالة على أن الشريعة جاءت لمصالح العباد والتيسير عليهم، كقوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ } [الأنبياء107] وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ} [البقرة185] وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ } [النساء28] وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ} [الحج78].
فهذه الايات تدل على أن من مقاصد الشرع التيسير على الناس ورفع الحرج، والعمل بالمصالح المرسلة فيه تيسير على الناس؛ إذ لو كلفنا الرجوع إلى النصوص الخاصة لخلت كثير من الوقائع عن الأحكام، ولو لم يلتفت الشرع إلى مصالح العباد ويبني عليها الأحكام التي تحفظها لوقع الناس في الضيق والحرج.
شروط العمل بالمصلحة المرسلة :
يشترط للعمل بالمصلحة المرسلة ما يلي :
1ـ أن تكون المصلحة حقيقية لا متوهمة، فالمصلحة المتوهمة لا ينظر إليها، ومثالها : ما يتوهمه بعض الناس من أن التسوية بين الرجل والمرأة في الإرث فيه مصلحة، وهي ترغيب الكفار في الإسلام، ومن ذلك : ما يتوهمه البعض من أن العمل بالقوانين الوضعية المستوردة فيه مصلحة وهي التسوية بين الناس في الحقوق والواجبات.
وهؤلاء وأولئك غفلوا عن أن خالق الناس أعلم بما يصلحهم وما يناسبهم، وأن ترغيب الكفار في الإسلام بترك فرض من فرائضه مفاسده أعظم مما يتوخى فيه من مصلحة، وما في القوانين الوضعية من المصالح يمكن تحصيلها من الشريعة على وجه أكمل.
2ـ أن لا تعارض نصا من كتاب أو سنة، أو إجماعاً صحيحاً، فإن عارضت شيئا من هذه الأدلة فهي مصلحة ملغاة؛ إما لانطوائها على مفسدة أعظم، أو لتفويتها مصلحة أعظم.
3ـ أن لا تعارض مصلحة مساوية لها أو أعظم منها، فإن تعارضت المصالح رجحنا أقواها أثرا وأعمها نفعا وأكثرها دفعا للمفسدة، وإذا تعارضت مصلحة فرد أو فئة مع المصلحة العامة قدمنا المصلحة العامة.
4ـ أن تكون في مواضع الاجتهاد لا في المواضع التي يتعين فيها التوقيف، كأسماء الله وصفاته، والبعث والجزاء، وكأصول العبادات، فإن المصلحة المرسلة لا يمكن أن يستدل بها على ثبوت عبادة أو زيادة فيها أو نقص شيء منها.
أمثلة تطبيقية للعمل بالاستصلاح :
1ـ ضرب العملة السائرة في كل بلد، فهذا العمل لو طبقنا عليه دليلا من النص لم نجده؛ إذ ليس في القرآن أمر بذلك، ولم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به، ولكن الحاجة ماسة إليه ليتعامل الناس بعملة مقبولة عند جميعهم، تمكنهم من مبادلتها بما يحتاجونه من مأكول ومشروب وملبوس ومركوب وخدمات ينتفعون بها، ولذا وجب على الدولة أن تقوم بضرب عملة وتحميها من التزوير حتى تحتفظ بقيمتها.
2ـ وضع الإشارات التي تنظم السير في الطرقات، ووجوب الوقوف عندها، فوضعها في المدن الكبيرة من الضروريات التي يؤدي الإخلال بها إلى تلف الأنفس والأموال، فيجب على ولي الأمر وضعها، ويجب على الناس الالتزام بها.
3ـ تسجيل الأنكحة والمواليد في سجلات خاصة، فهذا من الحاجيات التي يؤدي الإخلال بها إلى فقدان كثير من المصالح، وقد يقال : إنها مما يحفظ الأنساب فتلحق بالضروريات.
4ـ الإلزام باستخراج بطاقات الجنسية، ورخص القيادة، ومعاقبة المخالف لذلك.
فهذه كلها مما تدعو الحاجة إليه لضبط الأمن، ومعرفة الأنساب، والمحافظة على الأرواح والأموال.
سد الذرائع
تعريف الذرائع :
الذرائع : جمع ذريعة، والذريعة هي الوسيلة المؤدية إلى الشيء، سواء أكان مصلحة أم مفسدة.
وسد الذرائع : منع الوسائل المفضية إلى المفاسد.
والأقوال والأفعال المؤدية إلى المفسدة أربعة أقسام :
الأول : وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة قطعا، كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر، والزنى المفضي إلى مفسدة اختلاط الأنساب وثلم الأعراض.
الثاني : وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المباح، ولكن قصد بها التوسل إلى المفسدة، مثل عقد النكاح بقصد تحليل الزوجة لزوجها الأول الذي طلقها ثلاثا.
الثالث : وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المباح، ولم يقصد بها التوسل إلى المفسدة، ولكنها تؤدي إليها غالبا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها، مثل : سب آلهة الكفار علناً إذا كان يفضي إلى سب الله جل وعلا.
الرابع : وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها، مثل النظر إلى المخطوبة، والمشهود عليها، والجهر بكلمة الحق عند سلطان جائر.
فالقسم الأول قد جاءت الشريعة بمنعه، إما على سبيل التحريم أو الكراهة، وذلك بحسب درجته في المفسدة ولا خلاف فيه.
والقسم الرابع قد جاءت الشريعة بمشروعيته إما على سبيل الوجوب أو الاستحباب؛ بحسب درجته في المصلحة، ولا خلاف فيه.
والقسمان الثاني والثالث هما موضع النزاع، هل جاءت الشريعة بمنعهما؟
ومذهب المالكية والحنابلة ومن وافقهم أن سد الذرائع دليل شرعي تبنى عليه الأحكام، فمتى أفضى الفعل إلى مفسدة راجحة أو كان الغالب فيه الإفضاء إلى المفسدة أو قصد به فاعله الإفضاء إلى المفسدة وجب منعه.
وذهب بعض العلماء من الشافعية والحنفية والظاهرية إلى عدم الاستدلال بهذا الدليل ولم يوجبوا سد الذرائع المؤدية إلى المفسدة، إلا أن يرد بمنعها نص أو إجماع أو قياس، ولكنهم لم يطردوا في فروعهم الفقهية بل قالوا في بعض الفروع بالمنع دون بعضها الآخر.
ومما يدل علىصحة العمل بقاعدة سد الذرائع ما يلي :
1 ـ قوله تعالى : { } [الأنعام108].
وجه الاستدلال : أن الله منع المسلمين من سب آلهة الكفار مع أنها تستحق السب والشتم، ولكن منع من سبها حتى لا يسبوا الله، وهذا ظاهر في سد الذريعة المؤدية إلى المفسدة.
2 ـ قوله تعالى : { } [البقرة104].
وجه الاستدلال : أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم راعنا؛ منعا لذريعة التشبه باليهود الذين كانوا يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم راعنا، من الرعونة وهي الحمق والسفه، والمسلمون يقصدون منها القصد الحسن أي : من المراعاة وهي الانتظار.
3 ـ منع الشارع القاضي من أخذ الهدية لئلا يكون ذريعة إلى أخذ الرشوة، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « هدايا العمال غلول » (أخرجه الإمام أحمد وغيره).
والأحكام التي قصد بها سد الذرائع المؤدية إلى المحرم أكثر من أن تحصى.
وإذا تقرر وجوب سد الذارئع المؤدية إلى المحرم تقرر وجوب فتح الذرائع الموصلة إلى الواجب؛ لأن الذريعة الموصلة إلى الواجب واجبة، لكن وجوبها قد يكون وجوبا معينا إذا كانت هي الوسيلة الوحيدة إلى الواجب، ولهذا جاءت قاعدة : « ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب »، وقد يكون وجوب وسيلة الواجب على التخيير إذا كانت هناك وسائل متعددة كلها تفضي إلى الواجب.
وباب سد الذرائع من أهم ما ينبغي للفقيه معرفته، ولهذا قال شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم (ت751) : « وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه (أي التكليف) أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني : وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان : أحدهما : ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني : ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين » ( ).
وإعطاء الوسيلة حكم المتوسل إليه دليل على حكمة الباري وعلمه بخصائص النفس البشرية؛ لأنه لو حرم الشيء وأباح الوسائل الموصلة إليه غالبا لوقع الناس في حرج عظيم.
الباب الثالث
دلالة الألفاظ
اهتم علماء الأصول بالألفاظ اهتماما كبيرا من حيث تقسيماتها وأنواعها، ومن حيث دلالتها على المعاني، وذلك لأن الأحكام الشرعية إنما تستفاد من الألفاظ إما بطريق الدلالة المباشرة، أو بطريق الإشارة والإيماء،وقد أحاط الأصوليون بما قرره علماء اللغة والنحو والتصريف، وزادوا عليهم تفصيلات لا يجدها الباحث عند غيرهم حتى من علماء اللغة الذين ألفوا فيها المؤلفات الكثيرة.
ومن الأصوليين من خاض في تقسيمات وتعريفات للألفاظ لا حاجة للفقيه بها، وإنما استدعاها حب الاستقصاء وغلبة النقل على مؤلفاتهم، والاستطراد الذي ينسي بعض المؤلفين الغرض من التأليف في علم أصول الفقه.
ولا يليق بهذا المختصر اتباع ذلك المنهج، لذا سأقتصر على المفيد من تلك الأقسام، وما له مدخل في معرفة دلالة ألفاظ الشرع. وهي :
الأمر والنهي.
العام والخاص.
المطلق والمقيد.
المنطوق والمفهوم.
النص والظاهر والمجمل والمبين.
الأمر والنهي
الأمر والنهي هما أساس التكليف، فلا تكليف إلا بأمر أو نهي صريحين أو ما يدل عليهما بنوع من أنواع الدلالة.
ولذا اهتم الأصوليون بالكلام عن الأمر والنهي ودلالة كل منهما، وجرى كثير منهم على تقديم الكلام عن الأوامر والنواهي في مؤلفاتهم لما لهما من الأهمية.
فمنذ أن خلق الله آدم وحواء أمرهما ونهاهما، فقال : { } [البقرة35].
ولشرف المأمور به قدم الأمر على النهي، واكتفى أكثرهم في النهي بالإشارة إلى أنه عكس الأمر في دلالته، قال الغزالي : « وكل مسألة في الأوامر لها وزان في النواهي ».
واكتفى في باب النهي بالكلام عن اقتضاء النهي الفساد تفصيلا، لما لهذه المسألة من أهمية وأثر في الفقه، ومثله فعل ابن قدامة.
الأمر
كلام الأصوليين في الأمر ينصب على جانبين :
1ـ لفظ الأمر، وهو الكلمة المكونة من : (أَ مَ رَ). وهذا يظهر من كلامهم عند تعريفه، وفي أن الأمر هل له صيغة تخصه؟
2ـ دلالة ما يصدق عليه لفظ الأمر من الألفاظ، مثل : صلوا، وصوموا، ونحوهما من الألفاظ الموضوعة للأمر، وسأتناول كلا من الجانبين، مع الاهتمام بالجانب الثاني؛ لأنه المقصود من دراسة هذا الباب.
تعريف الأمر :
كلمة الأمر عرفها بعض الأصوليين بأنها : طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء. فاشتمل التعريف على ثلاثة قيود هي :
أ ـ طلب الفعل، وهذا يخرج طلب الترك؛ فإنه يسمى نهيا لا أمرا.
ب ـ أن يكون بالقول لا بالفعل ولا بالإشارة والكتابة.
ج ـ أن يكون الطلب على جهة الاستعلاء، أي : يعرف من سياق الكلام أو من طريقة التكلم به أن الآمر يستعلي على المأمور، سواء أكان أعلى منه رتبة أم أدنى منه في واقع الأمر.
وبناء على هذا التعريف فإن العبد لو قال لسيده : افعل كذا، بنبرة توحي بأنه يستعلي عليه، سمي كلامه هذا أمرا، واستحق التأديب عليه لأنه يأمر سيده.
وأما إن قال : افعل كذا، على جهة التوسل والسؤال فلا يسمى أمرا، مع أن اللفظ واحد.
وقد اتفق الأصوليون على القيد الأول، وهو أن الأمر طلب فعل لا طلب ترك، واختلفوا في القيدين الأخيرين.
فالقيد الثاني خالف فيه جماعة من الأصوليين وقالوا : إن الأمر قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل كالإشارة والكتابة، والجمهور قالوا : لا يسمى الفعل أمرا إلا على سبيل المجاز المفتقر إلى القرينة.
ولهذا فإن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم المجردة لا تكون بمثابة الأمر إلا إذا دل الدليل على وجوب متابعته فيها.
وأما القيد الثالث فقد اختلفوا فيه، فمنهم من اشترط في مسمى الأمر الاستعلاء، وقد تقدم تفسيره.
ومنهم من اشترط العلو، وهو أن يكون الكلام صادرا ممن هو أعلى رتبة من المأمور في واقع الأمر.
ومنهم من اشترط الأمرين معا (العلو والاستعلاء).
ومنهم من لم يشترط أيّاً منهما.
والصواب : أن الأمر الذي يصلح مصدرا للتشريع لا يكون إلا ممن هو أعلى رتبة، أي : من الله عز وجل أو من رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا فاشتراط العلو هو الأقرب.
والفرق بين الاستعلاء والعلو : أن الاستعلاء صفة في الأمر نفسه، أي : في نبرة الصوت، أو في طريقة إلقائه، أو في القرائن المصاحبة، وأما العلو فهو صفة في الآمر أي : أن الآمر أعلى رتبة من المأمور في واقع الأمر.
اشتراط الإرادة في الأمر :
اتفق العلماء على أن الأمر يشترط فيه إرادة التكلم بالصيغة، فلو صدر اللفظ من نائم ونحوه لا يسمى أمرا في الاصطلاح وإن وجدت الصيغة، ولكنهم اختلفوا هل يشترط فيه إرادة الآمر إيقاع الفعل المأمور به؟
فذهب المعتزلة إلى أن ذلك شرط في تسميته أمرا، فإذا لم يرد المتكلم بالصيغة وقوع المأمور به لا يسمى أمرا.
وذهب الأشعرية إلى أنه ليس بشرط، فيسمى أمرا سواء أراد الآمر وقوع الفعل أم لا.
استدل المعتزلة بأن الله لا يأمر بما لا يريد وقوعه، وإلا لكان ظالما وهو سبحانه منزه عن الظلم. وبقوله تعالى : { } [النحل90]، وليس من العدل والإحسان أن يأمرنا بشيء لا يريد منا إيقاعه.
واحتج الأشعرية ومن تبعهم بأن الله يأمر الكافر بالإيمان وربما لم يؤمن، ولو أراد الله منه الإيمان لوقع؛ لأن الله وصف نفسه بأنه : { } [البروج16].
وهذا الخلاف لم يرد علىمحل واحد، والفريقان أخطآ معا؛ حيث لم ينتبهوا إلى أن الإرادة نوعان :
إرادة كونية قدرية : وهذه هي التي لا بد من وقوع متعلقها فيصح أن يقال: ما أراده الله لا بد أن يقع، بمعنى ما أراد الله وقوعه إرادة كونية قدرية، أي ما قدر وقوعه وقع، والأشعرية نظروا إلى هذا النوع من الإرادة فوجدوا أن الله يأمر بأشياء ثم لا تقع فقالوا إذاً هو لم يرد وقوعها بمعنى لم يقدر في الأزل وقوعها.
والنوع الثاني : الإرادة الشرعية : وهي بمعنى المحبة، وهذه تكون مع الأمر لا تفارقه، فما أمر الله به عباده فهو يحب أن يقع، ولكنه قد يقع فعلا أولا يقع تبعا لتقدير الله وإرادته الكونية، وهذه هي التي نظر إليها المعتزلة فقالوا من شرط الأمر الإرادة.
وتبين من هذا أن خطأ الفريقين جاء من جهة ظنهم أن إرادة الله واحدة لا تنقسم إلى هذين القسمين.
ويمكننا أن نصحح ما قاله الأشعرية من أن الأمر ليس من شرطه إرادة الآمر؛ أما الإرادة الكونية فواضح عدم التلازم بينها وبين الأمر، وأما الإرادة الشرعية فهي تابعة للأمر، فالأمر يستلزم الإرادة الشرعية ويدل عليها، فلا تكون شرطا في تسميته أمرا؛ لأن الشرط ينبغي أن يعلم تقدمه على المشروط، ولأن الشرط في اللغة العلامة، والإرادة خفية لا نعرفها إلا بالأمر فلا يصح جعلها شرطا في صحة الأمر.
والجميع متفقون على أن السيد لو أمر عبده بذبح الشاة للضيف مثلا، وهو لا يريد منه أن يفعل ذلك أنه يعد آمرا له عند جميع العقلاء العارفين باللغة، فلا لوم على العبد لو فعل، بل يلام على الترك، كما أنهم متفقون على أن ما قام الدليل على عدم دخوله في الأمر لا يدخل ولا يكون مأمورا به ولو شمله لفظ الأمر لغة، فقوله تعالى : { } [النحل90] فالعدل مأمور به ولكن يخرج منه ما لا يستطيعه الإنسان كالعدل بين الزوجات أو الأولاد أو الخصوم في الحب القلبي.
وقد تبع ابن قدامة وكثير من الأصوليين الغزالي في عدم اشتراط الإرادة في الأمر من غير أن يقيدوا الإرادة بالكونية القدرية، وخطأوا المعتزلة في اشتراط الإرادة من غير تفصيل، وكان الواجب أن يقولوا بالتفصيل الذي ذكرته آنفا. والله أعلم.
صيغ الأمر :
يرى جمهور الأصوليين وأهل اللغة أن الأمر له صيغ تدل عليه حقيقة، من غير حاجة إلى قرينة، وهذه الصيغ هي :
1ـ فعل الأمر، مثل : « صلوا كما رأيتموني أصلي ».
2ـ المضارع المقرون بلام الأمر، مثل : { } [الطلاق7].
3ـ المصدر النائب عن فعل الأمر، مثل : { } [محمد4] أي : فاضربوا الرقاب.
4ـ اسم فعل الأمر، مثل : صه، بمعنى : اسكت.
وهناك أساليب أخرى يستفاد منها الأمر لم يشتغل الأصوليون بحصرها لصعوبة ضبطها، غير أنهم قالوا: إن الخبر قد يأتي بمعنى الأمر، ومن أمثلته قوله تعالى : { } [البقرة228]، { } [الطلاق4].
فهذان الخبران يقصد بهما الأمر، فكأنه قال : المطلقات مأمورات بالانتظار ثلاثة قروء قبل زواجهن، وأولات الأحمال مأمورات بالانتظار حتى يضعن حملهن.
ويرى علماء المعاني من البلاغيين أن الأمر الوارد بصيغة الخبر أبلغ من الأمر الوارد بصيغته المعتادة.
وذهب بعض الأشاعرة إلى أن الأمر ليس له صيغة تخصه، وإنما يعرف كون اللفظ أمرا بالقرينة، وزعموا أن هذا مذهب أبي الحسن الأشعري ـ رحمه الله ـ.
واستشكل ابن عقيل في الواضح قولهم : للأمر صيغة، وقال : هذه الترجمة لا تصح؛ لأن الأمر هو الصيغة، فكيف نقول : هل للأمر صيغة؟.
والذي يظهر لي أن الإشكال لا يرد؛ لأنهم عنوا بالأمر هنا المعنى دون اللفظ، أي : هل للمعنى الذي يقوم بالذهن وهو طلب الفعل صيغة تدل عليه وضعا؟
وعبروا بلفظ الصيغة دون اللفظ لأن الخلاف ليس في وجود ألفاظ تدل على طلب الفعل طلبا جازما، وإنما في وجود صيغة محددة إذا جاء اللفظ عليها عد أمرا، وهي صيغة (افعل) أو (لتفعل) ونحوهما.
وإنكار بعض الأشعرية وجود صيغة تدل على طلب الفعل طلبا جازما مبني على رأيهم في الكلام، وأنه اسم لما في النفس لا للفظ المسموع.
مقتضى الأمر :
ينبغي أن نعرف أن مرادهم بالأمر هنا : صيغة افعل وما جرى مجراها، كلفظ : أمرتكم أو أنتم مأمورون أو إن الله يأمركم.
ومقتضى الأمر يشمل :
1ـ دلالة الأمر على الوجوب.
2ـ دلالته على الفور.
3ـ دلالته على التكرار.
4ـ دلالته على الإجزاء بفعل المأمور به.
دلالة الأمر على الوجوب
اختلف العلماء في الأمر المجرد عن القرائن علام يحمل؟ مع أنه لا يكاد يوجد أمر إلا ومعه قرائن تدل على المراد منه، ولكن لما كانت القرائن قد يتنازع فيها أراد الأصوليون أن يبينوا الأصل في الأمر ما هو؟
فذهب أكثر الأصوليين إلى أن الأصل حمله على الوجوب، واستدلوا بعدة أدلة منها :
1ـ قوله تعالى : { } [النور63] وجه الدلالة على الوجوب : أن الله توعد من يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتنة والعذاب الأليم، ولا يكون هذا إلا على ترك واجب، فدل على أن امتثال الأمر واجب.
2 ـ قوله تعالى ـ على لسان موسى مخاطبا أخاه هارون ـ: { } [طه93]، مع قوله تعالى : { } [النساء14].
وجه الاستدلال : أن الآية الأولى جعلت مخالفة الأمر معصية، والآية الثانية جعلت المعصية سببا لدخول جهنم.
فهاتان الآيتان تدلان بمجموعهما على أن الأمر للوجوب.
3 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة » متفق عليه.
وجه الاستدلال أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن سبب عدم الأمر بالسواك هو خوفه المشقة على الأمة، ولا مشقة إلا في ترك الواجب؛ لأنه هو الذي فيه عقوبة.
والحديث يدل على بطلان القول بأن الأمر للندب، حيث نفى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون أمر أمته بالسواك مع أنه ندبهم إليه بلا خلاف، فهذا يدل على أن الأمر لما هو أعلى من الندب والأعلى من الندب هو الوجوب.
4 ـ ما روي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبي بن كعب وهو يصلي فلم يجبه فلما قضى صلاته جاء، فقال : لم يمنعني من إجابتك إلا أني كنت أصلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « ألم تسمع قول الله تعالى : { } [الأنفال24]» (أخرجه البخاري).
فهذا الحديث يدل على أن الأمر يفيد الوجوب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لام أبي بن كعب على عدم فهمه الوجوب من الآية.
5 ـ إجماع الصحابة على الاستدلال بالأمر على الوجوب، ويدل على ذلك رجوعهم إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من غير بحث عن قرينة، كما رجعوا إلى حديث : « إذا دخل الطاعون في بلد وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن حدث في بلد فلا تدخلوها ».
القول الثاني : أنه موضوع للقدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو مطلق الطلب، وذهب إلى هذا كثير من الأصوليين كالرازي وشراح كلامه، وهو مذهب أبي هاشم الجبائي، ونسب إلى أبي منصور الماتريدي ومشايخ سمرقند ( ).
واستدلوا بأن ألفاظ الأمر الواردة في الكتاب والسنة منها ما حمل على الوجوب ومنها ما حمل على الندب، مما يدل على أن الأمر صالح لكلا المعنيين.
واستدلوا بقوله تعالى : { } [النحل90]، وهذه المأمورات منها ما هو واجب ومنها ما هو مندوب.
وهذا القول في حقيقته يؤول إلى القول الثالث؛ لأن المتيقن عندهم هو الندب ولا يحمل على ما زاد عليه إلا بدليل.
القول الثالث : أنه موضوع للندب ونسبه السمعاني لبعض الفقهاء( )، ونسب للشافعي وأحمد ( )، ونسب لأبي هاشم الجبائي وعامة المعتزلة ( ).
واستدلوا بأن الأمر طلب الفعل، وهذا يتحقق بحمله على الندب فلا نزيد عليه.
وهناك قول بأن مدلول الأمر الإباحة، ونسب لبعض المالكية ( )، والمشهور عنهم خلاف ذلك.
وهناك أقوال أخر أعرضت عن ذكرها؛ لأنها ليست عليها حجة تستحق المناقشة.
والراجح : هو القول الأول، واستدلال المخالفين بأن أوامر الكتاب والسنة، بعضها محمول على الندب وبعضها محمول على الوجوب، يجاب بأن المحمول على الندب منها وجدت قرائن تصرفه عن الوجوب، وكلامنا فيما لم توجد معه قرينة صارفة.
وقولهم : الأمر طلب، والندب هو المتيقن فيحمل عليه، يجاب بأن الأمر طلب الفعل من الأعلى رتبة، وأدلة الشرع السابقة دلت على حمله على الوجوب، والاحتياط يقتضي ذلك؛ إذ إن حمله على الندب ربما دفع المكلف إلى الترك وهو مراد به الوجوب فيأثم، وإذا حمله على الوجوب فعله وسلم من الإثم.
ولما كانت الأوامر في الكتاب والسنة لا تخلو ـ غالبا ـ عن قرائن حالية أو مقالية، متقدمة أو متأخرة أو مصاحبة، وجدنا كلام العلماء في حمل الأوامر على الندب أو الوجوب لا يقف عند ذكر الأصل في معنى الأمر، وإنما يؤيد كل منهم رأيه في المسألة الخاصة الوارد الأمر بها بأدلة وقرائن أخرى.
والمتتبع لكلام الفقهاء يجدهم يحملون الأمر على الوجوب، إلا إذا وجدت قرينة صارفة أو عارض الأمر دليل آخر.
دلالة الأمر على الفورية
اتفق العلماء على أن الأمر إذا صحبته قرينة تدل على الفور يحمل على ذلك، وإذا صحبته قرينة تدل على جواز التراخي حمل على ذلك، وإذا حدد له وقت معين حمل على ذلك.
واختلفوا في الأمر الذي لم تصحبه قرينة تدل على فور ولا على تراخ، ولم يوقت بوقت معين علام يحمل؟
فذهب أكثر الحنابلة والمالكية وبعض الحنفية والشافعية( ) إلى أنه يدل على الفور، واستدلوا بما يلي :
1ـ قول الله تعالى : { } [آل عمران133]، حيث أمر بالمسارعة إلى المغفرة، والمقصود أسباب المغفرة، وامتثال أمر الله من أسباب المغفرة ولا شك، والمسارعة تعني : المبادرة في أول أوقات الإمكان.
2ـ قوله تعالى : { } [المائدة48]، حيث أمر بالاستباق إلى الخيرات، والمأمور به خير فيدخل فيما أمرنا بالاستباق إليه، والأمر للوجوب فيكون الاستباق إلى فعله واجبا.
3ـ قوله تعالى ـ لإبليس ـ : { } [الأعراف12]، حيث ذمه على ترك السجود عند سماع الأمر.
وأجيب بأن الأمر هنا مقيد بوقت؛ لقوله تعالى : { } [ص 72]، وإذا تفيد الظرفية، والفاء في قوله : فقعوا، للتعقيب.
4ـ أن الأمر لو لم يكن للفور لجاز تأخيره، والتأخير إما أن يكون إلى أمد محدد أو غير محدد بوقت، فإن قلتم يؤخر إلى زمن محدد كان التحديد تحكما لا دليل عليه، وإن قلتم يؤخر من غير تحديد بزمن معين أدى ذلك إلى ترك الفعل، وهو ممنوع، فلم يبق إلا أن نقول إن وقته هو أول أوقات التمكن من الفعل.
فإن قيل يجوز له أن يؤخر بشرط سلامة العاقبة أي : بشرط أن يفعل قبل موته، قلنا : وما يدريه متى يموت؟ فإذا كان التأخير جائزا فلا يصح أن يعاقب من أخر الفعل إلى وقت يجوز تأخيره إليه ثم مات، كالمصلي لو أخر الصلاة عن أول وقتها ثم مات لا يأثم إذا كان عازما على الفعل في آخر الوقت.
القول الثاني : أنه للقدر المشترك بين الفور والتراخي ولا تعرض فيه لوقت الفعل.
وهو اختيار الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي، مع اختلافهم في التعبير عنه. ونسب هذا القول للإمام الشافعي.
وقد يعبر بعض الأصوليين عن هذا القول بعبارة فيها نظر، فيقول : قال بعض العلماء : « إن الأمر المطلق للتراخي » ( )، وهذا التعبير إذا أخذ على ظاهره لا يصح وإنما هو من باب التسامح في العبارة؛ إذ لم يقل أحد إن الأمر المطلق يجب التريث فيه وعدم المبادرة إلى امتثاله، وإنما خلافهم في أنه هل يجوز التراخي فيه؟ أما المبادرة فلا يختلفون في جوازها وفضلها، ولهذا فلا يصح التفريق بين قول الرازي ومن تبعه إن الأمر للقدر المشترك بين الفور والتراخي، وقول من قال : إن الأمر المطلق يحمل على التراخي، كابن السمعاني والإسفراييني وابن برهان ( )، ولهذا قال ابن السمعاني : « واعلم أن قولنا : إنه على التراخي، ليس معناه أنه يؤخر عن أول أوقات الفعل، لكن معناه أنه ليس على التعجيل » ( ).
أدلة هذا القول :
1ـ أن الزمان كالمكان، فكلاهما ظرف للفعل المأمور به، فكما أن الأمر لا دلالة فيه على مكان الفعل باتفاق، فكذلك ينبغي أن يقال لا دلالة فيه على زمانه.
2ـ أن الأمر يرد للفور حينا ولجواز التراخي حينا آخر، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك وإلا لزم المجاز أو الاشتراك، وكلاهما خلاف الأصل.
ولو أردنا إيضاح هذا الدليل أكثر لقلنا : إن الأمر يرد مرادا به الفور كما في الأمر بإنقاذ الغريق فإنه لا يحتمل التأخير، ويرد مرادا به جواز التراخي كما في الأمر بجهاد الطلب، ولو قلنا إنه للفور لزم أن يكون استعماله في غيره مجازا أو من باب الاشتراك اللفظي، والمجاز والاشتراك كلاهما خلاف الأصل ولا يلجأ إلى حمل الكلام عليهما إلا عند عدم إمكان حمله على الحقيقة، وهنا يمكن أن يحمل على الحقيقة فنقول : الأمر لمجرد طلب الفعل من غير التفات إلى وقته، فيكون المكلف مطالبا بإيجاده في أي وقت، ويكون تحديد الوقت من دليل آخر.
والراجح ـ والله أعلم ـ أن الأمر المطلق يحمل على الفور.
وقول المخالف : إن الزمان كالمكان مردود؛ فإن الزمان الأول تتعلق به فوائد ربما لا تحصل في الزمان الثاني، فالمبادرة إلى الفعل يحصل بها براءة الذمة والخروج من العهدة، والتأخير ربما ترتب عليه تفويت الفعل؛ لما قلناه من أنه لا دليل على تحديد حد معين للتأخير، وما ذكروه من تحديد لا يصح.
وأما قولهم : إن الأمر يرد للفور حينا ولجواز التراخي حينا الخ. فيجاب بأن الخلاف في الخالي من القرينة الدالة على التوقيت، وقد أقمنا الدلالة على وجوب المبادرة إليه.
وقد اعترض الرازي على أدلة القائلين بالفور باعتراض كرره في كتابه وقال :إنه يرد على أكثر أدلتهم وهو أنها تنتقض بما لو قال الآمر : افعل في أي وقت شئت.
وقد تأملت هذا الاعتراض فوجدته ضعيفا؛ حيث لم يوجد في نصوص الشرع مثال له وإنما هو افتراض محض، ولكنه قد يقع من السيد لعبده، والسيد ليس مبرأ من التناقض ولا من الظلم والاعتداء، فقد يعاقب عبده من غير أن يستحق العقوبة، ثم إن حصول هذا الأمر من السيد لعبده لا يخلو عن قرينة تبين الحد الأقصى للتأخير، كما أن العبد متمكن من سؤال سيده عن ذلك، وهذا بخلاف ما نحن فيه من الكلام عن أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ثمرة الخلاف :
ينبني على هذا الخلاف خلاف في مسائل كثيرة، ومن الفقهاء من اطرد قوله فيها مع قوله في القاعدة، ومنهم من لم يطرد قوله لأدلة أخرى أو قرائن ظهرت له، ومن تلك المسائل :
1ـ إخراج الزكاة ودفعها إلى مستحقيها، هل يجوز التأخر فيها عن رأس السنة؟ من قال : إن الأمر على الفور قال يحرم التأخير عن رأس الحول، ومن قال: لا يفيد الفور لم يؤثم المؤخر إذا فعل ولو بعد حين.
2ـ الكفارات والنذور غير المؤقتة بوقت، هل يجوز تأخيرها عن أول أوقات الإمكان؟ من قال: بالفور، يقول : لا يجوز بل يأثم بالتأخير، ومن لم يقل به أجاز التأخير.
3ـ الحج مع الاستطاعة هل يجوز تأخيره؟ ومن الواضح أن كثيرا من الأصوليين تكلم في المسألة الأصولية وهو يراعي مذهب إمامه في الحج هل يجب على الفور؟ فقرر الراجح في المسألة بناء على ما عرفه من مذهب إمامه في الحج أهو على الفور أم لا؟.
والخلاف في ذلك مشهور في كتب الفقه لا نطيل بذكره هنا، وله أدلة خاصة فيها تصريح بالمبادرة إليه.
4ـ قضاء الفوائت هل يجوز تأخيرها؟
5ـ أداء النفقات التي لا تسقط بفوات وقتها كنفقة الزوجة هل يأثم بتأخيرها إذا أداها في وقت متأخر؟.
دلالة الأمر على التكرار
محل النزاع :
اختلف العلماء في الأمر المطلق هل يدل على تكرار الفعل المأمور به بحسب الإمكان؟ بمعنى أن المكلف مأمور بتكرار ما أمر به على وجه لا يستحيل عقلا ولا شرعا، فأما التكرار المؤدي إلى منعه من الاشتغال بما تقوم به حياته، أو إلى الجمع بين الضدين فهو ممنوع عقلا، وأما التكرار المؤدي إلى إسقاط أوامر الله الأخرى وترك امتثالها فهو ممتنع شرعا.
فهذان النوعان من التكرار غير داخلين في محل النزاع؛ إذ لا يقول أحد بوجوب تكرار الفعل المأمور به في جميع الأوقات؛ لأنه ممتنع عقلا وشرعا.
ومحل النزاع هو في التكرار الذي لا يؤدي إلى مستحيل عقلا أو شرعا، وفي الأمر الذي ليس مقيدا بمرة ولا بتكرار ولا معلقا على شرط ولا صفة، وفيه قولان مشهوران :
القول الأول : أن الأمر المطلق يقتضي التكرار بحسب الإمكان، وهو منسوب للإمام أحمد وأكثر أصحابه، وحكاه ابن القصار عن مالك، وحكاه الغزالي عن أبي حنيفة، والمشهور عند الحنفية خلافه، فقد نص عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار ( ) على أنه لا يقتضي التكرار.
وجه القول بالتكرار ما يلي :
1ـ أن الأمر بالإيمان والتقوى لا يكفي فيه مرة واحدة، ولو لم يكن الأمر للتكرار لكفى الإنسان أن يؤمن ساعة ويتقي الله ساعة، ولا خلاف في أنه لا يكفيه ذلك، وأنه لا بد من الاستمرار في ذلك.
2ـ أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وموجب النهي ترك المنهي عنه في جميع الأوقات، فينبغي أن يكون موجب الأمر فعل المأمور به في جميع الأوقات إلا ما دل العقل أو الشرع على استثنائه.
3ـ أن الأمر يقتضي وجوب الفعل ووجوب الاعتقاد والعزم، ثم إنه في جانب الاعتقاد والعزم يفيد الاستمرار والاستدامة فينبغي أن يكون كذلك في الفعل.
القول الثاني : أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار، وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين، ورواية عن أحمد اختارها أبو الخطاب وابن قدامة.
وجه هذا القول ما يلي :
1ـ أن صيغة الأمر لا تعرض فيها لعدد مرات الفعل، وإنما وجبت المرة الواحدة ضرورة دخول الفعل في الوجود؛ إذ لا يمكن وجوده إلا بفعله مرة واحدة.
2ـ قياس الأمر المطلق على اليمين والنذر والوكالة والخبر، فلو حلف أن يصوم أو نذر أن يصوم بر بصيام يوم واحد، ولو قال لوكيله : طلق زوجتي، لم يكن له أكثر من طلقة واحدة، ولو أخبر عن صيامه فقال : صمت، صدق بصيام يوم واحد.
3ـ قياس استيعاب الأزمنة على استيعاب الأمكنة، فكما لا يجب أن يفعل في كل مكان لا يجب أن يفعل في كل زمان.
4ـ أن القول بان الأمر يقتضي التكرار يؤدي حتما إلى تعارض الأوامر بحيث يبطل بعضها بعضا وهو ممنوع شرعا.
وهذا القول هو الراجح، ويجاب عن أدلة القول الأول بما يلي :
قولهم : لو لم يجب التكرار لكفى المرء أن يؤمن ساعة، الخ... يجاب بأن الإيمان يضاد الكفر، فإذا تخلى عن الإيمان لحظة وقع في الكفر، والكفر منهي عنه على الدوام، وأما إذا ذهل عن الإيمان ولم يقع في قلبه ضده فلا شيء عليه ويبقى حكم الإيمان مستصحبا، ولهذا فإن النائم يسمى مؤمنا، ولا يسوى بين الأمر بالإيمان والتقوى والأمر بالفعل.
دليلهم الثاني : قياس الأمر على النهي، وهو قياس في اللغة فلا يصح، ثم إن الأمر ضد النهي فكيف يقاس الشيء على ضده؟!.
دليلهم الثالث : التسوية بين الاعتقاد والعزم والفعل لا يصح؛ لأن الفعل يحول بينه وبين أفعال أخرى مأمور بها، أو يحتاج إليها بمقتضى العادة والطبيعة، وأما الاعتقاد فلا يصرفه عن فعل مأمور به ولا عن فعل يحتاجه بمقتضى العادة والطبيعة.
ومن وجه آخر فإن الأفعال القلبية كالاعتقاد والعزم، استمرارها يتحقق بعدم وجود ما يضادها، بخلاف أفعال الجوارح فلا تتحقق بانتفاء الضد، بل لا بد من جهد زائد على ذلك.
أثر الخلاف :
من الفروع التي بنوها على هذا الأصل ما يلي :
1 ـ لو قال لوكيله : طلق زوجتي، فهل يملك طلقة واحدة أو ثلاثا؟ من قال : إن الأمر يفيد التكرار، فقياس مذهبه أنه يملك ثلاثا، ومن قال : لا يفيد التكرار، فمقتضى قوله أن لا يملك إلا واحدة.
2 ـ الأمر بالعمرة، هل يفيد التكرار؟ وهذا الفرع وجدت فيه أدلة أخرى كالقياس على الحج، وقوله صلى الله عليه وسلم : «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
3 ـ تكرار غسل النجاسة مما لم يرد في تكراره نص.
4ـ تكرار الفاتحة إذا فرغ المأموم من قراءتها في الصلاة السرية ولم يركع الإمام.
الأمر المعلق على شرط هل يقتضي التكرار؟ :
اختلفوا في الأمر المعلق على شرط هل يفيد التكرار بتكرر الشرط؟ ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين » (متفق عليه).
فالأمر بصلاة الركعتين معلق على شرط دخول المسجد، فإذا خرج ثم دخل فهل يؤمر بتكرار الصلاة.
ومن قال : إن الأمر المطلق يقتضي التكرار فلا شك أنه يقول كذلك في الأمر المعلق على شرط من باب أولى.
وأما الذين قالوا إن الأمرالمطلق لا يقتضي التكرار فقد قال أكثرهم كذلك في الأمر المعلق على شرط.
واستدلوا بما ذكرته سابقا من أن الأمر ليس فيه تعرض لعدد مرات الفعل فلا يدل عل تكرار ولا غيره، وأن ثبوت الفعل مرة واحدة إنما هو لضرورة إدخاله في الوجود.
وقال بعضهم : إن الأمر المعلق على شرط يقتضي التكرار بخلاف الأمر المطلق.
واستدلوا بأن تعليق الأمر على الشرط كتعليقه على العلة، والتعليق على العلة يوجب التكرار.
والراجح ـ والله أعلم ـ أن الأمر المعلق على شرط يتكرر بتكرر الشرط؛ لما ذكرته سابقا من أن تعليق الفعل على شرط دليل على كون هذا الشرط علة للفعل، وإذا تكررت العلة تكرر الحكم المعلق عليها.
ولكن قد تتداخل الأحكام تخفيفا على المكلفين. وقد تقدم أن الشروط اللغوية أسباب، والأسباب يتكرر الحكم بتكررها ما لم تتداخل.
ومما ينبني على هذه القاعدة :
1ـ إذا سمع الأذان أكثر من مرة فهل يستحب له تكرار القول كما يقول المؤذن، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن » الحديث.
2ـ إذا كرر السلام، فهل يلزم تكرار رده، عملا بقوله تعالى : { } [النساء86].
3ـ إذا تكرر دخوله للمسجد فهل يكرر صلاة تحية المسجد، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ».
4ـ إذا تكرر ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فهل يكرر الصلاة عليه، عملا بالأحاديث الواردة في ذلك.
هذه المسائل اختلف الفقهاء فيها، فذهب بعضهم إلى وجوب التكرار إذا تكرر الشرط، وذهب بعضهم إلى عدم التكرار، إما لأجل أنه لا يرى أن الأمر المعلق على شرط يقتضي التكرار بتكرر الشرط، وإما لأنه يرى التداخل مع قرب الزمن، ولهذا قال بعضهم ـ في الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ـ تكرر إذا اختلف المجلس، وقال بعضهم : تكرر مع طول الفاصل.
سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته
هذه المسألة يعنون لها في كتب الأصول بعنوانين :
أحدهما : هذا العنوان الذي ذكرته، ولكنهم اعتادوا أن يكتبوه بصيغة الاستفهام.
والعنوان الثاني : أيثبت القضاء بالأمر الأول أم يحتاج لأمر جديد؟.
فالقائلون بسقوط القضاء بفوات الوقت هم القائلون إن القضاء لا يثبت إلا بأمر جديد، والقائلون بعدم سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته هم القائلون بأن القضاء يثبت بالأمر الأول ولا يحتاج إلى أمر جديد.
وينبغي أن نعلم أن القول : بسقوط الأمر المؤقت بفوات وقته ليس معناه سقوط الإثم بل معناه سقوط المطالبة بالقضاء، وأما الإثم فقد استحقه إن لم يعف الله عنه.
صورة المسألة : إذا أمر الله بفعل وحدد له وقتاً معيناً ثم لم يفعله المكلف في ذلك الوقت ولم يأت أمر آخر بقضائه فهل يبقى مأموراً بفعله بعد فوات وقته؟.
والخلاف يشمل ما فات وقته بعذر أو بغير عذر، ويشمل ما كان الأمر به أمر إيجاب أو أمر ندب عند الأكثر. وهناك من قصر المسألة على المأمور به أمر إيجاب.
ويخرج عن محل النزاع ما ورد فيه أمر آخر يدل على قضائه بعد فوات وقته كالأمر بقضاء الصلاة المفروضة على من أخرها لنوم أو نسيان الثابت بقوله صلى الله عليه وسلم: « من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ».
ومثال محل النزاع: الأمر بالصلاة، فإنه أمر مؤقت، فإذا تركها المسلم عمدا فهل يؤمر بقضائها بعد فوات الوقت؟.
الأقوال :
اختلف العلماء في المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول: أن الأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته بل يجب قضاؤه بالأمر الأول ولا يحتاج إلى أمر خاص بالقضاء. وهذا القول ذهب إليه أكثر الحنابلة ومنهم ابن قدامة وبعض الحنفية ومنهم السرخسي.
واستدل عليه بإدلة أهمها :
1ـ أن الأمر بالمركب أمر بكل جزء من أجزائه، والمؤقت بوقت مركب من شيئين هما، الفعل ذاته، والزمن المحدد له. فإذا فات أحد الجزأين فيبقى الآخر مأمورا به، فيجب قضاؤه إن كان واجباً من غير بحث عن دليل جديد يدل على القضاء.
2ـ أن الواجب إذا شغلت به ذمة المكلف فلا تبرأ إلا بأداء أو إبراء، وانتهاء الوقت المحدد ليس بأداء ولا إبراء، فتبقى الذمة مشغولة به.
3ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « فدين الله أحق بالقضاء »، ووجه الدلالة من الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى الواجبات الشرعية ديناً، وشبهها بديون الآدميين فقال في صدر الحديث : « أرأيت لو كان على أبيك دين؟» ولا خلاف في أن دين الآدمي لا يسقط بفوات وقته، فكذلك دين الله، وهو شرائعه الواجبة.
ولا يخفى أن الدليلين الثاني والثالث لا يشملان المأمور به أمر ندب.
القول الثاني : أن الأمر المؤقت يسقط بفوات وقته، ولا يقضى إلا إذا قام دليل خاص على مشروعية قضائه. وهذا القول هو نفسه قول من قال : القضاء لا يثبت إلا بأمر جديد وهذا هو قول أكثر الأصوليين.
ويستدل له بما يلي :
1ـ أن تحديد الوقت المعين للعبادة دليل على أن هذا الوقت فيه مصلحة أوجبت تخصيصه دون سواه من الأوقات، فإذا فات الوقت فاتت المصلحة، فلم يعد لإيجاب القضاء فائدة.
2ـ أن الواجبات الشرعية منها ما يجب قضاؤه ومنها ما لا يجب قضاؤه باتفاق، فالصلوات الخمس يجب قضاؤها على النائم والناسي، والجمعة والجهاد لا يجب قضاؤهما، ولو كان القضاء يثبت بالأمر الأول ولا يحتاج لأمر جديد لاستوت الواجبات في ذلك.
3ـ أن الأمر بالفعل لا تعرض فيه للقضاء، فإيجاب القضاء لا دليل عليه.
4ـ قياس الزمان على المكان، فالفعل المخصص بمكان إذا لم يفعل فيه لا يؤمر الإنسان بفعله في مكان آخر.
وقد حاول أبو زيد الدبوسي أن يجمع بين القولين، فقال : إن القضاء واجب على كل حال في جميع الأفعال المأمور بها إذا فات وقتها، ولكن لا يجب بالأمر الأول بل بالقياس علىديون الآدميين وعلى ما اتفق العلماء على قضائه كالصلوات المفروضة بالنسبة للنائم والناسي.
وهذا في الواقع اختيار للقول الثاني من القولين، ولكنه زعم أن الأمر الجديد قد وجد فلا حاجة للبحث عن دليل خاص لكل فعل، بل يكتفى بدليل يصلح لكل الواجبات، فهو من حيث التقعيد موافق لأصحاب القول الثاني ولكنه في الفروع قد يختلف معهم وقد يتفق.
والراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الأول وهو وجوب القضاء بالأمر الأول وعدم الحاجة لأمر جديد والأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته.
وقول أصحاب القول الثاني : إن التخصيص بوقت محدد لابد أن يكون لمصلحة.
يجاب عنه بالتسليم ولكن نقول الفعل المؤقت فيه مصلحتان، إحداهما في الفعل نفسه والأخرى في التوقيت فإذا فاتت مصلحة التوقيت، فلا ينبغي أن نفوت مصلحة الفعل نفسه مع التمكن من استدراكه، ولا شك أن مصلحة الفعل هي العظمى.
وقولهم : إن الواجبات الشرعية المؤقتة بعضها يجب قضاؤه وبعضها لا يجب قضاؤه.
يجاب بأن ما لا يقضى من الواجبات امتنع قضاؤه لعدم التمكن منه كالجمعة، أو لأن المصلحة من الفعل لا تحصل إلا بالاجتماع عليه كالجهاد. أو يقال : إن ما لا يقضى قد قام الدليل على عدم قضائه وهو الإجماع من العصر الأول.
وقولهم : إن الأمر لا تعرض فيه للقضاء.
يجاب بأننا لا نزعم أن الأمر يدل على وجوب القضاء بالوضع اللغوي، وإنما وجب القضاء بالعرف الشرعي.
وقولهم: «إن الزمان كالمكان» لا يصح؛ لأن الأزمنة متصل بعضها ببعض، فما وجب في الأول ينسحب إلى الثاني بخلاف الأمكنة فإنها منفصلة، ولأن الأزمنة تذهب وتتلاشى فلا يبقى الزمان الأول مع الثاني بخلاف الأمكنة فهي باقية.
ثم إن الواجبات المقيدة بمكان لا تخرج عن أعمال الحج والعمرة من الإحرام والطواف والوقوف بعرفة ونحو ذلك وهي أعمال تعبدية غير معروفة العلة في الغالب.
سبب الخلاف :
الخلاف يرجع إلى قاعدتين :
الأولى : أن الأمر بالمركب أمر بكل واحد من أجزائه.
الثانية : أن تخصيص الفعل بوقت معين لا يكون إلا لمصلحة في ذلك الوقت.
فمن راعى القاعدة الأولى أوجب القضاء بالأمر الأول، ولم يقل بسقوط الأمر المؤقت بفوات وقته. ومن راعى القاعدة الثانية لم يوجب القضاء إلا بأمر جديد وقال بسقوط الأمر المؤقت بفوات وقته.
وما رجحته يمكن أن يتفق مع القاعدتين لكن مع عدم إهمال المصلحة المقصودة من ذات الفعل، فقولهم إن تخصيص الفعل بوقت لا يكون إلا لمصلحة لا ينافي أن يكون في الفعل المؤقت مصلحتان إحداهما في الفعل نفسه والأخرى في التوقيت.
ثمرة الخلاف :
ينبني على الخلاف في هذه القاعدة خلاف في مسائل فقهية كثيرة منها:
1- قضاء الصلوات المتروكة عمدا تهاونا لا جحدا للوجوب : اختلف العلماء في وجوب قضاء الصلاة على من تركها تهاوناً فذهب بعضهم إلى وجوب قضائها وبعضهم إلى عدم وجوبه.
فالقائلون بوجوب القضاء أكثرهم فرعوه على عدم سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته، وعدم حاجة القضاء إلى أمر جديد وبعضهم قال : إن الدليل على وجوب قضاء الصلاة الفائتة القياس على النائم و الناسي وقد ورد النص بوجوب القضاء عليهما في قوله صلى الله عليه وسلم : « من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها » (رواه النسائي والترمذي وصححه، ومعناه في صحيح مسلم).
ومنهم من أسقط القضاء إذا طالت المدة التي ترك الصلاة فيها، حتى لا يحولوا بينه وبين التوبة.
والقائلون بعدم وجوب القضاء على من ترك الصلاة عمدا فرعوه على القول بسقوط الأمر المؤقت بفوات وقته، وحاجة القضاء لأمر جديد، ولا يوجد أمر بقضاء الصلاة المتروكة عمداً، ولم يروا صحة قياس المتعمد على الناسي والنائم.
وقولهم بعدم وجوب القضاء ليس تيسيرا على التارك وإنما هو تشديد في العقوبة؛ إذ معناه استقرار الإثم عليه وعدم قبول القضاء منه.
2- زكاة الفطر : وهي صدقة مؤقتة بوقت محدد، فإذا فات الوقت فهل يجب أن يؤديها بعده؟ اختلفوا في ذلك ويمكن تخريج اختلافهم على القاعدة فمن قال : إن الأمر يسقط بفوات وقته قال : لا تقضى بعد فوات الوقت.
ومن قال : إن الأمر لا يسقط بفوات وقته قال : يجب عليه أداؤها ولو فات وقتها.
وهذا التخريج كله بناء على أن زكاة الفطر من الواجبات المؤقتة.
3- فرع بعض العلماء على هذه القاعدة أن من وكل غيره في دفع زكاة الفطر ثم لم يدفعها في وقتها فهل له أن يدفعها بعده؟ وهذا التفريع من باب بناء النظير على النظير؛ لأن التوكيل ليس أمرا حتى نقول إنه يسقط بفوات الوقت أولا؟
4- فرع بعض العلماء على القاعدة قضاء السنن الرواتب إذا فات وقتها، مع أن بعض تلك السنن قد ورد فيه دليل يخصه، فلا يمكن تفريعه، وما لم يرد فيه نص فمنهم من فرعه على القاعدة، ومنهم من قاسه على ما ورد في قضائه نص.
5- التسبيح المؤقت بما بعد الفراغ من الفريضة هل يمكن أن يؤدى بعد أداء النافلة؟
الذي يظهر لي أن هذه المسألة ينبغي أن تفرع على القاعدة ومن العلماء من فرق بين الواجبات والمندوبات فجعل القاعدة خاصة بالواجبات دون المندوبات وقد يفهم هذا التخصيص من قول بعض العلماء « سنة فات محلها فلا تقضى » ويعنون بالمحل الوقت أو الترتيب، وقد ذكر علماء الحنابلة هذه القاعدة في الرمل في طواف القدوم.
والظاهر أن الرمل لم يستحب قضاؤه؛ لأنه غير ممكن فهو مشروع في الأشواط الثلاثة الأولى، ولا يمكن أن ننقل المشروعية إلى الثلاثة الأخيرة، فالقضاء ممتنع، لأن الرمل صفة في فعل وقد انتهى الفعل فلا يمكن نقل الصفة إلى فعل آخر فتأمل هذا وستجده صحيحاً إن شاء الله.
اقتضاء الأمر الإ جزاء بفعل المأمور به
هذه المسألة من المسائل التي لم تحرر في كتب أصول الفقه تحريراً يكشف الغطاء عن حقيقتها، وأرجو أن أوفق إلى ذلك فأقول :
عنون الغزالي وابن قدامة للمسألة بقولهما : « الأمر هل يقتضي الإجزاء بفعل المأمور به؟» وعنون أبو الخطاب والرازي والآمدي بقولهم: « إتيان المأمور به هل يقتضي الإجزاء؟» فجعلوا المقتضي للإجزاء هو إتيان المأمور به، وبين العنوانين فرق لا يخفى على اللبيب.
وقبل الكلام في حكاية الخلاف نقول : ما المراد بالإجزاء؟
والجواب : أن الإجزاء يطلق على معنيين :
1ـ موافقة أمر الشارع وامتثاله.
2ـ سقوط القضاء.
وقد ذهب بعض المعتزلة إلى المعنى الأول، وأكثر الفقهاء إلى الثاني كما تقدم في باب الحكم الوضعي.
وفعل المأمور به على الوجه المطلوب من الشارع لا خلاف في أنه يقتضي الإجزاء بالمعنى الأول وهو موافقة أمر الشارع وامتثاله، وإنما الخلاف في أنه هل يقتضي الإجزاء بمعناه الثاني الذي هو سقوط القضاء.
وقد ذكرت كتب الأصول خلافاً في المسألة على قولين :
القول الأول : أن فعل المأمور به يقتضي الإجزاء بمعنى سقوط القضاء، فإذا فعل المكلف الفعل المأمور به لا يمكن أن يؤمر بقضائه.
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1ـ أن المكلف قد أتى بما طلب منه، فوجب أن يخرج عن العهدة بذلك الفعل، وسقوط القضاء يعني الخروج عن العهدة.
2ـ لو كان فعل المأمور به على الصفة المطلوبة لا يسقط القضاء للزم أن يكون الأمر يوجب فعل المأمور به مرة بعد مرة. وهذا قد أبطلناه في مسألة اقتضاء الأمر التكرار.
3ـ ما ورد في الحديث أن امرأة سنان بن مسلمة الجهني أمرت أن يُسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزئ أن تحج عنها؟ فقال : « نعم » (أخرجه النسائي وابن ماجه).
ووجه الدلالة : أن المرأة فهمت الإجزاء من فعل المأمور به وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وقد ورد حديث آخر أصح ليس فيه لفظ (يجزئ) ولكن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الواجبات بالدين وقال : « فدين الله أحق بالوفاء »، والدين إذا وفّى به المدين أجزأة وبرئت ذمته باتفاق، فدين الله كذلك.
القول الثاني : أن فعل المأمور به لا يقتضي الإجزاء بمعنى سقوط القضاء واستدلوا على ذلك بما يلي :
1ـ أن من أفسد حجه يؤمر بالمضي فيه وإتمامه، ويجب عليه القضاء، ولو كان فعل المأمور به يسقط القضاء لما وجب القضاء على من أفسد حجه.
2ـ من صلى يظن أنه متطهر، ثم تبين له أنه صلى بلا طهارة، فإنه يجب عليه القضاء باتفاق، ولو كان فعل المأمور به يوجب سقوط القضاء لسقط القضاء عنه.
3ـ أن القضاء يجب بأمر جديد ولا يمتنع أن يأتي أمر آخر بوجوب القضاء مع فعل المأمور به.
4ـ أن الأمر يقتضي وجوب الفعل، وأما سقوط القضاء فهو شيء آخر لم يتعرض له الأمر، ولم يدل عليه.
والراجح : أن إتيان المكلف بالمأمور به على الوجه المطلوب يقتضي الإجزاء أي : سقوط القضاء ولا نقول : إن الأمر يقتضي الإجزاء، لأن الذي اقتضى ذلك العقل والشرع وليس المعنى الوضعي للأمر
والجواب عن أدلة المخالف على النحو التالي :
قولهم : من أفسد حجه وجب عليه المضي فيه والقضاء، يجاب بجوابين :
الأول : أن من أفسد حجه لم يأت بالمأمور به على الوجه المطلوب، وإنما أتى به مع شيء من الخلل، ولهذا وجب عليه القضاء
الثاني : أن المفسد لحجه توجه إليه أمران : أحدهما : الأمر بالحج : { } [آل عمران97]. والثاني : الأمر بالإتمام المفهوم من قوله تعالى : { } [البقرة196]. ومن قول عمر، وإجماع الصحابة على ذلك.
فالمضي في الحج الفاسد هو امتثال للأمر الثاني، وإذا أتمه اقتضى ذلك الإجزاء وأما الأمر الأول فلم يأت به على الوجه المطلوب، ولذا وجب قضاؤه.
وأما استدلالهم بوجوب القضاء على من صلى يظن أنه متطهر، فيجاب عنه بجوابين:
1ـ المنع من وجوب القضاء. وذكره الآمدي وجها للشافعية.
2ـ أن القضاء وجب لتدارك المصلحة الفائتة، فالمصلي فاته الإتيان بصلاة مستكملة الشروط، وأمكنه استدراكها بالقضاء، فأوجبناه عليه.
وأما الدليل الثالث فقد تقدم الجواب عنه في مسألة سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته وبينا هناك أن القضاء لا يحتاج لأمر جديد وإنما يثبت بالأمر الأول.
ولا نمنع أن يؤمر بمثل الفعل الأول ولكن لا نسميه قضاء.
وأما الدليل الرابع فإنما يرد على من ظن أن الأمر يدل على الإجزاء بطريق الوضع، وهذا لا يقوله عالم، وإن فهم من ظاهر كلام بعض العلماء أنه يريد ذلك فلابد من تأويله وحمله على محمل صحيح؛ إحسانا للظن في العلماء.
وأما من قال : إن إتيان المامور به على الوجه المطلوب يسقط القضاء ويقتضي الإجزاء فلا يرد عليه هذا الدليل.
ثمرة الخلاف :
قال الآمدي : إن الخلاف بين الفريقين لفظي، وإن بعض من تكلم في المسألة لم يعرف موطن النزاع، فأطال الكلام وشعَّبه.
ووجه هذا القول أن الجمهور القائلين بسقوط القضاء بفعل المأمور به، لا يمنعون أن يرد أمر جديد للمكلف بفعل مثل ما أمر به أولاً، ولكنهم لا يسمونه قضاء إلا حيث يكون فيه استدراك لمصلحة فاتت في الفعل الأول، كالمثالين المذكورين في استدلال الخصم.
والمعتزلة يقولون : فعل المأمور به لا يسقط القضاء الواجب بأمر جديد غير الأمر الأول، والأمر الأول لا يوجب عليه الفعل مرة ثانية.
قلت : والجزم بلفظيه الخلاف فيها نظر، لأن في كتب الفروع مسائل يمكن أن تخرَّج عليه، ولكن لما كان المشتغل بالتخريج ليس من أهل الاجتهاد، والقاعدة لم يتضح فيها رأي الأئمة المجتهدين اضطر فقهاء الفروع إلى تخريج تلك المسائل على قواعد أخرى كقاعدة اليقين لا يزول بالشك ونحوها.
ومن تلك المسائل التي يمكن تخريجها على القاعدة :
1ـ فاقد الطهورين : قال بعض الفقهاء يصلي على حاله ثم يقضي إذا وجد الماء أو التراب. ومقتضى قول الجمهور في القاعدة أنه لا قضاء عليه؛ لأنه لا يطلب منه ما لا يطيق، فإذا أتى به فكيف يؤمر بالقضاء؟ وقال بعض الفقهاء : يلزم القضاء. وهو يتخرج على مذهب المعتزلة في القاعدة.
2ـ الجنب إذا لم يجد الماء يتيمم. وهل يجب عليه أن يغتسل إذا وجده؟ قال أكثرهم : نعم، ومقتضى قاعدة الجمهور أن لا يؤمر بذلك أمر إيجاب إلا بدليل خاص.
3ـ من ضل فلا يعرف جهة القبلة يصلي إلى أي جهة. وهل يلزمه القضاء إذا عرف جهة القبلة؟
اختلف العلماء في ذلك؛ فقال بعضهم : يلزمه القضاء. وهو يتخرج على قاعدة المعتزلة، لا على قاعدة الجمهور إذ لا يوجد دليل جديد على وجوب القضاء.
4ـ المحبوس في محل نجس : يصلي فيه. واختلفوا في وجوب الإعادة عليه أو القضاء، والقول بوجوب الإعادة أو القضاء يتخرج على مذهب المعتزلة في القاعدة.
والخلاف في هذه القاعدة له صلة بالخلاف في تعريف الصحيح بين الفقهاء والمتكلمين، فالفقهاء يعرفونه بأنه : ما أسقط القضاء، والمتكلمون يعرفونه بأنه ما وافق أمر الشارع في اعتقاد المكلف.
وهذا الكلام قد مر معنا في الحكم الوضعي، ويظهر من الخلاف في هذه القاعدة أن الخلاف في تعريف الصحيح مبني عليها؛ فمن قال : إن فعل المأمور به لا يقتضي سقوط القضاء، يقول: إذا وافق الفعل أمر الشارع في ظن المكلف ينبغي أن نسميه صحيحاً ولا نرتب عليه سقوط القضاء، إذ يمكن أن يأتي بالفعل ويطلب منه قضاؤه، وإذا وصفنا فعله السابق بالصحة امتنع تعريف الصحيح بما ذكره الفقهاء من قولهم : الصحيح : ما أسقط القضاء، ويتعين أن نعرفه بأنه ما وافق أمر الشارع في ظن المكلف، ولهذا فهم يقولون : صلاة من ظن أنه متطهر إذا تبين أنه على غير طهارة صحيحة ويلزمه القضاء.
وأما من قال : إن فعل المأمور به يقتضي سقوط القضاء، فيلتزم بأن صلاة من ظن أنه متطهر تبين أنها فاسدة وليست صحيحة.
ويشكل على هذا أنه يلزمهم أن لا يقولوا : إن المصلى يثاب على تلك الصلاة؛ لأن الفاسد لا ثواب عليه، والجزم بعدم الثواب على تلك الصلاة غير صحيح، ولكن يمكنهم أن يقولوا يثاب على قصده وعلى قراءته للقرآن وعلى غيره من الذكر الوارد في الصلاة.
وقد نقل الآمدي وجها عن الشافعية أن لا قضاء عليه، ومن قال بهذا الوجه اطردت له القاعدة ولم يرد عليه اعتراض المتكلمين، والله أعلم.
الأمر بالأمر بالشيء
المراد بالمسألة : أن الأمر إذا كان مضمونه أمراً لشخص ثالث مثلا فهل يعد الشخص الثالث مامورا من قبل الآمر الأول؟
وبعبارة أخرى إذا أمر المكلف بأن يأمر غيره بشيء فهل يكون ذلك أمراً من الشارع لذلك الغير بفعل الشيء المذكور في الأمر؟
مثاله : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها لعشر » (أخرجه أبو داود وصححه الحاكم) فهل يقال إن الصبيان مأمورون بالصلاة من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم؟
تحرير محل النزاع :
أخرج بعضهم عن محل النزاع إذا قال الآمر الأول : قل لفلان إني آمرك بكذا أو قل له أن يفعل كذا لأن المأمور بالأمر حينئذ يكون مبلِّغا فحسب.
وأخرج بعضهم عن محل النزاع أمر الله رسوله أن يأمر الناس فإنه يعد أمراً من الله للناس.
ووضع بعضهم للصورة الخارجة عن محل النزاع ضابطا، فقال: إذا كان الآمر الأول تجب طاعته على المأمور الأول والثاني فيكون الأمر بالأمر بالشيء أمرا بذلك الشيء في حق المأمور.
والصحيح عدم خروج هذه الصورة عن محل النزاع، إذ لو خرجت لم يبق للنزاع فائدة، فإن بحث الأصوليين إنما هو في أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وطاعتهما واجبة على الكل.
وبهذا نستطيع أن نقول : ظاهر كلام الأصوليين أن النزاع في كل أمر تعلق بأمر الغير بشيء هل يعد أمراً لذلك الغير من الآمر الأول؟ ولكن خروج الصورة الأولى ـ التي يكون فيها المأمور الأول مبلغا ـ له وجه؛ لتصريح الآمر الأول بأنه يأمر المأمور الثاني (قل لفلان إني آمره بكذا).
الأقوال في المسألة :
القول الأول : أن الأمر بالشيء ليس أمراً بذلك الشيء في حق الطرف الثالث.
وهذا القول هو مذهب جمهور الأصوليين ولا يكاد يوجد في كتب الأصول المشهورة من يختار خلافه.
واستدلوا له بما يلي :
1ـ قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « مروا أبناءكم بالصلاة لسبع » الحديث (أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الحاكم).
ووجه الدلالة من الحديث لا تتضح إلا بضم الإجماع إلى هذا الدليل، فيقال في تقريره : لو كان الأمر بالأمر أمراً لكان قول الرسول صلى الله عليه وسلم « مروا ابناءكم بالصلاة لسبع » أمرا من الرسول صلى الله عليه وسلم للصبيان، وإلإجماع قائم على أن الصبيان غير مأمورين بالصلاة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم المذكور.
ويمكن أن يقرر الاستدلال بالحديث بضم حديث آخر إليه فيقال : لو كان الأمر بالأمر أمرا لكان قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « مروا أبناءكم بالصلاة لسبع » أمرا للصبيان وتكليفا لهم، ولكن الصبيان غير مكلفين بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة » وذكر منهم : « الصبي حتى يحتلم » (رواه أحمد وأصحاب السنن).
2 ـ لو كان الأمر بالأمر أمرا، لكان الرجل إذا قال لمالك العبد : مُرْ عبدك أن يفعل كذا، متعديا على حق المخاطب بأمر عبده دون إذنه، وليس كذلك عند أهل اللغة فعرفنا أن الأمر بالأمر ليس أمراً.
3 ـ أنه يجوز أن يأمر أحد عبيده بأن يأمر عبده الآخر بشيء ثم يقول للأخر لا تطعه ولا يعد ذلك تناقضا، ولو كان الأمر بالأمر أمرا لكان تناقضا من السيد( ).
القول الثاني : أن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء.
وهذا القول نسب لبعض الشافعية وقيل إنه اختيار العبدري وابن الحاج في شرحيهما للمستصفى ( ).
واستدل لهذا القول بأدلة أهمها :
ما ورد أن ابن عمر طلق زوجته وهي حائض فأخبر عمر ـ ـ الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال : « مره فليراجعها ». الحديث، وروي بلفظ : « أن ابن عمر طلق زوجته وهي حائض فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها » والقصة واحدة ( ).
وجه الدلالة : أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر أن يأمر ابنه بالمراجعة عد أمراً لابن عمر بالمراجعة؛ لذا روي الحديث بلفظ : أمر رسول الله ابن عمر أن يراجع زوجته. لأن القصة واحدة، ولولا أن الأمر بالأمر أمر لما عد ذلك أمرا لابن عمر من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما صحت رواية من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بالمراجعة.
والراجح هو القول الأول، مع استثناء ما لو قال الأول : قل لفلان : إني آمره بكذا. لما تقدم في تحرير محل النزاع.
ودليل المخالف يجاب عنه بأجوبة وهي :
1ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر عمر بأن يأمر ابنه، ثم لما لقيه ابن عمر أمره بالمراجعة، فصحت رواية كل من اللفظين.
2ـ أن هذا استدلال بمحل النزاع فلا يصح؛ لأنا نقول : لا يجب على ابن عمر أن يراجع زوجته بمقتضى هذا النص.
3ـ أن عمر جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مستفتياً فأفتاه وأمره بنقل الفتوى إلى ابنه.
وأقواها الوجه الأول.
ثمرة الخلاف :
خرّج بعض العلماء على هذه القاعدة مسائل فرعية منها :
1- مراجعة الزوجة المطلقة في أثناء الحيض. ذهب بعض العلماء إلى وجوب مراجعتها، إما بناء على أن الأمر بالأمر أمر، وإما بناء على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر مباشرة أو أفتى فنقل عمر الفتوى لابنه وذهب بعض العلماء إلى أن مراجعة المطلقة في الحيض لا تجب بناء على أن الأمر بالأمر ليس أمرا، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم باشر ابن عمر بالأمر.
2- قوله صلى الله عليه وسلم ـ في شأن أبي إسرائيل ـ : « مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه » (أخرجه أبو داود وابن ماجه، ومعناه في البخاري). فهل يعد ذلك أمر إيجاب موجهاً لأبي إسرائيل أن يترك الوفاء ببعض ما نذر لعدم مشروعيته؟.
3 ـ قوله صلى الله عليه وسلم ـ حين مرض ـ : « مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس » (أخرجه البخاري). هل يعدُّ أمراً لأبي بكر؟.
دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده
الضدان : هما اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان، كالوجوب والتحريم.
والنقيضان : اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، كالوجود والعدم.
والخلافان : اللذان قد يجتمعان وقد يرتفعان، كالطول والحمرة.
ويعلم من ذلك أن التلبس بفعل معين يمنع من التلبس بضده أو نقيضه في الوقت نفسه، ولا يمنع من التلبس بهما في وقت آخر، وأما الخلاف فلا يمنع التلبس به التلبس بخلافه.
إذا تقرر هذا فإن بعض الأصوليين قد تجوز في إطلاق الضد في هذه المسألة فأطلقه على المخالف.
تحرير محل النزاع : اختلف العلماء في الأمر بشيء هل يعد نهيا عن فعل ضده أو أضداده من حيث المعنى؟
أما من حيث الصياغة واللفظ فلا يختلفون في أن الأمر بالشيء ليس عين النهي عن الضد.
الأقوال :
القول الأول : ذهب جمهور العلماء إلى أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده أو أضداده إن كان له أضداد كثيرة.
ونقل عن بعض الأشعرية قولهم إن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده. وهذا مبني على أن الكلام اسم للمعنى القائم بالنفس، لا للفظ المسموع. وهو باطل كما عرف في موضعه.
الأدلة :
استدل الجمهور بما يلي :
1- أنه لا يمكن الإتيان بالمأمور به إلا بترك ضده، وما لا يتم فعل الواجب إلا بتركه فهو حرام والحرام منهي عنه.
2- لو لم يكن الأمر بالشيء نهيا عن ضده لكان تارك الأمر يعاقب على ما لم يفعله. وهذا الدليل ذكره الجصاص والمراد به : أن العقوبة لا تكون إلا على فعل من المكلف، فإذا قلنا : الأمر بالشيء نهي عن ضده من حيث المعنى صح أن نقول إن عقوبة تارك الواجب هي على تلبسه بضده فتكون العقوبة على فعل.
وإن قلنا إن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، فإذا ترك الواجب لا يعد فاعلا لضده فعقوبته تكون على ما لم يفعله، وعدالة الخالق تقتضي أن لا يعاقب الإنسان على ما لم يفعل.
وقد يجاب عن هذا بأن الترك فعل فيعاقب على فعله.
3- أن الأمر يقتضي الفورية، ومن ضرورة اقتضائه الفورية أن يقتضي النهي عن التلبس بضده؛ لأن التلبس بالضد يحول دون المبادرة بالفعل المأمور به.
القول الثاني : أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده ولا يقتضيه، وهو قول بعض المعتزلة واختاره الجويني والغزالي.
الأدلة :
1ـ أن الضد مسكوت عنه فلم يرد له ذكر في الأمر، فلا يدل عليه.
2ـ أن الآمر قد يأمر بالشيء وهو غافل عن ضده، فكيف يكون ناهيا عما لم يخطر على باله؟.
القول الثالث: أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده وهو اختيار السرخسي والبزدوي من الحنفية.
دليله : أن الأمر من حيث الدلالة اللفظية لا دلالة فيه على النهي عن الضد، ولكنه يدل على النهي بطريق الاقتضاء، ودلالة الاقتضاء أضعف من دلالة النص، فيكون الثابت بها أضعف من الثابت بدلالة النهي المنصوص عليه بصيغته، فيثبت بدلالة الاقتضاء الكراهة.
الترجيح :
الراجح ـ والله أعلم ـ هو أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، أو يستلزم النهي عن ضده إذا كان المأمور معينا وقد ضاق الوقت عن غيره.
ولا يقال هو عين النهي عن ضده كما قال بعض الأشعرية؛ لأنه من حيث الصيغة لا يمكن القول باتحادهما، وكذا من حيث المعنى الموضوع له اللفظ أصلا.
ولا يقال إنه يقتضي النهي عن ضده مطلقا، بل إذا كان المأمور معينا وضاق الوقت عن الفعل وما يضاده، اقتضى النهي عن الضد، وإلا فلا.
والدليل على رجحان هذا التفصيل : أن أدلة القول الأول لا تدل على أن الأمر المخير والموسع دالان على النهي عن الضد، فقولهم : لا يمكن الإتيان بالمأمور به إلا بترك ضده لا يصح إلا إذا حملناه على الأمر المعين الواجب فعله على الفور.
أما الواجب المخير كخصال الكفارة فيصح فعله مع غيره، وكذا الواجب الموسع لا يحرم على المكلف التلبس بضده قبل فعله إلا حين يضيق الوقت فلا يتسع إلا له وحده.
وأما دليلهم الثاني فيجاب عنه بان الترك فعل فيكون عقاب مرتكب النهي على فعله.
ومما يدل على أن الترك فعل، قوله تعالى : { } [المائدة79].
وأما الثالث فهو يؤيد ما ذكرته، وهو أن الأمر بالشيء على الفور هو الذي يقتضي النهي عن الضد، والفورية لا تتحقق في الواجب الموسع قبل ضيق الوقت.
وأما أدلة المانعين مطلقا فيجاب عنها بما يلي :
قولهم : الضد مسكوت عنه. يجاب بأن دلالة الأمر على النهي عن الضد هي دلالة اقتضاء، وليست دلالة وضع، والمقتضى مسكوت عنه، ولكن دل عليه دليل من العقل أو الشرع أو العرف.
وقولهم : إن الآمر قد يكون غافلا عن الضد. يجاب بأن هذا قد يقال في حق الآمر من البشر، ولا يقال إذا كان الآمر هو الله، وأما إذا كان الآمر من البشر فيجاب بأن الأمر عندنا ليس من شرطه إرادة الآمر. فدلالته تحصل وتفهم سواء أرادها الآمر من البشر أم لا.
وأما قول السرخسي والبزدوي : إنه يدل على كراهة الضد؛ فإن كان المقصود بالكراهة كراهة التحريم فمسلم؛ لأننا لا نقول إنه يدل على التحريم قطعاً. وإن كان مرادهم الكراهة التنزيهية فممنوع.
وقولهم : إن دلالة الاقتضاء أضعف من دلالة النص، لا يدل على أن مدلولها لا يصل إلى درجة التحريم، فإن التحريم درجات من حيث طريق ثبوته.
ثمرة الخلاف :
ذكر الأصوليون بعض الفروع التي تنبني على هذه القاعدة، ومنها :
1ـ إذا قال الزوج : إن خالفت نهيي فأنت طالق، ثم أمرها بشيء ففعلت ضده فهل تطلق؟ على القول بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده تطلق، وعلى القول الثاني لا تطلق، وعلى المختار تطلق إلا إذا كان الأمر مخيراً أو موسعاً.
2 ـ المأمور بالقيام في الصلاة، إذا جلس ثم قام، فهل يحرم عليه ذلك؟ على القول الأول نعم وعلى القول الثاني لا يحرم عليه ذلك وعلى قول السرخسي والبزدوي يكره ذلك. ولا بد أن يستثنى من هذا جلسة الاستراحة عند من يرى استحبابها، فإنها عنده مندوب إليها.
3 ـ المصلي مأمور بالسجود على محل طاهر، فإن سجد على محل نجس ثم على طاهر فهل تبطل صلاته؟
قال السرخسي إن المسألة مبنية على أن الأمر بالشيء هل يقتضي نهياً عن ضده. فمن قال يقتضي النهي عن ضده أبطلها ومن لا فلا.
4ـ المصلي مأمور بالإنصات لقراءة الإمام لقوله تعالى : { } [الأعراف204]، والآية نازلة في الإنصات لقراءة الإمام. فلو قرأ المأموم في أثناء قراءة الإمام فهل يأثم؟ من قال : إن الأمر بالشيء نهى عن ضده يؤثمه، ومن لا فلا.
وإذا ترجح عنده تخصيص عموم الآية بحديث : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب »، فلا يمكن الجزم بتأثيمه، وإن قلنا : إن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد، وإنما يؤثمه من يقول الآية نزلت في قراءة الإمام في الصلاة وصورة السبب لا يمكن خروجها بالتخصيص. وقد نقل عن الإمام أحمد قوله إن الآيه في قراءة الإمام في الصلاة ونقل الاتفاق على ذلك.
سبب الخلاف :
الخلاف في قاعدة الأمر بالشيء هل يقضي النهي عن ضده يرجع إلى ثلاثة أسباب:
1ـ قولهم : لا تكليف إلا بفعل. فإذا سلموا هذه القاعدة وقالوا الترك ليس فعلا، فلا بد أن يقولوا الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد، حتى تكون العقوبة على فعل الضد لا على مجرد الترك.
2ـ اشتراط الإرادة في الأمر والنهي وعدم اشتراطها، فمن اشترطها لم يقل إن الأمر بالشيء نهي عن ضده؛ لاحتمال غفلة الآمر عن الضد، ومن لم يشترطها قال : الأمر بالشيء نهي عن ضده، أو يستلزم النهي عن ضده.
3ـ اقتضاء الأمر الفورية أو عدمه، فالقول بأن الأمر المطلق يقتضي الفورية، يناسبه أن يقول : الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، بخلاف القول بعدم الفورية، فإنه يناسب القول بأن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن الضد.
الأمر بعد الحظر
اشتهر عند الفقهاء قولهم : الأمر بعد الحظر للإباحة، والأصوليون اختلفوا في ذلك.
وصورة المسألة : أن يرد حظر من الشارع لفعل ما، سواء فهم هذا الحظر من نهي صريح، أم من غيره، ثم يرد أمر بذلك الفعل.
مثال الأمر بعد الحظر الصريح : قوله : « كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فكلوا منها وادخروا» (أخرجه أحمد والترمذي ومعناه في الصحيحين) فالنهي عن الادخار جاء الخبر عنه صريحاً ثم أعقبه أمر بالادخار.
ومثال النهي غير الصريح : ما جاء في حديث الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، إني اكتتبت في غزاة كذا وكذا، وإن امرأتي ذهبت للحج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « انطلق وحج مع امرأتك » (أخرجه البخاري ومسلم).
ففي هذا الحديث لم يرد نهي عن ذهاب ذلك الرجل مع امرأته، ولكنه فهم من اكتتاب اسمه في إحدى الغزوات فيكون منهياً عن التخلف عن الغزوة، ثم جاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالانطلاق مع امرأته للحج.
وقد مثل ابن اللحام بهذا المثال، وقد ينازع فيه.
ومحل النزاع في هذه المسألة حيث لم توجد قرينة قوية تدل على حمل الأمر على الوجوب أو الإباحة أو الندب. أما حيث وجدت قرينة فيعمل بمقتضاها.
والأصوليون يقررون في كثير من مسائل الخلاف أن محله حين تعدم القرينة، مع أنه من النادر أن تعدم القرينة، ولكنهم يقررون المبدأ العام، أو الأصل الذي يبنى عليه الحكم عند الاختلاف في القرائن ودلالتها؛ لأن القرائن كثيرا ما يجري الخلاف فيها وكثيراً ما يدعي كل فريق أنها تشهد لقوله.
الأقوال :
القول الأول : أن الأمر بعد الحظر للإباحة. وهو قول الشافعي، كما حكاه عنه ابن القطان، وابن السمعاني، والآمدي، والأسنوي، وغيرهم.
وقال القاضي عبدالوهاب، وابن خويز منداد : إنه قول مالك. ونقله ابن برهان عن أكثر الفقهاء. واختاره ابن قدامه.
ويقرب من هذا القول في التطبيق قول ابن تيمية إن الأمر بعد الحظر يرفع التحريم، ويعود الحكم إلى ما كان عليه قبل الحظر، فقد يكون مباحاً، وقد يكون مندوباً، وقد يكون واجباً ( ).
الأدلة:
1ـ العرف الشرعي في استعمال الأمر بعد الحظر هو استعماله للإباحة، ومن ذلك :
ـ قوله تعالى : { } [المائدة2].
ـ وقوله تعالى : { } [الجمعة10]، وليس البيع والشراء واجبا بعد الجمعة باتفاق.
ـ وقوله تعالى : { } [البقرة222] وليس إتيان النساء بعد الطهر واجباً بل مباحاً .
ـ ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم »، وفي رواية : « فكلوا وادخروا » (أخرجه مسلم).
ـ وقوله صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها » (أخرجه مسلم)، ولم يقل أحد بوجوب زيارة القبور، وإنما قالوا باستحبابها للرجال؛ لقوله في آخر الحديث : « فإنها تذكركم الآخرة ».
2 ـ العرف اللغوي :
فإن أهل اللغة متفقون على أن السيد لو قال لعبده : لا تأكل هذا الطعام، ثم قال له : كل، لم يكن هذا إيجاباً يستحق على تركه العقوبة، وكذلك إذا قال لمن طرق الباب : ادخل، فإنه ليس إيجاباً للدخول، وإنما هو إذن فيه.
القول الثاني : إن الأمر لا تختلف دلالته بعد الحظر عن دلالته لو لم يسبق بحظر، وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين ( ). ولكن الفقهاء يقولون : يبقى على الوجوب، وكثير من المتكلمين يقولون يبقى على الاستحباب؛ بناء على قولهم في أصل دلالة الأمر المطلق.
دليل هذا القول :
1ـ أن الأمر الواقع بعد الحظر يكون ناسخاً له، وقد ينسخ التحريم بالإيجاب أو الإباحة أو الندب وإذا احتمل المعاني الثلاثة فالأصل حمله على معناه الأصلي وهو الوجوب عند الجمهور.
2ـ قياس الأمر بعد الحظر على النهي بعد الأمر فكما أن النهي إذا جاء بعد الأمر يحمل على التحريم الذي هو معناه قبل سبقه بالأمر فكذلك الأمر بعد الحظر، يحمل على الوجوب.
3ـ عموم الأدلة الدالة على أنه للوجوب.
واعترض القائلون بالوجوب على القائلين بالإباحة وقالوا : لا يوجد عرف شرعي مستقر، بدليل أن بعض الآيات جاء فيها الأمر بعد الحظر، وحملت على الوجوب باتفاق. ومن ذلك قوله تعالى : { } [التوبة5].
القول الثالث : إذا ورد الأمر بصيغة : (افعل) ونحوها، فهو للإباحة، وإن ورد مصرحاً فيه بلفظ الأمر كقوله : أنتم مأمورون، أو إني آمركم، فيحمل على الوجوب. وهذا التفصيل اختيار ابن حزم الظاهري، والمجد ابن تيمية.
دليله : أن العرف الشرعي جرى في الأمر بصيغة (افعل) ونحوها، وأما لفظ الأمر المصرح فيه بمادة (أمر) فلا عرف فيه فيبقى على الوجوب.
وهذا الرأي مبني على أن صيغة (افعل) أو (لتفعل) ونحوهما، من الظاهر، وصيغة : أنتم مأمورون ونحوها، من النص الصريح.
الترجيح :
الراجح هو القول الأول، وهو حمل الأمر بعد الحظر على الإباحة إلا أن يقوم دليل على خلاف ذلك.
وماذكره أصحاب هذا الرأي من الاستدلال بالعرف الشرعي والعرف اللغوي كاف في الدلالة على المطلوب.
وأما اعتراض أصحاب القول بالوجوب بآية : { } [التوبة5]، فيجاب عنه بأن هذه الآية لا تدل على وجوب قتل المشركين، وإنما يستفاد الوجوب من غيرها. ولو لم يرد في قتال المشركين إلا هذه لما كانت دالة على الوجوب.
وأما قياس الأمر على النهي فهو ضعيف؛ للفرق بينهما من جهة أن النهي يقتضي الاستمرار في ترك المنهى عنه، والأمر لا يقتضى التكرار كما تقدم. وأيضاً فإن هذا قياس في اللغة وهو ممنوع عند الأكثر.
ثم إن عرف الاستعمال الشرعي واللغوي صرفه عن مقتضاه في أصل الوضع.
وبمثل هذا يجاب عن تمسكهم بعموم الأدلة الدالة على أن الأمر المطلق للوجوب.
وأما قول ابن حزم والمجد ابن تيمية فمردود بعدم الفرق بين الإخبار عن أمر الله أو رسوله، والأمر من الله أو رسوله بصيغه المعروفة. فإذا سلم جريان العرف في الثاني فالأول مثله.
وأما قول شيخ الإسلام ابن تيمية : إن الأمر بعد الحظر يعيد الفعل إلى ما كان عليه قبل ورود الحظر، فقد نسب للمزني، واختاره بعض المتأخرين، وقد يفسر به قول بعض المتقدمين كالقفال الشاشي، وهو قريب من حيث التطبيق من القول الأول، وفيه جمع بين الآيات التي جاء فيها الأمر بعد الحظر وحملت على الإباحة، مثل : { } [الجمعة10]، والآيات التي جاء فيها الأمر بعد الحظر وحملت على الوجوب، نحو : { } [التوبة5].
ثمرة الخلاف :
تظهر ثمرة الخلاف في مسائل منها :
1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « انطلق فحج مع امرأتك » هل يمكن أن يستدل به على الوجوب؟ فيقال : يجب على الرجل مرافقة زوجته في حج الفريضة؟ قيل: نعم؛ عملاً بظاهر اللفظ، والأكثر لم يوجبوا عليه ذلك؛ لكونه أمراً بعد حظر فلا يفيد الوجوب، بل الإباحة. والندب مستفاد من كونه من الإحسان للزوجة.
2 ـ قوله تعالى : { } [النور33]، هل يمكن أن يستدل به على وجوب مكاتبة العبد إذا علم السيد فيه خيراً؟.
قيل : نعم؛ أخذا بظاهر الأمر، والجمهور قالوا : لا يجب؛ لأنه أمر بعد حظر، فلا يفيد الوجوب. والحظر هنا غير منصوص عليه ولكنه مفهوم مما عرف عن الشارع؛ لأنه لا يوجب على المالك أن يبيع شيئاً من ماله مؤجلا. فثبوت ملك السيد لعبده بمثابة المانع من المكاتبة.
وقال الزركشي : إنه على خلاف القياس، فكان كالممنوع منه؛ إذ من حقه التحريم لولا ورود السمع ( ).
3 ـ قوله تعالى : { } [البقرة222] بعد قوله : { }، فالأمر باعتزال النساء في المحيض نهي عن الجماع والأمر بإتيانهن أمر بالجماع جاء بعد الحظر، فهل يمكن أن يستدل بقوله تعالى : { } على وجوب الوطء؟
الأكثر قالوا : لا يجوز؛ لأنه أمر جاء بعد حظر فكان إذناً وإباحة.
وقال بعضهم : نعم يصلح دليلاً؛ عملاً بالظاهر.
وقال ابن تيمية : الأمر رفع الحظر وعاد الحكم على ما كان عليه قبل ذلك، والوطء واجب على الرجل مع القدرة بقوله تعالى : { } [النساء19] ونحوها من الأدلة.
سبب الخلاف :
الخلاف راجع إلى أن تقدَّم الحظر على الأمر هل يصلح قرينة توجب صرفه عن ظاهره إلى الإباحة؟ فمن قال : تقدم الحظر قرينة، صرفه عن الوجوب إلى الإباحة، أو أبطل الوجوب، وقال : يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر.
ومن قال : لا يعد قرينة صارفة، حمله على الوجوب إن كان ممن يقول إن الأمر المطلق للوجوب، أو على الندب إن كان ممن يقول إنه للندب.
الأمر في الواجبات الكفائية
أختلف العلماء في الأمر في الواجبات الكفائية، مثل الجهاد ونحوه، أيتوجه إلى الكل ويسقط بفعل البعض؟ أم يتوجه إلى بعض مبهم؟.
وقد ذهب الأكثر إلى أن الأمر في الواجبات الكفائية موجه لكل واحد من الأمة ويسقط بفعل من يكفي.
واستدلوا بأن الأمر لا يخلو إما أن يكون موجهاً إلى جميع الأمة، أو إلى بعض مبهم، والاحتمال الثاني باطل، لأنه لو وجه الخطاب إلى بعض مبهم، لأدى ذلك إلى ترك الواجب؛ إذ كل واحد سوف يقول : لست من ذلك البعض المبهم، فلا يقوم أحد بالفعل المأمور به، ولأن المكلف لابد أن يعلم أنه مكلف، وإذا كانت دلالة الخطاب على مبهم فإن المكلف لا يعلم أنه مخاطب، فيكون معذوراً.
وذهب بعض العلماء إلى أن المأمور في الواجبات الكفائية بعض مبهم.
واستدلوا بأن الأمر لو توجه إلى الجميع لما سقط بفعل البعض؛ لأن الفرض لا يسقط إلا بأداء أو نسخ.
وأيضاً فإن الإبهام في المكلف به جائز، فكذلك الإبهام في المكلفين.
وقد يستدلون بقوله تعالى : { } [آل عمران104].
ووجه الدلالة : أن الدعوة إلى الخير من الواجبات الكفائية، ومع ذلك وجَّه اللهُ الأمر بها إلى البعض، لا إلى الجميع حيث قال : { } و (مِن) تفيد التبعيض.
والراجح : أن الأمر في الواجبات الكفائية، الأصل فيه أن يتوجه إلى المجموع، أي إلى الأمة مجتمعة، لا إلى الجميع أي لا لكل فرد بخصوصه ولا إلى بعض مبهم وتوجيه الخطاب إلى مجموع الأمة يجعل كل واحد منها عرضة للعقوبة إذا لم يتم الفعل المأمور به.
وهذا القول قريب من القول الأول من حيث النتيجة ولكنه يسلم من الاعتراض الذي أورد عليه من أصحاب القول الثاني.
فلا يرد عليه قولهم : لو كان الخطاب موجهاً للجميع لكان كفروض الأعيان لا يسقط إلا بفعله أو نسخه.
ويتحقق به المقصود الذي أراده أصحاب القول الأول من كون الخطاب المبهم يؤدي إلى ترك الفعل المأمور به.
تعلق الأمر بالمعدوم
هذه المسألة من المسائل الكلامية التي لا أثر لها في الفقه. ولكني رأيت كثيراً من الدارسين لا يعرف حقيقتها، ولا الباعث عليها، فأردت إيضاحها، فأقول:
هذه المسألة من المسائل التي أثارها المعتزلة ضد خصومهم من الأشعرية القائلين إن كلام الله قديم أزلي، فأوردوا عليهم سؤالاً مضمونه : لو كان كلام الله أزلياً لتعلق الأمر بالمأمورين قبل وجودهم، لأن كلام الله في الأزل عندهم أمر ونهي، ولا يمكن أن يكون أمر بلا مأمور.
فلما أورد المعتزلة عليهم هذا السؤال اضطروا إلى الالتزام بما يترتب على قولهم من لوازم فاسدة فقالوا : يتوجه الأمر للمعدوم.فلما شنّع عليهم العقلاء هذا القول قالوا: إن الأمر هنا ليس ناجزاً بل معلقاً على شرط الوجود.
قال إمام الحرمين : « وهذه المسألة إنما رسمت لسؤال المعتزلة، إذ قالوا : لو كان الكلام أزلياً لكان أمراً، ولو كان أمراً لتعلق بالمخاطب في عدمه، فإذا بينا أنه لا يمتنع ثبوت الأمر من غير ارتباط بمخاطب فقد اندفع السؤال، فآل الأمر إلى أن المعدوم مأمور على شرط الوجود، وهذا منتهى مذهب الشيخ . فأقول: إن ظن ظان أن المعدوم مأمور، فقد خرج عن حد المعقول وقول القائل: إنه مأمور على تقدير الوجود تلبيس، فإنه إذا وجد ليس معدوماً، ولا شك أن الوجود شرط في كون المأمور مأموراً » ( ).
وإمام الحرمين قد انتهى به الأمر إلى تأجيل النظر في حل هذا المعضل فقال: «فهذا مما نستخير الله تعالى فيه وإن ساعف الزمان أملينا مجموعاً من الكلام فيه شفاء الغليل إن شاء الله » ( ).
وهذا السؤال الذي حير إمام الحرمين، وتخبط في الجواب عنه شيخه الباقلاني، لا يرِد على من اتبع مذهب السلف في كلام الله، الذي خلاصته أن كلام الله متجدد، وأنه تعالى يتكلم بما يشاء متى شاء، وأن كلام الله قبل تعلقه بالمخلوقين لا يسمى أمراً ولا نهياً بالمعنى المعروف للأمر والنهي، فلا يسمى المعدوم مأموراً ولا منهياً قبل وجوده، ولا يوجد أمر بلا مأمور بل لا يسمى كلام الله أمراً إلا إذا توجه إلى المأمورين، ولا يلزم من ذلك عدم دخول المعدومين حين نزول القرآن في الخطاب إذا وُجدوا؛ لأن كلام الله حكم عام مستمر، وكل من وجد وتوافرت فيه شروط التكليف دخل تحته من غير حاجة إلى قياس. وعند قوم يدخل من يوجد بعد عصر نزول الوحي بطريق القياس الجلي، لأنه قياس بنفي الفارق.
والخلاف بين الفريقين عديم الفائدة في الفروع الفقهية، والإجماع قائم على دخولنا في هذا العصر تحت الأوامر والنواهي العامة، وبهذا يتبين أن المسألة كلامية، وإنما ذكرتها لإيضاح ما فيها من غموض.
النهي
تعريف النهي :
النهي في اللغة : المنع، ومنه سمي العقل نُهيـة، وجمعه : نُهىً؛ لأن العقل يمنع صاحبه من الخطأ غالباً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «ليلني منكم أولو الأحلام والنّهي» (أخرجه مسلم).
ومنه سمي الغدير : نِهياً؛ لأن الماء يجتمع فيه، فيمنعه من الجريان حتى يمتليء.
وفي الاصطلاح : هو طلب الترك بالقول ممن هو أعلى. أو هو : القول الطالب للترك على سبيل الاستعلاء.
والمعنى : أن النهي هو القول الذي يدل على طلب الترك، ولا بد أن يكون ممن هو أعلى رتبة؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان سؤالاً أو التماساً، فإن كان من الأدنى إلى من فوقه فهو سؤال، كقولنا في الدعاء : ربنا لا تؤاخذنا، وإن كان من الند للند سمي التماساً، كقولك لصديقك : لا تفعل كذا.
وقد اختلفوا في زيادة قيد العلو أو الاستعلاء كما سبق في الأمر، وحيث إن كلام الأصوليين والفقهاء في نواهي الشرع فينبغي أن يقيد النهي بما كان طلب الترك فيه صادراً من الأعلى إلى من دونه؛ لأن هذا حال النواهي الشرعية.
صيغة النهي
للنهي صيغة واحدة متفق على كونها تفيد النهي، وهي صيغة : (لا تفعل) كقوله تعالى : { } [الأنعام151].
وخالف بعض الأشعرية في إفادة هذه الصيغة للنهي، وزعم أنها مترددة بين عدة معان، فلا تحمل على أحدها إلا بقرينة. وعامة الأصوليين من الأشعرية وغيرهم يقرون بأن صيغة (لا تفعل) تفيد النهي عن الفعل، وإن كان بعضهم قد يخالف في إفادتها التحريم.
وزاد بعضهم صيغتي : (انته) و (اكفف)، ونحوهما من الأوامر الدالة على الترك ( ).
وهناك أساليب كثيرة يعرف بها تحريم الفعل ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
1ـ لعن الله أو رسوله للفاعل، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » فهذا دليل على النهي عن اتخاذ القبور مساجد.
وقوله صلى الله عليه وسلم : « لعن الله النامصة والمتنمصة » الحديث (أخرجه أبو داود).
2ـ الخبر، مثل قوله تعالى : { } [الممتحنة9].
3ـ توعد الفاعل بالعقاب كقوله تعالى : { } [الفرقان68].
4ـ إيجاب الحد على الفاعل، مثل قوله تعالى : } [النور2].
5 ـ وصف العمل بأنه من صفات المنافقين أو من صفات الكفار نحو قوله تعالى ـ عن المنافقين ـ : { } [النساء142].
اقتضاء النهي التحريم
النهي الذي صحبته قرينة تدل على التحريم يحمل على التحريم باتفاق، كقوله تعالى : { }[الإسراء32]، فوصفه بأنه فاحشة وأنه طريق بلغ الغاية في السوء، دليل على تحريمه.
والنهي الذي صحبته قرينة تدل على أنه للكراهة يحمل على الكراهة مثل : النهي عن المشي بنعل واحدة، والنهي عن السآمة من كتابة الدين كما في قوله تعالى : { } [البقرة282] فالنهي عن المشي بنعل واحدة حمل على التنزيه والكراهة لأنه إرشاد وتوجيه إلى الأفضل والأكمل، وللمحافظة على سلامة الشخص من السقوط، والنهي عن ترك كتابة الدين والسآمة منه للكراهة لكونه نهي إرشاد.
وكذلك النهي عن البول قائما، مع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال واقفاً.
وقد تصرف القرينة صيغة (لا تفعل) إلى الدعاء، والالتماس، ونحوهما من المعاني، فتخرج عن كونها نهياً.
واختلفوا في النهي الذي لم تصحبه قرينة تدل على أنه للكراهة أو التحريم علام يحمل؟:
فذهب جماهير العلماء إلى أنه يحمل على التحريم، واستدلوا بما يلي :
1ـ قوله تعالى : { } [الحشر7].
ووجه الدلالة : أن الله أمر بالانتهاء عما نهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمر يقتضي الإيجاب كما سبق.
2ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا» (أخرجه ابن ماجه والبيهقي وصححه ابن خزيمة، ومعناه في الصحيحين)، فهذا الحديث فيه الأمر بالانتهاء عما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير استثناء، والأمر للوجوب.
3ـ أن صيغة (لا تفعل) تقتضي ترك الفعل والامتناع عنه، والامتناع أبداً لا يحصل إلا بالتحريم؛ إذ الكراهة لا تمنع العباد من الفعل دائماً.
4ـ أن أهل اللغة لا يفهمون من الصيغة عند الإطلاق إلا المنع الجازم، ولهذا إذا قال السيد لعبده : لا تفعل كذا ثم فعله، استحق العقوبة، والقرآن والسنة جاءا بلغة العرب.
5ـ أن الصحابة فهموا من النهي المطلق التحريم، فإذا روي لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شيء عدوه محرماً سواء أصحبته قرينة تدل على التحريم أم لا.
اقتضاء النهي الفورية والاستمرار
النهي يقتضي الكف عن المنهي عنه فوراً على الدوام ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك.
والدليل على ذلك أن المنهي عنه مفسدة، والمفسدة يجب الابتعاد عنها فوراً على الدوام.
وأيضاً : فإن مقتضى النهي عدم إدخال المنهي عنه في الوجود، فلو امتنع عنه المكلف يوماً، أو شهراً، أو سنة ثم فعله، لم يصدق عليه أنه لم يفعله. فلهذا اتفقوا على أنه للاستمرار والدوام إلا من شذَّ.
النهي عن الشيء أمر بضد من أضداده
سبق أن بينا أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن جميع أضداده إذا كان المأمور به معيناً وضاق وقته عن فعل غيره معه. فهل يقال في النهي مثل ذلك فيكون النهي عن الشيء أمراً بالاشتغال بضده؟.
والجواب : أن النهي إذا كان له ضدٌّ واحد فالنهي يستلزم الأمر بذلك الضد كالصوم في العيدين ضده الفطر، فالنهي عن الصوم في العيدين يقتضي الأمر بالفطر فيهما.
وإن كان له أضداد كثيرة فهو يستلزم الأمر بضد واحد من أضداده؛ لأنه لا يتأتى ترك المنهي عنه الإ بالتلبس بضد من أضداده وخالف في ذلك من خالف في الأمر بحجة أن الضد قد يكون الناهي ذاهلاً عنه، والغفلة لا تتحقق في شأن نواهي الله جلا وعلا. ولكنهم يقولون : المسألة لغوية، فينطبق على نصوص الوحي ما ينطبق على كلام العرب.
والصحيح أن النهي عن الشيء الذي له أضداد يستلزم الأمر بضد واحد من تلك الأضداد غير معين، كما هو الحال في الواجب المخير؛ وذلك لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فهو واجب، ووجوبه من باب وجوب الوسائل لا من باب وجوب المقاصد، وأما كون الثواب على الترك أو على التلبس بذلك الضد فهو أمر غيبي لا ينبغي الاشتغال به ولا يتعلق به غرض الفقيه.
النهي بعد الأمر
سبق الكلام في مسألة الأمر بعد الحظر وبيّنا أنه للإباحة على الأرجح، فهل نقول إن النهي بعد الأمر للإباحة أيضاً؟
ذهب جمهور العلماء إلا من شذ منهم إلى أن النهي بعد الأمر يحمل على التحريم كما هو لو ورد ابتداءً غير مسبوق بأمر. وقد حكى الغزالي الاتفاق عليه.
وذهب بعضهم إلى التسوية بينه وبين الأمر بعد الحظر، وتوقف بعضهم.
والصحيح الأول.
ومما يدل على الفرق بينهما :
ـ أن الإباحة من محامل الأمر وليست من محامل النهي.
ـ وأيضاً فإن ورود صيغة (افعل) في الكتاب والسنة لغير الوجوب كثير، بخلاف صيغة (لا تفعل) فإنه يندر وجودها لغير التحريم.
ـ وأيضاً: فإن الأمر لتحصيل المصالح، والنهى لدفع المفاسد، واعتناء الشرع بدفع المفاسد أكثر من اعتنائه بتحصيل المصالح، ولذا قيل : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ـ ولأن ورود صيغة (افعل) بعد الحظر فيه عرف شرعي ولغوي يحمله على الإباحة، بخلاف النهي الوارد بعد الأمر أو بعد الإباحة فلم يقم فيه عرفٌ شرعي ولا لغوي فيبقى على معناه الأصلي.
اقتضاء النهي الفساد
هذه المسألة من المسائل الكبيرة في أصول الفقه، وقد اعتنى بها العلماء عناية كبيرة حتى إن بعضهم لا يذكر في باب النهي إلا هذه المسألة.
وقد أفردها العلائي بمؤلف مستقل سماه: « تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد » وهو مطبوع محقق.
وقبل أن نشرع في المسألة نذكّر القارئ الكريم بما سبق من الخلاف في البطلان عند الحنفية والجمهور، وأن الحنفية قد يسمون الفعل أو العقد فاسداً، ولكنهم لا يعدونه باطلا من كل وجه، وإنما يرتبون عليه آثاره أو بعضها؛ لأنهم يفرقون بين الفساد والبطلان.
وأما الجمهور فحيث أطلقوا الفساد في هذه المسألة فإنهم يريدون البطلان، وعدم ترتب آثار الفعل عليه سواء أكان عبادة كالصوم والصلاة، أم عقدا كالبيع والإجارة، أم إيقاعاً كالطلاق والعتاق.
محل النزاع في المسألة :
أطلق بعض العلماء محل النزاع وأدخل فيه كل نهي سواء حمل على التحريم أم على الكراهة. وقيده بعضهم بأن يكون النهي للتحريم.
وأخرج بعض العلماء النهي عن العبادات وزعم الاتفاق على أن النهي عنها يقتضي بطلانها. وليس الأمر كذلك كما ستعرف.
وقسم بعضهم النهي ثلاثة أقسام :
أ ـ النهي عن الشيء لعينه، وهذا لا يختلفون في أنه يقتضي فساد المنهي عنه، ومثلوه بالنهي عن بيع الكلب. والنهي عن بيع النجاسات.
ب ـ النهي عن الشيء لوصف ملازم له، وهذا فيه الخلاف بين الحنفية والجمهور، كالنهي عن البيوع الربوية وبيوع الغرر.
ج ـ النهي عن الشيء لأمر خارج، مثل النهي عن الغصب هل يقتضي فساد الصلاة في الدار المغصوبة؟ وهل يقتضي بطلان صلاة المتوضئ بالمغصوب؟ وبعضهم يمثله بالنهي عن البيع بعد نداء الجمعة الثاني وقالوا : إن الخلاف في القسم الثاني. دون الأول والثالث.
والظاهر أن الخلاف جارٍ في القسمين الأخيرين، وأما القسم الأول فقد اتفقوا على أنه يقتضي البطلان. ولكن الإشكال يحصل في حد المنهي عنه لعينه، فإنهم لم يذكروا له حداً يتميز به، ولهذ فإنهم يختلفون عند التطبيق، فقد يقول قائل إن الربا منهي عنه لعينه، وينازعه الآخر ويقول، بل هو منهي عنه لوصفه.
وهذه المسألة ذات صلة وثيقة بمسألة أخرى من مسائل الأمر وهي أن الأمر هل يتناول المكروه؟ وقد يعبّر عنها بعضهم بقوله : هل المكروه مأمور به؟ فيحدث هذا التعبير إشكالاً عظيماً عند الدارسين؛ إذ يقول أحدهم : إذا كان المباح ليس مأموراً به فكيف يكون المكروه مأموراً به؟
وحقيقة الأمر أن مرادهم بذلك : أن المكلف إذا فعل المأمور به على صفة فيها كراهة، فهل يقبل منه ويجزئه، حتى نقول فَعَلَ المأمور به؟ ويعنون بالكراهة هنا ما يشمل كراهة التحريم وكراهة التنزيه كما تدل عليه أمثلتهم، فإنهم يمثلونها بالطواف منكساً، وبالصلاة مع رفع البصر، والصلاة في الأماكن المنهي عن الصلاة فيها كالمقبرة ونحو ذلك.
وفي تقديري أنه ينبغي التفريق بين المسألتين : مسألة اقتضاء النهي الفساد، ومسألة تناول الأمر للمكروه.
ففي المسألة الأولى يجب أن نقتصر على أن النهي عن الشيء هل يقتضي فساده؟ وحينئذ تنحصر في الأشياء التي ورد النهي عنها كالصلاة في الأماكن السبعة، والبيع على بيع أخيه، وصيام يومي العيدين. ونحو ذلك؛ لورود النهي عن هذه الأشياء.
وأما الثانية فيجب حصرها على عبادة ورد الأمر بها وورد النهي عن شيء ذا صلة بها ولكنه ليس خاصا بها، مثل : الصلاة مأمور بها بإطلاق، والغصب منهي عنه بإطلاق، فإذا صلى في الدار المغصوبة يكون قد أتى بالمأمور به على صفة فيها كراهة، ولم يرد نص في النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة. وكذلك الصلاة بوضوء مغصوب أو في ثوب حرير ونحو ذلك، فهذه كلها لم يرد فيها بخصوصها نهي فيما أعلم، فإذا لم يرد نهي عن الصلاة على تلك الصفة، فتدخل تحت مسألة الأمر هل يتناول المكروه أو المنهي عنه من وجه آخر؟.
وحيث إن الأكثرين جعلوا مسألة اقتضاء النهي الفساد شاملة للمسألتين السابقتين فالواجب أن نفصل فيها على النحو التالي :
1ـ النهي عن الشيء لذاته: لا خلاف في أنه يقتضي البطلان، وقد يمثله الحنفية بالنهي عن بيع حبل الحبلة، وبيع الكلب، والخنزير، والنجاسات.
2ـ النهي عن الشيء لوصف ملازم: كالنهي عن صوم يوم العيد، وعن بيوع الربا. وهذا يقتضي الفساد عند جمهور العلماء.
وذهب بعض علماء الحنفية إلى أنه في هذا القسم يفرق بين العبادات وغيرها؛ ففي العبادات يقتضي الفساد، فصيام يوم النحر باطل باتفاق.
وأما المعاملات كبيع درهم بدرهمين، فهو عندهم بيع فاسد، ولكن يثبت به الملك مع التقابض.
فهم وإن سموه فاسداً لكنه عندهم ليس بباطل كما هو عند الشافعية والحنابلة؛ وذلك لأن الفساد عرض له لأجل الزيادة فلو ردت الزيادة لصح البيع.
والمالكية وافقوا الجمهور في القاعدة، ولكنهم في البيوع الربوية يرون ثبوت الملك بها في بعض الحالات كهلاك السلعة، وانتقال الملك وتغير الأسواق ( ).
ومن علماء الحنفية من قال : إن هذا القسم لا يقتضي الفساد، لا في العبادات، ولا في المعاملات؛ بدليل أن نذر صيام يوم النحر ينعقد عند علماء المذهب، ولكن ليس له أن يصومه بل عليه أن يصوم يوماً مكانه، فلو صامه عصى وانحلّ نذره، ولا قضاء عليه عند أبي حنيفة خلافا للصاحبين ( ).
3ـ وأما القسم الثالث، وهو النهي المتعلق بأمر خارج عن المأمور به ذا صلة به من حيث كونه متعلقاً بشرط من شروطه الشرعية أو العقلية أو العادية، فهذا لا يقتضي الفساد عند أكثر العلماء، ويقتضيه عند الإمام أحمد في رواية، وعند الظاهرية.
وقولهم : المنهى عنه لأمر خارجي : عبارة لا تصح إلا بشيء من التسامح؛ لأن النهي لم يتجه للمأمور به بل لما له تعلق به. ومثاله : الصلاة في الدار المغصوبة، والوضوء بماء مغصوب، والذبح بسكين مغصوبة، وتلقي الركبان لشراء ما معهم، فإن النهي في هذه المسائل انصب على الغصب، وعلى تلقي الركبان، وليس على الصلاة والوضوء والذبح والبيع.
والراجح فيما كان النهي فيه راجعاً إلى أمر خارجي أنه لا يقتضي فساد المأمور به، وإن كان متصلاً بشرط من شروطه كالصلاة في الدار المغصوبة، وفي الثوب الحرير للرجل، وفي الثوب المغصوب فالنهي عن الغصب في الأولى تعلق بشرط عادي، وهو أن العادة تقتضي بأنه لا بد للصلاة من مكان، فالمكان شرط عادي للصلاة، وقد تعلق به النهي، وفي الثانية والثالثة تعلق النهي بشرط شرعي، وهو ستر العورة.
الأدلة على أن النهي يقتضي الفساد في القسمين الأولين : (المنهي عنه لذاته، أو لوصف ملازم):
1ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » (أخرجه مسلم).
ومعناه : أن كل عمل ليس من أمر الإسلام ولا من شرعه فهو مردود على صاحبه والمنهي عنه ليس عليه أمر الإسلام، فيكون مردودا.
2 ـ إجماع الصحابة والتابعين على بطلان البيوع الربوية للنهي عنها.
3 ـ حديث فضالة بن عبيد في بيع القلادة التي فيها خرز وذهب بذهب وفيه الأمر بردها (أخرجه مسلم).
4 ـ أن المنهي عنه مفسدة، والقول بصحته مع النهي عنه يدفع المكلفين إلى عصيان النهي، ومعلوم أن من عادة الشارع إذا حرم شيئا أنه يضيق الطرق الموصلة إليه، وفي تصحيح المنهي عنه فتح لذريعة المحرم، وهذا ينافي عادة الشرع.
5 ـ أن الصحة تضاد النهي؛ لأن الصحيح مأذون فيه، والمنهي ليس مأذونا فيه، فلا يمكن أن يكون منهياً عنه وصحيحاً في آن واحد.
أدلة من قال إن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه :
1ـ أن النهي لا تعرّض فيه للصحة ولا للفساد، وإنما معناه تحريم الفعل وتحريم الفعل لا يمنع ترتيب آثاره عليه إذا فعل.
2ـ أن المنهي عنه لابد أن يكون متصور الوقوع؛ لأن الشارع لا ينهى عن المستحيل عقلاً أو شرعاً أو عادة. فثبت أنه ممكن الوقوع، والواقع هو المعنى الشرعي، فثبت أن النهي عن الشيء دليل على صحته لو وقع.
3ـ أن الشرع نهى عن الطلاق في الحيض، وقال أكثر العلماء بوقوعه، ولو أن النهي يقتضي الفساد لما وقع.
والصحيح القول الأول، ويجاب عن أدلة القول الثاني بما يلي:
1ـ قولهم : إن النهي لا تعرض فيه للصحة والفساد، هو محل النزاع، فلا يصح الاستدلال به، وإذا كان المقصود أنه من حيث اللغة لا تعرض فيه لذلك فإننا نقول : دلالته على الفساد من قبيل العرف الشرعي.
2 ـ قولهم : إن المنهي عنه لابد أن يكون متصور الوقوع. يجاب بأنه يتصور وقوع صورته في الوجود وأما حقيقته الشرعية فلا تقع مع النهي عنه.
3 ـ قولهم : إن الطلاق في الحيض منهي عنه ومع ذلك يقع. عنه جوابان :
الأول : جواب من لا يرى وقوع الطلاق في الحيض ويطرد القاعدة في هذه المسألة وغيرها، وهؤلاء منعوا وقوع الطلاق في الحيض.
الثاني : جواب من يرى وقوع الطلاق في الحيض، وهؤلاء قالوا : إن آثار الفعل إن كانت مما يضر بالفاعل فتقع عقوبة له، وأما إن كانت مما ينفعه فلا تقع والطلاق في الحيض قلنا بوقوعة نكاية بالفاعل.
وأما النهي الذي لم يتجه إلى الفعل وإنما توجه لأمر خارجي له علاقة بالفعل كشرطه أو محله فالظاهر أنه لا يقتضي فساد الفعل المأمور به أو المأذون فيه كما تقدم.
ومثاله : الصلاة في الدار المغصوبة؛ فإنه لم يرد نهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، وإنما ورد النهي عن الغصب والأمر بالصلاة، فإذا صلى في الدار المغصوبة صحت صلاته، وعليه إثم الغصب. وكذلك حج المرأة بلا محرم يصح، وتسقط به الفريضة، وتأثم على خروجها بلا محرم.
وكذلك يقال في البيع مع تلقي الركبان، والبيع مع النجش، فإنهما ينعقدان مع الإثم.
والدليل على ذلك أن الأمر والنهي في هذه الصور لم يردا على محل واحد، بل على محلين فيمكن أن يصح الفعل المأمور به أو المأذون فيه، ويترتب الإثم على مخالفة النهي، فالمصلي في الدار المغصوبة يثاب على صلاته ويأثم على غصبه، والبيع مع النجش يصح، ويثبت به الملك، ويأثم الناجش، ويثبت الخيار للمشترى إذا غبن.
ومما يدل على ذلك أيضا أن الفعل في هذه الصورة مستكمل الشروط والأركان فيجب الحكم بصحته.
وأدلة القائلين إن النهي لا يقتضي الفساد مطلقاً تحمل على هذه الصورة دون غيرها. والله أعلم.
العام والخاص
تعريف العام والخاص:
العام : اسم فاعل من العموم، بمعنى : الشمول والإحاطة. ومنه سميت العمامة لأنها تحيط بالرأس. والعم والعمومة: اسم بعض القرابات، سموا بذلك لأنهم يحيطون بالإنسان عند احتياجه للمساعدة عادة.
والعام في الاصطلاح : « اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد ».
هذا تعريفه عند جمهور الأصوليين، وهو لفظ الرازي في المحصول، وقد تبعه عليه أكثر من جاء بعده، وهو قد أخذه عن أبي الحسين البصري وزاد فيه بعض القيود.
وعند المتقدمين من الأصوليين يعرف بأنه : ما عم شيئين فصاعداً.
فلا يذكرون فيه تقييده باللفظ فيكون شاملاً للفظ والمعنى بناء على أن المعنى يعم كما سيأتي.
ولا يقيدونه بالاستغراق، بل يكتفون بأن يكون فيه شمول ما. ولهذا فإنهم قد يطلقون اسم العام على المطلق وبالعكس.
وبعد استقرار الاصطلاح يجب أن يحتوي التعريف على ما يميز العام عن المطلق. وقد اجتهدوا في اختيار العبارة المناسبة لتعريفه.
ومن أفضل العبارات عبارة الرازي المتقدمة.
« اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد ».
شرح التعريف :
قوله : (المستغرق)، من الاستغراق وهو التناول مع الاستيعاب، يقال : استغرق العمل ليلة، أي : استوعبها كلها.
وقوله : (لجميع ما يصلح له)، أي : لجميع ما يدخل تحت اللفظ لغة أو عرفاً. فالصلاحية من حيث اللغة أو العرف.
وقوله : (بحسب وضع واحد)، قيد يخرج المشترك اللفظي الذي يدل على معنيين بوضعين مختلفين، مثل القرء الدال على الطهر والحيض، فإنه يدل على هذين المعنيين بوضعين مختلفين؛ لأن العرب استعملوه مرة في الطهر، ومرة في الحيض، أو استعمله بعضهم في الطهر واستعمله بعضهم في الحيض ثم اشتهر المعنيان فصار مشتركاً.
فدلالة القرء على هذين المعنيين ليست من دلالة العام على أفراده، بل من دلالة المشترك الذي يحتاج في فهم المراد منه إلى قرينة.
والمشترك عند كثير من الأصوليين ليس عاماً في أفراده ولا يمكن حمله على العموم بإطلاق واحد.
وسيأتي مزيد إيضاح لذلك عند الكلام عن المجمل.
وهذا القيد لا يخرج المشترك الذي يكون عاماً في أحد معنييه أو معانيه؛ فلفظ القروء إذا قامت قرينة على أن المراد بها الأطهار يكون عاماً فيها؛ لأنه جاء بصيغة عموم.
ولفظ (العيون) في قولنا : جفت عيون الوادي الفلاني، تحمل على عموم العيون الجارية في ذلك الوادي، ولا يقال إنه مشترك فيتوقف فيه بعد قيام القرينة، وهي الجفاف الذي يناسب العيون الجارية دون غيرها من معاني العين.
فصار هذا القيد يخرج المشترك باعتبار معنييه أو معانيه، ويدخله إذا كان عمومه باعتبار معنى واحد من معانيه.
والخاص : اسم فاعل من الخصوص ضد العموم.
وفي الاصطلاح : ما دل على معين محصور.
والعموم والخصوص وصفان نسبيان يطلقان على اللفظ أو الدليل بالنسبة، فقد يكون اللفظ عاما بالنسبة إلى ما تحته من الأفراد، وخاصا بالنسبة إلى ما فوقه.
مثاله في الألفاظ : الإنسان : عام بالنسبة للرجل والمرأة، خاص بالنسبة للحيوان.
ومثاله من أدلة الشرع : قوله صلى الله عليه وسلم : « من قتل قتيلا فله سلبه » (متفق عليه) فالسلَب خاص بالنسبة للغنيمة، وهو عام في لباس المحارب، فيشمل قليله وكثيره.
الفرق بين العام والمطلق :
العام والمطلق بينهما وجه شبه من حيث إن كلا منهما له عموم في الجملة. ولذا كان بعض المتقدمين لا يفرقون بينهما. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية « لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وإسحاق سواء » ( ).
وإطلاق لفظ العام على المطلق وبالعكس قد جاء في كلام بعض الأصوليين على الرغم من تفريقهم بين المصطلحين، فالقاضي أبو يعلى الحنبلي ذكر احتجاج الحنفية على عدم التفريق بين الماء وغيره من المائعات بقوله تعالى : وثيابك فطهر، ثم قال في الجواب « إن الآية عامة » ( )، ومعلوم أن الأمر بالتطهير ليس عاماً فيما يطهر به بل هو مطلق.
وكذلك فعل الغزالي في مواضع من المستصفى ( ).
والمتخصص في أصول الفقه لا ينبغي له أن يخلط بين المصطلحات، ولذا فإن بين العام والمطلق فروقاً أجملها فيها يلي :
1ـ من حيث التعريف فتعريف العام كما تقدم. والمطلق هو : « اللفظ الدال على الحقيقة من حيث هي من غير قيد » أو يقال هو : « اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه » ( )، مثل لفظ رقبة في قوله تعالى: { } [النساء92].
2ـ من حيث الحكم، فإن المطلق إذا ورد الأمر به لا يتناول جميع الأفراد التي تصلح للدخول تحت اللفظ، بل تحصل براءة الذمة بواحد منها.
أما العام فيشمل جميع الأفراد التي تصلح للدخول تحته، ولا تبرأ الذمة إلا بفعل الجميع.
ولهذا فقوله تعالى : { } مطلق؛ لأن المأمور بالعتق لم يطلب منه تحرير كل رقبة، بل رقبة واحدة يختارها من بين الرقاب. ولو جاء اللفظ عاماً لوجب تحرير جميع الرقاب.
أقسام العام :
يُقسم العام عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة :
التقسيم الأول باعتبار طريق معرفة عمومه :
ينقسم العام بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام :
1ـ العام لغة : وهو ما عرف عمومه بالوضع اللغوي. وهو المراد بالعام عند الإطلاق. ويشمل العموم الذي دلت عليه صيغ العام الآتي ذكرها ومنها كل، وجميع، والجمع المحلى بأل.
2ـ العام عقلاً : وهو ما عرف عمومه بطريق العقل كالعموم المستفاد بطريق التعليل مثل فهم العموم من قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » فإن النص هنا خاص بمنع القاضي من القضاء حال الغضب. ويلحق به كل ما يشوش الذهن من جوع أو عطش أو حزن. وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ». يفهم منه أنه إذا نقص عن القلتين فإنه يحمل الخبث أي ينجس بالنجاسة ولو لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه.
والناقص عن القلتين قد يكون في إناء صغير، أو في بركة صغيرة، والنجاسة الواقعة فيه قد تغير لونه أو طعمه أو ريحه أو لا تغيرها.
فيحمل مفهوم الحديث على العموم، ويحكم بنجاسة الماء الناقص عن القلتين سواء تغير أم لم يتغير.
وهذا العموم ليس من منطوق اللفظ بل من مفهومه الذي أدركه العقل.
3ـ العام عرفاً : وهو ما عرف عمومه بعرف الشرع أو بعرف أهل اللغة.
مثال الأول : عموم الخطاب الوارد بصيغة جمع الذكور للإناث، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « المسلمون تتكافأ دماؤهم » (متفق عليه)، فلفظ (المسلمون) جمع مذكر سالم، ولكنه يشمل النساء عرفا؛ حيث عرف من عادة الشارع تغليب الذكور على الإناث عند الاجتماع.
ومثال الثاني : قوله تعالى : { } [الإسراء23] فهذا اللفظ يدل بالوضع على تحريم التأفف من الوالدين، ومن حيث العرف اللغوي هو عام في كل ما فيه أذى لهما.
العموم المعنوي
من العلماء من يقسم العموم من حيث طريق معرفة عمومه إلى لفظي ومعنوي.
فاللفظي هو المستفاد من الصيغ الآتي ذكرها، والمعنوي هو المستفاد من المعنى.
ومصطلح العموم المعنوي ليس شائعا في كتب الأصول، ولكنه ورد في مؤلفات بعض المحققين منهم، كابن تيمية والزركشي والشاطبي، وأما أنواع العموم المعنوي فلا يخلو منها كتاب من كتب الأصول وإن لم يسمها بهذا الاسم.
ويمكن أن نعرف العموم المعنوي بأنه : « العموم المستفاد من طريق المعنى مع خصوص اللفظ الدال عليه من حيث الوضع ».
أنواع العموم المعنوي :
1 ـ العموم المستفاد بطريق الاستقراء :
ونعني به : القواعد الشرعية الثابتة باستقراء فروع الشريعة، مثاله : (الضرر لا يزال بمثله) (الضرورات تبيح المحظورات) (الضرورة تقدر بقدرها) (الميسور لا يسقط بالمعسور).
فهذه القواعد عرف عمومها بالاستقراء، مع أن النصوص الواردة في كل واحدة منها ليست عامة، لو أخذ كل نص منها على انفراد، ولكن لما استقرينا موارد الشرع وجدنا فروعا كثيرة تدل على صحة القاعدة وعمومها، فصيغت بلفظ عام ليسهل فهم أحكام الفروع منها.
2 ـ العموم المستفاد من اللفظ الموجه لواحد من الصحابة :
الخطاب الموجه لواحد من الصحابة إن اقترن به ما يدل على الخصوصية فهو خاص بمن وجه إليه بلا خلاف، كقوله لأبي بردة : « اذبحها ولا تجزي عن أحد بعدك » (متفق عليه)، وإن لم يقترن به ما يدل على الخصوصية، فتذكر كتب الأصول خلافا في عمومه.
مثاله : قوله صلى الله عليه وسلم لعمر حين أردا أن يشتري الفرس الذي وهبه : « لا تفعل »، وقوله صلى الله عليه وسلم في رجل وقصته دابته وهو محرم : « لا تقربوه طيبا ولا تخمروا رأسه ».
والظاهر أنهم لا يختلفون في عموم حكم الخطاب لجميع المكلفين الذين حالهم كحال ذلك الصحابي ولا يختلفون عنه في صفة ذات تأثير في الحكم.
ولكن الخلاف بينهم في أن عمومه بطريق النقل العرفي أو بطريق القياس.
فالذين قالوا إنه عام، أرادوا أن عمومه عرف بطريق العرف الشرعي، فالأصل في التشريع العموم، ولا يخصص به فرد إلا بدليل قوي يدل على الخصوصية.
ويدل على ثبوت العرف الشرعي آيات كثيرة، منها : قوله تعالى : { } [سبأ28] { } [الأنبياء107] { } [الأعراف158] ويؤيد ذلك الإجماع على الاستدلال بكثير من الأحاديث التي وجه الخطاب فيها لواحد من الصحابة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذين أنكروا عموم الخطاب الموجه لواحد من الأمة، قالوا : إن اللفظ من حيث الوضع خاص، فلا يصح دعوى العموم فيه، ولكنهم قالوا : يلحق به غيره من المكلفين ممن حاله كحاله بطريق القياس. ومع ذلك فإن القول بالعموم أولى؛ لأن القائل به لا يحتاج إلى البحث عن علة الحكم وتحققها في بقية المكلفين، بخلاف القول بالقياس، فإنه يحتاج إلى ذلك، وقال إمام الحرمين: «لا ينبغي أن يكون في هذه المسألة خلاف؛ إذ لا شك أن الخطاب خاص لغة بذلك الواحد، ولا خلاف أنه عام بحسب العرف الشرعي ».
وقال بعضهم : إن الخلاف معنوي؛ لأن القائلين بالعموم يجعلون الأصل العموم إلا أن يقوم دليل على الخصوص، والقائلين بالخصوص يقولون الأصل تخصيص الخطاب بمن وجه إليه إلا أن يقوم دليل العموم.
وقد بنى بعضهم على هذا الخلاف اختلافهم في بعض الفروع الفقهية، ومنها : حكم المحرم إذا مات، قال أكثر العلماء : إن الخبر الوارد في كيفية تكفينه يحمل على العموم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا، وكفنوه في ثوبيه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا » (أخرجاه في الصحيحين).
وقال بعض العلماء : إن الخبر خاص بذلك الصحابي دون غيره. وهو منقول عن الشافعي.
3 ـ عموم الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم للأمة :
الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم إن قام دليل على خصوصيته به فهو خاص لا يشمل الأمة، كقوله تعالى : { } [الأحزاب50] وكالخطاب بالزواج بأكثر من أربع : { } [الأحزاب50] فإن الإجماع قائم على اختصاصه بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما ثبت أنه أمر غيلان حين أسلم وتحته عشر نسوة، أن يمسك منهن أربعا ويفارق سائرهن.
وإن اقترنت به قرينة تدل على العموم فهو للعموم، كقوله تعالى : { } [الطلاق1] فصيغة الجمع في قوله : { } تدل على عموم الخطاب للأمة، وإن ابتدأ بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا في الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم يقم دليل على اختصاصه به، ولا عمومه، هل يشمل الأمة كلها؟.
مثاله : قوله تعالى : { } [الأحزاب1] وقوله : { } [الأحزاب48] ونحو ذلك.
فهذا الخطاب وأمثاله مما لم ترد معه قرينة تدل على الخصوصية ولا على التعميم، قال بعض العلماء : إنه خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقوم دليل على العموم من قياس وغيره.
وقال آخرون : إنه عام حتى يقوم دليل على الخصوصية.
والذين قالوا إنه عام يحتجون بأن من عادة العرب توجيه الخطاب لكبير القوم والمراد جميعهم، والقرآن جاء بلغة العرب.
ويستدلون بالآيات الدالة علىوجوب الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه، كقوله تعالى : { } [الأعراف158] وكقوله : { } [الحشر7] وما في معناهما من الأحاديث، وإن هذه الأدلة أوجدت عرفا شرعيا يجب أن تحمل عليه خطابات الشارع.
والقائلون بالتخصيص بالرسول صلى الله عليه وسلم يقولون : إن اللفظ خاص من حيث الوضع اللغوي، فيبقى على خصوصه حتى تقوم دلالة على صرفه عن خصوصه من قياس أو غير ذلك.
وبهذا يتبين أن أثر الخلاف يظهر حين يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فعلا على خلاف ما نهى عنه الصحابة، هل يكون فعله مخصصا للعموم أو ناسخا له؟ وذلك كما ثبت عنه من النهي عن استقبال القبلة واستدبارها في البنيان عند قضاء الحاجة، مع ما ثبت أنه استقبل القبلة.
فعلى القول بأن الأصل في الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم دخول الأمة، لا تردد في أن فعله يخصص العموم؛ لأنه لا يفعل إلا ما يجوز له فعله، وينسخ العموم إن جاء بعد العمل.
وعلى القول الآخر لا يعد فعله تخصيصا ولا نسخا حتى نعلم أنه فعل امتثالا لخطاب عام.
ومن الأصوليين من لم يتنبه إلى اللازم من الخلاف، فظن أن الخلاف لفظي، أو مال إلى ترجيح القول بالخصوصية دون أن يلتزم بما يلزم منه مما ذكرته آنفا.
4 ـ عموم المفهوم :
وهو قسمان :
أ ـ مفهوم الموافقة : مثاله : قوله تعالى : { } [النساء10] فالآية من حيث اللفظ حذرت من أكل مال اليتيم، ومن حيث المفهوم هي عامة في كل تصرف يفوِّت على اليتيم ماله، سواء أكان أكلا أم لبسا أم صدقة.
ب ـ مفهوم المخالفة: مثاله : قوله صلى الله عليه وسلم : «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث».
فمنطوقه خاص بما بلغ القلتين، ولا تعرض فيه لما نقص عن القلتين بالذكر، ولكن مفهومه يدل على أن كل ماء نقص عن القلتين يحمل الخبث، أي : يتنجس بملاقاة النجاسات وإن لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، سواء أكان هذا الماء راكدا أم جاريا، وسواء أكان في إناء أم في بئر ونحوها.
وما ذكر من خلاف في عموم مفهوم المخالفة فهو خلاف لفظي عند القائلين بحجية المفهوم، نص على ذلك الآمدي وغيره.
5 ـ عموم العلة المنصوصة أو المومأ إليها :
إذا نص الشارع على تعليل حكم بعلة متعدية توجد في المنصوص عليه وفي غيره، فإن هذه العلة تفيد عموم الحكم المعلق عليها لجميع الصور المشابهة للمنصوص عليها إذا وجدت فيها العلة. وكذلك إذا أومأ الشارع إلى العلة كأن يكون الوصف الذي رتب عليه الحكم لو لم يكن علة للحكم لكان ذكره عديم الفائدة.
مثال العلة المنصوصة : قوله صلى الله عليه وسلم : « إنما جعل الاستئذان من أجل البصر » فالرسول صلى الله عليه وسلم علل الاستئذان على الناس في بيوتهم من أجل تحريم النظر إلى عورات الناس وما لا يودون الاطلاع عليه داخل بيوتهم.
فهذه العلة عامة في تحريم الاطلاع على عورات الناس، وما لا يحبون أن يطلع عليه الغرباء سواء أكان داخل البيت أم في أي حرز آخر، فلا يجوز لمن أذن له بالدخول في المجلس أن ينظر إلى ما في داخل غرف النوم، ولا يجوز له أن يطلع على ما خبأه صاحب البيت في صندوق أو محفظة ونحو ذلك بغير إذنه.
ومثال العلة المومأ إليها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين سئل عن بيع الرطب بالتمر: « أينقص الرطب إذا جف؟ » قالوا : نعم، قال : « فلا إذن ». فالحديث أومأ إلى أن علة التحريم نقص الرطب عن التمر في الكيل، فأخذوا من ذلك تحريم بيع كل مطعوم بجنسه، مع التفاوت في الكيل، مع أن الحديث في الرطب، لكنه يمكن أن ينطبق على بيع الزبيب بالعنب، ونحو ذلك من الحبوب والثمار التي تؤكل رطبة وجافة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » يشمل كل ما يمنع التروي في الحكم من جوع أو غضب أو غيرهما، كما سبق بيانه.
التقسيم الثاني : باعتبار استعماله في عمومه أو عدمه :
وينقسم إلى :
1ـ عام أريد به العموم قطعاً ولا يدخله التخصيص، كقوله تعالى : { } [هود6]، وقوله تعالى : { } [النساء176].
2ـ عام يراد به العموم ويدخله التخصيص، وهو المسمى بالعام المطلق أي الذي لم يقترن به ما يدل على تخصيصه ولا ما يدل على أنه غير قابل للتخصيص.
3ـ عام أريد به الخصوص، وهو الذي لفظه عام من حيث الوضع ولكن اقترن به دليل يدل على أنه مراد به بعض مدلوله اللغوي مثل قوله تعالى : { } [آل عمران173]، فلفظ الناس عام ولكنه لم يرد به عموم الناس بدليل قوله : { } فدل على وجود أناس جمعوا، وأناس مجموع لهم، وأناس نقلوا الخبر للمجموع لهم. فلفظ الناس تكرر مرتين والمراد في الأولى نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس، والمراد في الثانية أبو سفيان ومن معه من الأحزاب.
الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص :
اهتم بعض الأصوليين بهذه المسألة وألف فيها رسالة مستقلة ( )، وأهم الفروق التي ذكروها ما يلي :
1ـ العام المخصوص حقيقة في الباقي عند كثير من العلماء، والعام الذي أريد به الخصوص مجاز.
2ـ العام المخصوص ما كان مخصصه لفظيا، والمراد به الخصوص ما كان مخصصه عقلياً.
3ـ العام المخصوص ما كان مخصصه منفصلاً، والعام المراد به الخصوص ما كان مخصصه متصلاً.
4ـ العام المخصوص ما كان الباقي تحته بعد التخصيص أكثر، والمراد به الخصوص ماكان المخرج منه أكثر.
وهذا التفريق وان اهتم به بعض الأصوليين فإنه لا يترتب عليه عمل لأنهم كالمتفقين على أن العام المخصوص لم يرد به جميع أفراده منذ أن تكلم الله به كالعام المراد به الخصوص.
صيغ العموم المشتهرة
الألفاظ الموضوعة للعموم كثيرة جدا فقد أوصلها القرافي في العقد } المنظوم} إلى مائتين وخمسين صيغة ولكننا سنكتفي في هذا المختصر بذكر الصيغ المشتهرة منها مع التمثيل لكل صيغة بآية أو حديث نبوي ما أمكن.
وقد اختلفت أساليب العلماء في تقسيم صيغ العموم؛ فمنهم من قسمها إلى قسمين ثم ذكر تحت كل قسم ما يتفرع عنه، ومنهم من قسمها إلى خمسة أقسام، ومنهم سردها سرداً من غير تقسيم.
وقد رأيت أن اقسم صيغ العموم المشتهرة إلى مجموعات متجانسة كما يلي :
1 ـ كل وجميع :
وما يلحق بهما من الألفاظ المستعملة في تأكيد الشمول كأجمعين، وأكتعين... وعامة، وقاطبة.
فصيغة كل تكثر إضافتها :
ـ فإن أضيفت إلى نكرة مفردة فهي لشمول جزئياتها كقوله تعالى : { } [آل عمران185].
ـ وإن أضيفت إلى معرفة فالغالب أن يكون جمعاً أو مافي معناه، وتكون لاستغراق جزئياته أيضاً كقوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (متفق عليه).
ـ وإن أضيفت إلى مفرد معرفة كانت لاستغراق أجزائه كقولك كل الطريق آمنة.
ـ وقد يحذف المضاف إليه فتنوَّن كما في قوله تعالى : { } [النور41].
ولفظ كل يفيد العموم ابتداء وتبعاً، فمثال الأول ما سبق، ومثال الثاني قوله تعالى : { } [الحجر30].
وأما لفظ جميع فلا يضاف إلا إلى معرفة، كقولك : « جميع علماء البلد حاضرون » ويكثر فيها حذف المضاف إليه فتُنَوَّن كقوله تعالى : { } [يس53].
وإذا جاءت مؤكدة فانها تنصب على الحال غالباً، وذلك كقوله تعالى : { } [هود55].
وأما أجمع وأجمعون وأكتعون وأبصعون وما جرى مجراها، فلا تأتي إلا تابعة مؤكدة لما قبلها ولا تضاف لما بعدها.
ويشترط لعموم (كل) و (جميع) عدم تقدم النفي عليهما.
2ـ الجمع المحلى بأل والمضاف :
أما الجمع المحلى بـ (أل) فقد قال بعمومه أكثر العلماء. ويشترط أن تكون أل المقترنة به للجنس لا للعهد، فإن كانت للعهد فلا يكون مدخولها مستغرقاً لما يصلح له في اللغة ولكنه يشمل المعهودين قلوا أو كثروا.
ولا فرق في إفادة العموم بين الجمع المذكر والمؤنث، وجمع السلامة وجمع التكسير، وجمع القلة وجمع الكثرة، على الصحيح، بل الجميع يفيد العموم.
وقد خالف بعض العلماء في جمع القلة وأنكر وضعه للعموم.
مثال الجمع المحلى بأل الجنسية قوله تعالى: { ...} [الأحزاب35].
ويلحق بالجمع اسم الجمع المحلى بأل الجنسية، ومنه قوله تعالى: { } [الناس1].
أما الجمع المضاف إلى معرفة، فهو أيضاً يفيد العموم ومثاله قوله تعالى : { } [النساء11]، فلفظ أولاد جمع مضاف إلى معرفة وهو ضمير المخاطبين.
ومثال اسم الجمع المضاف قوله تعالى : { } [هود40]، فلفظ أهل اسم جمع مضاف إلى معرفة فاقتضى العموم.
وقد اختلفوا في الجمع المحلى بأل هل يعم الأفراد أو الجموع؟، والصحيح : الأول؛ لئلا يتعذر الاستدلال به على المفرد، لأنه لو كان عاما في الجموع لما أمكن الاستدلال به على المفرد.
3 ـ اسم الجنس المحلى بأل والمضاف إلى معرفة :
أما المحلى بأل الجنسية فقد قال بعمومه كثير من العلماء وخالف فيه بعضهم، وهو قد يكون مفرداً كالرجل والمرأة، وقد يكون مما يستوي فيه القليل والكثير وهو المسمى باسم الجنس الإفرادي، كالذهب والفضة والتراب، وقد يكون مما لا واحد له من لفظه كالرهط والناس ويسمى اسم الجنس الجمعي.
وقد فصل الغزالي في الاسم المحلى بأل الجنسية تفصيلاً حسناً فقسمه إلى ما يتميز واحده عن الجمع بالتاء كالتمر والتمرة، وما لا يتميز واحده بالتاء كالرجل.
فالأول إن خلا عن التاء فهو عام كقوله صلى الله عليه وسلم : « والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء » (رواه البخاري)، فهو عام في القليل والكثير وأما ما اقترن منه بالتاء فليس بعام.
وأما الثاني ـ وهو ما لا يتميز واحده بالتاء ـ فإما أن يتشخص له واحد أولا، فإن لم يتشخص له واحد كالذهب والفضة فيعم كقوله صلى الله عليه وسلم : « الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ». وأما ما تشخص واحده كالرجل فقد يعم، كقوله صلى الله عليه وسلم : « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه » (متفق عليه). وقد يفارق العموم كقولنا : الرجل خير من المرأة. فإن المراد الحقيقة بقطع النظر عن الأفراد ( ).
وأما اسم الجنس المضاف إلى معرفة فقد أهمله بعض العلماء كالغزالي وغيره، واطلق بعضهم القول بعمومه، وللقرافي تفصيل حسن فيه، وهو أن اسم الجنس المضاف إن كان مما يصدق على القليل والكثير كالذهب والفضة والأرض فيعم كقوله تعالى : { ...} [الأحزاب27].
وإن كان مما لا يصدق على القليل والكثير ففيه نظر؛ فإنه يأتي عاما وغير عام ( )، مثال العام قوله تعالى : { } [البقرة187]، وقوله صلى الله عليه وسلم : « منعت العراق درهمها وقفيزها » الحديث (أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا).
4 ـ أسماء الشرط :
وأسماء الشرط يختلف بعضها عن بعض في الأفراد التي يعمها كل منها فـ (من) تعم العقلاء كقوله تعالى : { } [الزلزلة7] و (ما) تعم غير العقلاء، ومثالها قوله تعالى: { } [البقرة197]، وقيل بل تصلح للعقلاء وغيرهم.
و (إذا) و (متى) تفيدان العموم في الزمان مثال الأولى قوله تعالى : { } [الأنفال24]، ومثال الثانية قولك : متى تحضر أحضرْ معك.
و (حيث) و (أين) و (أنى) وهي تفيد عموم المكان، وكثيرا ما تزاد بعدها (ما)، ومثال (حيث) قوله تعالى : { } [البقرة150]، ومثال (أين) قوله تعالى : { } [النساء78]، ومثال أني قولك : أنى تذهب أذهب معك.
و (أي) وهي بحسب ما تضاف إليه، فقد يكون عمومها في الأشخاص، وقد يكون في الأزمان، وقد يكون في الأمكنة، ونحو ذلك. ومثالها قوله تعالى : { } [الإسراء110].
5 ـ الأسماء الموصولة :
وقد أطلق ابن الحاجب وغيره القول بعموم الأسماء الموصولة لكن التحقيق أن العام بعضها لا كلها. والعام من الأسماء الموصولة :
أ- (من) الموصولة، وهي للعقلاء، كقوله تعالى : { } [البقرة184]، وقد تأتي لغير العقلاء كقوله تعالى : { } [النور45]، وقد تقع (مَن) للخصوص كقوله تعالى : { } [محمد16].
ب – (ما) الموصولة، وهي لغير العاقل غالباً، كقوله تعالى : { } [البقرة29] وقد تعم العاقل وغيره كقوله تعالى: { } [الفرقان365].
ج – (الذي) و (التي) وفروعهما وهذه الموصولات لا تكون عامة إلا إذا كانت جنسية لا عهدية، فإن كانت للعهد لا تعم.
ومثال العام منها قوله تعالى: { } [الزمر33].
فقد روي عن ابن عباس أنها عامة في كل من دعا إلى توحيد الله تعالى، ويدل على عمومها قوله بعد ذلك : { } وقراءة ابن مسعود: « والذين جاؤوا بالصدق وصدقوا به ».
ومثال التثنية قوله تعالى : { } [النساء16].
ومثال الجمع قوله تعالى: { } [فصلت30].
ومثال المفرد والمؤنث قول الرجل لزوجاته : التي تدخل الدار فهي طالق. ومثال المثنى قول الرجل لإمائه : اللتان تختصمان فسأبيعهما.
ومثال الجمع المؤنث قوله تعالى : { } [النساء15].
ومثال ما جاء لغير العموم قوله تعالى : { } [غافر28]. وقوله تعالى : { } [البقرة29].
وكذا كل ما ورد في صفات الباري جل وعلا فهو ليس للعموم، ونظراً لكثرة وقوعها للعهد لم يعدها بعضهم من صيغ العموم
د- (أي) الموصولة : وقد أنكر عمومها جماعة من الأصوليين، ومثال ما جاء عاماً منها قوله تعالى : { } [مريم69].
6 ـ أسماء الاستفهــام :
لقد أطلق بعض العلماء القول بعموم أسماء الاستفهام، ولم يعدها إمام الحرمين والغزالي من صيغ العموم.
وحجة من منع عمومها أنها بمعنى أحد الشيئين أو الأشياء، وهي بهذا تشبه المطلق في أن كلا منهما عمومه بدلي لا شمولي.
وقد أجاب العلائي عن هذه الحجة بأن أسماء الاستفهام وإن كان فيها تردد بين شيئين أو أشياء، لكنها تفارق المطلق في أنها تدل على الأفراد بعينها، والمطلق إنما يدل على الماهية الذهنية من حيث هي، ولا دلالة له على الأفراد.
والمشهور من أسماء الاستفهام التي تعمُّ ما يلي :
أ ـ (من) : ويستفهم بها عن العقلاء، ومثالها قوله تعالى: { } [الإسراء51].
ب ـ (ما) : ويستفهم بها عن غير العقلاء غالباً، كقوله تعالى : { } [الأنبياء52].
ج ـ (أين)، و (أنى) : ويستفهم بها عن المكان، ومثال الأولى قوله تعالى : { } [التكوير26]، ومثال الثانية قوله تعالى : { } [آل عمران37].
د ـ (متى)، و (أيان) : ويستفهم بهما عن الزمان، ومثال الأولى قوله تعالى : { } [الإسراء51]، ومثال الثانية قوله تعالى : { } [الأعراف187].
هـ ـ (أي) الاستفهامية : ومثالها قوله تعالى : { } [الأنعام19].
و ـ (كم) الاستفهامية: ومثالها قوله تعالى: { } [الكهف19].
7 ـ النكرة في سياق النفي ومافي معناه:
اتفق أرباب العموم على أن النكرة في سياق النفي من صيغ العموم في الجملة، وإنما وقع الخلاف بينهم في بعض صورها وفي طريقة عمومها.
ولقد عدها كثير من الأصوليين من أقوى صيغ العموم كما سيأتي بيان ذلك.
ويشترط لإفادة النكرة العموم أن لا يكون النفي لسلب الحكم عن المجموع، كقولنا : ما كل عدد زوجاً. فإن هذا لا يفيد عموم السلب بل يفيد سلب العموم.
ومثال النكرة المنفية قوله تعالى: { } [البقرة255].
وقد تصحبها (مِن) فتقوي دلالتها، حتى إن بعضهم قال إنها نص في العموم إذا صحبتها (مِن) ومثالها قوله تعالى : { } [ص 65].
والمراد بـ (ما في معنى النفي) : النهي، والشرط، والاستفهام الإنكاري، مثال المسبوقة بنهي قوله تعالى: { } [الجن18] ومثال المسبوقة بشرط قوله تعالى : { } [التوبة6]. ومثال المسبوقة باستفهام إنكاري قوله تعالى : { } [مريم65].
وقد اختلفوا في الفعل إذا وقع في سياق النفي أو النهي أو الاستفهام الإنكاري أو الشرط هل يعم؟
فقال المالكية والشافعية والحنابلة: إنه للعموم؛ لأنه ينحل إلى مصدر وزمان فإذا قال : والله لا أتكلم، فكأنه قال : لا يحدث مني كلام في المستقبل، فيكون عاماً. قالوا : ومنه قوله تعالى : { } [الأعلى13] وقوله : { } [فاطر36].
وقال جمهور الحنفية : إنه لا يعم؛ لأن الفعل لا أفراد له، والتعميم باعتبار المصدر قياس في اللغة، وهو غير جائز.
وثمرة الخلاف تتضح في التخصيص بالنية، فالجمهور أجازوا في مثل قوله: والله لا أبيع ولا أشتري، أن يستثني بيع وشراء طعامه وشرابه فلا يحنث بذلك، بل يحنث بالمتاجرة لنيل الكسب.
والحنفية قالوا : لا يصح أن تكون النية هنا مخصصة؛ لأنه لا عموم للفعل فيحنث بكل ما يسمى بيعاً أو شراء لغة.
واختلفوا في مفعول الفعل المتعدي إذا حذف هل يكون عاماً؟ فقال الشافعية والمالكية والحنابلة وأبو يوسف من الحنفية إنه يكون عاماً في مفعولاته، وخالف أبو حنيفة رحمه الله ووافقه الفخر الرازي وغيره.
وفائدة الخلاف أيضاً تظهر في التخصيص بالنية، فعند الجمهور لو قال : والله لا آكل، ونوى مأكولا معيناً صح، ولا يحنث بأكل غيره.
وعند أبي حنيفة لا يصح التخصيص بالنية؛ لعدم العموم، والتخصيص فرع العموم فيحنث بأكل أي شيء.
8 ـ الظروف الدالة على الاستمرار :
وذلك مثل (أبدا) و (سرمدا) و (دائماً) و (أبد الآبدين) و (دهر الداهرين) ونحو ذلك، فإنها تفيد عموم الأزمنة.
ومن أمثلتهم قوله تعالى : { } [البينة8]، وقوله تعالى : { } [القصص71].
وقوله صلى الله عليه وسلم : « ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر » (متفق عليه).
الخلاف في وضع صيغة للعموم :
ذهب جمهور العلماء إلى أن للعموم ألفاظاً وضعت للدلالة عليه، إذا وردت في الكتاب والسنة أو كلام العرب حملت عليه من غير حاجة إلى قرينة، وهي الصيغ التي سبق ذكرها.
وخالف في ذلك طائفتان :
الأولى : طائفة الواقفية، وفي مقدمتهم القاضي الباقلاني، ونقل عن أبي الحسن الأشعري، الذين زعموا أن تلك الصيغ مشتركة مجملة.
الثانية : أرباب الخصوص، وهم القائلون بحملها على أخص الخصوص.
ونظراً لأن هذين المذهبين ليس لهما أثر واضح في الفروع الفقهية، فلا أطيل بذكر أدلتهم، لكني سأكتفي بإيراد دليلين لكل منهما ثم أبين بطلان كل منهما، وأذكر أدلة الجمهور.
أولاً : الواقفية :
استدلوا بأدلة أهمها :
1 ـ أن هذه الصيغ التي يرى الجمهور وضعها للعموم وردت في نصوص الشرع للعموم تارة وللخصوص تارة، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فتكون مشتركة بين المعنيين، والمشترك يجب التوقف فيه حتى ترد القرينة.
2 ـ أن وضع هذه الصيغ للعموم إما أن يُعرف بنقل أو عقل، أما العقل فلا مدخل له في اللغات، وأما النقل فإما أن يكون تواتراً أو آحاداً، فالتواتر معدوم، وإلا لما خالفناكم، والآحاد لا يكفي في هذه المسألة؛ لكونها من مسائل الأصول التي لا يكفي فيها الظن.
والجواب عن الأول : أن استعمال تلك الصيغ في الخصوص لا يكون إلا بقرينة تصرفه عن العموم. وما هذا حاله يكون الأصل حمله على العموم ما لم توجد قرينة، فيكون موضوعاً للعموم. وجميع ما يوردونه من العمومات المحمولة على الخصوص باتفاق نستطيع أن نوضح لهم فيه القرينة الصارفة.
وأما الدليل الثاني : فهو في الواقع ليس بدليل وإنما هو مطالبة بالدليل وسأبينه.
وقولهم : العقل لا مدخل له في اللغات.. الخ يجاب عنه بأن الدليل على وضع تلك الصيغ للعموم هو النقل الموافق للعقل.
وزعمهم أن النقل آحاد لا يبطله، فالآحاد حجة عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم، مع أن الأدلة بمجموعها تصل إلى درجة التواتر المعنوي، وإن كان كل دليل بمفرده آحاداً.
ثانياً : أرباب الخصوص :
وهم طائفة من الواقفية ولكنهم لم يتوقفوا في مدلول تلك الصيغ مطلقاً وإنما حملوها على أخص الخصوص أي على أقل ما يطلق عليه اللفظ، وتوقفوا فيما زاد على ذلك وقد نسب هذا القول إلى محمد بن شجاع الثلجي ( ) وابن المنتاب( ) واختاره الآمدي ( ).
وقد استدلوا بما يلي :
1 ـ أن هذه الصيغ استعملت في العموم وفي الخصوص، واستعمالها في الخصوص أكثر، فتكون للخصوص ما لم تقم قرينة تدل على التعميم.
2 ـ أن دلالة تلك الصيغ على أخص الخصوص متعينة، ودلالتها على ما زاد عن ذلك مشكوك فيها، فإذا عريت عن القرينة حملت على اليقين ووجب التوقف فيما زاد عن ذلك.
والجواب عن الأول : أن نمنع قولهم : إن استعمالها في الخصوص أكثر.
وما شاع على لسان المتفقهة ونسبوه لابن عباس من قوله « ما من عام إلا وقد خص » لا يصح رواية ولا دراية، وقد أنكره ابن تيمية أشد الإنكار، وأوضح أن عمومات القرآن أكثرها محفوظة باقية على أصلها( ).
وأما قولهم : إن أخص الخصوص متعين، فهو صحيح، ولكن قولهم إن الزائد مشكوك فيه باطل. بل نقول دلالتها على أخص الخصوص قطعية، وعلى ما زاد ظنية، والظن كاف في إثبات الحكم الشرعي.
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على وضع تلك الصيغ للعموم بأدلة نكتفي منها بما يلي :
1 ـ قوله تعالى : { * } [هود45].
وجه الدلالة : أن الله حكى عن نوح ـ عليه السلام ـ تمسكه بالعموم في قوله تعالى: { } [العنكبوت33] فاستدل نوح بعموم لفظ (أهلك) وأقره الله عز وجل على ذلك، وأجابه بما يدل على أن ابنه ليس من أهله. لأن المراد بالأهل في الآية الذين آمنوا به واتبعوه.
2 ـ قوله تعالى : { * } [العنكبوت31-32].
وجه الاستدلال : أن الله حكى عن إبراهيم عليه السلام تمسكه بالعموم المستفاد من لفظ (أهل) المضاف إلى المعرفة، ولم ينكر عليه ذلك، بل بين أن لوطاً مخصوص من العموم.
3- قوله تعالى : { } [الأنعام91].
وجه الاستدلال : أن الله لقن رسوله صلى الله عليه وسلم الجواب عن زعم اليهود ومن وافقهم أن الله ما أنزل على بشر من شيء، وكان الجواب بنقض دعواهم العامة، حيث قال : { } فلو لا أن دعواهم عامة في النفي ما كان ذلك نقضاً لها، ولا جواباً مفحماً لهم. فثبت أن لفظ (بشر) تكون في سياق النفي عامة، فيعم كل بشر، ولفظ شيء نكرة في سياق النفي أيضاً فيعم كل شيء.
ولهذا نقض الله دعواهم بأن الله أنزل على موسى التوراة وموسى من البشر والتوراة شيء أي كتاب منزل.
4 ـ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة، لأبي بن كعب : « ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ أليس الله عز وجل يقول : { }؟[الأنفال24] » فقال : أُبَي : يا رسول الله، لا تدْعُني إلا أجيبك وإن كنت مصليا. (رواه أحمد والترمذي) وروى البخاري نحوه عن أبي سعيد بن المعلى، وأن القصة وقعت معه أيضاً.
ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من الآية العموم وأرشد أبياً إلى ذلك الفهم والعمل به.
5 ـ قوله صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية : « ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : { * } [الزلزلة7-8]». متفق عليه.
وجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم العموم من لفظ (من) وهو القدوة وإليه المرجع في فهم كلام الله جلا وعلا.
6 ـ الإجماع من الصحابة والتابعين على وجوب حمل تلك الألفاظ على عمومها ما لم يصرفها عنه صارف. ومما يدل على ذلك وقائع كثيرة منها:
ـ لما اختلفوا فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم استدل أبو بكر بحديث « الأئمة من قريش » على أن الإمامة لا تخرج عنهم فرضي الجميع بذلك.
ـ ولما اختلفوا في قتال مانعي الزكاة : استدل عمر بقوله صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ». فرد أبو بكر استدلاله بأن الزكاة داخلة في الاستثناء الوارد في الحديث فإنها حق المال.
ـ وقول عثمان وعلي ـ رضي الله عنهما ـ في وطء الأختين بملك اليمين فقالا أحلتهما آية وحرمتهما آية، فالآية التي دلت على الحل قوله تعالى : { } [المؤمنون6]، والآية الدالة على التحريم قوله تعالى : { } [النساء23].
قوة دلالة العام
اختلف العلماء الذين قالوا للعموم صيغة في دلالة العام على ثبوت الحكم لكل فرد من أفراده أهي قطعية أم ظنية؟ واستثني من محل النزاع أمران :
أ ـ دلالة العام الوارد على سبب خاص على صورة السبب؛ فقد ذهب أكثر العلماء إلى أنها دلالة قطعية، وأن صورة السبب لا يمكن تخصيصها من العموم.
ب ـ دلالة العام على أخص الخصوص أي على أقل ما يطلق عليه اللفظ فقد نص كثير من الأصوليين على أنها قطعية. ومرادهم أن العام لابد أن يدل على هذا القدر قطعاً، ولكن هذا القدر ليس معيناً بل شائعاً في أفراد العام.
الخلاف في قوة دلالة العام بين الحنفية والجمهور :
1ـ الحنفية :
ذهبوا إلى أن العام قبل التخصيص قطعي الدلالة على كل فرد من أفراده.
دليلهم :
1- أن الألفاظ تدل على معانيها في اللغة قطعاً، وألفاظ العموم موضوعة للعموم فتكون قطعية الدلالة على كل فرد من أفراده حتى يرد ما يصرفها عن ذلك.
2- لو جاز أن يرد العام ويراد به بعض أفراده من غير قرينة تدل على ذلك، للزم الإيهام والتلبيس، وارتفع الأمان عن اللغة والشرع، ولزم التكليف بما لا يطاق؛ لأن السامع لا يمكنه معرفة المراد منه، فإذا كلف مراعاة هذا الاحتمال كان ذلك تكليفا بما لا يطاق؛ لأن إرادة المتكلم خفية لا تعلم إلا بدلالة منه. ونصوص الشريعة أكثرها ورد بصيغة العموم فلو جوزنا أن يكون المراد بها البعض من غير قرينة لرجعنا إلى مذهب الواقفية الذي أبطلناه.
2ـ الجمهور :
ذهب جمهور العلماء إلى أن دلالة العام على كل فرد من أفراده دلالة ظنية.
واستدلوا بما يلي :
1 ـ أن احتمال التخصيص قائم، ومع الاحتمال لا يمكن القطع.
2 ـ أن أكثر آيات الأحكام العامة مخصوصة، وكثرة التخصيص تورث شبهة واحتمالا في دخول كل فرد تحت مسمى العام، فلا يمكن القطع بذلك.
3 ـ لو كانت دلالة العام قطعية لا متنع تخصيص القرآن بالقياس وخبر الواحد، لكن التخصيص بهذين الدليلين واقع عند الصحابة والتابعين وأكثر الأئمة فعلم أن دلالته ظنية.
وأجابوا عن أدلة الحنفية بما يلي :
قولهم : إن هذه الصيغ موضوعة للعموم، واللفظ يدل على معناه الموضوع له قطعاً. يجاب بجوابين هما :
1 ـ لا نسلم أن دلالة اللفظ على ما وضع له قطعية، بل اللفظ ظاهر فيما وضع له، وليس نصاً إلا حين ينقطع الاحتمال.
2 ـ أن يجاب بالفرق بين العام وغيره من الألفاظ الخاصة، فالعام ظني لما ذكرناه من احتمال التخصيص بخلاف غيره من الألفاظ، وهذا الجواب أقوى من الذي قبله.
قولهم : لو جاز أن يرد العام مراداً به الخصوص بلا قرينة لارتفع الأمان... الخ. يجاب عنه بجوابين هما :
1 ـ المنع من الملازمة، فلا يلزم من قولنا المذكور التلبيس ولا ارتفاع الأمان ولا التكليف بالمحال.
أما عدم لزوم التلبيس وارتفاع الأمان عن اللغة، فلأن الكلام فيما إذا لم تظهر لنا قرينة صارفة ولم نقطع بانتفائها، والتلبيس إنما يلزم لو قطعنا بعدم القرينة الصارفة ومع ذلك لم يرد باللفظ عمومه.
وأما عدم لزوم التكليف بالمحال، فلأن المكلف لم يطلب منه معرفة مراد الشارع في واقع الأمر، وإنما المطلوب منه الامتثال لما يظهر أنه مراد الله ورسوله، وهذا ليس محالاً؛ إذ العام ظاهر في دخول كل فرد من أفراده، فيجب العمل به في عمومه إذا لم يظهر ما يصرفه عن ذلك.
2 ـ أن اللفظ الخاص يحمل على حقيقته مع احتماله المجاز ما لم تقم قرينة على صرفه عن حقيقته إلى مجازه، وهذا باتفاق بيننا وبينكم، ولم تقولوا إنه يفضي إلى التلبيس وارتفاع الأمان، فكذلك العام يحمل على عمومه مع احتماله الخصوص، ولا يلزم من ذلك التلبيس وارتفاع الأمان عن اللغة.
والراجح في هذه المسألة مذهب الجمهور، وهو أن دلالة العام ظنية.
وقد ترتب على الخلاف في هذه المسألة خلاف في مسائل أصولية وفرعية منها :
تخصيص عموم القرآن والسنة المتواترة بالآحاد :
فقد ذهب الحنفية إلى أن العام في القرآن والسنة المتواترة إذا لم يسبق تخصيصه بقطعي لا يجوز تخصيصه ابتداء بخبر الآحاد، وذهب الجمهور إلى جواز ذلك.
ومن الفروع المبنية على هذا الأصل :
أ ـ أن الحنفية يوجبون الزكاة في الخارج من الأرض ولو لم يكن مما يكال ويدخر، فيوجبون الزكاة في الفواكه والخضروات.
ب ـ أنهم لا يشترطون النصاب في الخارج من الأرض، فيوجبون الزكاة في القليل والكثير، وذلك كله عملاً بعموم قوله تعالى : { } [البقرة267] وقوله صلى الله عليه وسلم : « فيما سقت السماء والعيون العشر » (أخرجه البخاري).
والجمهور يخصصون عموم الآية بحديث : « ليس فيما دون خمسه أوسق صدقة » (متفق عليه) فإنه يدل على أن الزكاة إنما تجب فيما يكال ويدخر. وتدل على أن المكيل لا زكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق.
العام بعد التخصيص :
وأما العام بعد التخصيص فهو حجة فيما بقي، ولكنه حجة ظنية، اتفق على ذلك رأي الأصوليين والفقهاء من المذاهب الأربعة.
وما نقل في كتب أصول الفقه من الخلاف في حجية العام بعد التخصيص لم ينقل عن أحد من الفقهاء الذين نقل إلينا فقههم، وإنما نقل عن بعض المتكلمين أو عن فقهاء لم يصل إلينا إلا النزر اليسير من آرائهم الفقهية، كأبي ثور وعيسى بن أبان، وفي صحة النقل عنهما نظر.
ولهذا فلا أرى جدوى من سرد الأقوال والاستدلال لكل قول، وسأكتفي بدليل القول الراجح وهو مذهب الجمهور.
وأهم ما يحتج به للجمهور : الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في العصور الثلاثة المفضلة، فإنهم ما كانوا يتوقفون في العمل بالعام المخصوص في بقية أفراده، ومن ذلك احتجاج علي وعثمان رضي الله عنهما على تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين بقوله تعالى : { } [النساء23]، وعلى إباحته بقوله تعالى : { } [المؤمنون6]، فقالا: أحلتهما آية وحرمتهما آية، مع أن كلا من الآيتين مخصوصة بإجماع؛ إذ ليس كل جمع بين الأختين محرما، وإنما يحرم الجمع بينهما في الوطء والنكاح، وأما ملك الأختين الرقيقتين فلا يحرم.
وكذلك دل العقل والإجماع على تخصيص قوله تعالى : { }، فليس كل ما ملكت اليمين يجوز وطؤه.
أما كون العام بعد التخصيص ظنيا فهو مذهب جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
فأما المذاهب الثلاثة الأخيرة فإن العام عندهم ظني الدلالة خصص أو لم يخصص، ولكن العام المحفوظ عندهم أقوى من العام المخصوص، وكثرة المخصصات تضعف دلالة العام، ولذا فإن العام المحفوظ يقدم عند التعارض على العام المخصوص، بل يقدم المختلف في تخصيصه على المتفق على تخصيصه.
وفي هذا المعنى يقول إمام الحرمين: «ويقدم أحد العمومين بكون التخصيص فيه على النزاع على ما خص بالاتفاق كقوله سبحانه : { }، خص منه تحريم الأختين بالرضاع اتفاقا، وهل في قوله تعالى: { } تخصيص؟ على الخلاف، فكان هذا أولى لأنه أبعد عن الاحتمال» ( ).
ويقول محمد الأمين الشنقيطي : « وقد تقرر في الأصول أن الأقل تخصيصا مقدم على الأكثر تخصيصا، كما أن ما لم يدخله التخصيص أصلا مقدم على ما دخله... وخالف فيه السبكي والصفي الهندي »( ).
وأما الحنفية فقد سبق أنهم يعدون العام المحفوظ قطعي الدلالة، وأما العام المخصوص فهو ظني الدلالة؛ لما فيه من احتمال كون هذا الفرد أو ذاك داخلا في الدليل المخصص بقياس أو نحوه.
ولعل للخلاف في حجية العام المخصوص أثرا في قولهم إنه حجة ظنية، فإن الخلاف وإن كان ضعيفا قد يورث شبهة.
التخصيص
تعريفه :
التخصيص في اللغة : الإفراد والتمييز، يقال : خصه بكذا، أي : ميزه عن غيره.
وفي الاصطلاح : بيان أن المراد بالعام بعض أفراده.
وقيل : بيان ما لم يرد بلفظ العام.
وقيل : قصر العام على بعض مسمياته.
وقيل : إخراج بعض ما يتناوله الخطاب.
وأصحها الأول؛ فإنه يشمل التخصيص ببيان خروج بعض الأفراد، والتخصيص بقصر العام على بعض الأفراد، وكلاهما تخصيص.
كما أنه يدل على أن الأفراد الخارجة عن العام لم تكن مرادة للشارع عند إطلاق اللفظ العام.
وهذا هو أهم الفروق بين التخصيص ونسخ الحكم عن بعض أفراد العام، فإذا كان الجميع داخلين وبعد العمل بالعام في عمومه أخرج بعض الأفراد عد الحكم في حقهم منسوخا، ولو كان الإخراج قبل العمل بالعام عد تخصيصا، وبينهما فرق؛ فإن التخصيص بيان والنسخ إلغاء وإزالة.
أركان التخصيص :
1ـ المخصِّص.
2ـ المخصَّص.
فالمخصِّص : هو الدليل الأخص الدال على خروج بعض أفراد العام عن حكمه، أو على أن العام لم يرد به جميع مسمياته.
وقد يطلق المخصِّص على المجتهد الذي رأى تخصيص دليل بدليل.
والمخصَّص أو المخصوص هو العام الذي قام الدليل على أنه لم يرد به جميع مسمياته، فيقال: لفظ الناس مخصص في قوله تعالى: { } [آل عمران97].
وقد يطلق على المسميات المخرجة عن حكم العام، فيقال : الصبي مخصوص من عموم قوله تعالى : { }..
فتبين بهذا أنهم يطلقون لفظ المخصوص والمخصص على العام الذي دخله التخصيص، وعلى المخرج بالدليل الخاص.
الفرق بين النسخ والتخصيص :
يفرق بعض العلماء بينهما بفروق، أهمها ما يلي :
1ـ أن التخصيص بيان عدم دخول بعض أفراد العام في حكمه، والنسخ رفع الحكم بعد ثبوته في بعض الأزمان.
2ـ التخصيص لا يكون إلا لبعض الأفراد، وأما النسخ فإنه قد يشمل جميع الأفراد فيرفع الحكم عن الجميع، وقد يرفع الحكم عن بعضهم دون بعض.
3ـ التخصيص يدخل الأخبار، والنسخ لا يدخلها؛ لأن الخبر لا يمكن تبديله ورفعه.
4ـ التخصيص قد يكون مقارنا، والنسخ لا يكون إلا متأخرا.
5ـ تخصيص المقطوع بالمظنون جائز، بخلاف نسخ المقطوع بالمظنون.
شروط التخصيص :
اشترط أكثر الحنفية شرطين للتخصيص، هما :
1 ـ أن يكون المخصص مقارنا للعام المخصوص، فلو تقدم لكان منسوخا بالعام، ولو تأخر لكان ناسخا لما يقابله من أفراد العام.
والجمهور لا يشترطون ذلك، بل يقولون المخصص يمكن أن يتقدم أو يقارن أو يتأخر.
2 ـ أن يكون مستقلا في إفادته، فلا يرون التخصيص بالمتصل، والجمهور يقسمون المخصصات إلى متصلة ومنفصلة.
المخصصات
مخصصات العموم عند الجمهور قسمان : متصلة، ومنفصلة.
فالمتصلة هي :
1ـ الاستثناء :
وهو إخراج بعض الجملة عنها بصيغ خاصة.
وأهم صيغه : إلا، وسوى، وغير، وخلا، وعدا، وحاشا، ولكن.
ومثاله قوله تعالى : { * * } [الفرقان68-70].
فلفظ : (من يفعل ذلك) عام؛ لأن (من) الشرطية من صيغ العموم.
وقوله : (إلا من تاب) أخرج من عموم الآية التائبين.
2 ـ الشرط :
ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم : « تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا » (أخرجه البخاري).
فقوله: « خيارهم في الجاهلية » عام؛ لأنه مفرد مضاف إلى معرفة يشمل كل من كان خيارا في الجاهلية.
وقوله : « إذا فقهوا » أخرج من لم يتفقه في الدين، فإنه لا يكون خيارا بعد الإسلام، وإن كان خيارا في الجاهلية.
3ـ الصفة :
ويقصد بها كل معنى يميز بعض المسميات، فيشمل ما يسميه النحويون نعتا أو حالا أو ظرفا أو جارا ومجرورا، أو غير ذلك.
مثال التخصيص بالصفة : قوله تعالى : { } [النساء25]. فقوله : (من فتياتكم) عام؛ لأنه جمع مضاف إلى معرفة فيشمل كل الإماء. وقوله : (المؤمنات)، صفة خصصت من يجوز نكاحهن من الإماء بالمؤمنات.
4 ـ الغاية :
وهي نهاية الشيء ومنقَطَعُه. ولها لفظان : حتى، إلى.
ومثال التخصيص بالغاية : قوله تعالى : { } [البقرة222].
فقوله : (لا تقربوهن) نهي، فيمكن أن يؤخذ منه العموم؛ لأن النهي يقتضي الدوام والاستمرار كما سبق، فيكون المعنى : لا يكن منكم قربان لهن، فتكون الصيغة هي النكرة في سياق النهي.
وقوله : (حتى يطهرن)، تخصيص للعموم المستفاد من النهي، فيخرج من عمومه ما بعد الطهر.
وفي قوله: { } [البقرة222]، مثال للتخصيص بالشرط؛ فإن الآية تدل على أن الوطء لا يباح إلا بعد الغسل؛ إذ هو المراد بالتطهر. وهذا تخصيص للمخصص الأول وهو الغاية، فإن الغاية دلت على أنه بعد الطهر يجوز الوطء، والشرط دل على أن الوطء لا يجوز إلا بعد الطهر والتطهر الذي هو الاغتسال، وقد خالف في هذا الأخير الحنفية، فأجازوا الوطء بعد الطهر وإن لم تغتسل.
5ـ البدل :
ومثال التخصيص به : قوله تعالى : { } [آل عمران97]، فقوله: (على الناس)، عام يشمل كل الناس، وقوله : من استطاع بدل وهو مخصص لعموم الناس فلا يجب الحج إلا على المستطيع.
وقد خالف الحنفية والشاطبي في عد الأنواع السابقة من المخصصات، وقالوا : إن الكلام لا يفهم معناه إلا بعد تمامه، والكلام لا يتم إلا بعد ذكر المستثنى والشرط والصفة والغاية والبدل؛ لأن هذه الأنواع لا تستقل بالإفادة، فلو قطعت عما قبلها لم تفد شيئا، فوجب أن لا ننظر إلى أول الكلام دون آخره، وإنما ننظر له دفعة واحدة.
وهذا الكلام حق، ولكن الجمهور نظروا إلى معنى اللفظ المفرد فإذا وجدوه عاما وضعا ثم جاء في الكلام بعده ما يدل على تخصيصه عدوه مخصوصا، فهو عام بالنظر إلى وضعه في اللغة للعموم، ولكن في الاستعمال مخصوص.
والحنفية لا يخالفون الجمهور في أن التقييد بالشرط والصفة وما ذكر معهما يجعل المنطوق مقتصرا على ما توافر فيه الشرط والصفة، فلا دلالة فيه على سوى ذلك.
ولكنهم يختلفون معهم في تسمية العام مخصوصا بهذه الأنواع.
ولذلك فإنهم يقولون : العام المقيد بشرط أو صفة ونحوهما باق على عمومه، وهو عندهم قطعي الدلالة، بخلاف المخصوص بالمخصصات المنفصلة.
كما يختلفون مع الجمهور في المفهوم المخالف المستفاد من الشرط والصفة والغاية ونحوها، هل يعمل به؟
فالحنفية لا يرون العمل بهذه المفاهيم كما سيأتي في باب المفهوم، ويقولون ما لم يتوافر فيه الشرط أو الصفة اللذين قيد بهما العام لا يدخل في العموم بمنطوق هذا اللفظ ولا يحكم له بضد حكم العام، ولكنه مسكوت عنه يطلب حكمه مما سواه.
فقوله تعالى : { } [النساء25] يقولون : إن الآية دلت على جواز نكاح الفتيات (الإماء) المؤمنات، وأما الكافرات فالآية سكتت عنهن، فيطلب حكم نكاحهن من أدلة أخرى.
القواعد المتعلقة بالمخصصات المتصلة
شروط الاستثناء.
يشترط في الاستثناء شروط منها ما هو محل وفاق ومنها ما هو محل خلاف، وفيما يلي بيانها:
الشرط الأول : الاتصال :
والمراد به اتصال الاستثناء بالمستثنى منه لفظا أو حكما.
والاتصال لفظا يكون بعدم الفصل بينهما، والاتصال حكما يكون بوجود فاصل يسير لا يدل على انقطاع الكلام واستيفائه، كالفصل بسبب انقطاع نفس أو بلع ريق أو سعال ونحوه.
وقد اشترط هذا جماهير العلماء، واستدلوا على ذلك بأن تأخر النطق بالاستثناء دليل على أنه لم يكن مرادا عند التكلم باللفظ السابق، والإرادة الطارئة لا تصلح مخصصة لما قصد عمومه.
وأيضا فإنه لو جاز الاستثناء المتأخر لما حصل الوثوق بعهد ولا عقد، ولا حنث حالف قط، لأنه سوف يستثني من كلامه السابق ما شاء متى شاء.
ومن أدلتهم النقلية قوله صلى الله عليه وسلم : « من حلف على يمين ورآى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير » (رواه مسلم).
وجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الحالف إذا رأى الخير في مخالفة ما حلف عليه أن يكفر عن يمينه ويأتي ما حلف عنه، ولو كان الاستثناء المتأخر صحيحا لأرشده إليه، ولم يرشده إلى التكفير؛ لأن الاستثناء أيسر على المكلفين، والرسول صلى الله عليه وسلم ناصح أمين لأمته.
واستدل بعضهم على اشتراط الاتصال بأن الله أرشد أيوب عليه السلام إلى ضرب امرأته بعثكال النخلة بعد تجريده من التمر، فقال : { } [ص44] ولو كان الاستثناء المتأخر جائزا لأرشده إليه، وروى الزركشي عن أبي إسحاق الشيرازي قصة تتعلق بهذا الاستدلال ( ).
ونقل عن ابن عباس جواز الاستثناء المتأخر.
واختلف النقل عنه فقيل : يجيز تأخر الاستثناء شهرا أو شهرين، وقيل إلى سنة، وقيل مطلقا. وتأوله القاضي أبو بكر بما إذا نوى الاستثناء عند كلامه الأول، ولكنه لم ينطق به إلا متأخرا. وخصه بعضهم بكلام الله جل وعلا.
والنقل عن ابن عباس ثابت كما في المستدرك وغيره عن ابن عباس قال : إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة. وإنما نزلت هذه الآية : { }[الكهف24]، قال : إذا ذكر استثنى. وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين.
وقد ذكر الزركشي في المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر إسناد ذلك عن ابن عباس.
دليل هذا القول :
1ـ ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا، إن شاء الله » (أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان، وقال ابن حجر : رجح الأئمة إرساله)، ففصل بين القَسَم الأول والاستثناء بقَسَمٍ ثان وثالث.
ويجاب عنه بأن القَسَمَين الثاني والثالث تأكيد للأول، فلا يعدان فصلا حقيقيا.
2ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثنى من كلام قاله بعد شهر من التكلم به، لما نزل عليه قوله تعالى : { } [الكهف24]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن شاء الله ».
وهذا الأثر رواه ابن جرير في تفسيره من طريق محمد بن إسحاق عن شيخ من أهل مصر فهو ضعيف لا تقوم به حجة، وقد اجتهد الآمدي في تأويله.
وذهب بعض العلماء إلى جواز تأخير الاستثناء ما دام في المجلس، وهو منقول عن عطاء والحسن البصري.
ووجهه أن الكلام في المجلس الواحد يكون له حكم الاتصال، وإن تخلله سكوت أو كلام في أمر آخر، وذلك لأن الشارع جعل البيعين بالخيار ما لم يتفرقا، أي : ما داما في المجلس، فجعل عقد البيع قابلا للنقض والإبطال ما دام العاقدان في المجلس.
ويجاب بأن المجلس قد يطول، وبأن خيار المجلس ثبت بنص خاص على خلاف القياس فلا يقاس عليه. وبأن المسألة لغوية فلا يجري فيها القياس.
أثر الخلاف :
لم يذكر الفقهاء والأصوليون أثرا للمسألة في غير الأيمان وما في معناها، مما يدل على أن المنقول عن ابن عباس في اليمين، ولم يختلفوا أنه إذا كانت اليمين لدفع الدعوى لا يجوز فيها الاستثناء المتأخر، فلو حلف : ليس له عندي شيء، ثم قال بعد مدة إلا كذا لئلا يحنث، فإن يمينه فاجرة ولا يفيده هذا الاستثناء.
ويظهر أثر الخلاف فيما لو قال: نسائي طوالق، وسكت، ثم قال بعد زمنٍ : إلا فلانة.
الشرط الثاني : عدم الاستغراق :
وقد حكى الآمدي والزركشي وغيرهما الاتفاق على بطلان الاستثناء المستغرق.
والمراد بالاستثناء المستغرق : إخراج جميع أفراد المستثنى منه بإلا أو إحدى أخواتها، كأن يقول : نسائي طوالق إلا ثلاثا، وليس له إلا ثلاث زوجات.
والدليل على بطلانه : أنه ليس من كلام العرب ولا يعرفونه، وإنما هو نوع من العبث فلا يحمل عليه كلام العقلاء.
وأيضا فإنه إبطال للكلام السابق وقد يكون إقرارا بحق، فلا يقبل منه إبطاله بما ليس من كلام العقلاء.
وعلى ذلك لو استثنى الكل فالاستثناء باطل والإقرار الأول ثابت، فلو قال : نسائي طوالق إلا أربع، طلقن جميعا.
ولو قال : له عليّ ألف ريال إلا ألف ريال، بطل الاستثناء وصح الإقرار بالألف.
وقصر بعضهم الخلاف في هذه المسألة على الاستثناء من الأعداد، كالمثالين السابقين.
وأما إذا كان الاستثناء من الصفة فيجوز وإن استغرق، ومثاله: إذا قال : أعط من في البيت إلا الأغنياء، فإذا تبين أن من في البيت كلهم أغنياء لا يبطل الاستثناء، وإذا قال : عبيدي أحرار إلا من لم يصل الفجر معنا، فتبين أن عبيده كلهم لم يصلوا الفجر معه، فلا يبطل الاستثناء ولا يعتقون، وهذا لا ينافي كلام العرب.
الشرط الثالث : أن يكون الباقي بعد الاستثناء أكثر من المخرج به :
وقد اختلف العلماء في هذا الشرط، فذهب بعض العلماء إلى اشتراطه، فأبطلوا الاستثناء إذا كان المستثنى مساويا للباقي أو أكثر منه، وحصر بعضهم الخلاف فيما إذا كان الاستثناء من العدد بالعدد، وأما الاستثناء من الوصف أو بالوصف فيجوز وإن أدى إلى زيادة المستثنى.
واحتجوا بأن أهل اللغة لا يجيزون ذلك، فقال الزجاج : لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير، وقال ابن جني : لو قال قائل : مائة إلا تسعة وتسعين ما كان متكلما بالعربية، وإذا كان أهل اللغة لا يعدونه من كلام العرب فلا يحمل عليه كلام المتكلم بهذه اللغة.
والراجح جوازه، والدليل على ذلك :
1ـ أنه قد جاء في القرآن استثناء الأكثر حينما يكون الاستثناء بالصفة لا بالعدد، ومن ذلك قوله تعالى : { * } [ص82-83]، وقال : { } [الحجر42]. فاستثنى في الأولى المخلصين من الغاوين، وفي الثانية استثنى الغاوين ممن لم يتمكن إبليس من إغوائهم، فلا بد أن يكون أحدهما أكثر فيثبت استثناء الأكثر.
2ـ أن المتكلم لا يعاقب على تكلمه بغير الفصيح في معاشه وتصرفاته الخاصة، ولو أبطلنا استثناءه الأكثر لكان ذلك عقوبة له.
ثم إن المتكلمين باللغة العربية يجهلون هذه الأحكام ولا يعرفون أنها ليست فصيحة، فلا يلغى كلامهم لأجل جهلهم بالعربية.
وبناء على ذلك نقول: لو قال : له علي ألف إلا تسعمائة، يكون مقرا بمائة ولا يطالب بغيرها.
ولو قال : زوجاتي طوالق إلا اثنتين، وعنده ثلاث زوجات لا تطلق إلا واحدة.
الشرط الرابع : أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه :
وقد اختلف في صحة الاستثناء من غير الجنس، ومحل الخلاف أنه هل يسمى استثناء حقيقة؟ وهل يصح في الأقارير والتصرفات؟
ذهب بعض العلماء إلى منعه، وحملوا ما جاء منه في القرآن والسنة على أنه مجاز، وأن (إلا) حينئذ تكون بمعنى (لكن)، فقوله تعالى : { * } [الواقعة25-26]، وقوله تعالى: { } [النساء29]، ونحوهما من الآيات تفسر (إلا) فيها على أنها بمعنى (لكن)، فتكون بمثابة استئناف كلام جديد ليس راجعا إلى ما قبله.
وفي الأقارير والتصرفات جعلوه باطلا لا يفيد شيئا.
وذهب بعضهم إلى جوازه، وقليل منهم قال : إنه حقيقة، والأكثر على أنه مجاز، ولكنهم صححوه في الأقارير والتصرفات. ولهذا نقل عن الشافعي أنه لو قال : له علي مائة درهم إلا ثوبا جاز الاستثناء ويكون قد أقر بمائة إلا قيمة ثوب، فتقدر قيمة الثوب وتخرج عن الإقرار. ونقل عن الإمام أحمد جواز استثناء الدراهم من الدنانير، فيقول : له علي عشرة دنانير إلا خمسة دراهم، فيقبل الاستثناء.
وبذلك يتبين أن محل الخلاف الأصولي المثمر هو في قبول الاستثناء من غير الجنس في الأقارير والأيمان ونحوها من التصرفات.
وأما تسميته استثناء حقيقة أو مجازا فلا يتعلق به غرض الأصولي والفقيه.
فالذين منعوا قبوله حجتهم أنه مخالف للغة ولا يحمل عليه كلام العقلاء، وما وجد في القرآن من ذلك ليس استثناء وإنما هو استئناف كلام جديد جاء بلفظ (إلا) وهي صالحة للأمرين.
والذين أجازوه قالوا : لا نعاقب من خالف الفصيح في اللغة بإلغاء كلامه، وإنما نجعل العبرة بالمعنى المراد للمتكلم وإن كان كلامه ليس بفصيح.
الشرط الخامس : أن ينوي الاستثناء حين النطق بالمستثنى منه :
والمراد أن لا يكون قصد الاستثناء طارئا بعد النطق بالمستثنى منه، فإن جاء طارئا بعد التكلم بالمستثنى منه فلا يصح.
وهذا الشرط محل خلاف :
1ـ ذهب أكثر العلماء إلى اشتراطه، وحجتهم : أنه لو لم ينوه قبل النطق بالمستثنى منه لكان الاستثناء إلغاء لبعض مراد المتكلم، والاستثناء عند أهل اللغة ليس إلغاء، وإنما هو بيان أن الجملة ليست مرادة بكاملها منذ إنشاء الكلام.
2ـ وذهب بعض العلماء إلى جواز الاستثناء وإن لم ينوه من أول الكلام، إذا اتصل بالكلام.
مثاله : إذا قال : نسائي طوالق، فقال له صديقه : إلا فلانة، فقال : إلا فلانة، فإنها لا تطلق بناء على هذا القول.
ودليله : أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما حرم مكة وقال : « لا يعضد شوكها ولا يختلى خلاها » قال العباس : إلا الإذخر، يا رسول الله، فإنه لقيننا وبيوتنا، فقال : «إلا الإذخر» (متفق عليه). ووجه الدلالة : أنه استثنى بعد سؤال العباس.
وأجيب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سيبين لهم أن الإذخر مستثنى إما بصيغة الاستثناء أو بدليل مستقل، ولكن العباس خشي أن يحرم مع حاجتهم إليه فقال في أثناء الكلام : إلا الإذخر.
والراجح : الأول، والحديث الذي استدل به أصحاب القول الثاني محتمل فلا تقوم به دلالة على الدعوى.
والحالف والموقع للطلاق يديَّنان فيما بينهم وبين الله، فإن قال : كنت أنوي الاستثناء قُبل، وإن كان قد لُقِّن الاستثناء من بعض الحاضرين.
وإذا كان الاستثناء متصلا لا يسأل عن نيته؛ لأن الظاهر أنه نواه. والله أعلم.
الاستثناء المتعقب للجمل
إذا جاء الاستثناء بعد جمل عطف بعضها على بعض هل يعود للجميع؟
مثاله : قوله تعالى : { * * } [الفرقان68-70].
وهي من المسائل الكبيرة في الاستثناء، وهي محل خلاف.
تحرير محل النزاع :
1 ـ لا خلاف في أن الاستثناء المتعقب جملا إذا قامت قرينة تدل على أنه يعود إلى الجميع أو يعود إلى الأخيرة أو غيرها يعمل فيه بالقرينة، وإنما الخلاف فيما خلا عن قرينة تبين عود الاستثناء.
2 ـ هل يقتصر الخلاف على ما كان العطف فيه بالواو؟ قال بعض العلماء ما يفيد ذلك، والصواب : أن الخلاف يشمل الجمل المتعاطفة بالواو وغيرها من حروف العطف التي تدل على التشريك، سواء أفادت مع ذلك الترتيب أو التعقيب أم لم تفده، فيدخل المعطوف بالواو والفاء وثم.
وأما حروف العطف الدالة على الإضراب أو الاستدراك مثل : (بل) و (لكن) فلا تدخل في الخلاف.
3 ـ هل المراد بالجمل هنا : الجمل النحوية التامة المكونة من اسمين أو اسم وفعل؟
الظاهر من صنيعهم أنهم لا يريدون ذلك فحسب، بل كل ما فيه عطف ما يمكن دخول الاستثناء فيه على مثله، ولهذا نجدهم يمثلون أحيانا بقولهم : أكرم بني تميم وبني زيد وبني عمرو إلا الجهال. وهذا من عطف المفردات لا من عطف الجمل.
وبذلك يتضح أن محل الخلاف يشمل الاستثناء الوارد بعد جمل أو بعد مفردات يمكن الاستثناء منها، ولا فرق بين أن يكون العطف بالواو أو غيرها مما يفيد التشريك في الحكم، بخلاف ما لا يفيد ذلك. كما أن الخلاف مقتصر على ما لم تقم قرينة تبين عود الاستثناء فيه.
ومثال ما قامت عليه قرينة قوله تعالى : { } [النساء92]. فالاستثناء عائد إلى الجملة الأخيرة، أي : إلى الدية، فهي التي تسقط بعفو الأهل، وذلك لأن الكفارة حق لله فلا تسقط بعفو الآدميين.
وقوله تعالى : { } [البقرة249]. فالاستثناء راجع إلى الجملة الأولى بدلالة السياق؛ لأن الذي اغترف غرفة ليس بعض من لم يطعم بل هو بعض من شرب.
الأقوال :
القول الأول : أن الاستثناء يعود إلى الكل، وهو مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة ( ).
دليله :
1ـ أن الشرط كالاستثناء في تعلقه بما قبله، ولهذا سمي التعليق بشرط مشيئة الله استثناء، والشرط إذا تعقب جملا متعاطفة عاد إلى الكل باتفاق، فيكون الاستثناء كذلك.
2ـ أن تكرار الاستثناء عقب كل جملة عِيٌّ ولكنة باتفاق أهل اللغة، فلم يبق طريق لإعادة الاستثناء إلى الكل إلا على القول بأنه يعود إليها من غير حاجة إلى تكراره.
3ـ أن العطف يوجب نوعاً من الاتحاد بين المعطوف والمعطوف عليه فتصير الجملتان كالجملة الواحدة، ولهذا لا يكرر العامل بل يكتفى بالعطف عنه، فيلزم اتحاد المعطوفات في الحكم اللاحق للأخيرة منها.
القول الثاني : أنه يرجع إلى الجملة الأخيرة وحدها، وهو المشهور عن الحنفية، واستدلوا بما يلي :
1ـ أن العموم يثبت في كل صورة بيقين، وعود الاستثناء إلى جميعها مشكوك فيه، والمتيقن لا يرفع بالشك.
2ـ أن الاستثناء وجب رده إلى ما قبله ضرورة عدم استقلاله، والضرورة تقدر بقدرها، وهي تندفع بإعادته إلى الجملة الأخيرة فليقتصر على ذلك.
3ـ أن الجملة الأولى مفصول بينها وبين الاستثناء بالجملة التي بعدها، ولا يصح الفصل بين المستثنى والاستثناء.
القول الثالث : التوقف حتى تدل قرينة على عود الاستثناء، وهو اختيار الغزالي.
والصواب : الأول.
ويجاب عن أدلة الحنفية بما يلي :
قولهم : العموم متيقن، ممنوع، بل هو عندنا مظنون، وعود الاستثناء إلى الكل مظنون وليس مستوي الطرفين.
ثم إن ذلك يرد على الشرط، وهم لا يقولون فيه كذلك.
وقولهم : رد الاستثناء إلى ما قبله ضرورة، ممنوع، لأنه تعلق بما قبله لصلاحيته لذلك.
وقولهم : يلزم الفصل بين الاستثناء والمستثنى منه، يجاب بأن الفصل ليس بكلام أجنبي، وبأن المعطوف حكمه حكم المعطوف عليه.
انبنى على الخلاف في المسألة خلاف في فروع فقهية، منها :
1 ـ القاذف المجلود إذا تاب هل تقبل شهادته؟:
ذهب الحنفية إلى رد شهادته، والجمهور إلى قبولها، وبني ذلك على الخلاف في قوله تعالى : { * } [النور4-5]، هل يعود الاستثناء إلى وصفهم بالفسق ورد شهادتهم؟
قال الجمهور : نعم؛ لأن الاستثناء المتعقب للجمل يعود للجميع، ولم يقولوا: إنه يعود أيضا إلى الأمر بالجلد؛ لأن الجلد حق لآدمي فلا يسقط بالتوبة.
والحنفية قالوا : يرجع إلى الجملة الأخيرة وهي قوله: { }، فأما الجلد ورد الشهادة فلا استثناء منهما.
2 ـ قوله تعالى : { * } [المائدة33-34]، فالاستثناء في قوله : { } هل يرجع إلى كل الجمل السابقة؟
على القول بعوده إلى الكل فإن من تاب من المحاربين قبل التمكن منه فلا حد عليه ولا إثم يوم القيامة ولا يؤاخذ بشيء.
وعلى القول بعوده إلى الجملة الأخيرة تكون التوبة مانعة من عذاب الآخرة، وأما الحد في الدنيا فيقام عليه.
وهذا القول ليس له قائل من العلماء المشهورين، وإنما اتفقوا على أنهم إذا تابوا قبل أن يؤخذوا سقط عنهم الحد، وبقي حق العباد في المال والقصاص، وهو مذهب أحمد، وقال المقدسي في العدة : لا نعلم فيه خلافا. وقال ابن كثير: لا خلاف في سقوط القتل وقطع الرجل وأما قطع اليد ففيه خلاف.
ولعل من رآى أن من أخذ المال من المحاربين تقطع يده قاسه على السارق قياس الأولى.
واختلفوا فيما أتلفه المحاربون من المال هل يؤاخذون عليه فيلزمهم ضمانه؟
وبهذا يتبين أن الحنفية لم يطردوا قاعدتهم في عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، ولعلهم يقولون هذا مما قامت الدلائل علىعوده إلى الكل.
3 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يؤُمَّنَّ الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه » (أخرجه مسلم).
قال الإمام أحمد : الاستثناء يعود إلى الكل، فإذا أذن رب البيت في الجلوس في المكان المخصص له فلا بأس، وإذا أذن السلطان لغيره في الإمامة مع حضوره وقدرته جاز.
وهذا مذهب الجمهور.
وخالف بعضهم في عود الاستثناء إلى الجملة الأولى ومنع أن يؤم أحد بحضرة السلطان أو الإمام إذا كان قادرا على الإمامة.
4 ـ إذا قال الرجل في وصيته : وقفت على بني زيد داري، وحبست على أقاربي ضيعتي إلا من فسق. فهل يعود الاستثناء إلى الكل؟
إن قلنا نعم، فالفاسق من بني زيد لا يستحق شيئا، والفاسق من أقاربه كذلك، وإن قلنا يعود إلى الجملة الأخيرة فالفاسق من بني زيد يعطى ومن أقاربه لا شيء له.
ولهذا أمثلة كثيرة لا تنحصر في كلام الواقفين والموصين والحالفين وغيرهم.
الاستثناء من النفي
حكى بعض العلماء الاتفاق على أن الاستثناء من الإثبات نفي، وأن الخلاف إنما هو في الاستثناء من النفي هل يكون إثباتا؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين مشهورين :
1ـ مذهب الحنفية : أن الاستثناء من النفي ليس إثباتا، واحتجوا بما يلي :
أنه لو كان الاستثناء من النفي إثباتا لكان قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل الله صلاة بغير طهور » (رواه مسلم من حديث أبي مسعود مرفوعا) يثبت الصلاة بثبوت الطهور، وليس كذلك باتفاق؛ إذ يمكن وجود الطهور مع عدم وجود الصلاة. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار » (رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه) ونحوه من الأحاديث.
2ـ مذهب الجمهور : أن الاستثناء من النفي إثبات، واستدلوا بالإجماع على أن من قال : لا إله إلا الله، فقد آمن، وأثبت الألوهية لله وحده، ولو لم يكن الاستثناء من النفي إثباتا لما كان الناطق بهذه الكلمة مؤمنا.
كما استدلوا بعرف الناس وما يتبادر إلى الذهن عند سماع الاستثناء من النفي.
ومذهب الجمهور هو الراجح بلا تردد.
وقد أجيب عن استدلال الحنفية بحديث: « لا يقبل الله صلاة بغير طهور »، ونحوه من الأحاديث، بأن القاعدة لا تناقض المعنى الذي حمل عليه هذا الحديث؛ لأن الحديث يدل على أن الصلاة لا تكون مقبولة إلا بطهور؛ لأن الطهور شرط الصلاة ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط.
واختار القرافي أن القاعدة ينبغي أن يستثنى منها الشروط، فيقال : الاستثناء من النفي إثبات إلا في الشروط.
والذي يظهر : أنه لا حاجة إلى هذا الاستثناء؛ لأن النفي في أول الحديث يدل على أن الصلاة لا تكون مقبولة بغير طهور، والاستثناء يثبت نقيضه وهو أن الصلاة تقبل بالطهور، أي : أن الطهور لا يمنع قبولها، ولا يلزم منه ضرورة حصولها مقبولة إذا وجدت الطهارة، بل يحتمل عدم قبولها باختلال شرط آخر أو غير ذلك.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار » يفيد أن الصلاة بغير خمار غير مقبولة، وبالخمار لا يمتنع قبولها لأجل الخمار، ولا يمتنع أن تفسد أو ترد بسبب آخر.
وقد يشكل فهم مذهب الحنفية على بعض الدارسين، ويستبعد أن يذهب إليه ذاهب، فيحتاج إلى زيادة إيضاح.
وخلاصة مذهبهم : أن المستثنى مسكوت عن حكمه، وعلى المجتهد أن يطلبه من دليل آخر، وهو عندهم من باب مفهوم المخالفة، كمفهوم الشرط والصفة، فلو قال : ليس له علي إلا مائة. لا يدل على أنه أقر بالمائة، وإنما معنى كلامه نفي ما زاد على المائة، وأما المائة فإنه لا يثبتها ولا ينفيها، وقد يكون ناسيا أو شاكا في بقائها في ذمته، فلا نوجب عليه شيئا بالشك.
وأما الشهادة فقد قالوا : إنه يدخل بها في الإسلام؛ لأنه لا يوجد من تُدعى ألوهيته إلا الله أو غيره، فإذا نفى ألوهية غير الله ثبتت ألوهية الله جل وعلا.
ثمرة الخلاف :
ينبني على هذا الخلاف اختلاف في كثير من مسائل الإقرار والوصايا والأيمان والنذور.
ـ ومنها : إذا قال : ليس له علي إلا مائة، فإن الحنفية يقولون لا يكون مقرا بالمائة وإنما هو ناف ما عداها، فيسأل عن المائة ليقرها أو ينكرها.
والجمهور يقولون هذا إقرار بالمائة فلا ينفعه إنكارها بعد ذلك.
ـ ومنها : إذا قال : لم أعتق من عبيدي إلا غانما، لا يكفي لعتقه على القول الأول، ويكفي على القول الثاني.
ـ ومنها : إذا قال : لم أطلق إلا فلانة، لا يعد إقرارا بالطلاق على الأول، ويعد إقرارا بالطلاق على القول الثاني.
سبب الخلاف :
يرجع سبب الخلاف إلى أن الجمهور يرون أن جملة الاستثناء عبارة عن جملتين : إحداهما مثبتة والأخرى منفية، والحنفية يرون أنها جملة واحدة وأن المستثنى مسكوت عنه، وإثبات حكم له مخالف لحكم المستثنى منه من باب المفهوم وهو ليس حجة عندهم.
والجمهور منهم من يجعله من باب المفهوم، ومنهم من يقول إنه من باب المنطوق، وعند الفريقين هو ثابت.
الشرط الذي يحصل التخصيص به :
قال بعض المحققين : إن الشرط الذي هو أحد المخصصات هو الشرط اللغوي، أي : ما كان فيه التعليق بأحد أدوات الشرط مثل : إن، ما، من، إذا.
وقال بعضهم : يحصل التخصيص بالشرط العقلي والشرعي.
والصواب أن مقصودهم بالشرط في باب التخصيص الشرط اللغوي، وأما الشرط العقلي والشرعي فإنهما من المخصصات المنفصلة، فالأول تخصيص بالعقل، والثاني تخصيص بنص أو قياس ونحوهما، مما ثبت به كون الشيء شرطا شرعيا، فإن ثبت بنص قيل إن المخصص للعموم النص، وإن ثبت بقياس قيل المخصص القياس.
الشروط اللغوية أسباب :
هذه القاعدة حررها القرافي في أكثر كتبه، ومعناها: أن الشروط أربعة أنواع:
1 ـ شروط شرعية، مثل : الطهارة وستر العورة للصلاة.
2 ـ شروط عقلية، مثل: الحياة للعلم، فلا يمكن عقلا أن يكون عالما إلا من كان حيا.
3 ـ شروط عادية، مثل : وجود السلّم لصعود السطح.
4 ـ شروط لغوية ، وهي تعليق الحكم على وصف بإن أو ما جرى مجراها من الصيغ، مثل قوله تعالى : { } [الزلزلة7] { } [النساء130].
فالقرافي يقول : إن الشروط اللغوية من حيث معناها وترتيب الحكم عليها أسباب؛ لأن السبب : ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته، والشروط اللغوية ينطبق عليها هذا التعريف، فإذا قلت : إن تأتني أكرمك، فقد جعلت الإتيان إليك سببا في الإكرام، يحصل الإكرام بحصوله وينعدم بعدمه.
وإذا قال الزوج : إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، يكون قد جعل الخروج بغير إذنه سببا لوقوع الطلاق عليها، فإن وجد الخروج المذكور وجد الطلاق وإن عدم عدم الطلاق.
وبهذا يتبين أن الشروط اللغوية تنزل من حيث المعنى والحكم منزلة الأسباب.
والأمر كما قال القرافي، ولا يقال : قد يوجد الطلاق ولو لم يوجد الخروج بلا إذن، لأن المقصود وقوع الطلاق بسبب الخروج، وأما وقوعه بسبب آخر فلا يمتنع، وهذا جار في الأسباب الأخرى فإنهم يقولون ـ مثلا ـ : الردة سبب للقتل، مع أن القتل قد يكون لأجل الزنى مع الإحصان.
وقد زاد المحققون في تعريف السبب قولهم : لذاته، أي : بالنظر إلى هذا السبب دون غيره من الأسباب، حتى لا يرد مثل هذا الاعتراض على قولهم : السبب يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم.
الشرط المتعقب جملا :
إذا وقع الشرط بعد جمل متعاطفة فالجمهور على أنه يعود إلى الكل، وقيل يعود إلى الجملة الأخيرة كالاستثناء.
والصواب الأول، والفرق بينه وبين الاستثناء عند من فرق، أن الشرط منزلته التقدم على المشروط، فإذا تأخر في اللفظ كان كالمتقدم من حيث المعنى، ولا خلاف أنه إذا تقدم لحق الجميع مما يذكر بعده من الجمل المتعاطفة.
ومثال الشرط المتأخر قوله تعالى : { } [المائدة89]، ولا يختلفون في أن المراد فمن لم يجد جميع ما تقدم.
ما بعد الغاية هل يدخل في حكم ما قبلها؟ :
اختلف العلماء في دخول ما بعد حرف الغاية فيما قبله على أقوال :
الأول : أنه داخل فيه.
الثاني : عدم دخوله، وهو مذهب الجمهور.
الثالث : إن كان ما بعد حرف الغاية من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه وإلا فلا.
مثال : إذا قال : بعتك هذا الشجر إلى تلك الشجرة فهل تدخل الشجرة التي جعلها غاية للبيع في المبيع؟
على القول الأول تدخل، وعلى الثاني لا تدخل، وعلى الثالث إن كانت الشجرة من جنس الشجر المبيع فهي داخلة وإن كانت نوعا آخر من الشجر فلا تدخل، فلو كان المبيع نخلا والتي جعلت غاية رمانة فلا تدخل، وإن كانت نخلة دخلت.
وهذا القول أصح الأقوال؛ لأن القول الأول يشكل عليه قوله تعالى : { } [البقرة187]، والليل غير داخل في الصيام باتفاق، والقول الثاني يشكل عليه قوله تعالى : { } [المائدة6]، والمرافق داخلة فيما يجب غسله.
والقول الثالث لا يرد عليه شيء مما ذكر؛ لأن الليل ليس من جنس النهار الواجب صيامه فلا يدخل، والمرافق من جنس اليد فتدخل.
المخصصات المنفصلة
وهي كل دليل يستقل بنفسه، ولا يحتاج في ثبوته إلى ذكر لفظ العام معه.
أنواع المخصصات المنفصلة :
1ـ الحس :
مثال التخصيص به قوله تعالى : { } [الذاريات42]، فالعموم في قوله : { } مخصوص؛ إذ لم تجعل الجبال كالرميم، والذي دل على ذلك الحس.
2ـ العقل :
مثال التخصيص به قوله تعالى : { } [الزمر62]، فالعقل دل على أن الله لا يخلق نفسه.
وقد اختلف في عد العقل من المخصصات، فقال بعض العلماء إنه ليس مخصصا؛ لأن ما دل العقل على عدم دخوله تحت اللفظ لا يكون اللفظ موضوعا له أصلا، فالله جل وعلا غير داخل في لفظ (شيء) المذكور في الآية فلا حاجة إلى القول بتخصيصه ( ).
وقال أكثرهم : إنه من المخصصات؛ لأن لفظ (كل شيء) موضوع في اللغة للعموم، وفي هذه الآية لا يمكن حمل اللفظ على عمومه لدلالة العقل على خروج الله جل وعلا وصفاته من هذا العموم.
ويظهر أثر الخلاف عند من يقول : إن العام قبل التخصيص قطعي وبعده ظني، فإنه إذا عد العقل مخصصا عد العام المخصوص به ظنيا، وقد رأيت بعض علماء الحنفية الذين ذهبوا إلى التفريق بين العام المخصوص والعام المحفوظ قد جعل المخصوص بالعقل باقيا على قطعيته ما لم يخصص بدليل آخر.
وأما الجمهور فإنهم إذا عدوا العقل مخصصا فإن العام غير المخصوص عندهم أقوى من المخصوص بالعقل أو بغيره من الأدلة.
3ـ النص :
والتخصيص بالنص له صور :
أ ـ تخصيص القرآن بالقرآن :
مثاله : تخصيص قوله تعالى : { } [البقرة228]، بقوله تعالى: { } [الطلاق4]، فالآية الأولى تفيد أن كل مطلقة عدتها ثلاث حيض، وإذا قيل إنها مخصوصة بالآية الثانية فتخرج الحوامل من العموم، وكذلك خص من عموم المطلقات غير المدخول بها، بقوله تعالى: { } [الأحزاب49].
ب ـ تخصيص القرآن بالسنة :
مثاله : تخصيص قوله تعالى : { } [النساء11]، بقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس للقاتل شيء » (أخرجه مالك في الموطأ من حديث عمر مرفوعا، وأخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة بسند ضعيف، وله طرق يتقوى بها) فأخرج القاتل، وبقوله صلى الله عليه وسلم : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » (أخرجه أحمد في المسند، ومعناه في الصحيحين من حديث أبي بكر) فأخرج أبناء الأنبياء، وتخصيص قوله تعالى : { } [النور2]، بما ثبت أنه رجم الزاني المحصن، فيكون مخصوصا من العموم، وهو تخصيص بالفعل.
ومثله تخصيص قوله تعالى : { } [البقرة222]، بما روته عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرها أن تتزر فيباشرها وهي حائض (متفق عليه).
ففعل الرسول صلى الله عليه وسلم معها خصص العموم المستفاد من قوله: { }، أي : لا يكن منكم قربان لهن حتى يطهرن.
والتخصيص بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم مثاله : تخصيص عموم قوله تعالى : { } [البقرة267]، بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة بعدم إخراج الزكاة من الخضروات.
وقد اختلفوا في تخصيص القرآن بالسنة الآحادية، فذهب الجمهور إلى أنه جائز وواقع، وهذا منقول عن الأئمة الأربعة.
واحتجوا على هذا بأدلة، أهمها :
ـ الإجماع من الصحابة على العمل بأخبار الآحاد الخاصة مع معارضتها في الظاهر لعموم القرآن، وهذا يدل على أنهم خصصوا القرآن بخبر الآحاد، ويدل على ذلك وقائع كثيرة منها :
1ـ أن فاطمة طلبت ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين لها أبو بكر أنها لا تستحق شيئا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا نورث ما تركنا صدقة » (متفق عليه) وهذا مخصص لعموم قوله تعالى: { } [النساء11].
2 ـ تخصيص آيات المواريث بقوله صلى الله عليه وسلم : «لا يرث المسلم الكافر» (متفق عليه).
3 ـ تخصيص قوله تعالى : { } [البقرة275]، بما روي عن أبي سعيد الخدري وغيره أن النبي ÷ قال : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل... » (متفق عليه).
4 ـ تخصيص قوله تعالى : { } [التوبة5]، بقوله صلى الله عليه وسلم ـ في المجوس ـ : « سنوا بهم سنة أهل الكتاب » (أخرجه مالك في الموطأ من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعاً).
فهذه المواضع متفق على جريان التخصيص فيها، مع أن المخصصات أخبار آحاد.
وذهب بعض علماء الحنفية إلى عدم جواز تخصيص القرآن بأخبار الآحاد إلا إذا سبق تخصيصه بقطعي.
وأنكر بعض المتكلمين تخصيص القرآن بأخبار الآحاد مطلقا.
واستدل هؤلاء وأولئك بما ثبت عن عمر أنه رد خبر فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة حين طلقت، وقال : « لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت » (أخرجه مسلم)، وهو يعني تقديم قوله تعالى : { } [الطلاق6].
والراجح قول الجمهور، ومما يؤيده أن القول بتخصيص القرآن بأخبار الآحاد فيه عمل بكل من الدليلين العام والخاص، والعمل بالدليلين ولو من وجه أولى من إهمالهما أو إهمال أحدهما.
والجواب عن قول عمر بأنه رد الحديث لشكه في صحته، لا لكونه من رواية واحد معارضة لعموم القرآن.
ثمرة الخلاف :
انبنى على هذا الخلاف اختلاف في كثير من الفروع، منها :
1 ـ تخصيص قوله تعالى : { } [المزمل20]، بحديث: « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » [متفق عليه] فعند الحنفية لا يخصص عموم الآية بالحديث فلا يجعل خصوص الفاتحة هو ركن الصلاة، بل ركنها قراءة القرآن، وعند الجمهور يخصص عموم القرآن بالحديث فيكون المراد بما تيسر الفاتحة فتكون هي الركن.
2 ـ تخصيص آية : { } [الأنفال41]، بقوله صلى الله عليه وسلم : « من قتل قتيلا فله سلبه » [متفق عليه]، فالحنفية يقولون إن عموم الآية لم يسبق تخصيصه بقطعي فلا يمكن تخصيصه بالآحاد، فالسلب عندهم حكمه حكم الغنيمة فيخمس، وعند الجمهور الآية تخصص بالحديث، فالسلب للقاتل، على خلاف بينهم في شروط إعطاء السلب للقاتل.
3 ـ تخصيص آية : { } [الأنعام121]، بحديث : « سموا أنتم وكلوه » [رواه البخاري] فالحنفية قالوا لا نخصص عموم النهي المذكور في الآية بخبر الآحاد؛ لأنه لم يسبق تخصيصه بقطعي، ولذا لم يجيزوا الأكل من متروك التسمية، والجمهور خصصوا الآية بالحديث فأجازوا أكل متروك التسمية بشروط وقيود اختلفوا فيها.
ج ـ تخصيص السنة بالسنة :
مثاله : تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم : « فيما سقت السماء والعيون العشر » (أخرجه البخاري) بقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة » (متفق عليه)، فإن الحديث الأول عام في القليل والكثير، والثاني دل على إخراج القليل الذي لا يبلغ خمسة أوسق عن أن تجب فيه زكاة.
د ـ تخصيص السنة بالقرآن :
ونقل عن الشافعي إنكاره، والصواب جوازه ووقوعه، ومثاله : تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» بقوله تعالى : { } [التوبة29] فالحديث دل على مقاتلة جميع الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. والآية خصصت أهل الكتاب فإنهم لا يقاتلون إذا أعطوا الجزية.
4 ـ القياس :
وقد اختلف في تخصيص عموم القرآن والسنة بالقياس، على أقوال أهمها أربعة :
1ـ الجواز مطلقا.
2ـ المنع مطلقا.
3ـ جواز التخصيص بالقياس الجلي دون الخفي.
4 ـ جواز التخصيص بالقياس إذا كان العام قد سبق تخصيصه.
والصواب : جواز تخصيص القرآن والسنة بالقياس الجلي دون الخفي، ونعني بالجلي ما كان بنفي الفارق بين الأصل والفرع، أو منصوصا على علته.
ومثال التخصيص بالقياس الجلي : تخصيص عموم قوله تعالى : { } [النور2]، بقياس العبد على الأمة والاكتفاء بجلده خمسين جلدة، وذلك أن الأمة ورد النص بأن حدها على النصف من حد الحرة، قال تعالى : { } [النساء25]، فيقاس العبد على الأمة لعدم الفارق بينهما، فيكون حده خمسين جلدة.
والدليل على جواز التخصيص بالقياس الجلي أن الصحابة قد اتفقوا على إلحاق العبد بالأمة في تنصيف الحد، وهو تخصيص بالقياس، وأيضا فإن القياس الجلي بمنزلة النص ولا ينكره إلا مكابر.
ثمرة الخلاف :
من المسائل المتفرعة على هذا الخلاف ما يلي :
1ـ حكم الجاني إذا لجأ للحرم، قال تعالى : { } [آل عمران97]، فهذه الآية تدل بعمومها على أن كل من دخل الحرم كان آمنا على نفسه، سواء أكان جانيا قبل دخوله أم لم يكن كذلك.
والعلماء اختلفوا فيمن جنى خارج الحرم ثم لجأ إليه، هل يقتص منه في النفس؟ فذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى أنه لا يقتص منه داخل الحرم حتى يخرج، وعلى سكان الحرم أن يضيقوا عليه فلا يبايع ولا يؤاكل ولا يجالس؛ ليضطر إلى الخروج من الحرم فيقتص منه، أما الجناية فيما دون النفس فيقتص منه داخل الحرم.
وذهب مالك والشافعي إلى أنه يقتص منه في النفس وفيما دونها، واستدلوا بالقياس على من جنى داخل الحرم، فإن الأئمة متفقون على أنه يقتص منه.
والمسألة مبنية على الخلاف في تخصيص القرآن بالقياس، فالحنفية أنكروا تخصيص القرآن بالقياس؛ لأن هذا العموم محفوظ لم يسبق تخصيصه بقطعي فلا يمكن تخصيصه بالقياس.
والجمهور يرون التخصيص بالقياس إما مطلقا وإما إذا كان جليا، ولكن الإمام أحمد في هذا الفرع وافق أبا حنيفة في عدم الاقتصاص من الجاني إذا لجأ إلى الحرم بعد الجناية، مع أنه في الأصل يوافق الجمهور على جواز تخصيص القرآن بالقياس، وذلك لأنه وجد القياس الذي استدل به مالك والشافعي معارضا لأقوال عدد من الصحابة، كعمر وابنه وابن عباس، فقدم أقوال الصحابة الموافقة للعموم من القرآن. وقد تكون مخالفته لأن القياس عنده لا يصح للفرق بين من جنى داخل الحرم ومن جنى خارجه ولجأ إليه؛ فإن الأول منتهك لحرمة الحرم والثاني معظم له.
2ـ تضمين السارق المال المسروق إذا استهلكه أو هلك في يده، قال تعالى : { } [المائدة38].
اتفق العلماء على أن المال المسروق إذا وجد بعينه عند السارق وجب عليه رده لصاحبه، واختلفوا فيما إذا تلف المال عند السارق هل يضمنه؟
فذهب أبو حنيفة في المشهور عنه إلى أنه لا ضمان عليه، وذهب الشافعي وأحمد إلى وجوب الضمان، وفصل مالك وفرق بين الموسر والمعسر، فإن كان موسرا ضمن وإلا فلا ضمان عليه.
وسبب الخلاف اختلافهم في تخصيص القرآن بالقياس.
فالحنفية قالوا لا يضمن ما أتلفه من المال المسروق؛ تمسكا بعموم الآية: { }، و (ما) عامة في كل ما كسبته يداه من سرقة وإتلاف، وهذا العموم محفوظ غير مخصص فلا يقوى القياس على تخصيصه.
والذين قالوا بتضمينه خصصوا عموم الآية بالقياس على المغصوب، وقالوا كل ما وجب رد عينه وجب ضمانه كالمغصوب.
وتفريق مالك بين الموسر والمعسر من قبيل الاستحسان.
5 ـ الإجماع :
ولا خلاف في جواز التخصيص به، ومثله بعضهم بالإجماع على تخصيص العبد من عموم آية { } [النور2]، فيكون حده خمسين جلدة.
وإذا صح الإجماع فالمثال صحيح، ولا يشكل عليه أنه تخصيص بالقياس؛ إذ يقال إن القياس دليل الإجماع، وبعد حصول الإجماع لا ينظر إلى دليله، ويمكن أن يمثل له بالإجماع علىجواز عقد الاستصناع فيكون ذلك الإجماع تخصيصا لعموم الأحاديث الدالة على المنع من بيع وشرط، أو بيعتين في بيعة، وتخصيص قوله تعالى : { } [النساء12]، بالإجماع على أن المراد الأخ لأم والأخت لأم، وتخصيص قوله : { } [الحج36]، بالإجماع على أن هدي جزاء الصيد لا يجوز أن يأكل منه.
6ـ المفهوم : وهو قسمان :
1ـ مفهوم الموافقة : وهو إثبات مثل حكم المنطوق للمسكوت عنه الأولى منه أو المساوي.
ومثال التخصيص به : تخصيص حديث : « مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته » بمفهوم الموافقة في قوله تعالى : { } [الإسراء23]، فإن مفهوم الموافقة من الآية أن الابن لا يجوز أن يؤذي أباه بالشكوى إلى القاضي ولا يحل له عرضه أو معاقبته إذا ماطله في حق له.
2ـ مفهوم المخالفة : والمقصود به : إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، ومثال التخصيص به : تخصيصهم حديث : « الماء طهور لا ينجسه شيء » (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ مختلفة، عن ابن عباس وأبي سعيد)، بمفهوم حديث : « إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث » (رواه أصحاب السنن عن ابن عمر ـ ـ وصححه ابن حبان والحاكم)، فمفهوم هذا الحديث: أن الماء إذا لم يبلغ القلتين يحمل الخبث، أي : يتنجس، ولو لم يتغير طعمه أو ريحه أو لونه.
العموم الوارد على سبب
أطال بعض الأصوليين في تحرير محل النزاع في المسألة بتقسيم العموم الوارد جوابا، إلى مستقل وغير مستقل، ومثّل غير المستقل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «نعم» جوابا لسؤال سائل، ولا أرى حاجة لذلك؛ لأن لفظ « نعم » ليس من صيغ العموم، والكلام ليس في عموم كل جواب وخصوصه، وإنما الكلام في الجواب العام بالوضع هل يقصر على سببه؟
والأولى أن يقال في تحرير محل النزاع: إن العلماء اتفقوا على دخول صورة السبب في الحكم العام الوارد على سبب خاص، وما عداها من الصور الداخلة تحت عموم اللفظ إما أن يكون عموم اللفظ لها جزءا من الجواب لا يتم الجواب إلا به، أو يكون اللفظ الذي تناولها لغة زائدا عن الجواب يمكن فهم الجواب بدونه.
ومثال القسمين : أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل : أنتوضأ بماء البحر، فقال : « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » (أخرجه مالك وأحمد وأصحاب السنن، وصححه الحاكم)، فهذا الجواب فيه عمومان :
الأول : واقع في جواب السؤال ولا يتم الجواب بدونه، وهو قوله: « هو الطهور ماؤه ».
والثاني : زائد عن جواب السؤال ولكنه مصاحب له، وهو قوله : « الحل ميتته »، فهذا العموم الأخير خارج عن محل النزاع؛ لأنه بيان لحكم لم يسأل عنه فهو كالحكم المبتدأ الذي لا يعرف سببه، فيكون عاما لكل ميتات البحر إلا ما قام الدليل على خصوصه.
والأول : وهو ما كان العموم فيه في موضع السؤال ولا يتم الجواب إلا به هو موضع النزاع.
ومن أمثلته :
أ ـ قوله تعالى : { } [المجادلة3]. فهذه الآية نزلت عندما ظاهر أوس بن الصامت من زوجته فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه حالها وحال أولادها، وهو جواب عام في موضع السؤال، وليس زائدا عن الجواب.
ب ـ قوله صلى الله عليه وسلم ـ حين سئل عن ماء بئر بضاعة ـ: « الماء طهور لا ينجسه شيء»، وهو جواب عام في موضع السؤال، وليس خارجاً عما يحتاج إليه في الجواب.
ج ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « الخراج بالضمان » (أخرجه أحمد وأصحاب السنن عن عائشة مرفوعا) حين سئل عمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد فيه عيبا فرده، هل يضمن أجرة استعماله؟ وهو كما سبق جواب عام في موضع السؤال.
فهذا العموم ونحوه اختلف فيه على قولين مشهورين :
القول الأول : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو مذهب جمهور العلماء، وعليه العمل عند أكثر الفقهاء من أتباع المذاهب وغيرهم.
دليله :
1ـ أن الصحابة والتابعين استدلوا بالآيات والأحاديث العامة الواردة على أسباب خاصة في عمومها، ولم يقصروها على أسبابها، وذلك كآيات اللعان والظهار والسرقة والمواريث.
2ـ أن الحكم إنما يؤخذ من نص الشارع، وهو نص عام فيجب حمله على عمومه.
3ـ أن عدول الشارع عن الجواب الخاص إلى العموم دليل على أنه أراد العموم.
4ـ ما ثبت في الصحيحين من استشهاد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { } [الكهف54]، على علي عند ما أيقظه النبي صلى الله عليه وسلم هو وفاطمة لصلاة الليل، فقال علي : إن أرواحنا بيد الله، إن شاء بعثنا، فولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب فخذه ويقول : { } (متفق عليه)، مع أن الآية نزلت في الكفار الذين يجادلون في القرآن.
القول الثاني : أنه يجب قصر العام على سببه، وإليه ذهب بعض الشافعية, ونسب إلى الإمام الشافعي، ونقل عن المزني وأبي ثور، وحكي عن أبي الفرج المالكي، ونقل أيضا عن أبي حنيفة.
دليله : أن اتفاق العلماء على نقل أسباب النزول والعناية بها يدل على أنها ذات أثر في فهم الآيات، ولا أثر إلا قصر الآيات العامة على أسبابها، ولولا ذلك لما كان لنقل الأسباب فائدة.
والراجح : الأول، ونقل العلماء لأسباب النزول لا يدل على قصر العام على سببه؛ لأن نقل الأسباب له غايات أخرى، منها : أن الأسباب تساعد في فهم النصوص الشرعية وتفسير ما يغمض منها، ومنها : أن نقل السبب يبين تاريخ نزول الآية أو ورود الحديث ليعرف المتقدم عليه والمتأخر عنه من النصوص الأخرى، فيعرف الناسخ من المنسوخ.
ثمرة الخلاف :
مما ترتب على الخلاف في المسألة : اختلافهم في حل متروك التسمية، فإن الحنفية والحنابلة استدلوا بعموم آية : { } [الأنعام121]، على تحريم كل ما لم يسم عليه عند ذبحه، واستثنى الحنابلة ما تركت التسمية عليه نسيانا للعذر، وذهب الشافعي إلى حل متروك التسمية عمدا، وقصر الآية على سبب نزولها فإنها نزلت فيما يذكر عليه اسم غير الله.
دخول المخاطِب في عموم خطابه
المخاطِب إذا تكلم بخطاب عام يشمله من حيث الوضع اللغوي، كلفظ الناس أو المسلمين ـ إذا كان مسلما ـ هل يدخل في عمومه؟
هكذا تصور المسألة في كتب الأصول، والقدر المفيد منها أن تخصص بالرسول صلى الله عليه وسلم فيقال : الرسول صلى الله عليه وسلم هل يدخل في عموم خطابه الذي خاطب به أصحابه.
والخلاف في المسألة على ثلاثة أقوال مشهورة :
1ـ أنه داخل في عموم خطابه مطلقا؛ لأن اللفظ يشمله لغة فوجب أن يشمله حكما.
2ـ أنه ليس داخلا؛ لأن خطابه لغيره قد يكون أمرا أو نهيا، ولا يمكن أن يأمر نفسه أو ينهى نفسه، إذ لا بد فيه من آمر ومأمور، وناه ومنهي.
3ـ التفريق بين الخبر والأمر والنهي، فإن كان خطابه بصيغة الخبر فهو داخل فيه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : « الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا » (أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة ـ ـ)، وكقوله صلى الله عليه وسلم: « المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم » (أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي).
وأما إذا كان بصيغة الأمر أو النهي فلا يدخل فيه؛ لامتناع أمر الإنسان نفسه أو نهيها.
والصحيح : أن الأصل في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بحكم شرعي دخوله في ذلك الخطاب، سواء أكان الخطاب يشمله لغة أم لا، ولا يخرج عن ذلك الحكم إلا بدليل.
وقد تقدم في العموم المعنوي دخول الرسول صلى الله عليه وسلم في خطاب الأمة، وإن كان لا يشمله لغة، فدخوله فيما يشمله لغة أولى.
ويظهر أثر الخلاف عند تعارض نهيه وفعله، كما تقدم في استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة.
وقد ذكرت هذه المسألة بعد مسألة العام الوارد على سبب؛ لأن بعض العلماء ظن أن ورود العام على لسان المخاطِب يكفي لتخصيصه من ذلك العموم وإخراجه عن حكمه، كما ظنوا أن ورود العام على سبب خاص يخصصه.
دخول العبيد والإماء والكفار في الخطاب العام
اختلف العلماء في الدليل العام من الكتاب والسنة هل يشمل العبيد والإماء والكفار؟
وخلافهم راجع إلى أن هذه الصفات (الرق، الكفر) هل تدل على تخصيص الخطاب العام؟
ذهب بعضهم إلى ذلك، والجمهور على دخولهم في العموم؛ لأن اللفظ عام، وصفة الرق والكفر ليستا من المخصصات.
ويظهر أثر الخلاف في أن الأصل في الأوامر والنواهي الواردة بصيغة العموم، ما هو؟
فالأولون قالوا : الأصل عدم دخول العبيد والإماء والكفار إلا بدليل خارجي.
والجمهور قالوا : الأصل دخولهم، ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل.
العمل بالعام قبل البحث عن المخصص
هذه المسألة من المسائل التي أطال فيها الأصوليون الكلام، وهي لا تحتمل الإطالة، ونقل بعضهم الإجماع على عدم جواز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص، وعارضه الآخر بالإجماع على العمل بالعام حتى يطلع على المخصص.
والذي يظهر لي أن الصواب التفريق بين العلماء المجتهدين ـ الذين أحاطوا بغالب نصوص الشريعة وحصلوا من العلم ما يمكنهم من معرفة مراد الشارع، وسبروا غور النصوص فعرفوا العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، وخبروا مواطن الإجماع والخلاف ـ والعوام ومن يلحق بهم من المنتسبين إلى الفقه الذين أخذوا من العلم ما لا يكفي للتربع على عرش الفتيا وسدة القضاء.
فالقسم الأول , وهم العلماء المجتهدون لا ينبغي الخلاف في أنهم إذا بلغتهم آية عامة أو حديث عام ولم يبلغهم المخصص على الرغم من تمرسهم بالعلم وسعة اطلاعهم على الأدلة أنهم يجب عليهم العمل بالعام، ولا يلزمهم التوقف إلى أن يبحثوا لاحتمال وجود المخصص.
وأما القسم الثاني، وهم العوام ومن في حكمهم فهؤلاء ليس لأحدهم أن يعمل بالعام إذا بلغه دون أن يسأل أهل العلم المجتهدين، ولو ابتلي أحد المتفقهة بمنصب قضاء أو فتيا فليس له أن يفتي أو يقضي قبل أن يراجع كتب العلم التي تتيسر له ويبذل جهده في درك حكم المسألة منها، ولو بلغه حديث عام ليس له أن يبادر إلى العمل أو الفتيا بعمومه قبل أن يراجع ما قاله أهل العلم فيه، ويبذل غاية جهده في ذلك.
والذي يظهر أن الذين نقل عنهم المنع من العمل بالعام قبل البحث عن المخصص إنما منعوا لأحد سببين :
الأول : أنهم لا يقصدون بالبحث عن المخصص استقصاء موارد الأدلة جميعها، وإنما يقصدون مجرد التروي واسترجاع المعلومات السابقة لعرض الدليل العام عليها، فإن وجدوا فيها ما يخصصه وإلا عملوا به في عمومه.
وهذا ظاهر من قول أبي زيد الدبوسي : « وأما الفقيه فيلزمه أن يحتاط لنفسه فيقف ساعة لاستكشاف هذا الاحتمال بالنظر في الأشباه، مع كونه حجة للعمل به إن عمل، لكن يقف احتياطا حتى لا يحتاج إلى نقض ما أمضاه بتبين الخلاف » ( ).
ولا يخفى أن مثل هذا التوقف لا ينبغي الخلاف فيه.
الثاني : أنهم منعوا ذلك خوفا من أن يقدم كل أحد على العمل بالعموم دون بحث وإن كان من غير أهل الاجتهاد، ولو أذن لغير المجتهدين في ذلك لعطلوا كثيرا من نصوص الشريعة الخاصة للجهل بها.
وهذا يظهر من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول ـ في ترجيح قول المانعين ـ : « وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره، فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه، فإذا غلب على الظن انتفاء ما يعارضه غلب على الظن مقتضاه، وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض » ( )، فقوله : لا تحصل للمتأخرين الخ، يدل على أنه رجح المنع لما يعرفه من حال المتأخرين أنهم ليس لهم إحاطة بالأدلة.
والذين نقل عنهم القول بالعمل بالعام قبل البحث عن المخصص من الأئمة كالشافعي وأحمد، يحمل ما ورد عنهم على أن المراد بذلك أهل الاجتهاد.
وأما الذين أجازوه لمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لمن سمعه منه مباشرة أو لمن سمعه على سبيل التعليم، فهم فيما عدا ذلك مع المانعين، وتفصيلهم لم يعد له أثر بعد عهد الصحابة.
وقد بنى الإسنوي على الخلاف مسائل، أظهرها :
1ـ الحكم للمدعي إذا قامت البينة دون الإعذار إلى المدعى عليه، جوزه الشافعي ومنعه أبو حنيفة. وهو من قبيل بناء النظير على نظيره لا من بناء الفرع على أصله.
2ـ إذا لاعن الرجل زوجته وانتفى الولد ثم استلحقه فقال له شخص : لست ابن فلان، فهل يعد قذفا يحد به؟ أو يسأل عن قصده؟
وهذا أيضا كالفرع الذي قبله ليس من بناء الفروع على الأصول.
وعلى القول بوجوب البحث قبل العمل فلا يلزم التوقف إلى القطع بانتفاء المخصص، بل يكفي غلبة الظن في أصح الأقوال. والله أعلم.
المطلق والمقيد
تعريفهما :
المطلق في اللغة : الخالي من القيد، يقال : أطلق البعير من قيده إذا خلاّه بلا قيد.
وفي الاصطلاح : الدال على الحقيقة من غير وصف زائد عليها.
وعرفه بعضهم بأنه ما دل على فرد شائع في جنسه.
ومثاله : النكرة في سياق الأمر، أي : المأمور بها، كما في قوله تعالى : { } [المجادلة3]، فالرقبة المأمور بها في الآية مطلقة لم توصف بقيد زائد على حقيقة جنس الرقبة.
والمقيد: ما تناول معينا أو موصوفا بوصف زائد على حقيقة جنسه.
فالمقيد إذاً نوعان :
الأول : المعين، كالعَلَم والمشار إليه.
الثاني : غير المعين الموصوف بوصف زائد على معنى حقيقته.
وهذا النوع الأخير مقيد باعتبار، ومطلق باعتبار، ومثاله : قوله تعالى : { } [النساء92]. فالرقبة المذكورة في الآية مقيدة بالإيمان، ولكنها مطلقة من حيث الذكورة والأنوثة، ومن حيث الكبر والصغر، فيكون اللفظ مطلقا باعتبار ومقيدا باعتبار، وهو يختلف عن المطلق الذي لا تقييد فيه.
حمل المطلق على المقيد :
الدليل الشرعي المطلق إذا لم يرد ما يقيده يجب حمله على إطلاقه، كما أن العام إذا لم يرد ما يخصصه يجب حمله على عمومه.
وإذا ورد ما يدل على تقييد المطلق وجب حمل المطلق على المقيد.
والمراد بهذا المصطلح (حمل المطلق على المقيد) أن المجتهد إذا نظر في الدليل فوجده من حيث وضعه اللغوي مطلقا، ولكنه وجد دليلا آخر في اللفظ أو في لفظ آخر مستقل يقيد إطلاق ذلك المطلق، وجب عليه أن يفهم المطلق على ما يقتضيه دليل التقييد.
فالحمل معناه : الفهم، وحمل المطلق على المقيد، معناه : فهم الدليل المطلق لفظا على ما يقتضيه الدليل المقيد له فيكون المعنى الشرعي المقصود من المطلق هو المعنى المقصود من المقيد.
اللفظ المطلق في موضع المقيد في موضع آخر:
إذا جاء اللفظ مطلقا في موضع مقيدا في موضع آخر، فهل يحمل المطلق على المقيد، ويجعل الحكم الثابت بهما مقيدا؟
للجواب عن هذا نقول :
ورود اللفظ مطلقا مرة ومقيدا مرة أخرى له أحوال، بعضها محل خلاف وبعضها محل وفاق على النحو التالي :
1 ـ أن يتحد الحكم والسبب في الموضعين :
مثاله : اعتاد كثير من الأصوليين تمثيله بقوله تعالى : { } [المائدة3] مع قوله في آية أخرى : { } [الأنعام145]، وقالوا : إن الدم أطلق في موضع، وقيد في موضع آخر بكونه مسفوحا.
وهذا المثال فيه نظر؛ وهو أن لفظ (الدم) اسم جنس محلى بأل، وهو من صيغ العموم فيكون عاما لا مطلقا.
ويمكن أن يجاب بأنه عام في الدم القليل والكثير، وأما من حيث صفات الدم الأخرى فهو مطلق، وجاء تقييده في الآية الأخرى. وفي هذه الصورة يحمل المطلق على المقيد باتفاق.
ومن أمثلته الظاهرة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر : « من لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين » (متفق عليه).
وقوله في حديث ابن عباس بعرفة : « فليلبس الخفين » (متفق عليه). وليس فيه ذكر للقطع.
فالقاعدة تقتضي أن يحمل المطلق على المقيد باتفاق؛ لاتحاد الحكم والسبب، فالحكم هو لبس الخف لمن لم يجد النعل، والسبب هو الإحرام، ولكن الخلاف وقع من جهة قاعدة أخرى وهي أن المطلق جاء متأخرا عن المقيد، فذهب بعض العلماء إلى أن المطلق إذا تأخر ينسخ المقيد المتقدم، وهذا مذهب الحنفية ورواية عن أحمد.
وذهب بعض العلماء إلى أن المطلق لا ينسخ المقيد سواء تقدم أو تأخر، ويكون المقيد مقدما على المطلق فيقيد به، ولهذا قال بعضهم بوجوب قطع الخفين لمن لم يجد النعلين من المحرمين الذكور. وقال آخرون بعدم وجوب القطع.
ثم حاول كل فريق أن يستدل على رأيه بأدلة أخرى تقوي جانبه، وليس هذا موضع بسطها.
2 ـ أن يختلف الحكم والسبب :
مثاله : لفظ الأيدي جاء مطلقا في قوله تعالى : { } [المائدة38] وجاء مقيدا في قوله : { } [المائدة6] والحكم في الأولى القطع، وفي الثانية الغسل، والسبب في الأولى السرقة وفي الثانية الحدث، ففي هذه الحالة لا يحمل المطلق على المقيد قولا واحدا.
3 ـ أن يتحد الحكم ويختلف السبب :
مثاله : لفظ الرقبة في قوله تعالى : { } [المجادلة3] وقوله : { } [النساء92].
فالحكم واحد وهو العتق، والسبب مختلف، وهو في الآية الأولى الظهار، وفي الآية الثانية القتل خطأ.
وهذه الصورة وما يشبهها وقع الخلاف فيها على ثلاثة أقوال :
أ ـ حمل المطلق على المقيد بطريق اللغة، أي : تقييد الحكم المطلق بما ذكر في الدليل المقيد، ذهب إلى ذلك بعض الشافعية وبعض الحنابلة.
ب ـ حمل المطلق على المقيد بطريق القياس إذا توافرت شروطه، وذهب إليه بعض علماء الحنابلة كأبي الخطاب وغيره.
ج ـ عدم حمل المطلق على المقيد، وبقاء كل من الحكمين على حاله، وهو مذهب الحنفية.
وأرجح الأقوال هو الثاني وهو حمل المطلق على المقيد بطريق القياس لا باللغة؛ فإن اللغة لا تقتضي ذلك.
ومن أمثلته: قوله تعالى : { } [البقرة282]، مع قوله في آية أخرى : { } [الطلاق2]، ولا خلاف في اشتراط العدالة في الشاهدين، ولكن بعض العلماء أخذ ذلك من حمل المطلق على المقيد، وبعضهم بدليل آخر كالقياس.
4ـ ان يتحد السبب ويختلف الحكم :
مثاله : قوله تعالى في الوضوء : { } [المائدة6]، وقوله تعالى في التيمم : { } [النساء43]، فالأولى ورد فيها لفظ أيديكم مقيدا بالمرافق، والثانية ورد فيها مطلقا، والحكم في الأولى الغسل، وفي الثانية المسح بالتراب، والسبب واحد وهو الحدث أو إرادة رفع الحدث.
فهذه الصورة ذهب بعض الشافعية إلى حمل المطلق على المقيد فيها فقالوا في التيمم يمسح يديه إلى المرفقين.
والجمهور على عدم تقييد التيمم بالقيد الوارد في الوضوء، وهو الصواب؛ لأنه لا يمكن دعوى دلالة اللغة على التقييد هنا، وأما القياس فيكون من باب قياس حكم على حكم مختلف عنه لأجل اتحاد سببهما.
وهذا لا يصح مع قولهم إن السبب علامة على ثبوت الحكم لا تأثير لها، وإنما يقبل لو ظهر أن السبب فيه مناسبة لتشريع الحكم يمكن أن يعقلها المجتهد. وفي المثال المذكور لا يعقل المجتهد مناسبة تدعوا المحدث إلى أن يغسل وجهه ويديه الخ، أو يمسح وجهه ويديه، وإنما هو محض تعبد فلا يمكن القياس.
شروط حمل المطلق على المقيد :
ظهر مما سبق أن الشافعية أكثر المذاهب عملا بحمل المطلق على المقيد، ومع ذلك فقد ذكروا شروطا لصحة ذلك الحمل أظهرها ما يلي:
1 ـ أن يكون القيد من باب الصفات، كالإيمان في الرقبة، ولا يصح أن يكون في إثبات زيادة لم ترد في المطلق، ولذلك لا يصح أن يقال: يجب أن يُيَمم الرجلين والرأس إذا أراد التيمم.
2 ـ أن لا يعارض القيد قيدٌ آخر، فإن عارضه قيد آخر لجأ المجتهد إلى الترجيح.
مثاله : حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب، ورد بلفظ : فليغسله سبعا إحداهن بالتراب، وورد بلفظ : أولاهن، وبلفظ أخراهن، وكلها صحيحة السند، فالأولى مطلقة، والثانية والثالثة مقيدتان بقيدين متضادين فلا يمكن حمل المطلق على المقيد هنا إلا بترجيح.
3 ـ أن يكون ورود المطلق في باب الأوامر والإثبات، أما في سياق النفي والنهي فلا يحمل المطلق على المقيد، فلو قال : لا تعتق مكاتبا، ثم قال : لا تعتق مكاتبا كافرا، فلا يحمل المطلق على المقيد؛ لأنه لو أعتق مكاتبا مؤمنا لأخل بعموم اللفظ الأول.
كذا قالوا، ولا يخفى أن النكرة في سياق النفي والنهي تكون للعموم فلا يكون تقييدها من تقييد المطلق بل من تخصيص العام، والعام لا يخصص بما يدل على ثبوت الحكم لبعض أفراده.
4 ـ أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد، فإن قام دليل يمنع منه لم يجز، مثاله : قوله تعالى : { } [البقرة234]، مع قوله تعالى : { } [الأحزاب49].
فالأولى في عدة المتوفى عنها زوجها وهي مطْلَقَة؛ لأن لفظ (أزواجا) مطلق في المدخول بها وغيرها، والثانية في عدم العدة للمطلقة غير المدخول بها، ولا يقال إن المتوفى عنها غير المدخول بها لا عدة لها، وذلك لأن المتوفى عنها تبقى لها أحكام الزوجية من ثبوت الإرث وجواز تغسيل الزوج الميت بخلاف البائن، فوجب التفريق بينهما فيمتنع التقييد.
هكذا مثل الزركشي، وفي المثال نظر؛ لأن الحمل ممتنع لاختلاف الحكم والسبب، فالحكم في الأولى وجوب العدة، والسبب الموت، وفي الثانية الحكم عدم وجوب العدة، والسبب الطلاق قبل الدخول.
وهذا يدل على أن تقييد المطلق عند من يشترط هذا الشرط من باب القياس، والقياس لا يصح في مقابلة النص.
المنطوق والمفهوم
جرى كثير من الأصوليين على تقسيم الدلالة إلى دلالة منطوق ودلالة مفهوم، وقد يقسمون المدلول نفسه إلى منطوق ومفهوم.
وجرى بعضهم على إدراج دلالة المفهوم تحت دلالة غير المنظوم.
والمنطوق : هو المعنى المستفاد من صريح اللفظ. وقد يقال : ما دل عليه اللفظ في محل النطق.
ومعنى قولهم : في محل النطق، أي : في العبارة المنطوق بها.
مثاله : المعنى المستفاد من قوله تعالى : { } [البقرة110]، وهو الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. والمعنى المستفاد من قوله تعالى : { } [121] وهو النهي عن الأكل من متروك التسمية.
والمفهوم : هو المعنى اللازم للفظ ولم يصرح به فيه.
وقد يقال : ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق. أي في مقدر خارج عن المنطوق به.
مثل دلالة قوله تعالى : { } [الإسراء23] على تحريم الضرب والشتم، ودلالة قوله تعالى : { } [النساء25] على أن الأمة غير المؤمنة لا يصح نكاحها لمن لم يجد مهر الحرة.
والذين عبروا بالمنظوم وغير المنظوم، جعلوا غير المنظوم منقسما إلى الاقتضاء والإيماء والتنبيه (مفهوم الموافقة) ودليل الخطاب (مفهوم المخالفة).
وأما الذين عبروا بالمنطوق والمفهوم، فمنهم من جعل هذه الدلالات الأربع المتقدمة داخلة تحت المفهوم، ومنهم من جعل الثلاث الأولى داخلة تحت المنطوق غير الصريح، والرابعة هي المسماة بالمفهوم.
وهذا الاختلاف لا يترتب عليه فائدة سوى معرفة الاصطلاح، وقد وقع فيه كثير من الخلط والوهم.
والأولى سلوك طريق مَن قسّم الدلالة إلى دلالة المنظوم ودلالة غير المنظوم.
فالأولى معروفة، وهي : كل دلالة يكون الدال فيها دل بالوضع اللغوي. وهي تشمل دلالة المطابقة ودلالة التضمن.
والثانية، هي : دلالة الالتزام. وهي دلالة اللفظ على معنى خارجي لازم للمنطوق به.
وقد يقال : ما دل عليه اللفظ لا بصريح صيغته ووضعه. ويشمل دلالة الاقتضاء، ودلالة الإشارة، ودلالة الإيماء، ودلالة المفهوم.
وإليك التعريف بكل منها مع أمثلته.
1ـ دلالة الاقتضاء :
هي دلالة اللفظ على معنى مسكوت عنه يجب تقديره لصدق الكلام أو لصحته شرعا أو عقلا.
والمعنى المدلول عليه بالاقتضاء يسمى المقتضى (اسم مفعول) وهو ثلاثة أنواع :
1 ـ ما يجب تقديره لصدق الكلام ومطابقته للواقع، مثل دلالة قوله صلى الله عليه وسلم : « لا وصية لوارث » (أخرجه البخاري) على المقدر المحذوف، وذلك أن الناس قد يوصون للورثة ولكن المنفي صحة تلك الوصية، والتقدير : (لا وصية صحيحة أو نافذة).
2 ـ ما يجب تقديره لصحة الكلام شرعا، مثل قوله تعالى : { } [البقرة184]، فههنا محذوف يجب تقديره حتى يصح الكلام شرعا، وهو عبارة (فأفطر)، للاتفاق على أن من كان مريضاً أو على سفر ولم يفطر فلا قضاء عليه. ولو لم نقدر العبارة السابقة لوجب القضاء على المريض والمسافر حتى لو صاما، ولم ينقل هذا إلا عن بعض الظاهرية.
3 ـ ما يجب تقديره لصحة الكلام عقلا، مثل : { } [يوسف82] فالعقل يقضي بأن القرية لا تسأل فلا بد من تقدير: (أهل القرية).
وهذه الأنواع قد تسمى عند بعضهم دلالة الإضمار، والمعنى المقدر يسمى المضمر أو المقتضَى.
وقد اختلفوا في عموم المقتضى أو المضمر، فذهب بعضهم إلى عمومه، وبعضهم إلى أنه لا يعم.
واحتج القائلون بعموم المقتضى بأنه إذا أمكن تقدير معنى عام لا يمكن أن نقدر الأخص منه إلا بدليل، فإذا عدم الدليل قدرنا العام.
ولهذا قالوا في حديث : « رفع عن أمتي الخطأ » نقدر الحكم ليكون اللفظ كأنه : رفع عن أمتي حكم الخطأ، فهذا يشمل المؤاخذة الدنيوية والأخروية إلا ما دل الدليل على استثنائه فيكون مستثنى ومخصصا مثل ضمان المتلفات خطأ.
والقائلون بأن المقتضى لا عموم له، احتجوا بأن التقدير خلاف الأصل فيكتفى منه بما يصحح الكلام من غير زيادة فلا يعم، وقالوا في الحديث المتقدم: نقدر : الإثم، ليكون كأنه قال: رفع عن أمتي إثم الخطأ.
وكذا في قوله تعالى : { } [المائدة3]. قال الأولون : نقدر الانتفاع حتى يكون أعم، وقال الآخرون نقدر الأكل.
والقول الحق في ذلك أن يقدر ما دل العرف عليه، وهذا يختلف باختلاف اللفظ المنطوق به، ففي : « رفع عن أمتي الخطأ » الصواب تقدير (الإثم)، وفي: { }، الصواب : تقدير (الأكل)، وأما سائر الانتفاعات فإنما تلحق بطريق القياس إذا أمكن.
وفي مثل: { } [النساء23] نقدر الوطء ودواعيه من عقد أو غيره، ولا نقدر النظر واللمس بلا شهوة.
2ـ الإشارة :
وهي المعنى اللازم من الكلام الذي لم يسق الكلام لبيانه، مثل فهم جواز أن يصبح المسلم جنبا في رمضان، من قوله تعالى : { } [البقرة187] فإذا جاز له الجماع طوال الليل إلى الفجر، جاز أن يطلع الفجر وهو جنب ولا يفسد صومه.
3ـ الإيماء :
وهو فهم التعليل من ترتيب الحكم على الوصف المناسب.
مثاله قوله تعالى : { } [المائدة38]، فهذا يدل على أن العلة السرقة؛ لأن الله رتب الحكم بالفاء على وصف مناسب وهو السرقة، وهذا يومئ إلى العلة وينبه عليها، ولذا سماه بعضهم الإيماء أو التنبيه إلى العلة.
4ـ المفهوم :
وهو نوعان :
الأول : مفهوم الموافقة :
وهو المعنى الثابت للمسكوت عنه الموافق لما ثبت للمنطوق؛ لكون المسكوت أولى بالحكم من المنطوق أو مساويا له.
ومثال المفهوم الأولى قوله تعالى : { } [الإسراء23]، فإنه يدل بطريق الأولى على تحريم الضرب والشتم.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « أربع لا تجزئ في الأضاحي » (أخرجه أحمد والأربعة من حديث البراء بن عازب مرفوعا) وذكر منها العوراء. فإن عدم إجزاء العوراء يدل على عدم إجزاء العمياء من باب أولى.
ومثال المفهوم المساوي : قوله تعالى : { } [النساء10]، فإنه يدل على تحريم الأكل بمنطوقه، وعلى تحريم كل ما فيه تفويت لمال اليتيم بمفهوم الموافقة المساوي، فلا يجوز التصدق بمال اليتيم ولا إنفاقه في الجهاد ونحوه.
ومفهوم الموافقة حجة عند جميع الأئمة، وخالف فيه الظاهرية ولا يلتفت إلى خلافهم.
وقد يظن البعض أن مفهوم الموافقة قطعي الدلالة، والصواب أنه قد يكون قطعيا كالمثالين السابقين، وقد يكون ظنيا، كقولهم : إذا ردت شهادة الفاسق فالكافر من باب أولى.
وإنما قلنا إنه ظني لأنه لا يبعد أن ترد شهادة الفاسق؛ لأنه متهم بالكذب ولا ترد شهادة الكافر لكونه يحترز عن الكذب، والراجح رد شهادة الكافر.
وقد يكون ضعيفا كقول الشافعية : تجب الكفارة في قتل العمد لوجوبها في قتل الخطأ من باب أولى، وذلك لأن الكفارة وجبت في قتل الخطأ لقلة الجرم، وأما القتل العمد فإن الكفارة لا تكفره لكونه جُرما عظيما لا يكفره إلا القود.
الثاني : مفهوم المخالفة (دليل الخطاب) :
وهو الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم المذكور في المنطوق عما عداه.
وسمي مفهوم مخالفة؛ لأن الحكم الذي يثبت للمسكوت نقيض للحكم المنطوق به مختلف عنه.
وهو أنواع :
1ـ مفهوم الصفة :
ويقصد بالصفة : ما هو أعم من النعت عند النحاة، فيشمل النعت، والحال، والجار والمجرور، والظرف، والتمييز.
مثاله : قوله صلى الله عليه وسلم : « في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة » (رواه مالك وأبو داود) فتخصيص السائمة بالذكر يدل على أن المعلوفة لا زكاة فيها.
2ـ مفهوم الشرط :
مثاله : حديث : « أعلى المرأة غسل ـ يا رسول الله ـ إذا هي احتلمت؟ قال : « نعم، إذا رأت الماء » (أخرجه البخاري من حديث أم سليم رضي الله عنها)، فيفهم من هذا أنها إذا لم تر الماء فلا غسل عليها.
3ـ مفهوم العدد :
وهو ما يفهم من تخصيص العدد بالذكر. أو ما يفهم من تعليق الحكم على عدد مخصوص.
مثاله : قوله تعالى : { } [النور4] دال بمنطوقه على الثمانين، وبمفهومه على عدم إجزاء ما نقص عنها، وعلى المنع من الزيادة عليها.
والذي يظهر أن هذا داخل في مفهوم الصفة؛ لأن المقدار أحد صفات الشيء.
4ـ مفهوم الغاية :
وهو ما يفهم من مد الحكم إلى غاية بإحدى أدوات الغاية وهي : (إلى، حتى، اللام).
مثاله : حديث : « لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ».
فمنطوقه دال على نفي الزكاة قبل الحول، ومفهومه دال على وجوبها عند تمام الحول.
وقوله تعالى : { } [البقرة187] منطوقه دال على وجوب استمرار الصيام من طلوع الفجر إلى الليل ومفهومه يدل على أن الليل لا يجوز صيامه فيبطل الوصال، كما لو قال : لا تصوموا الليل.
5ـ مفهوم التقسيم :
وهو ما يفهم من تقسيم المحكوم عليه قسمين فأكثر، وتخصيص كل منهما بحكم.
مثاله : قوله صلى الله عليه وسلم : « الثيب أحق بنفسها، والبكر تستأذن » (أخرجه مسلم). فمنطوقه واضح، ومفهومه أن كل قسم يختص بحكمه، ولا يشارك الآخر في حكمه، فالثيب أحق بنفسها فتكون البكر ليست أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن، يدل على أن الثيب لا تستأذن؛ لأن الإذن منها لا يكفي بل لا بد من التصريح.
والذي يظهر أن هذا النوع داخل في مفهوم الصفة.
6ـ مفهوم اللقب :
وهو ما يفهم من تخصيص الاسم المجرد بالحكم من نفي الحكم عما عداه.
وسواء أكان الاسم لإنسان أو حيوان، اسم علم أم اسم جنس.
مثاله قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل » (أخرجه مسلم) منطوقه ظاهر، ومفهوم اللقب أن ما ليس ذهبا يجوز بيعه بمثله أو غيره من غير مماثلة.
حجية مفهوم المخالفة
مفهوم المخالفة بأنواعه الخمسة الأولى حجة عند الجمهور، مع اختلافهم في قوة كل نوع من أنواعه.
واستدلوا على ذلك بأدلة منها :
1ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « لأزيدن على السبعين » (أخرجه البخاري بنحو هذا اللفظ) بعد أن نزل قوله تعالى { } [التوبة80].
وجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من النص على السبعين أن ما زاد عنها قد يكون حكمه مختلفا عن المقتصر على هذا العدد، فوعد بالزيادة على السبعين، لكنه نهي نهيا صريحا عن الاستغفار للمنافقين والصلاة عليهم.
2ـ أن الصحابة رضي الله عنهم فهموا من تخصيص الوصف بالذكر انتفاء الحكم عما خلا عنه، ويدل على ذلك وقائع منها :
أ ـ ما روى يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب : ألم يقل الله تعالى : { } [النساء101] فقد أمن الناس؟ فقال : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته » رواه مسلم.
ب ـ لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقطع الصلاة الكلب الأسود، قال عبد الله بن الصامت لأبي ذر : ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال : « الكلب الأسود شيطان» (أخرجه مسلم).
فهؤلاء من فصحاء العرب الذين نزل القرآن بلغتهم وقد فهموا من تخصيص الحكم بوصف انتفاءه عما لم يوجد فيه ذلك الوصف.
3ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبس المحرم، فأجاب بذكر ما لا يلبسه المحرم، فقال: « لا يلبس القميص ولا السراويلات ولا البرانس » (متفق عليه).
وجه الدلالة : أنه لولا أن تخصيص الممنوع بالذكر يدل على إباحة ما عداه لما كان قول الرسول صلى الله عليه وسلم جوابا لسؤالهم؛ لأنهم سألوا عما يجوز لبسه أو يجب، فأجاب بذكر ما لا يجوز لبسه، فدل على أن ما عداه يجوز لبسه.
4ـ أن تخصيص الشيء بالذكر لا بد له من فائدة، فإذا لم نعلم فائدة غير انتفاء الحكم عما عداه جعلنا التخصيص دالا على ذلك.
وذهب أكثر الحنفية إلى عدم حجية مفهوم المخالفة مطلقا.
واستدلوا بأدلة، أهمها :
أن القرآن والسنة مليئان بالنصوص التي فيها تعليق الحكم على وصف أو عدد أو غاية، ولا يكون نفي الحكم عما سوى المذكور مرادا باتفاق الصحابة.
ومن ذلك :
أ ـ قوله تعالى : { } [النساء23] ولا خلاف في تحريم الربيبة وإن لم تكن في الحجر.
ب ـ قوله تعالى:{ } [النساء101] ولا خلاف في جواز القصر للمسافر وإن لم يكن خائفا.
ج ـ قوله تعالى : { } [النساء20] ولا خلاف في أنه لو رغب طلاق المرأة ولم يرد الزواج بغيرها أنه داخل في النهي عن أخذ شيء من المهر، ولو كان المفهوم حجة لما كان ذلك إلا لمن رغب الاستبدال بها.
د ـ قوله تعالى : { } [النساء23] ولم يدل هذا على خروج حليلة الابن من الرضاعة، مع أنها ليست من الصلب.
2ـ أن الله قد نص على المفهوم المخالف حين يريد نفي الحكم عنه في آيات كثيرة، ولو كان السكوت كافيا لما كانت هناك حاجة إلى النص عليه.
ـ ومن ذلك قوله تعالى : { } [النساء23].
ـ وقوله تعالى : { } [النساء11].
3ـ أن ما سوى المنطوق مسكوت عنه، والمسكوت عنه ليس له حكم يؤخذ من اللفظ فليطلب حكمه من دليل آخر.
والراجح ـ إن شاء الله ـ هو قول الجمهور، وهو أن مفهوم المخالفة حجة بأنواعه كلها سوى مفهوم اللقب.
وقول المنكرين : إن في القرآن والسنة كثيرا من مفاهيم المخالفة المتفق على عدم حجيتها، يجاب بأن تلك المواضع لم تتوافر فيها شروط الاحتجاج الآتي ذكرها.
قولهم : إن الله قد نص على المفهوم حيث أراده، يجاب: بأن ما نص فيه على المفهوم قصد تأكيده ولا يدل على أن غيره ليس حجة.
وأما مفهوم اللقب فليس بحجة على الصحيح عند جماهير العلماء؛ لأنه لو كان حجة لكان الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفه بالرسالة قدحا في بقية الرسل وإنكارا لرسالتهم.
ولأن الاسم لا يشعر بالتعليل، ولهذا لا يدل ذكره على نفي الحكم عن غيره.
ولأن الاحتكام في ذلك إلى لغة العرب، واللغة لا تدل على أن ذكر الاسم والنص على حكمه دليل على نفي الحكم عن غيره.
شروط العمل بالمفهوم :
يشترط للعمل بالمفهوم شروط، أهمها :
1 ـ أن لا يكون تخصيص المذكور بالذكر جرى مجرى الغالب، فإن كان كذلك فلا يحتج به، ومثاله : قوله تعالى : { } [النساء23] فوصف الربائب بكونهن في الحجور جرى مجرى الغالب؛ إذ الغالب أن تكون بنت بنت الزوجة معها عند زوجها الثاني.
وإنما اشترطوا ذلك لأن ما جرى مجرى الغالب يكون حاضرا في الذهن عند التكلم فيذكره في كلامه ولا يقصد نفي الحكم عما عداه.
2 ـ أن لا يكون حكم المذكور جاء لكونه مسؤولا عنه، أو بيانا لحكم واقعة، فإن سئل عنه فرتب الحكم عليه، أو كان أمرا واقعا جاء بيان حكمه على صفته التي هو عليها، لم يدل ذلك على نفي الحكم عما عداه. ومثلوه بقوله تعالى : { } [آل عمران130] فإنه لا يدل على جواز أكل الربا إذا كان قليلا؛ لأن الآية بيان لحكم أمر واقع.
3 ـ أن لا يكون المذكور في اللفظ قد سبق ذكره حتى يكون معهودا، فإن كان معهودا فلا يدل ذكره على قصر الحكم عما عداه، وهو أعم من الذي قبله؛ لأن المسؤول عنه معهود لسبق ذكره.
4 ـ أن لا يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المذكور، فإن كان كذلك فإنه يكون من مفهوم الموافقة ويثبت للمسكوت حكم المنطوق من باب أولى. مثله بعضهم بقوله تعالى : { } [النساء92] قالوا فإن قتله عمدا وجبت الكفارة من باب أولى. وهذا ليس صحيحا عند الأكثر؛ لأن الكفارة تطهير للمكلف، والقتل العمد لا تطهره الكفارة لأنه جرم عظيم لا يطهره إلا القود، ولذا لم تجب فيه كفارة.
وأظهر من هذا أن يمثل بقوله تعالى :{ } [الإسراء31]، فلا يفهم منه جواز قتلهم من دون خشية الفقر؛ لأنه إذا حرم قتلهم مع خوف الفقر والعجز عن نفقاتهم فتحريم قتلهم مع القدرة على نفقاتهم أولى بالتحريم.
وهذه الشروط التي ذكروها كلها ترجع إلى شرط واحد وهو أن لا يظهر لتخصيص المذكور بالذكر فائدة سوى اختصاصه بالحكم عما لم يشاركه في الصفة المذكورة.
أثر الخلاف :
ظهر أثر الخلاف في مسائل كثيرة منها ما هو أصول وقواعد، ومنها ما هو فروع فقهية، ومنها :
1ـ هل يجوز نكاح الأمة لمن يجد مهر الحرة؟
اختلف العلماء في ذلك، وخلافهم راجع إلى الاستدلال بمفهوم الشرط في قوله تعالى : { } [النساء25].
فالجمهور قالوا الآية تدل بمفهوم المخالفة في قوله : (ومن لم يستطع) على أن المستطيع لمهر الحرة القادر على نكاحها ليس له أن ينكح الأمة.
والحنفية قالوا الآية بينت حكم من لم يستطع مهر الحرة وسكتت عن المستطيع، فيطلب حكم نكاحه من دليل آخر، وقد وجدنا الدليل في عموم قوله تعالى : { } [النساء3] والأمَةُ من النساء.
2ـ هل يشترط لمن أراد نكاح الأمة أن تكون مؤمنة؟
اختلفوا في ذلك، وخلافهم مبني على الخلاف في حجية مفهوم الصفة الوارد في قوله تعالى : { } [النساء25]، فذهب الجمهور إلى اشتراط إيمان الأمة أخذا بمفهوم الصفة المتقدم، فقوله من فتياتكم المؤمنات، يدل بمفهوم المخالفة أن غير المؤمنة لا يجوز نكاحها.
وذهب الحنفية إلى جواز نكاح الأمة الكتابية، وقالوا : النص على المؤمنة لا يدل على نفي الحكم عما عداها، وإنما يدل على أن ما عداها يطلب حكمها من دليل آخر، وقد وجدنا الدليل يدل على التفريق بين الكتابيات وغيرهن من الكافرات في قوله تعالى : { } [النساء24]، فالكتابية يجوز نكاحها سواء أكانت حرة أم أمة بخلاف بقية الكفار.
منهج الحنفية في تقسيم كيفية الدلالة
عرفنا أن الجمهور يقسمون الدلالة إلى دلالة منطوق ودلالة مفهوم.
وأما الحنفية فإنهم يجعلون الدلالة أربعة أقسام :
1ـ دلالة العبارة (عبارة النص) :
وهي دلالة اللفظ على المعنى المتبادر فهمه من الصيغة.
مثالها قوله تعالى : { } [الأنعام121] فعبارة النص تدل على تحريم متروك التسمية. وهي تقابل دلالة المنطوق عند الجمهور.
2ـ دلالة الإشارة (إشارة النص) :
وهي دلالة اللفظ على معنى غير مقصود بسياق الكلام، ولكنه لازم للمعنى الذي سيق له الكلام.
مثالها قوله تعالى : { } [الحشر8]، قالوا : هذه الآية تدل بطريق الإشارة على أن الكفار إذا استولوا على أموال المسلمين يملكونها؛ لأن الله سماهم فقراء مع أن أموالهم تحت أيدي الكفار.
ومثلها الأمثلة السابقة في دلالة الإشارة عند الجمهور، فإن مصطلح الفريقين متقارب في هذه الدلالة.
3ـ دلالة الاقتضاء (اقتضاء النص) :
وهي : زيادة على المنصوص يشترط تقديرها ليصير المنظوم مفيدا أو موجبا للحكم، وبدونها لا يمكن إعمال المنظوم وتصحيحه.
ومثالها قوله تعالى : { } [المائدة3]، لا بد من تقدير محذوف وهو أكل الميتة، وقوله: { } [النساء 23] يقتضي تقدير محذوف وهو الوطء ودواعيه.
ومصطلحهم في هذه كمصطلح الجمهور، وإنما وقع الخلاف في عموم المقتضى أو المقدر.
4ـ دلالة النص :
وهي دلالة المنطوق على أن حكمه ثابت للمسكوت لكونه أولى منه. وهي التي يسميها الجمهور مفهوم الموافقة، وأمثلتها تقدمت.
وأما مفهوم المخالفة فيسميه الحنفية دلالة المخصوص بالذكر على نفي الحكم عما عداه، وهو عندهم ليس حجة كما تقدم.
دلالة اللفظ من حيث الظهور والخفاء
جرى جمهور الأصوليين على تقسيم اللفظ الدال من حيث ظهور دلالته وخفاؤها إلى ثلاثة أقسام :
النص، والظاهر، والمجمل.
أولا : النص :
وهو في اللغة : الكشف والظهور، يقال : نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته، ومنه منصة العروس، وهو الكرسي الذي تجلس عليه.
وفي الاصطلاح : يطلق النص في مقابلة الظاهر والمجمل، ويكون المقصود به : ما دل على معناه دلالة لا تحتمل التأويل.
مثل دلالة قوله تعالى : { } [النور4] على مقدار الجلد.
وقيل : ما دل على معناه ولم يحتمل غيره احتمالا ناشئا عن دليل.
وعلى هذا فالاحتمال الذي لا دليل عليه لا ينقض قوة الدلالة، ولا يجعل اللفظ ظاهرا بل يبقى في مرتبة النص.
ويطلق النص في مقابل الدليل العقلي أو الدليل من المعنى فيكون المقصود به النقل، سواء أكان نصا صريحا أم ظاهرا أم مجملا. وهذا كما يقول الفقهاء دليلنا النص والقياس، فإنهم لا يقصدون النص بمعناه المقابل للظاهر بل المقابل للقياس ونحوه.
ثانيا : الظاهر :
وهو في اللغة : خلاف الباطن، وهو الواضح، يقال : ظهر الأمر إذا انكشف.
وفي الاصطلاح : ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر.
وهذا يدل على أن الظاهر صفة للفظ؛ لأن اللفظ هو الذي احتمل معنيين، وقد يطلقون لفظ الظاهر على المعنى الراجح الذي دل عليه اللفظ مع احتمال غيره احتمالا مرجوحا، فيقولون : هو الاحتمال الراجح.
ومثاله : دلالة الأمر على الوجوب مع احتمال الندب، ودلالة النهي على التحريم مع احتمال الكراهة، كقوله صلى الله عليه وسلم : « صلوا كما رأيتموني أصلي » (متفق عليه) وقوله : « لا تبع ما ليس عندك » (أخرجه أحمد وأصحاب السنن)، وقوله : « لا تلقوا الجلب » (أخرجه مسلم).
وهكذا كل حقيقة احتملت المجاز ولم تقم قرينة قوية تدل على ذلك فهي ظاهرة في المعنى الحقيقي.
وقد يعرفون الظاهر بما كانت دلالته على المعنى دلالة ظنية لا قطعية؛ تفريقا بينه وبين النص، وقد وقع للشافعي تسمية الظاهر نصا كما نقل ذلك الإمام الجويني وغيره.
المؤول :
إذا ذكر الظاهر ذكر معه المؤول.
والمؤول في اللغة: اسم مفعول من التأويل، وفعله آل يؤول، بمعنى : رجع، فيكون المؤول بمعنى المرجوع به، والتأويل بمعنى الرجوع.
وفي الاصطلاح: المؤول : هو اللفظ المحمول على الاحتمال المرجوح بدليل، سمي بذلك لأن المؤوِّل يرجع معنى اللفظ إلى المعنى البعيد الذي لم يكن موضوعا له لدليل يذكره.
والتأويل : حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح بدليل.
وهذا التعريف يشمل التأويل الصحيح والتأويل الفاسد.
فالتأويل الصحيح : حمل اللفظ على الاحتمال غير المتبادر للذهن بدليل قوي يقتضي ذلك.
والتأويل الفاسد : حمل اللفظ على الاحتمال غير المتبادر للذهن بدليل ضعيف لا يقوى على صرف اللفظ عن ظاهره.
والمؤوَّل هو : اللفظ المصروف عن ظاهره بدليل، فإن كان الدليل قويا يقتضي رجحان الاحتمال الذي كان مرجوحا لولاه فهو تأويل صحيح وإلا كان باطلا.
مثال التأويل الصحيح : تخصيص العام بدليل خاص، مثل تخصيص قوله تعالى : { } [البقرة275] بالأحاديث الدالة على تحريم البيع على بيع أخيه، والبيع مع النجش، وبيع الحصاة ونحوه من بيوع الغرر.
فحينئذ نقول : هذه الآية مصروفة عن عمومها الذي كان هو المتبادر من اللفظ، والصارف لها الأدلة السابقة.
ومثله تأويل قوله تعالى : { } [النحل98]، على أن المراد : إذا أردت قراءة القرآن، وليس المراد إذا فرغت من قراءته كما يفيده ظاهر اللفظ من حيث الوضع.
ومثله قوله تعالى : { } [المائدة6]، فإنها مؤولة عن ظاهرها، والمقصود : إذا أردتم القيام للصلاة؛ لأن الوضوء يسبق القيام للصلاة.
ومثال التأويلات الباطلة : تأويل الحنفية حديث غيلان عندما أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « أمسك منهن أربعا وفارق سائرهن » (أخرجه مالك والدراقطني وابن حبان) على أن المراد : أمسك الأربع الأول منهن، أو على أن المراد ابتدئ نكاح أربع منهن.
ومما يبطل هذا التأويل أن الشبهة التي استندوا إليها لا تقوى على ترجيح ما ذكروه من احتمال بعيد؛ لأنهم قالوا : إن المتأخرات نكاحهن باطل فلا يجوز أن يختار منهن أحدا إلا بعقد جديد.
والجواب : عن هذا أن الرجل الذي جاء الحديث في شأنه حديث الإسلام ولا يعرف شروط النكاح وأركانه، ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم اشتراط أن تكون الأربع هن المتقدم نكاحهن لبين له ذلك، ولَمّا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان ذلك عرفنا أن الأمر متروك لاختيار الزوج.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر الكفار الذين أسلموا على أنكحتهم ولم يغيرها ولم يأمر بتجديدها مما يدل على أن الفرقة لم تحصل بمجرد الإسلام؛ إذ لو حصلت لم يخير.
وكذلك تأويلهم حديث : «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي)، بأن المراد بها الصغيرة أو الأمة أو المكاتبة، ولا يخفى بعد هذا الاحتمال.
شروط التأويل الصحيح :
لصحة التأويل شرطان :
1 ـ أن يكون اللفظ محتملا للمعنى الذي يراد صرفه إليه في لغة العرب، أو في عرف الاستعمال، وهذا يعرف بمعرفة وضع اللفظ في اللغة أو معرفة عرف الاستعمال عند أهل اللغة أو عرف الشرع وعادته.
2 ـ أن يقوم على التأويل دليل صحيح، إما من السياق الذي جاء فيه اللفظ أو من دليل آخر لا يمكن الجمع بينه وبين هذا الدليل إلا بتأويل أحدهما.
مثال ما استدل على تأويله بالسياق قوله تعالى : { } [آل عمران173]، فلفظ الناس الوارد أولا يجب تأويله عن ظاهره ليكون المراد به فئة قليلة من الناس، بدليل قوله بعد ذلك : { }، وبدليل قوله في صدر الآية : { }، فالسياق يدل على أن هناك قائلا ومقولا له، ومخبرا عنه بالإضافة إلى دلالة الحس، على أن أكثر الناس في أقطارهم لا علاقة لهم بالواقعة.
ومثله : حمل اللفظ على المجاز لقيام القرينة، كقولك : رأيت أسدا متقلدا سيفا.
ومثال ما كان دليل التأويل فيه مستقلا : التخصيص بالمخصصات المنفصلة، وحمل المطلق الوارد في موضع على المقيد في موضع آخر.
وقد تقدمت له أمثلة كثيرة.
تنبيه :
لفظ التأويل لم يرد في الشرع مرادا به حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح لدليل أقوى، كما هو في الاصطلاح، وإنما جاء لفظ التأويل في نصوص الشرع للمعاني التالية :
1 ـ ما يؤول إليه الأمر، مثل حقائق ما أخبر الله عنه من البعث والحساب ونصب الموازين ونحو ذلك، ومن ذلك قوله تعالى : { } [آل عمران7] بناء على الوقف عند لفظ الجلالة.
2 ـ التفسير، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس : « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » (أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم في المستدرك، وأصله في الصحيحين بغير اللفظة التي فيها الشاهد، وهي قوله: « وعلمه التأويل » كما في فتح الباري)، وقوله تعالى : { } [يوسف44] أي : بتفسيرها.
3 ـ صرف اللفظ عن معناه الصحيح إلى معنى فاسد غير مراد، ومن ذلك قوله تعالى : { } [آل عمران7] ويمكن أن يحمل لفظ التأويل هنا على المعنى الثاني وهو التفسير، ولكن لما عطف على المذموم وهو اتباع المتشابه ترجح أن يكون مذموما وناسب أن يكون معنى ثالثا.
وهذا الاستقراء لمعاني التأويل في الكتاب والسنة حمل بعض العلماء إلى النفرة من التأويل وذمه، مع أنه بالمعنى الاصطلاحي يشمل المحمود والمذموم، والمحمود لا يمكن أن يتجنبه أحد من علماء الشريعة؛ وذلك لأنهم يعدون التخصيص وحمل المطلق على المقيد، وحمل اللفظ على المجاز لقرينة، والجمع بين النصوص بأي طريق، من التأويل، وهل يمكن أن يستغني أحد من علماء الشريعة عن ذلك كله؟!.
ثالثا : المجمل :
وهو في اللغة : المبهم، اسم مفعول من الإجمال بمعنى الإبهام أو الضم، يقال : أجمل الأمر، أي : أبهمه، ويقال : أجملت الحساب إذا جمعته، وجمل الشحم إذا أذابه وجمعه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها » (متفق عليه من حديث عمر ).
وفي الاصطلاح : « ما دل على أحد معنيين لا مزية لأحدهما عن الآخر بالنسبة إليه ».
شرح التعريف :
قولهم : (ما دل) يخرج اللفظ المهمل الذي لا دلالة له ولا معنى يمكن أن يراد به.
وقولهم : (على أحد معنيين) أخرج النص، فإنه يدل على معنى واحد معين.
وقولهم : (لا مزية لأحدهما على الآخر) أخرج الظاهر، فإنه يدل على معنيين لكن أحدهما أرجح من الآخر.
قولهم : (بالنسبة إليه) أي : بالنظر إلى اللفظ المجمل وحده، وإن كان أحد المعنيين راجحا بالنسبة لدليل آخر بيَّن المجمل، وذلك لأن الإجمال لم يعد باقيا في شيء من نصوص الوحي التكليفية، فهي قد بينت ـ والحمد لله ـ أكمل بيان.
والنصوص المجملة الباقية على إجمالها لا يتعلق بها تكليف.
مثال المجمل الذي بيِّن : قوله تعالى : { } [الأنعام141] فقد قام الدليل على أن الحق الواجب في المال هو الزكاة ومقاديرها معلومة، وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالحق هنا: الصدقة المطلقة منه يوم الحصاد بما تجود به نفس المالك من غير تحديد.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم : « ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها » الحديث (أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة)، فإن الحق قد بين بالنصوص المبينة لمقادير الزكاة.
ومثال المجمل الباقي على إجماله لكونه لم يتعلق به تكليف : الحروف المقطعة في أوائل بعض السور، مثل : ألم، حم، ونحو ذلك.
وقد خص كثير من العلماء هذا النوع من المجمل باسم خاص فسماه المتشابه.
وعلى ذلك لا يكون هناك مجمل لم يبين، ولكن يوجد متشابه استأثر الله بعلمه أو علمه الراسخون في العلم دون غيرهم، كما قال تعالى : { } [آل عمران7].
وقد اختلف القراء في الوقف أين يكون؟
فمن وقف عند لفظ الجلالة : (إلا الله)، قال : إن المتشابه ما استأثر الله بعلمه، ومثل له بحقائق ما يقع يوم القيامة، من وزن الأعمال ونصب الصراط والعبور عليه ونحو ذلك، وبكيفيات صفات الله جل وعلا.
ومن وقف عند لفظ العلم، قال : إن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه، وفسر المتشابه بما غمض معناه حتى لا يعرفه إلا الراسخون في العلم.
ولكل من الفريقين حجج في ترجيح ما ذهب إليه، والآية محتملة للأمرين.
أسباب الإجمال :
للإجمال أسباب أهمها :
1ـ الاشتراك اللفظي :
وهو تردد اللفظ بين معنيين فأكثر، وذلك بأن يكون اللفظ الوارد في الدليل له معنيان متساويان عند العرب، ولا يوجد في النص ما يدل على المراد منهما صراحة، مثل لفظ : القروء، الوارد في قوله تعالى : { } [البقرة228] فإنه يحتمل الأطهار والحيض، ولا يوجد في السياق ما يدل صراحة على المراد منهما، وإن كان كل من المختلفين استظهر من النص ما يؤيد رأيه.
ومثله : لفظ الشفق في قول الراوي : صلى العشاء بعد غيبوبة الشفق (متفق عليه). فإنه يطلق على الحمرة وعلى البياض اللذين يعقبان غروب الشمس.
2ـ اشتهار المجاز وكثرة استعماله :
فاللفظ قد يكون حقيقة في معنى ثم يستعمل مجازا في معنى آخر ويشتهر حتى يصبح مساويا للحقيقة في الاستعمال، فإذا ورد في الدليل احتمل المعنيين على السواء، مثل لفظ العين، يطلق في اللغة على العين الباصرة حقيقة، ويطلق على الجاسوس مجازا، وقد اشتهر هذا الإطلاق حتى ساوى الحقيقة وأمكن أن يكون سببا للإجمال.
ومثله : لفظ النكاح، فإنه في أصل اللغة للوطء ثم أطلق على العقد مجازا واشتهر حتى ساوى الحقيقة، فإذا ورد لفظ النكاح في الأدلة الشرعية احتمل المعنيين فصار مجملا ما لم يصحبه بيان.
وذلك كقوله تعالى : { } [البقرة230]. فلفظ تنكح زوجا غيره، يحتمل الاكتفاء بالعقد، أو لزوم الوطء بعد العقد.
ولولا بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للمراد من ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: « حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » (متفق عليه من حديث عائشة) لكان مجملا.
3ـ الإطلاق أو التعميم في موضع لا يمكن العمل فيه بالمعنى الظاهر من اللفظ لافتقاره إلى التحديد :
ومثاله قوله تعالى : { } [الأنعام141]، فالحق مطلق غير محدود ولا معروف المقدار، وكذلك الأمر بالصلاة قبل بيان صفتها.
والفرق بين هذا السبب والسبب الأول : أن السبب الأول يكون للفظ فيه معنيان محددان أو معانٍ محددة نجزم بأن المراد أحدها، وأما في هذا السبب فإن المعنى المقصود غير معروف بعينه، ولا هو محصور في معان محددة بحيث يتردد بينها.
الفرق بين المجمل والمشترك :
يعقد كثير من الأصوليين فصلا أو بابا للمشترك وآخر للمجمل، مع أن القارئ لا يتبين له في الغالب الفرق بينهما.
وقد فرق بينهما بعض العلماء بأن الإجمال بالنسبة إلى الفهم، والاشتراك بالنسبة إلى وضع اللفظ واستعماله.
ولبيان ذلك أقول : كون الدليل مجملا أمر نسبي يختلف من عالم لآخر، فقد يكون الدليل مجملا عند عالم ومبينا عند غيره، وذلك بحسب ما يصل إليه اجتهاد كل منهما.
وأما الاشتراك فهو من حيث الوضع في اللغة، فاللفظ قد يكون مشتركا ولكنه يستعمل في أحد معانيه فلا يكون مجملا، وقد يغمض المراد منه فيكون مجملا.
وأيضا فإن الإجمال في الأدلة الشرعية قد بين، ولم يبق لفظ مجمل لا بيان له على الأرجح من قولي العلماء.
أما الاشتراك فلا أحد يدعي انتهاءه من اللغة العربية، ولهذا فإن الكلام في الاشتراك بحث لغوي صرف لا ينبغي أن يحشر في أصول الفقه، وأما الكلام في الإجمال فهو أصل يجب أن لا يخلو منه كتاب في أصول الفقه.
تقسيم الحنفية دلالة اللفظ من حيث الوضوح والخفاء
قسم علماء الحنفية اللفظ إلى واضح الدلالة وخفي الدلالة. وقسموا واضح الدلالة أربعة أقسام رتبوها من الأدنى وضوحا إلى الأعلى على النحو التالي.
1ـ الظاهر، 2ـ النص، 3ـ المفسر، 4ـ المحكم.
وقسموا خفي الدلالة أربعة أقسام رتبوها من الأقل خفاء إلى الأكثر على النحو التالي :
1ـ الخفي، 2ـ المشكل، 3ـ المجمل، 4ـ المتشابه.
وإليك تعريفا موجزا لكل من تلك الأقسام مع مثاله.
1ـ الظاهر :
وهو : ما ظهر المراد به للسامع بصيغته ( ).
مثاله : قوله تعالى : { } [البقرة275] فالآية ظاهرة في إباحة البيع الخالي من الربا، وتحريم الربا.
وعندهم أن الظاهر يقبل التأويل و التخصيص و النسخ.
2ـ النص :
وهو مازاد وضوحا على الظاهر بمعنى في المتكلم لا في نفس الصيغة ( ).
مثاله : قوله تعالى : { } [النساء3] فالآية نص في جواز نكاح الأربع فما دون.
وقد فرق بعض علماء الحنفية بين النص والظاهر، بأن النص هو : الدال على معنى سيق الكلام للدلالة عليه، والظاهر : ما دل على معنى لم يسق الكلام للدلالة عليه. و اعترض البخاري شارح أصول البزدوي على ذلك( ).
وعندهم أن النص يقبل التخصيص والنسخ، ولا يقبل التأويل.
3ـ المفسر :
وهو ما ازداد وضوحا على النص بمعنى في النص أو بغيره. أي : سواء كان وضوحه لأجل قرينة في النص أو لدليل خارجي أخرجه من الإجمال إلى الوضوح، أو من احتمال التأويل إلى عدم احتماله.
مثاله : { } [الحجر30] فهذا مفسر لكونه أكد فيه العموم على وجه يمنع احتمال التأويل والتخصيص.
والمفسر عند الحنفية لايقبل التأويل ولا التخصيص، ولكنه يحتمل النسخ في عهد الرسالة.
4ـ المحكم :
وهو ما ازداد قوة وأُحكِم المراد به عن احتمال النسخ والتبديل.
مثاله : قوله تعالى : { } [البقرة29] ونحوها من الآيات التي تقرر حكما كليا أساسا في الإسلام، ولا يمكن أن يتطرق إليه التأويل أو التخصيص أو النسخ.
أقسام خفي الدلالة :
1ـ الخفي :
وهو : اسم لما اشتبه معناه وخفي المراد منه بعارض في الصيغة يمنع نيل المراد بها إلا بالطلب ( ).
والمعنى : أن الخفي لم يظهر المراد منه، والسبب في خفائه راجع إلى عارض عرض للصيغة فجعلها ليست ظاهرة الدلالة عليه.
ومثاله قوله تعالى : { } [المائدة38]، في دلالته على النباش الذي ينبش القبور فيأخذ أكفان الموتى، فإن دلالة الآية على قطع النباش دلالة خفية، والسبب في خفائها أن النباش اختص باسم يخصه، فقد يكون إطلاق هذا الاسم عليه لا يخل بمعنى السرقة الذي علق عليه القطع، وإنما هو لبيان سبب السرقة، وقد يكون اختصاصه بهذا الاسم لبيان اختلاف حاله عن حال السارق، كما نقل عن أبي حنيفة أن السارق يأخذ المال خفية وهو يسارق عين مالكه أو حارسه، أما النباش فلا يسارق عين صاحب الكفن؛ لأنه ميت.
وأيضا فإن السارق أخذ مالا يستفيد منه صاحبه لو لم يسرق، وأما النباش فإنه أخذ مالا آيلا للتلف، ولهذا ذهب أكثر الحنفية إلى عدم قطع النباش ولم يأخذوا بالدلالة الخفية الموجودة في الآية.
والواجب على المجتهد زيادة الطلب حتى يتبين له المراد من اللفظ.
2ـ المشكل :
وهو اسم لما يشتبه المراد منه؛ بدخوله في أشكاله على وجه لا يعرف المراد إلا بدليل يتميز به من بين سائر الأشكال ( ). وهو عندهم ضد النص، وهو قريب من المجمل، ويختلف عنه بأنه يعرف المراد منه بزيادة التأمل.
مثاله : قوله تعالى : { } [البقرة223]، فيحتمل أنه يدل على إتيان المرأة في دبرها، ودلالته على المنع من ذلك دلالة خفية تتبين بالنظر إلى فائدة الحرث وهو الإنتاج، ومعلوم أن الوطء في الدبر لا ينتج الولد فيكون غير داخل في مقصود الشارع بالآية.
وحكمه : اعتقاد أنه حق، والتأمل فيه إلى أن يَبين المراد.
3ـ المجمل :
وهو اللفظ الذي لا يفهم المراد منه إلا باستفسار المجمِل وبيان من جهته يعرف به المراد ( ).
ومثاله : قوله تعالى : { } [البقرة275]؛ فإن الربا في اللغة : الزيادة، وليس ذلك المعنى مرادا؛ لأن البيع ما شرع إلا للاسترباح وطلب الزيادة، ولذا فإن لفظ الربا كان مجملا حتى جاء بيانه من قبل الشارع نفسه، ولا يمكن أن يعرف المراد منه في الآية إلا ببيان من جهة الشارع.
وهذا هو الفرق بين المجمل والمشكل، فإن المشكل قد يعرف المراد منه بالتأمل والنظر في القرائن المصاحبة ونحو ذلك، بخلاف المجمل فإنه لايمكن معرفة المراد منه إلا ببيان من المتكلم به.
وحكمه : اعتقاد أنه حق، والتوقف فيه إلى الوقوف على البيان من قبل الشارع.
4ـ المتشابه :
وهو اسم لما انقطع رجاء معرفة المراد منه لمن اشتبه فيه ( ).
مثاله : الحروف المقطعة في أوائل السور، وكيفيات صفات الله جل وعلا، فإنها من المتشابه مع أن أصل الصفات معلومة، وإنما التشابه في كيفياتها.
وحكم هذا القسم : اعتقاد أنه حق، والإيمان به على مراد الله جل وعلا ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومما تقدم يتبين أن الأقسام الثلاثة الأولى يدخلها الجمهور فيما يسمى بالمجمل عندهم، ولكن بينها تفاوت في درجة الإجمال، فبعضها يزول ما فيه من إجمال بالتأمل اليسير، وبعضها يحتاج إلى مزيد تأمل، وبعضها لا بد فيه من البحث في أدلة الشرع الأخرى لمعرفة المراد منه.
وأما القسم الرابع ـ وهو المتشابه ـ فهو الذي انقطع الأمل في بيانه، ويطلق عليه الجمهورُ الاسمَ نفسَه.
البيــان
تعريفه :
البيان في اللغة : الإيضاح والكشف. والمبيَّن : الموضح.
وفي الاصطلاح : يطلق البيان على الدليل الذي أوضح المقصود بالمجمل، وهو المبيِّن. ويطلق على الخطاب الواضح ابتداء، ويطلق على فعل المبيِّن.
ويطلق المبيَّن ـ بالفتح ـ على الدليل المحتاج إلى بيان، كالمجمل بعد ورود بيانه، كما يطلق على الخطاب الذي ظهر معناه ابتداء، ولهذا اختلفت عبارات الأصوليين في تعريفه.
فبعضهم عرفه بأنه : إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي.
وعرفه بعضهم بأنه : الدليل.
والخطب يسير، كما قال الغزالي؛ فإنه لا حاجة لعقد باب مستقل له، وإنما ينبغي أن يلحق بالمجمل.
مراتب البيان :
البيان واجب على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى : { } [النحل44].
والبيان يحصل بأمور، بعضها أقوى من بعض، وهي :
1 ـ القول :
وهو الكلام المسموع، وقد حصل غالب البيان للشريعة بهذا الطريق، فبينت أنصبة الزكاة، والقدر الواجب فيها بالقول، وبينت أكثر أحكام الصلاة والبيوع وسائر المعاملات بالقول.
2 ـ الفعل :
وهو أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين مجمل القرآن أو مجمل سنة سابقة، وذلك كبيان صفة الصلاة وعدد ركعاتها، وصفة الحج؛ فإن أكثر ذلك إنما بين بالفعل، مع قوله صلى الله عليه وسلم « خذوا عني مناسككم » (رواه مسلم) وقوله في الصلاة : «صلوا كما رأيتموني أصلي » (رواه البخاري).
3 ـ الكتاب :
وهو أن يكتب النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين بعض الفرائض، والغالب أن لا يكون البيان بالكتابة إلا للبعيد عن المدينة، وذلك مثل كتابه لأهل اليمن الذي فيه بيان زكاة بهيمة الأنعام، والديات.
4 ـ الإشارة :
وذلك بأن يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى المراد، بيده أو بغير ذلك، ومثاله : قوله : « الشهر هكذا وهكذا وهكذا » الحديث (متفق عليه)، وأشار مرة بأصابع يديه العشرة ثلاث مرات، وأشار مرة أخرى بأصابع يديه العشرة مرتين وعقد في الثالثة أحد أصابعه؛ إشارة إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما.
وكذلك إشارته بيده إلى وضع النصف من الدين في حديث كعب بن مالك وأبي حدرد حين تقاضى كعب دَينا له على أبي حدرد في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهما فنادى : « يا كعب » قال : لبيك يا رسول الله، فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دَينِك... الحديث (متفق عليه).
5 ـ التنبيه :
وذلك بالإيماء إلى المعنى الذي يعلق عليه الحكم حتى يكون علة له، يوجد الحكم بوجودها.
مثاله قوله صلى الله عليه وسلم : « أينقص الرطب إذا جف » (أخرجه مالك وأصحاب السنن) فإن في ذلك إشارة إلى أن العلة في التحريم عدم تساوي الرطب والتمر. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : « إنك لست ممن يجره خيلاء » (أخرجه البخاري) فإن فيه تنبيها إلى أن العلة في تحريم الإسبال الخيلاء، وإن كان بعض العلماء عمم التحريم عملا بالظاهر وأعرض عن دلالة هذا التنبيه.
6 ـ الترك :
والمقصود به أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم فعل الشيء مع قيام الداعي له، كما ترك الوضوء مما مسته النار مع أنه كان يتوضأ من الأكل مما مسته النار، (أخرجاه في الصحيحين) ففهم الصحابة من فعله نسخ الحكم السابق.
والترك إن كان مع وجود المقتضي الداعي للفعل دل على عدم المشروعية، فأما الترك المطلق فإنما يكون دليلا على عدم الوجوب لا غير.
ومثال الأول : ترك تجديد أنكحة من أسلم من الكفار، دليل على صحتها وعدم مشروعية تجديدها، وترك أخذ الزكاة من الخضروات كذلك.
فأما ترك صلاة التراويح جماعة بعد أن صلاها ليلتين فإنه لا يدل على عدم مشروعيتها؛ لأنه بين علة الترك وهي خشية أن تفرض عليهم.
ومثال الثاني : ترك قيام الليل ليلة جمعٍ (المزدلفة)، فإنه لا يدل على المنع، وترك مباشرة الأذان والإقامة لا يدل على كراهتها له ولا للأئمة بعده.
وقد توسع بعضهم في الاستدلال بالترك، وظن أن كل ترك يمكن أن يكون بيانا، وليس كذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يترك فعل الشيء لعدم وجود الداعي له، كما ترك جمع القرآن في مصحف واحد، ولم ير الصحابة أن ذلك دليل على المنع إذا توافرت الدواعي، ولذلك أجمعوا على جمعه فيما بعد حين خافوا ضياع شيء منه أو الاختلاف فيه.
وقد يجعل الترك داخلا في الفعل؛ لأن الأكثر يعدون الترك فعلا للضد مع قيام الداعي.
تأخير البيان
تأخير البيان إما أن يكون تأخيراً عن وقت الحاجة أو تأخيرا عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.
والمقصود بوقت الحاجة : الوقت الذي يحتاج فيه المكلف إلى البيان؛ ليتمكن من الامتثال؛ بحيث لو تأخر البيان عنه لم يتمكن من العمل الموافق لمراد الشارع.
والمقصود بوقت الخطاب : الوقت الذي يسمع فيه المكلف الخطاب، سواء أكان قرآنا أم سنة.
وقد نقل ابن السمعاني الاتفاق على امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة.
أما تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل فهو محل الخلاف.
والمراد أن الشارع هل يمكن أن يخاطب المكلفين بخطاب مجمل فيه تكليف مطلق أو مؤقت بوقت لم يأت بعد، ويؤخر بيانه إلى أن يأتي وقت العمل؟
الأقوال :
القول الأول: جواز تأخير البيان من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة مطلقا. وعليه أكثر العلماء من الشافعية والمالكية والحنابلة.
واستدلوا بما يلي :
أ ـ قوله تعالى: { * } [القيامة18-19].
وجه الاستدلال : أن الله عطف البيان على الأمر بالاتباع بحرف (ثم)، وهي للترتيب مع التراخي، فدل ذلك على جواز تأخير البيان عن المبيَّن إلى حضور وقت العمل.
ب ـ قوله تعالى : { } [العنكبوت33] مع قوله : { } [هود46].
وجه الاستدلال : أن لفظ (أهلك) يشمل الأبناء، ولهذا فهم نوح عليه السلام دخول ابنه في الناجين، فقال: { } [هود45] فبين الله جل وعلا بيانا متأخرا أن ابنه ليس من أهله الناجين؛ لكونه عملا غير صالح.
ج ـ قوله تعالى : { } [البقرة110] مع الأحاديث الكثيرة التي بينت صفة الصلاة وعدد ركعاتها، وبينت مقادير الزكاة والأنصباء.
ولا يمكن أن يزعم المطلع على السنة أن بيان الصلاة والزكاة كان مقارنا لنزول الآيات التي فيها الأمر بها.
القول الثاني : المنع من تأخير البيان مطلقا، سواء أكان بيانا لمجمل عام أم غير ذلك. وهو مذهب أكثر الحنفية والمعتزلة، وبعض الشافعية.
واستدلوا بما يلي :
أ ـ أن تأخير البيان عن الخطاب المحتاج إلى بيان فيه تجهيل للمكلف وإيقاع له في اعتقاد ما لم يرده الله جل وعلا، وهذا قبيح فيمتنع على الحكيم العليم.
ب ـ لو جاز تأخير البيان فإما أن يجوز إلى أجل معين أو من غير أجل، فإن حددتم أجلا معينا فلا دليل عليه، وإن لم تحددوا أجلا لزم الخطاب بما لا يفهم معناه، والتكليف بما لا يطاق.
ونوقش الدليل الأول بأن ما يحتاج إلى بيان موقوف اعتقاده والعمل به على ورود البيان، والمطلوب من المكلف اعتقاد أنه حق وصدق على مراد الله جل وعلا من غير جزم باحتمال معين من بين الاحتمالات، ولا يلزم منه تجهيل.
وأجاب الأشعرية ـ كعادتهم ـ بأن الله تعالى لا يقبح منه شيء، والعقل لا مدخل له في التحسين والتقبيح.
ونوقش الدليل الثاني بأن التأخير الجائز هو تأخير البيان إلى حضور وقت العمل، ولا يلزم من ذلك التكليف بما لا يطاق.
وأما لزوم الخطاب بما لا يفهم معناه فإن أرادوا به أن لا يكون له معنى مفهوم فممنوع؛ لأن المجمل له معنى ولكنه محتمل لأكثر من معنى، وإن أرادوا أن لا يكون له معنى متعين فيمكن التزامه ولا مفسدة فيه إذا لم يستمر الجهل بمعناه إلى وقت العمل.
القول الثالث : جواز تأخير بيان المجمل دون غيره. وهو منقول عن الصيرفي وأبي حامد المروزي، واختاره أبو الحسين البصري وبعض المعتزلة.
واستدل لهذا القول بما يلي :
أن المجمل ليس له ظاهر يمكن العمل به فلا يلزم من تأخير بيانه إيقاع المكلف في اعتقاد الخطأ، وأما العام الذي أريد به الخصوص، والمطلق الذي أريد به المقيد، فلو أخر البيان لأدى ذلك إلى اعتقاد ما ليس مرادا لله تعالى، ولذا جاز تأخير بيان المجمل دون غيره.
ويمكن أن يناقش هذا، بمثل ما نوقش به استدلال القول الثاني، وهو أن اعتقاد العموم في العام المخصوص أو الإطلاق في المطلق المراد به المقيد لا ينبغي أن يقع من المكلف؛ إذ الواجب أن يعتقد أنه عام محتمل للتخصيص، أو مطلق محتمل للتقييد، لا أن يجزم بكونهما على العموم أو الإطلاق.
وأما العمل فلو حضر وقته قبل التخصيص والتقييد علم أن العموم والإطلاق مرادان.
وبهذا يتبين رجحان القول الأول، وهو مذهب الجمهور.
التخريج على قاعدة تأخير البيان :
قاعدة تأخير البيان ذات شقين، كما أسلفنا :
الأول : عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
الثاني : جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
فأما الشق الأول فهو محل وفاق، وقد خرجوا عليه قواعد كثيرة، من أهمها:
1 ـ حجية تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لما فُعل أو قيل بحضرته أو في زمنه وعلم به، ولهذا عدوا من أقسام السنة السنة التقريرية، وهي باب واسع من أبواب الاستدلال بالسكوت، أو ترك التفصيل والبيان، ومبناه على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز له شرعا أن يسكت عن بيان الحق عند الحاجة إليه، والفروع التي استدلوا لها بسكوت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى.
2 ـ رتب الشافعي على ذلك قاعدة من قواعد العموم، ونصها :
ترك الاستفصال في مقام الإجمال ينزل منزلة العموم في المقال.
والمقصود بها أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن مسألة تحتمل أكثر من وجه فأفتى فيها من غير استفصال من السائل دل ذلك على أن حكم جميع الأوجه واحد.
3 ـ إجراء العام على عمومه، والمطلق على إطلاقه إذا حضر وقت العمل، ولم يبين الشرع للأمة تخصيص ذلك العام أو تقييد المطلق.
ويمكن أن يعبر عن هذا بأن الأصل إجراء العام على عمومه والمطلق على إطلاقه.
وقد خرجوا على ذلك ما لا يحصى من المسائل الأصولية والفرعية، والمتتبع لاستدلال الأصوليين والفقهاء يجد أنهم يعولون على هذه القاعدة كثيرا.
وأما الشق الثاني من القاعدة وهو المختلف فيه فقد انبنى على الخلاف فيه اختلاف في مسائل أصولية مهمة، ولكن الذين رتبوا تلك المسائل على هذا الخلاف قلة من الأصوليين، وأهم هذه المسائل هي :
الخاص المتأخر عن العام هل يعد مخصصا أو ناسخا لما يقابله من أفراد العام؟
فالحنفية منعوا تأخير البيان ورتبوا على ذلك أن الدليل الخاص المتأخر عن العام زمنا يمكن فيه العمل بالعام يعد ناسخا لا مخصصا، وعلى ذلك يشترط فيه ما يشترط في الناسخ. ومعلوم أن خبر الآحاد لا يصلح ناسخا للقرآن عند الأكثر، فلو كان الخاص خبر آحاد متأخرا لم يجز العمل به عندهم؛ لأنه لا يصلح مخصصا ولا ناسخا.
والجمهور أجازوا تأخير البيان إلى وقت الحاجة، و لهذا أجازوا أن يكون الخاص المتأخر مخصصا للعام المتقدم، ما لم يعمل بالعام في عمومه، فإن عمل بالعام في عمومه عد الخاص المتأخر ناسخا واشترط فيه ما يشترط في الناسخ.
وهذه المسألة يبحثها أكثر الأصوليين بحثا مستقلا، عند الكلام عن التخصيص وشروط المخصص، فيذكر أن الحنفية يشترطون في المخصص أن يكون مستقلا مقارنا، ومعنى قولهم : (مقارنا) أي : غير متأخر عن العام زمنا يكفي لإيقاع الفعل فيه.
الباب الرابع
التعارض وطرق دفعه
هذا الباب من أهم الأبواب وأنفعها للفقيه، وبه يتبيَّن جانبٌ من جوانب فوائد علم أصول الفقه في العصور المتأخِّرة؛ وذلك لأن المسائلَ الخلافيَّةَ الكبرى نالت حظَّها من البحث والاستدلال والمناقشة، وحظُّ الفقيه المعاصر من بحثها هو الموازنةُ بين أدلّة المختلفين، وترجيحُ ما يراه راجحاً.
وقد عنون بعضُ الأصوليين لهذا الباب بعنوان التعادل والترجيح، وبعضهم بعنوان التعارض والترجيح، وبعضهم سكت عن التعارض واكتفى بالترجيحات.
تعريف التعارض :
التعارُض في اللغة بمعنى : التقابُل، وهو تفاعُلٌ من العُرْض، بالضم، وهو الناحية.
وفي الاصطلاح : تقابُل الدليلين على سبيل الممانعة.
والمناسبة بين المعنيين (اللغوي، والاصطلاحي) : أن الدليلَ المعارضَ لدليلٍ آخَرَ كأنه يقفُ في الناحية المقابلة للناحية التي يقفُ فيها الدليلُ الآخَرُ. أو أن كلاًّ منهما يقفُ في عُرْض الآخَر.
والتعادُل في اللغة : التساوي، وعدل الشيء : مثيلُه من جنسه.
وفي الاصطلاح :
جعله بعضُ الأصوليين مساوياً للتعارُض.
والصواب : أن التعادُلَ يعني تساوي الدليلين من كلّ وجهٍ، بحيثُ لا يبقى لأحدهما مزيةٌ على الآخَر.
وإذا حصل التعادُلُ ينسدُّ بابُ الترجيح، ولم يبقَ إلاّ أنْ يذهبَ المجتهدُ إلى تساقط الدليلين، والبحثِ عن أدلّةٍ أخرى، أو يتوقَّفَ، أو يتخيَّرَ، أو يذهبَ إلى الأشدِّ، أو إلى الأخفِّ من الحكمين اللذين دلَّ عليهما الدليلان المتعادلان.
وهذه أقوال العلماء في المسألة، كما سيأتي بيانها.
وأما التعارُض فهو يعني تقابُلَ الدليلين في الظاهر، بحيث يبدو للناظر إليهما في أول الأمر أنهما متنافيان، ويُمكن بشيءٍ من النظر، والتفكُّر الوصولُ إلى الجمع بينهما أو ترجيحِ أحدهما.
شروط التعارض :
ذكر بعضُ الأصوليين شروطاً للتعارُض، استفادها مما يذكره المناطقة في شروط التناقُض. فاشترط لحصول التعارُض الشروطَ التاليةَ :
1 ـ التساوي في الثبوت، فلا تعارُضَ بين الكتاب وخبر الواحد، بل يقدم الكتاب.
2 ـ التساوي في القوَّة،فلا تعارُضَ بين النصّ والظاهر، بل يُقدَّمُ النصُّ.
3 ـ اتّحادُ الوقت، فلو اختلف الوقتُ، فالمتأخِّرُ مقدَّمٌ.
4 ـ اتّحادُ المحلّ، فلو اختلف المحلُّ فلا تعارُضَ.
5 ـ اتّحادُ الجهة، فلو اختلفت جهةُ تعلُّق الحكم بالمحكوم عليه، فلا تعارُضَ، مثل النهي عن البيع بعدَ نداء الجمعة الثاني، مع الإذن فيه في غير هذا الوقت.
6 ـ اختلافُ الحكم الثابت بكلِّ من الدليلين، فلا تعارُضَ مع اتّحاد الحكم.
وقد وقع في بعض الكتب اشتراطُ اتّحاد الحكم ( ).
وهو لا يصحُّ؛ لأنه مع اتّحاد الحكم لا يوجدُ تعارُضٌ، وقد يُحملَ ذلك على اتّحاد محلّ الحكم. ولكنه جعل اتّحادَ محلّ الحكم شرطاً مستقلاًّ! فلْيُتنبّه لذلك.
وهذه الشروط التي يذكرها بعضُ الأصوليين لو تحقّقت لانسدَّ بابُ الترجيح، وامتنع الجمعُ بين الدليلين، وامتنع القولُ بالنسخ؛ لأن الدليلين إذا تساويا في الثبوت والقوَّة لا يُمكنُ الترجيحُ بينهما، وإذا اتّحدا في المحلّ والزمان والجهة لا يُمكنُ الجمعُ بينهما، ولا القولُ بنسخ أحدهما بالآخَر.
ولهذا فلا بدَّ أنْ نعرفَ أن اصطلاحَ الأصوليين والفقهاء في التعارُض يصدُقُ على التعارُض في الظاهر للمجتهد ولو لم تتحقق فيه تلك الشروط، غير أنه لا بد لحصول التعارض من تقابل دليلين ظنيين، وتقاربهما في القوة عند المجتهد، ولذا قالوا قد يكونُ الدليلان متعارضين في الظاهر ثم يجتهدُ الفقيهُ في الجمع بينهما، أو في تقديم أحدهما على الآخَر، إما لقوَّته أو لكونه ناسخاً له.
ويُؤيّدُ ذلك قولُهم : « لا يكونُ الترجيحُ إلاّ مع وجودِ التعارُض، فحيثُ انتفى التعارُضُ انتفى الترجيحُ » ( ).
كما يؤيده قول الجمهور : إن التعارُضَ بين الأدلّة إنما هو في الظاهر، أما في واقع الأمر فلا تعارُضَ.
ومنع بعضُ العلماء من استمرار التعارُض الظاهري إلى الأبد، وقال : لا يُوجدُ له مثالٌ.
وإذا تحقّقت الشروطُ السابقةُ في الدليلين المتعارضين، فما موقفُ المجتهد؟
اختلف العلماءُ في ذلك :
فذهب بعضهم إلى التخيير، بأنْ يكونَ المكلَّفُ مخيَّراً بين العمل بهذا الدليل أو ذاك، ونُسب للشافعي، واختاره القاضي الباقلانيّ والغزاليّ.
وهذا يُناسبُ القائلين: إن كلَّ مجتهدٍ في الظنيات مصيبٌ، وأن الحقَّ عند الله يُمكنُ أنْ يتعدّدَ. ولا يُناسبَ المُخطِّئةَ.
وذهب بعضُهم إلى التوقُّف، وهو يُناسبُ القولَ بتخطئة بعض المجتهدين، وأن المصيبَ واحدٌ.
وذهب بعضهم إلى أن على المجتهد أنْ يأخذَ بالأشدِّ؛ لأن الحقَّ شديدٌ.
وذهب آخرون إلى أن عليه أنْ يأخذَ بالأيسر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « يَسِّروا، ولا تُعَسِّروا » (متفق عليه عن أنس وأبي موسى).
والراجح - إن شاء الله تعالى – أنْ يُقال : هذا قد يكونُ في حقّ بعض المجتهدين دون بعضٍ؛ ولذا فإن المجتهدَ إذا لم يتّضحْ له رجحانُ أحد المتعارضَينِ يلزمُه أنْ يتوقّفَ ويبحثَ عن دليلٍ آخَرَ، يُؤيِّدُ هذا الدليلَ أو ذاك، فإنْ حضر وقتُ العمل ولم يترجّحْ له شيءٌ عمل بالأحوط منهما، أو قلَّد الأعلمَ منه.
وأما الذين يستفتونه فليس له أنْ يُفتيَهم، بل عليه أنْ يدلََّهم على غيره من المجتهدين، ويُخبرهم أنه لم يترجّحْ عنده شيءٌ.
وأما المقلّدُ الذي لا قدرةَ له على فهم الأدلّة والموازنة بينها ففرضُه سؤالُ مَن يثقُ في علمه ودينه من العلماء؛ لقوله تعالى : { } [النحل43].
وأما طالبُ العلم القادر على التمييز بين الراجح والمرجوح : فإن تبيّن له رجحانُ أحد القولين أخذ به وإلاّ قلَّد عالماً.
طرقُ دفعِ التعارُض الظاهريّ :
لدفع التعارُض الظاهري ّ بين الأدلّة ثلاثُ طرقٍ، هي :
1ـ الجمع بين الدليلين.
2ـ الحكم بنسخ أحد الدليلين بالآخَر.
3ـ الترجيح.
وقد اختلف العلماءُ فيما يجبُ المصيرُ إليه أوّلاً :
فذهب الحنفية إلى أن المرتبةَ الأولى مرتبةُ النسخ، فإذا أمكنَ نسخُ أحد الدليلين بالآخَر وجب المصيرُ إليه؛ لأنه يُبيِّن أن الدليلين لم يتواردا على زمانٍ واحدٍ.
فإن لم يُمكنْ معرفةُ التأريخِ فيلجأُ المجتهدُ إلى الجمع بينهما بتأويلهما أو تأويل أحدهما.
فإن لم يُمكنْ ذلك لجأ إلى الترجيح.
وعند الجمهور المقدَّمُ هو الجمعُ بين الدليلين إذا أمكنَ بحمل العامّ على الخاصّ أو المطلّقِ على المقيَّد، أو حملِ كلٍّ منهما على حالةٍ غير التي يُحمل عليها الآخَرُ.
فإن لم يُمكنْ نظر في التأريخ، فإنْ أمكن معرفتُه عددنا المتأخِّرَ ناسخاً للمتقدِّم.
فإن لم يُعرف التأريخُ لجأنا إلى الترجيح.
وإليك بيانُ كلٍّ من هذه الطرق وأمثلتها.
أولاً : الجمع :
ويُمكنُ تعريفُه بأنه : إظهارُ عدمِ التضادِّ بين الدليلين المتضادَّينِ في الظاهر بتأويل كلٍّ منهما أو بتأويل أحدِهما.
شرح التعريف :
طرقُ دفعِ التعارُضِ تشتركُ في أنها تُبيِّنُ عدمَ التضادِّ بين الدليلين المتعارضينِ في الظاهر، وينفصلُ الجمعُ عن الآخَرين بأنْ يكونَ بالتأويل. والتأويل – كما تقدَّم – صرفُ اللّفظ عن ظاهره لدليلٍ.
والتأويلُ للجمع بين الدليلين قد يكونُ تأويلا لهما معاً، بأنْ يُحملَ كلٌّ منهما على حالةٍ.
مثاله : الجمع بين حديث : « ألا أُخبِرُكم بخير الشُّهداء؟ الذي يأتي بالشهادةِ قبلَ أنْ يُسأَلَها» (أخرجه مسلم عن زيد بن خالد)، وحديث : « إن بعدَكم قوماً يخونون ولا يُؤتَمنونَ، ويَشهدون ولا يُستشهدون » (متفق عليه عن عمران بن حصين).
وذلك أن الحديثَ الأولَ يدلُّ على مدحِ مَن يأتي بالشهادةِ قبلَ أنْ يُسألَها، والثاني يدلُّ على ذمِّه. فيُجمَعُ بينهما بحمل الأول على مَن لديه شهادةٌ لصاحب حقٍّ لا يعلمُ بها صاحب الحق، والثاني على مَن لديه شهادةٌ بحقٍّ وصاحبُه يعلمُ بذلك، ولم يطلبْ منه أنْ يشهدَ.
وقد يكون بـتأويل أحدِهما دون الآخَر، مثل حمل العامِّ على الخاصِّ، والمطلَقِ على المقيَّدِ.
مثاله : الجمع بين حديث : « فيما سقت السماءُ... العشرُ » (أخرجه البخاري عن ابن عمر مرفوعا)، وحديث : «ليس فيما دون خمسة أوسُقٍ صدقةٌ» (أخرجه مسلم عن جابر مرفوعا).
وذلك بحمل الأول على ما بلغ خمسةَ أوسُقٍ، بحيثُ يكونُ معناه : فيما سقت السماءُ العشرُ إذا بلغ خمسةَ أوسًقٍ مما يُكال ويًدَّخرُ.
وأمثلةُ هذا النوع أكثرُ من أنْ تُحصى.
ثانياً : النسخ :
تعريفه : هو في اللُّغة : بمعنى الإزالة.
وفي الاصطلاح : رفعُ الحكمِ الثابتِ بخطابٍ متقدِّمٍ بخطابٍ متأخِّرٍ عنه.
شرح التعريف :
« رفعُ الحكمِ الثابتِ بخطابٍ » أي : بيانُ انتهاءِ العمل بالحكم الذي ثبت بدليلٍ شرعيٍّ من كتابٍ أو سنةٍ.
وقولهم : « الثابت بخطاب متقدم » يخرج ما كان ثبوته بمقتضى البراءة الأصلية، فإن رفعه لا يسمى نسخا.
وقولهم : « بخطابٍ متأخِّرٍ عنه » يعني : أن النسخَ لا يكونُ إلاّ بدليلٍ شرعيٍّ من كتابٍ أو سنّةٍ متأخِّرٍ عن الدليلِ المنسوخِ في نزوله إلينا إن كان كتاباً، أو في تكلُّمِ النبي صلى الله عليه وسلم به أو فعلِه أو إقرارِه إنْ كان سنّةً.
وباب النسخٍ شغل حيِّزاً كبيراً من كتب أصول الفقه، وأطالوا فيه الكلامَ بما لا طائلَ تحته.
والمفيد منه : أنْ يعرفَ الفقيهُ أنه أحدُ الطرقِ الشرعيةِ لدفعِ التعارُضِ الظاهريّ بين الأدلّةِ، وأنْ يعرفَ شروطَ الناسخِ، وطرقَ معرفةِ النسخِ. وما عدا ذلك مما يذكرونه في باب النسخ قليلُ الفائدة.
فأما كون النسخ طريقاً لدفعِ التعارُض الظاهري فلا خلافَ فيه بين الأئمة.
وقد وردت أدلةُ ذلك في الكتاب والسنة، كقوله تعالى : { } [البقرة106].
وقول عائشة رضي الله عنها : كان فيما أُنزلَ من القرآن عشرُ رَضَعَاتٍ معلوماتٍ يُحرِّمْن، فنُسخن بخمس رَضَعَاتٍ. (أخرجه مسلم).
فالآيةُ تدلُّ على أن الآيةَ تُنسخُ ويأت الله بخيرٍِ منها. والحديث دلَّ على وقوع النسخ.
ولا يختلفُ العلماءُ في ذلك، والحمد لله. وما يذكر من خلاف في بعض كتب الأصول فلا اعتداد به.
وأما اختلافُهم في حقيقة النسخ : أهو بيانٌ أو رفعٌ وإزالةٌ؟ فهو خلافٌ لفظيٌّ لا ثمرةَ له، كما نصَّ على ذلك إمامُ الحرمين وغيره من المحققين.
شروط الناسخ :
يُشتَرَطُ في الناسخ شروطٌ، هي :
1ـ أن يكونَ نصّاً من قرآنٍ أو سنّةٍ، فلا يصحُّ النسخُ بالقياس، ولا بالإجماع، عند جماهير العلماء.
2ـ أن يكونَ النصُّ الناسخُ متأخِّراً عن المنسوخ، وهذا لا اختلافَ فيه؛ لأنه لا يُمكنُ أنْ يكونَ المتقدِّمُ رافعاً للمتأخِّر.
3ـ أن يكونَ الناسخُ في قوَّة المنسوخ أو أقوى منه، فالقرآنُ يُنسخُ بالقرآن، والسنَّةُ تُنسخُ بالسنَّة بالاتّفاق، والقرآن لا يُنسخُ إلاّ بقرآنٍ مثلِه؛ لأن السنّةَ لا يُمكنُ أنْ تكونَ مثلَ القرآن ولا خيرا منه، والله تعالى يقول : { }.
وهذا هو مذهب الشافعي، واختاره بعض أصحابه.
وذهب أكثر الأئمة إلى أن القرآن يمكن أن ينسخ بالسنة المتواترة أو المشهورة، واستدلوا على ذلك بأنه ممكن عقلا وواقع شرعا.
فإما إمكانه عقلا فإن العقل لا يمنع أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بنسخ حكم نزلت في إثباته آية.
وأما الوقوع فمثلوه بآية الوصية للوالدين : { } [البقرة180] نسخت بحديث : « لا وصية لوارث » (رواه الخمسة إلا النسائي عن أبي أمامة ـ ـ). واستدلوا بقوله تعالى : { } [الحشر7].
وأجابوا عن استدلال الشافعي بالآية السابقة، بأن قوله : { } [البقرة106] لا يلزم منه أن يكون الناسخ قرآنا، وإنما المراد الخيرية للمكلفين، أي : نأت بحكم هو خير من الحكم المذكور في الآية للمكلفين.
وعلى الرغم من أن ظاهر الآية يؤيد ما ذهب إليه الشافعي، إلا أن الأكثر تأولوها.
والذي يظهر عدم الوقوع وإن كان ممكنا عقلا، والشافعي إنما قصد امتناعه في الوقوع لا في العقل.
وما ذكروه من أمثلة محتمل؛ لأن آية الوصية للوالدين منسوخة بآيات المواريث، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نسخها بآيات المواريث فقال : « إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث » (رواه الخمسة إلا النسائي).
أما نسخُ القرآن بالسنة الآحادية فالجمهور على منعه، وقد نقل إمامُ الحرمين الإجماعَ على ذلك، فقال : « أجمع العلماء على أن الثابتَ قطعاً لا ينسخُه مظنونٌ؛ فالقرآنُ لا ينسخُه الخبرُ المنقولُ آحاداً، والسنة المتواترة لا ينسخها ما نقله غير مقطوع به» ( ).
والذين أجازوه استدلُّوا بقياس النسخ على التخصيص، وبالوقوع. ومثّلوه بنسخ آية الوصية للوالدينِ بحديث : « لا وصيَّةَ لوارثٍ ».
ونسخ آية : { } [الأنعام145] بالنهي عن كلّ ذي نابٍ من السباع وكلّ ذي مخلبٍ من الطير.
وأُجيبَ عن الاستدلال بالقياس بأنه قياسٌ مع الفارق، فالنسخ رفعٌ وإزالةٌ، والتخصيصُ بيان أن المُخرَجَ غيرُ مرادٍ أصلاً.
وأُجيب عن أدلّة الوقوع بما يلي :
1- أن آية الوصية للوالدين نُسخت بآيات المواريث، كما سبق إيضاحُ ذلك.
2 ـ أن آية المحرَّمات ليست منسوخةً؛ إذْ ليس فيها أنه لا يُمكنُ أنْ يُحرِّمَ عليهم غيرَ ما ذُكر، وإنما فيها أن الذي حُرّم إلى نزول الآية هي الأربع المذكورة فيها , وهذا لا يمنع الزيادةَ عليها بعد ذلك.
نسخُ القياس والنسخُ به :
القياسُ لا يكون ناسخاً للكتاب والسنة؛ لأنه لا يُعتدُّ به إذاعارضهما، والنسخُ لا يكون إلاّ مع التعارُض بين الناسخ والمنسوخ.
وقال بعضهم : إذا كانت علتُه منصوصةً فيجوزُ النسخُ به.
وهل يُمكنُ نسخُ القياس؟ أما نسخُه تبعاً لأصله فجائزٌ. وأما نسخُه مع بقاء أصله فلم يجزْه الجمهور، ولكن الظاهرَ من صنيعهم أنهم منعوا تسميةَ ذلك نسخاً، مع أنهم لا يمنعون بقاءَ حكمِ الأصل، والمنعُ من القياسِ عليه لدليلٍِ يمنعُ ذلك؛ إذْ لا قياسَ مع النصّ.
وأما القياسُ على الأصلِ الذي نُسخ حكمُه فقد منعه الأكثرُ، ونُقل عن أبي حنيفةَ جوازُ القياس على الأصل المنسوخ؛ لأنه قاسَ صيامَ الفرض بنيّةٍ من النهار على صيام عاشوراء الذي كان واجباً ونسخ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يطعم أن يتم صوم ذلك اليوم، مع أنه لم ينو الصيام من أول اليوم كما روت الربيع بنت معوذ قالت : أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار : «من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائما فليصم» (متفق عليه).
نسخ المفهوم والنسخ به :
لا يجوز النسخ بمفهوم المخالفة؛ لأنه أضعف من المنطوق، وأما نسخه فجائز.
ومثال نسخ المفهوم المخالف بدون نسخ أصله : نسخ مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : «الماء من الماء» (أخرجه مسلم عن أبي سعيد) بحديث : « إذا مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغُسل » (أخرجه مسلم عن عائشة)، فالحديث الأول منطوقُه باقٍ وهو وجوب الغُسل من الإنزال، ومفهومه أنه إذا لم يُنزلْ فلا يجبُ الغُسلُ. وهذا المفهوم نُسخ بالحديث المتقدّم عن عائشة.
وأما مفهومُ الموافقة فالجمهور على جواز النسخ به؛ لأنه كالمنطوق أو أقوى.
وأما نسخه مع بقاء أصله فالأكثر على منعه. ومنهم من جوزه مطلقاً، ومنهم مَن جوَّزه إذا كان المفهومُ أولى بالحكم من المنطوق. ولم يشتهرْ له أمثلةٌ في كلام الأصوليين.
طرق معرفة النسخ :
يُعرف النسخُ بعدّة طرقٍ، أهمها :
1ـ النص على النسخ :
كما في قوله صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها » (أخرجه مسلم عن بريدة).
فالحديث فيه بيانٌ للنسخ لا يتطرّق إليه شكٌّ.
وكذلك قوله تعالى : { } [الأنفال66] نسخ قوله تعالى : { } [الأنفال65].
2- تأخُّر أحدِ النصين المتعارِضَين عن الآخر :
فإذا تعارض النصَّان وتعذر الجمعُ بينهما وعرفنا المتأخرَ منهما عرفنا أنه ناسخٌ للمتقدم إذا كان في قوته.
وقد يُعرف التأخر بنص الصحابي، أو بغير ذلك.
3- اتفاق الصحابة على نسخ أحد النصين بالآخر :
كما ورد في صحيح مسلم من نسخ مفهوم حديث : « الماء من الماء » (أخرجه مسلم عن أبي سعيد) بحديث : « إذا جلس بين شُعبها لأربع ثم جهدها فقد وجب الغُسلُ » (متفق عليه عن أبي هريرة).
4- تركُ الصحابة والتابعين العمل بالحديث من غير نصٍّ على النسخ :
مثاله: تركُ العمل بحديث أخذِ الشطْر من مال مانع الزكاة، فقد جاء في سنن أبي داود من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ـ فيمن غل صدقته ـ : «إنّا آخذوها وشطْرَ ماله»، وكذلك حديث: قتل السارق في المرة الرابعة (أخرجه الخمسة عن معاوية). ولم يعمل به الصحابة فدل ذلك على نسخه.
ثالثاً : الترجيح :
الترجيح في اللُّغة: مصدر رجّح، مأخوذٌ من رُجحان الميزان، وهو مَيَلاَنُ إحدى كفَّتيه.
وفي الاصطلاح : تقويةُ إحدى الأَمارتين على الأخرى.
وقيل : بيانُ اختصاص الدليل بمزيد قوَّةٍ عن مُقابِلِه.
والفرق بين التعريفين : أن الأولَ عبَّر بالأَمارة، والثاني عبَّر بالدليل، وهو أقربُ إلى اصطلاح الفقهاء الذين يُطلقون الدليلَ على القطعيّ والظنِّيّ.
شروط الترجيح :
يشترط في الترجيح ما يلي :
1 ـ أنْ يكونَ بين الأدلّة لا بين البيِّنات أو الدعاوى، فلا ترجيحَ بين بيِّنة المدَّعِي وبينة المدَّعى عليه؛ لأن البيّنةَ على المدعي واليمين على مَن أنكر.
هكذا قالوا، وفيه نظرٌ، أشار إليه ابنُ القيِّم في إعلام الموقَّعين.
2 ـ تحقُّقُ التعارُضِ في الظاهر بين الدليلين المرجَّحِ أحدهما، فلا ترجيحَ بين دليلين متَّفقين في المدلول.
3 ـ تعذُّرُ الجمعِ بين الدليلين، فإنْ أمكنَ الجمعُ بينهما والعملُ بهما معاً لم يَنتقل المجتهدُ إلى الترجيح؛ لأن الترجيحَ يُفضي إلى ترك الدليل المرجوح، والجمع فيه عملٌ بكلا الدليلين في الجملة، والعملُ بالدليلين – ولو من وجهٍ – أولى من إهمالهما أو إهمال أحدِهما.
4 ـ عدم معرفة تاريخ كلٍّ من الدليلين، فإنْ عُرفَ التاريخُ فالمتأخِّرُ ناسخٌ للمتقدِّم.
واشترط بعضُهم أنْ يكونَ الترجيحُ بصيغةٍٍ في الدليل، لا بدليلٍ مستقلٍّ.
والصواب : عدمُ اشتراط ذلك؛ لأنه يمكنُ أنْ يتساوى الدليلان ويترجَّحُ أحدُهما بموافقة دليلٍ آخَرَ. وستأتي أمثلةُ ذلك.
حكم الترجيح :
يجب على المجتهد إذا تعارض عنده دليلان في الظاهر، ولم يتمكنْ من الجمع بينهما، ولا القولِ بالنسخ أنْ يبحثَ عمّا يُرجِّحُ أحدَهما؛ ليعملَ بالراجح. وقد حَكى الإجماعَ على العمل بالراجح من الدليلين عند تعارضهما غيرُ واحدٍ.
ونُقل الخلافُ في ذلك عن أبي عبد الله البصري، الملقَّب بـ(جُعل)، وكذلك نُقل عن القاضي الباقلانيّ، ولم يلتفت الفقهاءُ إلى خلافهما.
والدليل على وجوب العمل بالراجح من وجوهٍ، أهمُّها :
1 ـ قوله تعالى : { } [الزمر55]، وقوله تعالى : { } [الزمر18].
والآيتان دليلٌ على اتّباع الدليل الراجح؛ لأنه أحسنَ من المرجوح.
2 ـ أن الدليلين إذا تعذّر الجمعُ بينهما، فإما أنْ يُتركا معاً، أو يُتركَ الراجحُ منهما، أو يُتركُ المرجوحُ.
فالأول باطلٌ؛ لما فيه من الإعراض عن الدليلين، والتسويةِ بين الراجح والمرجوح، وهما لا يستويان عند العقلاء.
والثاني باطلٌ؛ لما فيه من تقديم الضعيف على القويّ، وهو خلافُ مقتضى الشرع والعقل.
فلم يبقَ إلاّ الثالثُ، وهو المطلوبُ إثباتُه.
3 ـ إجماعُ الصحابة والتابعين على العمل بالراجح من الدليلين عند تعارُضهما، قال الطُّوفي في المختصر بعد أنْ نقل قولَ الباقلاني : « وليس بشيءٍ؛ إذ العملُ بالأرجح متعيِّن، وقد عمل الصحابة بالترجيح». وأوضح في الشرح أن العملَ بالترجيح متعيِّنٌ عقلاً وشرعاً، ونقل إجماعَ الصحابة عليه ( ).
وجوه الترجيح :
الترجيحُ له طرقٌ متعدِّدةٌ، لا يُمكنُ حصرُها وقد قال الزركشيُّ : « واعلمْ أن التراجيحَ كثيرةٌ، ومناطُها : ما كان إفادتُه للظنّ أكثرَ فهو الأرجحُ، وقد تتعارض هذه المرجِّحاتُ - كما في كثرة الرُّواة، وقوَّة العدالة، وغيره – فيعتمدُ المجتهدُ في ذلك على ما غلب على ظنّه » ( ).
وقد جرت عادةُ الأصوليين أنْ يفصلوا الترجيحَ بين الأدلّة النقلية عن الترجيح بين الأدلّة العقليّة.
فلْنأخذ كلَّ نوعٍ على حِدةٍ، فنقول :
طرقُ الترجيح بين الأدلّة النقليّة :
وله ثلاثة أوجه :
1ـ الترجيح من جهة السند.
2ـ الترجيح من جهة المتن.
3ـ الترجيح لأمرِ خارجيّ.
أولاً : الترجيح من جهة السند :
وله طرقٌ، أهمُّها :
1ـ كثرةُ الرُّواة :
فيُرجَّحُ الخبرُ الذي رُواتُه أكثرُ على الخبر الذي رُواته أقلُّ.
مثاله: رواية رفع اليدين عند الركوع الواردةِ من حديث جماعةٍ من الصحابة، منهم : علي بن أبي طالبٍ، وابن عمرَ، ومالك بن الحويرث، وأبو حميد الساعديّ، ووائل بن حجر. وغيرهم، تُرَجح على رواية البراء بن عازب: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يرفعُ يديه عند تكبيرة الإحرام، ثم لا يعودُ (أخرجه أبو داود والدارقطني) بأن الخبرَ الأولَ أكثرُ رواةً.
وقد خالف الحنفيةُ في الترجيح بالكثرة، وقاسوا الأخبار على البيِّنات كالشهادات، فكما أن الحقَّ لو شهد به شاهدان ثبت، ولا يزيدُ ثبوتُه بشهادة ثلاثة أو أربعةٍ، أو بمعارضتهم، فكذلك لا يُرجَّحُ بالكثرة في الرواية.
والراجح : صحَّةُ الترجيح بالكثرة في الأخبار؛ لأن الأخبارَ تختلف عن الشهادة في هذا، فالشهادةُ لها نِصابٌ، إذا وُجد تمّتْ وقضى بها القاضي، وأما الرواية فليس لها نِصابٌ محدَّدٌ، ولهذا قد تصلُ الروايةُ إلى التواتر أو الاستفاضة، وقد تقفُ عند درجة الآحاد.
وأيضاً فإن الشهادةَ فيها شائبةُ التعبُّد، بدليل أنها لا تُقبَلُ بلفظ الخبر، ولا تُقبَلُ شهادةُ النساء منفردات، بخلاف الخبر.
وذهب القاضي الباقلاني والغزالي إلى أن العبرةَ بظن المجتهد، فإن غلب على ظنِّه صدقُ الواحد أخذ بحديثه وترك حديثَ الاثنين أو الثلاثة. وهو قريبُ من قول الحنفية.
2ـ فقه الراوي :
فتُقذَّمُ روايةُ الفقيه على غيره مطلقاً، أي : سواء أكانت الروايةُ باللّفظ أو المعنى، وتُقدَّمُ روايةُ الأفقه على رواية الأقلِّ فقهاً. وقيل: بل تُقدَّم روايةُ الفقيه إذا كانت الروايةُ بالمعنى دون اللّفظ.
والأول هو الراجح؛ لأن الفقيهَ أقدرُ على نقل اللّفظ والمعنى من غيره، ولأن الفصلَ بين ما رُويَ باللّفظ وما رُويَ بالمعنى ليس بالأمر الهين.
مثالُه : تقديمُ رواية عمر وابنه وابن مسعود وابن عباس على رواية معقِل بن سنان، ونحوه، ممن قلّت مخالطتُهم للرسول صلى الله عليه وسلم والتفقُّه عليه، وكذلك الأمرُ فيمَن بعد الصحابة من الرُّواة، فتُقدَّمُ روايةُ إبراهيم النخعيّ عن علقمةَ عن ابن مسعود، على رواية الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود؛ فالأعمش وأبو وائل أقلُّ فقهاً من النخعيّ وعلقمةَ.
3ـ كونُ أحدِ الراويين صاحبَ الواقعة أو له صلةٌ قويّةٌ بما رواه :
مثال تقديم رواية صاحب الواقعة : تقديم روايةِ ميمونة رضي الله عنها : تزوجني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان (رواه أبو داود)، على رواية ابن عباسٍ رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكحها وهو محرمٌ (متفق عليه).
ومثال تقديم خبر مَن له صلةٌ قويّةٌ تقديمهم لخبر عائشةَ رضي الله عنها : أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يُصبِح جنباً من غير احتلامٍ، ويصوم (متفق عليه)، على خبر أبي هريرة : « مَن أصبحَ جنباً فلا صومَ له » (متفق عليه).
4ـ كونُ أحدِ الراويين ممن تأخَّر إسلامُه :
والحجّةُ في تقديم المتأخِّر إسلاماً أن تأخُّرَ إسلامِه دليلٌ على تأخُّرِ حديثه، فيكونُ ناسخاً لما يُعارضه.
ومثّلوه بتقديم رواية أبي هريرة في نقض الوضوء بمسِّ الذكر (أخرجه أحمد)، على رواية طلْق في عدم نقضه (أخرجه الخمسة).
ونازع في ذلك الآمديُّ، وصحّح العكس. واشترط بعضُهم أنْ يكونَ إسلامُ المتأخِّر بعدَ موت المتقدِّم؛ لنجزمَ بتأخُّر سماعِ المتأخِّر من الرسول صلى الله عليه وسلم.
5ـ قوَّةُ الحفظ والضبطِ :
فيُقدَّمُ الأقوى في الحفظ والضبط على مَن دونه، وهذا يُعرفُ بالتجربة والتتبُّعِ لمرويّاته وسيرته. ومثّله إمامُ الحرمين بتقديم رواية عبيد الله بن عمر بن عبد العزيز على رواية أخيه عبد الله؛ لأن الشافعـيَّ قال : « بينهما فضلُ ما بين الدرهم والدينار ».
6ـ يُقدَّمُ المسنَدُ على المرسَلِ؛ للخلاف في حجّية المرسَل :
وقال بعضهم : المُرسَلُ إذا كان عن ثقةٍ لا يُرسلُ إلاّ عن ثقات مثل المسنَد أو أولى منه؛ لما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال : « إذا قلتُ لكم : قال ابن مسعود فقد سمعته من كثيرٍ من أصحابه، وإذا قلت: حدّثني فلانٌ فهو الذي حدّثني » (أخرجه الدارقطني في سننه).
ثانياً : الترجيح من جهة المتن :
وله طرقٌ، أهمها :
1- ترجيحُ الخاصِّ على العامِّ، والأخصُّ من العامَّين على الأعم منهما:
وهذا مذهب جمهور الأصوليين من المذاهب الثلاثة. وعند الحنفية : أنهما سواءٌ، وهو روايةٌ عن الإمام أحمدَ.
وعلى ذلك : فإذا عُرف المتأخِّرُ فهو ناسخٌ للمتقدِّم في القدر الذي اشتركا فيه، وإنْ جُهل التاريخُ توقَّف العملُ على عمل الصحابة بأيِّهما كان.
وعلى الأول يكونُ الخاصُّ مخصِّصاً للعامِّ مطلَقاً، ومقدَّماً عليه. وقد تقدّم تمثيلُه في العموم والخصوص.
وكذا يكونُ الأخصُّ من العامَّين مقدَماً على الأعمّ منهما. كما يقدَّمُ حديثُ : « مَن قَتل قتيلاً فله سلَبُه » على عموم قوله تعالى : { } [الأنفال41]. مع أن الحديثَ فيه عمومٌ من جهة المستحِقّ للسلَب، ومن جهة السلَب نفسِه، فإنه يشملُ الثيابَ والسلاحَ، ولكنه أخصُّ من الآية فإنها عامّة في جماعة المسلمين، وعامّةٌ من جهة الغنيمة (ما غنمتم). وعند الحنفية أن السلَبَ يُخمَّسُ كسائر الغنيمة، ولا يرون تخصيص الآية بالحديث المذكور.
2 ـ ترجيح العامِّ المحفوظ على العامِّ المخصوص :
لأن التخصيصَ يُضعفُ دلالةَ العامِّ، عند المحقّقين من الأصوليين، كإمام الحرمين، وسُليم الرازيّ، والفخر الرازيّ، وابن تيمية، وغيرهم، مثاله : تقديمُ حديث : « إذا دخل أحدُكم المسجدَ فلا يجلسْ حتّى يُصلِّيَ ركعتين » (متفق عليه عن أبي قتادة) على حديث النهي عن الصلاة في الأوقات الخمسة. فالثاني مخصوصٌ بحديث : « مَن نام عن صلاةٍ أو نسيَها، فلْيُصلِّها إذا ذكرها » (متفق عليه عن أنس)، والأول لا يُعرفُ له مخصِّصٌ، فيُقدَّمُ.
3 ـ ترجيحُ ما قلّت مخصِّصاتُه على ما كثرت مخصِّصاتُه :
مثالُه : تقديمُ آية : { } [المائدة5] على آية : { } [الأنعام121] في الدلالة على حِلّ ما تركوا التسميةَ عليه من ذبائحهم؛ لأن الآيةَ الأولى مخصِّصاتُها أقلُّ، كما بيّن ذلك الإمامُ الشنقيطيّ في : «دفع إيهام الاضطراب»( ).
4 ـ ترجيحُ العامِّ المطلَق على العامِّ الوارد على سببٍ في غير صورة السبب:
وذلك لأن العامَّ الواردَ على سببٍ قال بعضُ العلماء بقصره على سببه، بخلاف العامِّ المطلَق.
مثاله : تقديمُ حديث : « مَن بدَّلَ دينَه فاقتلوه » (البخاري عن ابن عباس) على حديث : النهي عن قتل النساء والصِبيان (متفق عليه عن ابن عمر)؛ فإنه واردٌ على سببٍ، وهو الحربُ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يُوصي الجيشَ بذلك.
5 ـ ترجيحُ الخبر الدالّ على المراد من وجهين على الخبر الدالّ عليه من جهةٍ واحدةٍ :
مثل : تقديم حديث : « إنما الشفعةُ فيما لم يُقسمْ، فإذا وقعت الحدودُ وصُرِّفت الطرقُ فلا شُفعةَ » (متفق عليه عن جابر) على حديث : « الجارُ أحقُّ بصَقَبِه » (البخاري عن أبي رافع).
6 ـ ترجيحُ ما فيه إيماءٌ إلى العلة على ما ليس كذلك :
مثل حديث : « مَن بدَّلَ دينَه فاقتلوه » (البخاري عن ابن عباس) على حديث النهي عن قتل النساء (متفق عليه عن ابن عمر)؛ فإن الأولَ فيه تنبيهٌ على العلّة، وهي الردّةُ، والثاني مطلَقٌ عن التعليل.
7- ترجيحُ ما سِيقَ لبيان الحكم على الدالّ على الحكم بلفظه من غير أنْ يُساقَ لبيانه:
مثل : ترجيحُ الحنفية أحاديثَ النهي عن بيع الملامسة والمنابذة على عموم قوله تعالى : { } [البقرة275]؛ فإن الآيةَ لم تُسقْ لبيان حكم البيع بجميع صوره، وإنما سيقت لبيان الفرق بين البيع والربا، وأما الأحاديث فقد سيقت لتحريم تلك البيوع بأعيانها.
وإنما نصصتُ على الحنفية مع موافقة الجمهور لهم؛ لأن الجمهورَ يُعلِّلون تقديمَ الأحاديث بكونها خاصّةً والآيةً عامّةً، والخاصُّ عندهم مقدَّمٌ على العامِّ مطلَقاً.
8- ترجيحُ الناقل عن حكم الأصل على الموافق لحكم الأصل:
وهو البراءةُ الأصليةُ.
وهذا مذهب الجمهور.
مثاله : ترجيحُ أحاديثِ تحريمِ الحُمُرِ الأهليةِ على الأحاديث التي فيها إباحتُها؛ لأن التحريمَ ناقلٌ عن حكم الأصل.
9- ترجيحُ ما يقتضي الحظر على ما يقتضي الإباحة :
لأنه أحوطُ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « دعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَريبُك» (أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان عن الحسن بن علي رضي الله عنهما).
ويُمكن تمثيلُه بالمثال السابق في أحاديث الحُمُر الأهلية، وترجيح المحرِّم لها على المبيح.
وكذلك الأحاديث الدالّة على تحريم المتعة على الأحاديث الدالّة على الإباحة، إنْ نازع الخصمُ في النسخ.
10- ترجيحُ المثبِت على النافي :
لأن مع المثبت زيادةَ علمٍ خفِيت على النافي.
مثاله : ترجيحُ حديث بلالٍ في صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم داخلَ الكعبة (متفق عليه) على حديث أسامةَ : أنه لم يُصلِّ (أخرجه مسلم).
وخَصَّ ذلك بعضُ الأصوليين بما إذا لم يذكر النافي سبباً واضحاً للنفي، فإنْ ذكر سبباً لجزمه بالنفي غيرَ عدم العلم فلا يُعدُّ حديثُ المثبِتِ مقدَّماً، بل هما سواءٌ، وإن استند إلى عدم العلم فحسب، قُدِّمَ حديثُ المثبِتِ.
وهو تفصيلٌ حسنٌٌ.
11- ترجيحُ النصِّ على الظاهر، والحقيقةِ على المجاز:
مثاله : ترجيحُ الجمهور الخاصّ على العامِّ؛ لكون العامِّ ظاهراً والخاصِّ نصّاً. وأمثلتُه معروفةٌ.
12- ترجيحُ المنطوقِ على المفهومِ المخالِفِ :
مثل : ترجيح منطوق حديث : « الماءُ طهورٌ لا يُنجِّسْه شيءٌ » (الخمسة إلا ابن ماجه) على مفهوم حديث القُلَّتين؛ فإنه يُؤخذُ منه - بطريق مفهوم المخالَفة – أن ما نقص عن القُلَّتين يتنجّسُ بملاقاة النجاسة، وإنْ لم يتغيّرْ، ومنطوقُ الأول يدلُّ على عدم تنجُّسِه إذا لم يتغيّر لونُه أو طعمُه أو ريحُه.
ثالثاً : الترجيحُ لأمرِ خارجيٍّ :
وله طرقٌ، منها :
1ـ اعتضادُ أحدِ الخبرين بموافقة ظاهر القرآن :
مثاله : ترجيحُ خبر التغليس بالفجر على خبر الإسفار؛ لموافقته لظاهر قوله تعالى : { } [آل عمران133].
ونُقل عن الشافعيّ قولُه : « ما وافق ظاهرَ القرآن كانت النفوسُ أميلَ إليه »( ).
2ـ ترجيحُ القول على الفعل المجرَّد :
لأن الفعلَ إذا لم يصحبْه أمرٌ احتمل الخصوصيةَ للرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف القول.
مثاله : ترجيحُ حديث : النهي عن استقبالِ القبلةٍ واستدبارِها عند قضاء الحاجة، على حديثِ ابنِ عمرَ : رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقضي حاجتَه مستقبلاً بيتَ المقدِس، مستدبراً الكعبةَ. (متفق عليه).
3ـ ترجيحُ ما كان عليه عملُ أكثر السلف على ما ليس كذلك:
لأن احتمالَ إصابة الأكثر أغلبُ.
مثاله : ترجيحُ حديثِ تكبيرات العيد، وأنها سبعٌ في الأولى وستٌّ في الثانية على رواية مَن روى أنها خمسٌ في الأولى وأربعٌ في الثانية.
وهو يرجعُ إلى الترجيح بالكثرة، وقد سبق.
4ـ موافقةُ أحدِ الخبرين للقياس، فيُقدَّمُ على ما خالف القياسَ :
مثاله : ترجيح حديث : « إنما هو بَضعة منك » (رواه أحمد والنسائي) على حديث : « من مس ذكره فليتوضأ » (رواه مالك وأحمد والترمذي والنسائي) لأن الأول موافق للقياس دون الثاني.
5ـ ترجيحُ الخبر المقترن بتفسير راويه له بقولٍ أو فعلٍ، دون الآخَر :
فيُقدَّمُ ما فسَّره راويه؛ لكون الظنِّ بصحَّته أوثقَ، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في خيار المجلس، فقد فسّره ابن عمر بالتفرُّق بالأبدان.
الترجيح بين محامل اللّفظ الواحد :
من المعلوم أن لفظَ الدليل قد يتّفقُ العلماءُ على صحَّته، ويختلفون في المعنى الذي يُحمَلُ عليه، واختلافهم يحتاج من الناظر فيه إلى معرفة قواعد الترجيح بين معاني اللّفظ التي يحمله عليها المختلفون.
وهذه أهمُّ تلك القواعد :
1ـ تقديمُ الحقيقة على المجاز :
وهذا محلُّ وِفاقٍ إذا لم تكن الحقيقةُ مهجورةً، أو كان المجازُ غالباً.
مثاله : ترجيحُ قول مَن حمل حديث : « الجارُ أحقُّ بشفعة جاره » (الخمسة عن جابر) على المجاوِر لا على الشريك؛ لأن إطلاقَ الجار على الشريك مجازٌ.
وترجيح مذهب أهل السنة في حمل صفات الله تعالى على الحقيقة دون المجاز، كما في صفة اليدين مثلاً، فهناك من حملها على النعمة، وهو مجازٌ.
وترجيحُ قولِ مَن حمل لفظَ الأرض في قوله صلى الله عليه وسلم : « جُعلتْ ليَ الأرضُ مسجداً وطهورا » (متفق عليه عن جابر) على التراب، دون الجِير والإسمنت؛ فإنه لا يُسمى أرضاً إلاّ مجازاً، من جهة كونه مصنوعاً منها.
وأما إذا كانت الحقيقةُ مهجورةً فإن المجازَ يُصبحُ حقيقةً عرفيةً، فتُقدَّمُ على الحقيقة اللُّغوية المهجورة، كمَن حلف لا يأكلُ من هذه النخلة، فيُحمَلُ على الأكل من ثمرها لا من خشبها.
وإذا كان المجازُ غالباً على الحقيقة مع بقاء استعمال اللفظ في حقيقته، ففيه خلافٌ، ليس هذا موضع بسطه.
2ـ ترجيحُ الحقيقةِ الشرعية على الحقيقة اللُّغوية :
مثاله : حملُ لفظ الصلاة في قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تقبل صلاة بغير طَهورٍ » (مسلم عن ابن عمر) على الصلاة الشرعية، ذاتِ القيام والركوع والسجود، دون الدعاءِ الذي هو معنى الصلاة في اللُّغة.
وحملُ لفظ الزكاة على المعنى الشرعيّ المعروف، دون المعنى اللُّغويّ، الذي هو النماءُ والزيادةُ، في مثل قوله تعالى : { } [البقرة110].
3ـ تقديمُ الحمل على المجاز على الحمل على الاشتراك :
لأن المجازَ يُمكنُ العملُ به، بخلاف المشترَك فيجبُ التوقُّفُ فيه على البيان، ولأن المجازَ أكثرُ وقوعاً في اللُّغة من الاشتراك.
مثاله : لفظ النكاح في مثل قوله تعالى : { } [النساء22].
فإنه يحتمل أن يكون مشتركاً بين الوطء والعقد، ويحتمل أن يكون مجازاً في العقد. فمن جعله مشتركا إما أن يجعله عاما فيهما كالشافعي لعدم التنافر بين المعنيين، وإما أن يتوقف فيه ويطلب البيان من غيره. ومن حمله على العقد مجازا جعل عقد الأب على المرأة يحرّمها، دون الوطء بالزنا. والقاعدة تؤيده؛ لأن المجاز أولى من الاشتراك.
ومثّل القرافي باحتجاج المالكي على بيع الغائب بقوله تعالى : { } [البقرة275].
فيعترض بكونه مشتركاً بين المحرمة والمباحة، ويجاب بأن إطلاقه على المحرّمة مجاز، والحمل على المجاز أولى من الحمل على الاشتراك.
4ـ تقديمُ المعنى الذي لا يحتاج إلى إضمارٍ على المعنى الذي يحتاج إلى إضمارٍ:
مثاله : تقديمُ ابنِ حزمٍ تركَ الإضمار في قوله تعالى : { } [البقرة184]، ولم يضمرْ (فأفطر)، كما أضمرَ الجمهور، فالقاعدة تؤيِّدُه، لولا ما نقلوه من النصّ والإجماع على صحّة صوم المسافر إذا صام.
ومن الأمثلة الصحيحة : أن الجمهورَ حملوا حديث : «ذكاةُ الجنين ذكاةُ أمه» (رواه الخمسة إلا النسائي عن أبي سعيد) على أن ذكاةَ أمه تكفي عن ذكاته. والحنفية قالوا لا بدَّ أنْ نُضمر(مثل)؛ ليكونَ المعنى : مثل ذكاة أمه، وترك الإضمار أولى من الإضمار.
5ـ تقديمُ التأسيس على التأكيد:
والمرادُ بالتأسيس : حملُ الزيادة في اللّفظ على زيادة المعنى.
والتأكيدُ : حملُ الزيادة على تأكيد المعنى السابق.
مثاله : إذا قال الرجلُ لزوجته : أنتِ طالقٌ طالقٌ. فهل يُحمَلُ على التأكيد فلا تقعُ إلاّ واحدةً، أو على التأسيس فتقعُ طلقتان.والقاعدة تُؤيِّدُ الاحتمالَ الثاني عندمن لا يعتبر النية.
الترجيحُ بين المعقولين :
الترجيحُ بين المعقولين يُقابلُ الترجيحَ بين المنقولين.
والمراد بالمعقولين : الأقيسةُ وطرقُ الفقه الأُخرى، التي ليست بنقلٍ ولا قياسٍ، ويُسميها بعضُهم الاستدلالَ، ويَدخل فيها الاستصحابُ بأنواعه، والاستصلاحُ، والاستقراءُ عند مَن يرى حجيته.
ولكن المقصودَ هنا هو الترجيحُ بين الأقيسة، وأما الترجيحُ بين أنواع الاستصحاب فيُعرف عندَ الكلام عنه، وكذلك الاستصلاحُ، والاستقراءُ.
وقد ذكر الأصوليون كثيراً من طرق الترجيح بين الأقيسة، بعضُها يرجع إلى ترجيح حكمِ الأصل في أحد القياسَين على حكم الأصل الآخَر، أو ترجيحِ دليلِ حكم الأصل على دليل حكم الأصل الآخَر.
ويذكرون فيه طرقَ الترجيح بين الأدلة المنقولة التي تقدَّم ذكرُ أهمِّها، ثم يزيدون عليها طرقَ الترجيح بين العلل.
ويُعَدُّ الآمديُّ من أكثر الأصوليين توسُّعاً في عدِّ طرق الترجيح بين الأقيسة، فقد ذكر في الترجيح العائد إلى حكم الأصل ستةَ عشرَ طريقاً، وفي الترجيح العائد إلى العلة خمسة وثلاثين طريقاً، وفي الترجيحات العائدة إلى الفرع أربعةَ طرقٍ. والذين جاءوا بعدَه أخذوا عنه.
ومع كثرة ما ذكره من طرق الترجيح لم يُمثّلْ لها، وكذلك غيرُه من الأُصوليين لم يُعنوا بالتمثيل لطرق الترجيح.
والمتأمِّل لتلك الطرق يجدُ أنها لم تستوعبُ جميعَ الاحتمالات الممكنة في التعارُض؛ لأن بعضَ الأقيسة قد تكونُ فيه صفةٌ تُميِّزه، والآخَرُ فيه صفةٌ أخرى تُميِّزه. وقد تكون في أحد الأقيسة صفتان، وفي الآخَر صفتان أو ثلاث.
ولا يُمكنُ الترجيحُ بين الأقيسة حتى نُبيِّنَ ما الذي يجبُ النظرُ فيه أولاً من أركان القياس؟
فهل ننظرُ أولاً في حكمِ الأصل ودليلِ ثبوته، بحيثُ إذا ترجّحَ دليلُ الثبوت في أحد القياسَين يكونُ هو الراجحُ؟
وهل يُمكنُ أنْ نجعلَ النظرَ أولاً في العلَّة، فإذا ترجّحتْ ترجّحَ القياسُ المبنيُّ عليها؟
وحتى لو سلَّمنا أحدَ هذين الاحتمالين فإن للترجيح بين الأصلين وبين العلّتين طرقاً كثيرةً. فنحتاجُ إلى معرفة ما يُقدَّمُ منها على الآخَر.
وهذا الإشكالُ لا سبيلَ إلى حلِّه إلاّ بأنْ نجعلَ الأمرَ متروكاً للمجتهد، فينظرَ في مجمَل هذا القياس؛ بأصلِه، وعلَّتِه، وفرعِه، فيُقوِّمه، ثم ينظر في القياس الآخَر؛ بأصلِه، وعلَّتِه، وفرعِه، فيُقوِّمه، ثم يُقدِّم ما يراه راجحاً، مستفيداً مما يذكره الأصوليون من طرق الترجيح في الجملة.
ولعلَّ ورودَ هذا الإشكال في أذهان الأصوليين المتقدِّمين هو الذي حال بينهم وبين التمثيل لما يذكرونه من طرق الترجيح؛ لأن مَن أراد أنْ يُمثِّلَ لتقديم القياس الذي أصلُه ثبت بدليلٍ قطعيٍّ على القياس الذي ثبتَ أصلُه بدليلٍ ظنّيٍّ، يصعُبُ عليه أنْ يراعيَ ترجيحَ العلَّةِ في القياس الأول على العلّة في القياس الثاني، فقد يكونُ القياسُ ثبت أصلُه بدليلٍ قطعيٍّ، ولكن علّتَه شبَهيةُ وليستْ مُناسِبةً. وقد تكون علّتُه اسماً لا وصفاً، وقد تكونُ مركَّبةً من أوصافٍ لا مفرَدةً.
وهكذا لا يستطيعُ أنْ يُمثِّلَ برجحان هذا القياس على ذاك؛ لرُجحان أصله وحده، أو دليل أصله وحده، أو علّته وحدها. ولكن الترجيحَ لجملة قياسٍ على قياسٍ.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن كثيراً من طرق الترجيح مختلَفٌ فيها، تأيَّدَ ما ذكرناه من أن الترجيحَ يرجعُ إلى قوَّة الظنّ لدى المجتهد من أيّ طريقٍ حصلت.
وأن ما يُذكَرُ من طرقٍ إنما هو لمساعدة المجتهد على استذكار طرق المفاضلة بين الأقيسة. قال الزركشيُّ : « واعلم أن التراجيحَ كثيرةٌ، ومناطُها ما كان إفادتُه للظن أكثرَ فهو الراجحُ » ( ).
وحيثُ إن العلةَ هي أهمُّ أركانِ القياس فإن أكثرَ طرق الترجيحِ ترجِعُ إلى ترجيح علةٍ على علةٍ أخرى، وقد قصر بعضُ الأصوليين كلامَه في هذا الموطن على الترجيح بين العلل.
وفيما يلي أهم طرق الترجيح بين الأقيسة :
1- تقديمُ القياس في معنى الأصل على قياس العلّة وقياس الشَّبَه :
مثل : تقديم قياس العبد على الأمة في تنصيف الحدّ، على قياسه على الحر الذكر بجامع الذُّكورة؛ لأن القياسَ الأولَ قياسٌ في معنى الأصل، لعدم الفارق المؤثِّر بين العبد والأمة.
2- تقديمُ قياس العلة على قياس الشَّبَه وقياس الطَّرْد :
مثل : تقديمُ قياس (البيرة) المُسكِرة على الخمر بعلّة الإسكار على قياسها على عصير التفاح؛ للتشابُه بينهما في الصورة والشكل.
3- تقديمُ القياس الذي علّتُه مطَّرِدةٌ منعكِسةٌ على القياس الذي علّتُه ليست كذلك:
مثاله : تقديمُ تعليل الشافعيّ الربا في الأصناف الأربعة المذكورة في الخبر (البرُّ، والتمرُ، والشعيرُ، والملحُ) بالطُّعم، على تعليل مَن علّله بالكيل كالحنفية وأحمدَ في روايةٍ؛ لأن تعليلَ الشافعيّ يشملُ القليلَ والكثيرَ، والتعليلُ بالكيل لا يَشملُ الشيءَ اليسيرَ الذي لا يُكالُ.
وكذلك تقديمُ التعليل بالطُّعم على التعليل بالاقتيات؛ لأن من الأصناف الأربعة ما ليس قوتاً، وهو الملح.
وينبني على ذلك تقديم القياس الذي ترجح علته.
4- تقديمُ القياس الذي علَّتُه منصوصة أو مومأ إليها على غير المنصوصة وغير المومأ إليها:
مثاله : تقديمُ قياس الشافعية التين على البرّ في تحريم التفاضُل بجامع الطُّعم على قياس غيرهم التين على القَصَب بجامع عدم الكيل.
فعلّة الطَّعم منصوصٌ عليها أو مومأٌ إليها، كما يقول الشافعيةُ في قوله صلى الله عليه وسلم: « لا تبيعوا الطعامَ بالطعام إلاّ مثلاً بمثلٍ ».
5- تقديمُ القياس الذي علّتُه مُثبتةٌ على الذي علَّتُه نافية:
ويصلُح المثالُ السابقُ له؛ لأن علّةَ الطُّعم مُثبِتةٌ، وعلّةَ عدمِ الكيل نافية.
6- تقديمُ القياس الذي ثبت حكمُ أصله بالنصّ على الذي ثبت حكم أصله بالظاهر:
مثاله : تقديمُ قياس المذي على البول في النجاسة على قياس المذي على المنيّ؛ لأن نجاسةَ البول ثبتتْ بالنصّ، كقوله صلى الله عليه وسلم : « تنزَّهوا من البول؛ فإن عامَّةَ عذاب القبر منه » (الدارقطني عن أنسٍ)، وحديث : « إنهما ليُعذَبان، وما يُعذَبان في كبيرٍ، أما أحدُهما فكان لا يستنزه من البول » (متفق عليه عن ابن عباس).
وكذلك الإجماع قائمٌ على نجاسة بول الآدميّ.
وأما المنيُّ فطهارتُه ثابتةٌ بالظاهر؛ حيث كانت عائشةُ رضيَ الله عنها تحُتُّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، وتغسلُه إذا كان رطباً (رواه مسلم، وأصله متفق عليه).
وهذا لا يرتقي إلى درجة النصّ الصريح.
7- تقديمُ القياس الموافق للأصول الثابتة في الشرع على ما ليس له إلاّ أصلٌ واحدٌ:
مثاله : ترجيحُ قياس الجنايةٍ على العبد على سائر الإتلافات التي تحدث من الإنسان؛ على قياسها على دية الخطأ في كون ديته على العاقلة؛ لأن جعْلَ ديةِ الخطأ على العاقلة أصلٌ واحدٌ لا نظيرَ له في الشرع، وجعْلُ الإتلافات المالية على الفاعل تشهدُ له أصولٌ كثيرةٌ في الشرع، فكان القياسُ عليها أولى.
8- تقديمُ القياس الموافقِ لظاهر قرآن أو سنةٍ أو قول صحابيٍّ على ما ليس كذلك:
مثل : ترجيح قياس جراح العبد على الإتلافات المالية المذكورة في المثال السابق على قياسه على دية الخطأ؛ لكون الأول متأيِّدا بظاهر قوله تعالى : { } [فاطر18].
ومثل : تقديم قياس الاستصناع على البيع والإجارة على قياسه على بيع المجهول؛ لأن الأولَ متأيِّدٌ بعمل الصحابة.
وكذا قياسُ الأجير المشترَكِ على المشتري أو المستعير في ضمان ما تلف عنده بجامع القبض لمصلحته، على قياسه على المؤتمن في عدم الضمان، والأول متأيِّدٌ بفعل علي ، وسكوتِ مَن حضر من الصحابة رضيَ الله عنهم.
الباب الخامس
الاجتهـــاد
تعريفه :
الاجتهاد في اللغة : بذل الجهد، والجهد هو الوسع والطاقة.
وفي الاصطلاح هو : بذل الوُسع في إدراك حكمٍ شرعيٍّ بطريق الاستنباط ممن هو أهلٌ له.
وإنما قُيِّد بكونه (بطريق الاستنباط)؛ ليخرجَ بذلُ الوُسع لإدراك الحكم الشرعيِّ بحفظ متون الفقه، أو بحفظ النصوص الشرعية الدالّة صراحةً على الحكم.
فهذا العملُ – وإنْ كان اجتهاداً في اللُّغة – لكنه ليس اجتهاداً في الاصطلاح.
والمتقدِّمون قد يُطلقون اسمَ الاجتهاد على القياس الشرعيّ، وقد يُطلقونه على ما يغلبُ على الظنّ عن طريق الخبرة والتجرِبة، كالاجتهاد في جهة القبلة، ومقدارِ النفقة الواجبة للزوجة مثلاً.
أركانُ الاجتهاد :
للاجتهاد ثلاثةُ أركانٍ، هي :
1- المجتهِد : وهو الفقيه المستوفي للشروط الآتي ذكرُها.
2- المجتهَد فيه : وهو الواقعةُ المطلوبُ حكمُها بالنظر والاستنباط، لعدم ظهور حكمها في النصوص، أو لتعارض الأدلّة فيها ظاهراً.
3- النظرُ وبذلُ الجهد : وهو فعلُ المجتهد الذي يتوصَّلُ به إلى الحكم.
الاجتهادُ في عصر الصحابة والتابعين وكبار الأئمة:
في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو المرجع في الفتوى، ومع ذلك لم يكنْ بابُ الاجتهاد موصَداً أمام الصحابة رضوانُ الله عليهم، بل كانوا يجتهدون في غيابهم عنه، فإذا جاءوه عرضوا عليه اجتهادَهم، كما فعلوا عندما بعثهم إلى بني قُريظةَ، وقال : « لا يُصلّينَّ أحدٌ العصرَ إلاّ في بني قُريظةَ » (أخرجه البخاري ومسلم، وهذا لفظ البخاري)، فجاءهم وقتُ العصر، فقال بعضُهم : لم يُردْ منّا أنْ نُؤخِّرَ الصلاةَ، وإنما أرادَ استعجالَنا.
وقال آخرون : بل نأخذُ بظاهر النصِّ، ولا نُصلِّي حتى نصل بني قُريظةَ، ولو غربت الشمس، فعمل كل فريق باجتهاده، ولم يعنف الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا منهم.
وأما بعدَ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد اشتهر اجتهادُ الصحابة، ونُقل إلينا أكثرُه.
ومن ذلك : أن ابن عباس رضي الله عنه كان لا يرى العولَ في الفرائض، خلافاً لأكثر الصحابة الذين قاسوه على ضيق التركة عن سداد الدَّين وتوزيعها على الغُرماء، كلٌّ بحسب دَينه، بحيثُ ينقُصُ ما يأخذُه كل منهم بمثل نقص التركة عن مجموع الدَّين.
وفي عهد التابعين ازدادت الحاجةُ إلى الاجتهاد؛ لكثرة الوقائع، واختلاطِ المسلمين بأُمم أُخرى.
ولقد تأثّرَ اجتهادُ التابعين باجتهاد مَن تفقَّهوا عليه من الصحابة، فكان أهلُ العراق أكثرَ أخذاً عن ابن مسعودٍ وعلي، رضي الله عنهما. وأهلُ المدينة أكثر تأثُّراً بابن عمر.
ونشأ على إثر ذلك ما عُرف بمدرسة أهل المدينة، أو أهل الحديث، ومدرسة أهل العراق أو أهل الرأي.
وفي عهد كبار الأئمة كأبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيّ وأحمدَ أخذت المذاهبُ الفقهيةُ يتميّزُ بعضُها عن بعضٍ، فلم تَعُدْ مدرسةُ الرأي على مذهبٍ واحدٍ، ولا أهلُ الحديث على مذهبٍ واحدٍ، ولم يكنْ أهلُ الرأي معزولين عن الحديث، ولا أهلُ الحديث رافضين للرأي بالكلّيّة.
شروط الاجتهاد
لقد أكثر الأصوليون الكلامَ في شروط الاجتهاد، فمنهم المتشدِّدُ في الشروط، ومنهم المتساهلُ، ومنهم المتوسِّطُ.
وسأقتصر على ذكر الشروط التي قام الدليلُ على اشتراطها، وهي :
1- الإسلام :
فغيرُ المسلم مهما بلغ من العلم بعلوم الشريعة – لا يُقبلُ اجتهادُه؛ لقوله تعالى : { } [آل عمران100].
2- العقل :
لأن المجنونَ لا يُقبلُ قولُه على نفسه، فكيف يُقبَلُ في الفتوى والاجتهاد؟!
3- البلوعُ :
لقوله صلى الله عليه وسلم : « رُفع القلمُ عن ثلاثةٍ » وذكر منهم « الصبي حتى يحتلم » (أخرجه أبو داود والنسائي عن عائشة وصححه الحاكم).
وإذا أمن العقوبةَ لم يُؤمنْ عليه الكذبُ والتساهلُ.
4- معرفةُ الآيات والأحاديث الدالة على الأحكام بطريق النصّ أو الظاهر، ومعرفة ما يصِحُّ من تلك الأحاديث وما لا يصِحُّ.
أما الآياتُ والأحاديثُ الدالّةُ بطريق الإشارة أو مفهومِ المخالفة، ونحوِهما من طرق الدلالة الخفيّة، فلا يُشترَطُ معرفتُها، كما لا يلزمُ معرفةُ أكثر من دليلٍ واحدٍ على الحكم، إذا لم تكنْ في الدليل الآخَر زيادةُ حكمٍ تتعلَّقُ بشروطه أو قيوده، ونحو ذلك.
والدليلُ على اشتراط هذا القدر : أن مَن اجتهد قبلَ تحصيله فقد يُخالفُ المنصوصَ عليه في القرآن أو السنة، فيكونُ اجتهادُه باطلاً.
وأما الدليلُ على عدم اشتراط ما زاد على ذلك فهو: أن الصحابةَ كانوا يجتهدون مع غفلتهم عن بعض ما دلّ عليه القرآن بطريق الإشارة أو الالتزام، ولم يكن اجتهادُهم واقعاً ممن ليس أهلاً.
ولما عُرفَ عنهم من أنهم يعذرون المخطئَ إذا لم يكن الدليلُ ظاهراً قوياّ، ولعلَّ هذا مأخذَ الذين حدّدوا آياتِ الأحكام بخمسمائة آيةٍ.
قال ابن دقيق العيد : « ولعلَّهم قصدوا بذلك الآياتِ الدالةَ على الأحكام دلالةً أوّليّةً بالذات، لا بطريق التضمُّن والالتزام » ( ).
ومما يُؤيِّدُ ما ذكرته أن الإحاطةَ بكلِّ ما في القرآن من المعاني ليس ممكناً، فلو اشترطنا ذلك لما تمكن أحدٌ من الاجتهاد.
5- معرفة الناسخ والمنسوخ من الأحكام الواردة في القرآن والسنة :
لأنه لو لم يًعرف ذلك لأفتى بالحكم المنسوخ وعمل به، وهو لازمُ باطلٌ ، فيبطُل ملزومُه، الذي هو عدمُ اشتراط ذلك، ويكفي أنْ يعرفَ أن الدليلَ الذي استدلّ به ليس منسوخاً.
6- معرفةُ مواطن الإجماع حتى لا يخالفَها :
لأن مخالفةَ الإجماع محرَّمةٌ. ويكفي أن يعرفَ أن المسألةَ التي ينظر فيها ليست من مسائل الإجماع ولا ينبني حكمُها على مسألةٍ مجمَعٍ عليها.
7- أنْ يعرفَ بقيّةَ الطرق الموصلة إلى الفقه وكيفية الاستدلال بها :
فيعرفُ القياسَ، والاستصحابَ، والاستصلاحَ، والأعرافَ والعوائدَ في الأحكام المبنيّةَ عليها؛ وذلك لأن النصوصَ والإجماعَ لا يُمكنُ أنْ تُحيطَ بكلّ الوقائع، فوجبَ أنْ يعرفَ طرقَ الفقه فيما لا نصَّ فيه ولا إجماع.
ولمّا كانت بعضُ الأحكام مردُّها إلى العادات والأعراف وجب معرفتُها لمن رام الاجتهادَ فيها.
8- أنْ يكونَ عارفاً بدلالات الألفاظ، خبيراً بما يصحُّ من الأساليب وما لا يصِحُّ :
لأن القرآن نزل بلغة العرب، ومَن لا يعرفُ لغةَ العرب لا يُمكنُ أنْ يفهمَ ما في الكتاب والسنة على الوجه الصحيح.
9- أنْ يكونَ عارفاً بمراتبِ الأدلّة، وطرقِ الجمعِ بينها، وطرقِ الترجيحِ عندَ التعارُض :
وذلك لأن مواضعَ الاجتهادِ – غالباً – تتعارضُ فيها الأدلّةُ في أنظار النُّظّار، فإن لم يكنْ له درايةٌ بطرق الجمع والترجيح لم يستطع الاجتهاد، بل سيحتارُ ويتوقّف.
وقد اكتفى بعضُهم عن هذا الشرط واللذين قبلَه باشتراط معرفة أصول الفقه. ولكن لما كان مصطلحُ أصول الفقه يشملُ أموراً أخرى غيرَ هذا لم أرتض الاكتفاءَ به.
10- العدالةُ :
وهي شرطٌ لقَبول الاجتهاد والاعتدادِ به، فمن ليس عدلاً مقبولَ الرواية لا يُقبلُ قولُه في الشرع، كما لا يُقبلُ خبرُ مَن ليس عدلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الفُتيا خبرٌ عن حكم الله تعالى.
تجزُّؤُ الاجتهاد
المقصود بتجزئة الاجتهاد : أنْ يكونَ الفقيهُ مجتهداً في بابٍ من أبواب الفقه دون غيره، أو في مسألةٍ دون مسألةٍ.
وهذه المسألةُ من المسائل التي طال كلامُ الأصوليين فيها، ويُمكنُ تلخيصُه فيما يلي :
1 ـ ليس من محلّ النزاع أنْ يجتهدَ في مسألةٍ فقهيةٍ مَن لم تتوافرْ فيه شروطُ الاجتهاد العامّة، وهي : معرفةُ العربية، ودلالات الألفاظ، والقدرة على الاستنباط، ومعرفةُ ما يحتاج إليه في المسألة من أصول الفقه. فمن لم يحصل هذه الشروط لا يُمكنُ أنْ يُعدَّ مجتهداً في شيءٍ من مسائل الفقه.
ولهذا قال ابنُ الزملْكانيّ : « فما كان من الشروط كلّياً، كقوّةِ الاستنباط، ومعرفةِ مجاري الكلام، وما يُقبَلُ من الأدلّة، وما يُردُّ، ونحوِه، فلا بدَّ من استجماعه بالنسبة إلى كلّ دليلٍ ومدلولٍ، فلا تتجزّأ تلك الأهليّةُ » ( ).
وإنما موضعُ النزاع أن مَن له قدرةٌ على النظر في الأدلّة والاستنباط منها، وحصّل الشروطَ العامّةَ للاجتهاد إذا لم يُحطْ بأدلّة الفقه كلِّها، هل له أنْ يجتهدَ في المسائل التي أحاط علماً بأدلّتها؟
2 ـ أخرج بعض الأصوليين عن محل النزاع تجزؤ الاجتهاد بالنسبة للمسائل في الباب الواحد، وقصر الخلاف على التجزؤ بالنسبة للأبواب. والصواب : شمول الخلاف للكل.
الأقوال :
قال جمهور العلماء : من حصل الشروط العامة له أنْ يجتهدََ في المسألة المستقلّة، إذا أحاط بأدلّتها، وقدر على النظر فيها، ولو لم يستطع الاجتهاد في مسألة أخرى لقصوره عن الإحاطة بأدلتها.
واستدلوا على ذلك بأن أكثرَ العلماء كانوا يتوقّفون في بعض المسائل، مما يدلُّ على أنهم لم يُحيطوا بأدلّتها، ويُفتون في غيرها لإحاطتهم بأدلّتها.
وذهب بعضُ العلماء إلى أن الاجتهادَ لا يتجزأُ، ومَن لم يُحطْ بأدلّة الفقه على الوجه الذي ذكرناه في شروط الاجتهاد ليس له أنْ يجتهدَ في بابٍ أو مسألةٍ.
وهذا القولُ منقولٌ عن أبي حنيفةَ، ولم ينصَّ عليه، ولكنهم أخذوه من قوله في تعريف الفقيه : « مَن له مَلَكَةُ الاستنباطِ في الكلّ »، فأخذوا من قوله : (الكلّ) أنه إذا قدِرَ على الاستنباط في البعض لا يُعدُّ فقيهاً مجتهداً، وقالوا : إن مَلَكَةَ الاجتهاد لا تتجزأُ، فمَن حصلتْ له فهو المجتهدُ، ومَن لا فلا.
واختار هذا القولَ الشوكانيُّ في « إرشاد الفحول ».
ودليلُه : أن مسائلَ الفقه متّصلٌ بعضُها ببعضٍ كسلسلةٍ متّصلةِ الحلَقات، ولا يُمكن أنْ يُحيطَ بأدلّة مسألةٍ ما لم يُحطْ بأدلّة المسائل الأخرى.
وذهب بعضُ العلماء إلى أنه يتجزأُ بالنسبة للأبواب لا بالنسبة للمسائل في الباب الواحد.
ودليلهم : أن المسائلَ في الباب الواحد مداركُها متّصلٌ بعضُها ببعضٍ، وأما الأبوابُ فليستْ كذلك.
والذي يظهر لي : أنه يجوز أنْ يتجزأَ الاجتهادُ، على المعنى الذي ذكرته سابقاً، بالنسبة للمسائل التي تكلَّم فيها الفقهاءُ السابقون دون النوازل. وذلك لأن المسائلَ التي اشتهر كلامُ الفقهاء فيها قد حُصرتْ أدلّتُها أو أغلبُها، فأمكنَ أنْ يطّلعَ عليها مَن لم يُحطْ بأدلّة الفقه كلِّها أو أغلبها، وأن يرجح ما يراه راجحا منها.
وأما مسائلُ النوازل فلم يشتهر البحثُ فيها، ولا يُمكنُ لمن لم يُحطْ بأكثر أدلّة الأحكام في جميع الأبواب أنْ يجتهدَ فيها.
هذا بالإضافة إلى أن كثيراً من النوازل لا يعرفُ حكمَها مَن لم تتكونْ عنده ملَكَةٌ فقهيةٌ كاملةٌ، وهي لا تحصلُ بمعرفة بعض المسائل أو الأبواب.
وتظهر ثمرةُ الخلاف : في الاعتداد بقول مَن لم يُحطْ بأكثر الأدلّة، وفي جوازِ فتواه، والعملِ بها من قِبَل العامّة، وانعقادِ الإجماعِ مع خلافه وعدمه.
اجتهادُ الرسول صلى الله عليه وسلم واجتهاد الصحابة في عهده
تكلّم الأصوليون في مسألتين، يُعدُّ الكلامُ فيهما كنقل السيرة، لا يترتّبُ عليه فروعٌ فقهيةٌ، وإنْ كان لا يخلو من فوائدَ.
والمسألتان هما : مسألة اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسألة اجتهاد الصحابة في عهده، ولنتكلم عن كل منهما باختصار.
1 ـ مسألةُ الاجتهاد من النبيّ صلى الله عليه وسلم :
والجمهور على أنه قد يجتهدُ، إذا لم يأته وحيٌ، وقد يتوقّفُ إلى نزول الوحي.
وإذا اجتهد : فمنهم مَن يقول : إنه مسدَّدٌ للحقِّ لا يُمكنُ أنْ يُخطئَ في اجتهاده.
ومنهم من يقول : إنه قد يُخطئُ في إصابة الحقّ، ولكن اللهَ يُصوِّبُه حالاً ويُبيّنُ له الحقَّ.
والنصوص التي تدلُّ على القول الأخير أصرحُ، كقوله تعالى : { } [التوبة43]، وقوله تعالى : { * * } [عبس1-3]، وقوله تعالى : { } [الأنفال67]، وغير ذلك، ففي هذه الآيات عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم من الله، ولا يعاتبه إلا على الخطأ.
وليس في هذا انتقاصٌ لمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما فيها دليلٌ على بشريّته، ودليل على صدقه وأمانته؛ حيث بلغ الأمة خطأه وتصويب الله له.
وأما قوله تعالى : { } [النجم3] فإن المنفيَّ النطقُ عن هوى، والاجتهادُ ليس كذلك. وقولُه : { } [النجم4] يرجع إلى القرآن.
2 ـ مسألة اجتهادِ الصحابة في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم :
وهذه المسألة اختُلف فيها على أقوالٍ، والصحيحُ منها – إن شاء الله – أن اجتهادَ الصحابة في غيابهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أو في حضوره بإذنه جائزٌ وواقعٌ، وما عدا ذلك فليس اجتهاداً.
والدليلُ على وقوع الاجتهاد من الغائب عن مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم : اجتهادُ الصحابة الذين بعثهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، وقال لهم : « لا يُصلِّينَّ أحدٌ العصرَ إلاّ في بني قريظة ». وقد تقدّم ذكرُه.
وكذلك اجتهادُ عليّ حينما بعثه إلى اليمن قاضياً في وقائعَ حدثت له. واجتهادُ عمارَ في التيمم للجنابة (متفق عليه).
وأما للحاضر بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم : فمثاله : اجتهادُ سعدِِ بنِ معاذٍ في الحكم على بني قريظة (متفق عليه عن أبي سعيد)، واجتهادُ عمرو بن العاص بإذنه (أخرجه أحمد والدارقطني والحاكم).
وأما الدليلُ على منع الحاضر إذا لم يُؤذنْ له فقولُه تعالى : { } [الحجرات1]، والاجتهادُ في مسألةٍ شرعيةٍ بحضرته بلا إذنٍ من التقدُّمِ بين يديه.
وأما قول أبي بكر لمن طلب سلَبَ القتيل الذي قتله أبو قتادةَ: لا ها الله! إذاً لا يعمدُ إلى أسد من أُسْد الله يُقاتل عن الله وعن رسوله فيُعطيك سلَبَه. (متفق عليه عن أبي قتادة) فليس اجتهاداً، بل أخذاً بالنصّ، فإن الرسولَ صلى الله عليه وسلم كان قد قال : « مَن قتل قتيلاً له عليه بينةٌ فله سلَبُه » (متفق عليه وهو طرفٌ من حديث أبي قتادة السابق)، وهو وعدٌ من الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس من عادته إخلافُ وعده، أو هو قضاءٌ سابقٌ ولم ينقُضه.
وقد نصَّ الرازيُّ وبعضُ الأصوليين أن المسألتين لا ثمرةَ لهما.
ومع ذلك فإنهما لا تخلوان من الفوائد، وإنْ لم تكنْ متفرِّعةً عنهما أو عن أحدِهما، ولهذا أُخذ من المسألتين حكمُ الرجوع إلى الظنّ مع إمكان اليقين، فأجازه مَن أجاز الاجتهادَ في المسألتين، ومنعه مَن منعه. وذلك مثل الوضوء من الماء الذي يغلبُ على الظنِّ طهارتُه، مع كونه على شاطئِ البحر، بحيثُ يتمكّنُ من الوضوء من ماء البحر المقطوع بطهارته. والإفطارُ بناءً على سماع الأذان أو النظر للساعة دون الخروج لرؤية غروب الشمس، ونحو ذلك من المسائل.
ولا يبعُدُ أنْ يكونَ للخلاف في اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم صلةٌ بحجّية الفعل المجرَّد من الرسول صلى الله عليه وسلم.
المصيبُ في مسائل الاجتهاد واحدٌ
هذه من المسائل التي طال البحثُ فيها، وتفرّع عنها بعضُ مسائل الاجتهاد الأخرى، وتُسمّى مسألةَ : « التصويب» أو « تصويب المجتهدين ». وقد عنون لها بعضُهم بنحو هذا العنوان.
وعنون لها بعضُهم بقوله : هل الحقُّ يتعدّدُ في مسائل الاجتهاد؟
وقال بعضُهم : هل لله في كلّ واقعةٍ حكمٌ معيّنٌ؟
ومحلُّ النزاع : إنما هو في المسائل الاجتهادية العملية، أما المسائل العملية القطعية، والعلمية الاعتقادية، فإن المصيبَ فيها واحدٌ، باّتفاقٍ، والحقُّ فيها لا يتعدّدُ.
ولم ينقلوا فيها خلافاً إلاّ عن القاضي العنبريّ، فإنه نُقل عنه قوله : كلُّ مجتهِدٍ في الأصول مصيبٌ. وعن الجاحظ مثلُ ذلك.
وقد حمله بعضُهم على تعدُّد الحقّ في المسائل العلمية الخبرية، وهو مخالفٌ لبدائه العقول؛ إذْ لا يُمكنُ أنْ يقولَ عاقلٌ إن اللهَ يُمكنُ أنْ يوصَفَ بهذه الصفة وبعدمها، وأن هذا الشيءَ واقعٌ وغيرُ واقعٍ.
وحمله بعضُهم على أنه لا يُؤَثّمُ المخطئُ من الكفار إذا بذل جهدَه في طلب الإيمان بالله فلم يصلْ إليه.
وحمله المحققون على أنه خاصُّ بالمجتهدين من أهل الملّة، إذا بذلوا جهدهم في إدراك الحقّ في مسائل الأصول أو الفروع، فأخطأوا، فإنهم لا يأثمون. ففسروا قولَه بالتصويب بأن المرادَ نفيُ الإثم.
وقد صحّح هذا التفسيرَ ابنُ تيميةَ، ودافع عن العنبريّ ـ وانتصر له، وقال: « إن المخطئَ من مجتهدي المسلمين مأجورٌ، سواء كان الخطأُ في الأصول أو الفروع، إذا بذل جهدَه ولم يصلْ إلى الحقّ ».
قال رحمه الله : « ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع، بل جعل الدين قسمين : أصولا، وفروعا، لم يكن معروفا في الصحابة والتابعين، ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين إن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع... وحكوا عن عبيد الله العنبري أنه قال : كل مجتهد مصيب، ومراده : لا يأثم، وهذا قول عامة الأئمة كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما » ( ).
والخلاصةُ : أن الكلامَ في مقامين :
الأول : هل يُقال لكلٍّ من المختلفين : إنه مصيبٌ؟
الثاني : هل يأثمُ إذا خالف ما هو الحقّ عند الله؟
فأما في المقام الأول : فإن المسائلَ العلميةَ الخبريةَ لا يُمكنُ أنْ يتعدّدَ الحقُّ فيها، فيكونَ الصوابُ مع كلٍّ منهما؛ إذْ لا يقول عاقلٌ إن اللهَ موصوفٌ بصفة الرحمة، وغير موصوفٍ! وإن اللهَ قد كتب السعادةَ أو الشقاءَ على الإنسان، ولم يكتبها! لوجود التناقُض الممتنع عقلاً.
وعلى ذلك : فإن مَن قال في شيءٍ من مسائل الاعتقاد : إن كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ، فلا يُحمَلُ قولُه على تعدُّد الحقّ فيها؛ لامتناعه عقلاً، وإنما يُحملُ على أنه معذورٌ في خطئه إذا لم يُخالفْ قاطعاً، وأما إذا خالف قاطعاً من غير تأويلٍ، فإنه يكونُ مقصِّراً.
والجمهور على تأثيمه إذا خالف دليلاً قطعياً، وعذرِه إذا خالف ظنّيّاً.
ولا خلافَ في تأثيم الكفار؛ لورود النصوص القطعية بذلك، كقوله تعالى: { } [فصلت23]، وقوله : { * * } [الكهف103-105].
وما نُقل عن العنبريّ لا يصحُّ؛ لأن كلامه في أهل القبلة.
وأما الجاحظ فليس من أهل الاجتهاد، فلا يُعتدُّ بقوله.
وأما المسائل العملية : فإن كانت قطعية، أي : قام عليها دليل قطعي، فالحق ما قام عليه الدليل؛ إذ لا يمكن مخالفة الدليل القطعي.
وأما العملية الظنية : فإن العقل لا يمنع من تصويب المختلفين فيها. ولذلك اختلفوا فيها أيقال: الجميع مصيبون أم المصيب واحد؟
والثاني أرجحُ، والدليلُ عليه من وجوهٍ :
1- أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سمّى أحدَ المجتهدَين مصيباً، والآخَرَ مخطئاً، فقال : « إذا حكم الحاكمُ فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجرٌ »، (متفق عليه)، فسمّاه مخطئاً.
2- أنه لو كان الجميعُ مصيبين مع اختلافِهم، لما كانتْ هناك حاجةٌ إلى المناظرة والاستدلالِ على المخالف؛ لأن الخلافَ يكونُ من باب اختلاف التنوُّع، والإجماعُ على خلاف ذلك.
3- أنه لو كان الحقُّ يتعدّدُ للزم اجتماعُ الضدّين في بعض صور الاجتهاد، كما إذا طلّق زوجتَه ثلاثاً، وهو ممن يرى الثلاث واحدةً، وهي ممن يرى الثلاثَ ثلاثاً، فهل يُقالُ له: لا تُفارقْها، ويُقالُ لها : فارقيه؟! وكيف يكون كلٌّ من القولين حقّاً في هذا الصورة؟!
4- إجماع الصحابة على إطلاق وصف الخطأ على بعض أنواع الاجتهاد، كما في قول ابن مسعود في المفوضة : أقول فيها برأيي فإنْ كان صواباً فمن الله، وإنْ كان خطأً فمني ومن الشيطان، وأستغفرُ الله » (أخرجه أحمد والنسائي) ولا يُعرَفُ له مخالفٌ.
وأما عن المقام الثاني : وهو مقام التأثيم، فإن الجماهيرَ متّفقون على أن كلَّ مجتهدٍ من المسلمين مأجورٌ، إما أجراً واحداً، أو أجرين، ولم يُنقلْ خلافٌ في ذلك، إلاّ عن ابن عُليّةَ وبعضِ الظاهرية.
والدليل على أن المخطئَ في مسائل الاجتهاد مأجورٌ : الحديثُ المتقدّمُ : «إذا حكم الحاكمُ فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجرٌ »، (متفق عليه).
وقد حكى غيرُ واحدٍ الإجماعَ على عدم تأثيم المخطئ في مسائل الاجتهاد.
وقد بنى بعضُ العلماء على الخلاف في تصويب المجتهدين اختلافَهم فيمن اجتهد في القبلة فصلى، ثم تبين له أنه صلى إلى غير الجهة الصحيحة، فهل عليه إعادةٌ؟
ذهب بعضُهم إلى إيجاب الإعادة، وبعضهم إلى عدم الإيجاب، وفرّق بعضُهم بين مَن كان داخلَ المصر فيُعيدُ، دون مَن كان خارجه.
ومن المسائل التي تُبنى على تصويب المجتهدين مع اختلافهم : موقف المجتهد إذا تعارضت عنده الأدلّةُ، فالقائلون بالتصويب قالوا : يتخيّرُ أحدَ القولين فيقضي به؛ لأن كلاًّ منهما صوابٌ.
ومَن قال المصيبُ واحدٌ، قال : يجبُ عليه التوقُّفُ حتى يترجّحَ له أحدَ القولين، وإنْ حضر وقتُ العمل فله أنْ يُقلِّدَ عالماً آخَر.
ومن تلك المسائل : إذا تعارضت فتوى عالمين، فما موقفُ المقلِّد؟
فمَن قال : كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ، قال : يتخير.
ومَن قال : المصيبُ واحدٌ، قال : يأخذُ بقول الأوثق منهما والأعلم، فإن تساويا فالأورعُ منهما والأتقى، فإن تساويا، سأل ثالثاً.
وقد فسّر بعضُ العلماء ما نُقلَ عن الشافعيّ من تصويب المجتهدين بأن المرادَ أنه أصاب في عمله بما توصَّل إليه اجتهادُه، وليس المرادُ أنه أصاب الحقَّ عند الله في واقع الأمر. والمسألةُ فيها كلامٌ طويلٌ للأصوليين، ولكن فيما ذكرتُه كفايةٌ إن شاء الله تعالى.
وقد ساق جماعةٌ من الأصوليين – منهم الغزالي والصفيُّ الهنديّ – المسألةَ على وجهٍ آخَر، فقالوا : الواقعةُ إما أنْ يكونَ عليها نصٌّ أو لا، فإنْ كان عليها نصٌّ، فإما أنْ يجتهدَ في طلبه أو لا، إن اجتهد : فإما أنْ يبذُلَ وُسعَه أو يُقصّرَ في البحث.
فإن وجد المجتهدُ نصّاً وحكم به، فهو مصيب ولا خلافَ في ذلك.
وإنْ وجده ولم يحكمْ به مع العلم بدلالته، فهو مخطئٌ آثمٌ.
وإنْ قصّر في البحث، فهو آثمٌ.
وإنْ لم يُقصِّرْ، فهو غير آثمٍ.
وإنْ كانت المسألةُ لا نصَّ فيها، فقد قال جمهورُ المتكلِّمين : ليس لله فيها حكمٌ معيَّنٌ قبلَ اجتهاد المجتهد، بل حكمُ الله تابعٌ لاجتهاد كلّ مجتهد. ولهذا قالوا : كلُّ مجتهدٍ فيها مصيبٌ.
وقال أكثرُ الفقهاء: لله فيها حكمٌ معيَّنٌ قبلَ الاجتهاد، والمصيبُ فيها واحدٌ، والمخطئُ معذورٌ.
وقال بعضُ المتكلِّمين : يوجدُ حكمٌ أشبهَ بحكم الله، وهو الحكمُ الذي لو حكم الله فيها لما حكم بغيره.
سبب الخلاف :
قال ابنُ دقيق العيد : إن سببَ الخلاف في التصويب والتخطئة اختلافُهم في أصلٍ، وهو هل لله في كلّ واقعةٍ حكمٌ معيَّنٌ، أو أن حكمَه في مسائل الاجتهاد تبَعٌ لاجتهاد المجتهدين؟
فعلى الأول : المصيبُ واحدٌ.
وعلى الثاني : كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ ( ).
تجديدُ الاجتهاد
المقصودُ بتجديد الاجتهاد : إعادةُ النظر في حكم الواقعة، لتجدُّد وقوعها أو السؤال عنها، مع سبق النظر فيها من المجتهد والتوصُّل فيها إلى حكمٍ يغلب على ظنه أنه الصواب.
مثاله : إذا سُئل المفتي عن حكم الإجارة المنتهية بالتمليك، وأفتى بتحريمها، ثم سُئل عنها بعد عامٍ، فهل له أنْ يُفتيَ بما أفتى به سابقاً، أو يجبُ عليه أنْ يُعاودَ النظرَ في المسألة؛ لاحتمال أنْ يظهرَ له دليلٌ لم يكنْ قد ظهر له أولاً؟ وهل يكونُ الحكمُ واحداً لو نسيَ طريقَ اجتهاده الأول أو ذكره؟
ويخرجُ عن محلّ النزاع إذا وجد ما يستدعي إعادةَ النظر في المسألة، كتغيُّر العرف في مسألةٍ مبنيةٍ على العرف، أو وجود نصٍّ يُخالفُ ما أفتى به سابقاً، ولا يعرفُ حالَ ذلك النصّ. فإنه في هذه الحال يجبُ عليه إعادةُ النظر.
وأخرج بعضُهم عن محلّ النزاع إذا لم يُوجدْ ما يحتملُ أنه يُؤدِّي إلى تغيُّر الاجتهاد، وكان المجتهدُ ذاكراً طريقَ اجتهاده السابق، فلا يجبُ عليه تجديدُ الاجتهاد.
واختلفوا فيما إذا تجدّد له ما يَحتملُ أنه يُؤدّي إلى رجوعه، وهو ذاكرٌ لاجتهاده الأول أو غيرُ ذاكر، أو لم يتجدّدْ ما يَحتمل أنْ يُؤدّي إلى رجوعه، وهو غيرُ ذاكرٍ لطريق اجتهاده السابق.
وقد ذكروا في المسألة أقوالاً، أشهرها ثلاثةٌ :
القول الأول : يجبُ عليه تجديدُ الاجتهاد في الصور الثلاث كلِّها.
وهو مذهب أكثر الحنفية، والحنابلةِ، واختاره القاضي الباقلانيّ، وأبو يعلى، وابنُ عقيلٍ، والشيرازيّ.
وحجتُهم : أنه إذا لم ينظرْ في المسألة الجديدة يكونُ مقلِّداً لنفسه.
وأيضاً فإن الاجتهادَ كثيراً ما يتغيّرُ بمعاودة النظر، فلا يأمنُ أنْ يكونَ الحقُّ في غير ما أفتى به أولاً.
القولُ الثاني : عدمُ وجوب إعادة النظر.
وهو قول بعض الحنابلة، وبعضِ الشافعية، وبعضِ الحنفية، واختاره ابنُ الحاجب، وابنُ الساعاتيّ، وصحّحه المطيعيّ في سلّم الوصول.
وحجّتهم : أن الأصلَ عدمُ تغيُّر الاجتهاد، فيجوزُ البناءُ عليه.
وأيضاً فإنه لو أُمرَ بتجديد الاجتهاد لكان إيجاباً من غير دليلٍ.
والثالث : أنه إنْ كان ذاكراً لطريق اجتهاده السابق فلا يجبُ عليه معاودةُ النظر، وإنْ كان ناسياً وجب عليه معاودةُ الاجتهاد والنظر.
وهو قول المحققين من الأصوليين، واختاره أبو الحسين البصريّ، وابنُ السَّمعانيّ، وأبو الخطّاب، والرازيُّ، وابنُ الصلاح، والنوويُّ، والآمديُّ، والبيضاويُّ، والسبكيُّ، والمرداويُّ، والشوكانيُّ. وهو الراجح.
دليله : أن المجتهدَ إذا كان ذاكراً لدليله السابق، ولم يظهرْ له ما يُعارضه، فهو باقٍ على اجتهاده السابق، ولا يجبُ عليه تجديدُ البحث؛ لأنه لا موجبَ له.
وأما إذا نسيَ دليلَه السابقَ فإنه لو حكم بما حكم به أولاً من غير نظرٍ كان كالمقلِّد؛ لأنه أخذ قولاً لا يعرفُ دليلَه.
والمجتهدُ لا يجوزُ له أنْ يقنعَ بالتقليد مع قدرته على النظر والاجتهاد.
وأدلّةُ الموجِبين تُحمَلُ على حالة النسيان؛ لأنه مع ذكر الدليل لا حاجةَ لمعاودة النظر والبحث.
وأما القائلون بعدم الوجوب مطلقاً، فليس معهم إلاّ التمسُّكُ باستصحاب الحكم السابق، ومعلومٌ أن المجتهدَ مع نسيانه للطريق التي توصَّل بها إلى القول بالتحريم أو الإباحة مثلا، يجعلُ البقاءَ على حكم الإباحة بقاءً على حكمٍ لا يَعرفُ دليلَه، والفتوى به مرةً ثانيةً فتوى بلا دليلٍ، وهي لا تصحُّ.
والاستصحابُ إنما يُفيدُ عدم نقض ما أفتى به أو حكم به بناءً على الاجتهاد السابق، أما الفتوى الجديدةُ فتفتقرُ إلى دليلٍ، وهو قد نسيه، ونسيَ طريقَ الوصول إلى الحكم السابق.
وهذه المسألة من أهمّ مسائل الاجتهاد؛ إذْ يترتّبُ على القول الراجح وجوبُ إعادة النظر في أكثر المسائل التي تحدث بعد تغيُّر الأحوال، لاحتمال أنْ تكونَ المصلحةُ فيها قد تغيّرتْ وتبدّلت.
وهذا يكفلُ للفقه الإسلاميّ التجدُّدَ المستمرَّ وعدمَ الوقوف عند اجتهاد المتقدِّمين.
وإذا عرفنا أن الإجماعَ قائمٌ على أنه إذا وجد دليلٌ جديدٌ، أو تبدّلت الأحوالُ أو الأعرافُ، وجب معاودةُ النظر في المسألة، عرفنا فائدةَ هذه القاعدة، وعرفنا ما يحملُه أصولُ الفقه من قواعدَ تُوجبُ التجديدَ المستمرَّ للفقه.
وينبغي أنْ لا نفهمَ من إعادة النظر والاجتهاد ضرورةَ تغيُّر الرأي في المسألة، بل قد نبقى على الرأي الأول، وقد تزيدُ المكتشَفاتُ الحديثةُ التدليلَ على صوابه.
وقد يُؤدّي معاودةُ النظر إلى ضرورة تقديم الحكم للناس بأسلوبٍ آخَرَ يُناسبُ العصر.
وقد يُؤدّي الاجتهادُ إلى تغيُّر الحكم في المسألة، ولا يُنكَرُ تغيُّرُ الأحكام بتغيُّر الأزمان.
وقد يكونُ التغيُّرُ ليس لذات الحكم، وإنما هو في تحقيق المناط، فقد يكونُ مناطُ الحكم لم يعدْ موجوداً في الصورة المسؤول عنها، فلا يُوجَدُ الحكمُ بل نقيضُه، ولا يُعدُّ هذا من تغيُّر الحكم إلاّ تجوُّزاً.
تغيُّرُ الاجتهاد
ينشأُ عن تجديد الاجتهاد – أحياناً – تغيُّرُ الاجتهاد السابق، فما كان يراه المجتهدُ جائزاً قد يراه غيرَ جائزٍ فيما بعدُ، والعكسُ كذلك.
وتغيُّرُ الاجتهاد ينشأُ عن أسبابٍ كثيرةٍ، أهمُّها :
1ـ الاطّلاعُ على دليلٍ لم يكنْ قد اطّلعَ عليه قبلَ ذلك.
2ـ التنبُّهُ إلى دلالة دليلٍ على الحكم لم يكنْ المجتهدُ قد تنبّه لها قبلَ ذلك، وقد يكونُ هذا التنبُّهُ من قبل المجتهد نفسِه، وقد يُنبِّهه على وجه الدلالة آخَرُ.
3ـ تغيُّرُ الأعراف والعادات في مسألةٍ مبناها على العرف والعادة، مثلُ أنْ يكونَ من عادة الناس في بلدٍ أن المؤجِّرَ مطالَبٌ بدفع قيمة مصاريف الكهرباء، فيُفتي أو يَقضي بناءً على هذا العرف، ثم يتغيّرُ العرفُ ويُصبحُ المستأجِرُ هو المطالَبُ بذلك، فيُفتي به.
4ـ تغيُّرُ المصالح والمفاسد المترتّبة على الفعل، فقد يترتّبُ على الفعل مفسدةٌ أو مصلحةٌ في وقتٍ من الأوقات، فيُفتي بناءً على ذلك، ثم يتغيّرُ الحالُ فتتغيّرُ الفتوى، إذا كانتْ مبنيّةً على تحقُّق المصلحة أو المفسدة.
5ـ عدم تحقق المناط في الواقعة الجديدة، إما لفوات شرط أو وجود مانع، كما أوقف عمر القطع في السرقة عام المجاعة؛ لغلبة الاضطرار على الناس، والحد يمنعه الاضطرار إلى الفعل الموجب له.
القواعدُ المبنيةُ على تغيُّر الاجتهاد :
ينبني على تغيُّر الاجتهاد قواعدُ أصوليةٌ كثيرةٌ، أهمها :
1ـ قاعدة : الاجتهادُ لا يُنقضُ بالاجتهاد :
وهي قاعدةٌ عامّةٌ صحيحةٌ، تُفيدُ أن المجتهدَ إذا أفتى أو قضى قضاءً بناءً على اجتهادٍ، ثم تغيّر اجتهادُه فإنه لا يَنقضُ حكمه السابق، ولا يرجعُ فيه بعدَ نفاذه، وكذلك إذا أفتى بفتوىً وعمل بها المقلِّدُ، فإن رجوعَه لا ينقُضُ فتواه الني اتّصلَ بها العملُ.
ولا فرقَ في تطبيق القاعدة بين أنْ يكونَ اختلافُ الاجتهاد الثاني من المجتهد الأول أو من غيره، بل إذا كان الاجتهاد المتأخِّرُ من غير المجتهد الأول يكونُ أولى بعدم النقض.
2ـ الاجتهادُ يُنقضُ إذا خالف نصّاً صريحاً من كتابٍ أو سنّةٍ، أو خالف إجماعاً صريحاً ثابتاً :
ولا فرقَ – على الصحيح – بين أنْ يكون النصُّ قطعيَّ الثبوت أو ظنيَّ الثبوت، إلا أنه إذا كان ظنيَّ الثبوت فيُشترطُ لنقض الاجتهاد به أنْ لا يُعارضَه نصٌّ آخَرُ يُماثلُه أو يُقاربُه في القوّة، فإنْ عارضه نصٌّ آخَرُ فلا نقضَ.
3ـ هل يلزمُ المجتهدَ إخبارُ مَن أفتاه بتغيُّر اجتهاده؟:
اختلف العلماءُ في ذلك، والأكثر على أنه لا يلزمه ذلك.
وقيل : يلزمُه إنْ لم يتّصلْ به العملُ وأمكنه ذلك من غير مشقّةٍ.
وهو أرجح؛ لأنه من النصح لعامّة المسلمين، وقد أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعله من الدين، فقال صلى الله عليه وسلم : « الدينُ النصيحةُ »، قيل : لمن يا رسول الله؟ قال : « لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامّتهم »، (مسلم عن تميم الداري).
ولأنه من التعاون على البر والتقوى المأمور به في قوله تعالى : { } [المائدة2].
وهذا كلُّه إذا لم يكنْ خالف نصاً لا معارضَ له، فإنْ خالف نصّاً صحيحاً من كتابٍ أو سنةٍ لا معارضَ له، أو خالف إجماعاً صريحاً صحيحاً فيجبُ عليه إخبارُ مَن أفتاه بالفتوى الخطأ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « مَن أُفتي فتوىً من غير ثبتٍ فإنما إثمُه على مَن أفتاه » (أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارمي عن أبي هريرة) فإذا كان الإثم سيلحق المفتي وجب إبلاغ المستفتي بالخطأ حتى لا يزيد الإثم.
ولفعل ابنِ مسعودٍ ، حيث أفتى رجلاً بجواز نكاح أم الزوجة إذا لم يدخلْ بها، فأخبره الصحابة بتحريم ذلك، فرجع إلى الحيّ الذي فيه المستفتي وسأل عنه وأخبره بخطإ الفتوى.
ولأن الفتوى المخالفةَ لنصٍّ لا معارضَ له خطأٌ يقيناً، ولا عبرةَ بالظن البيِّن خطؤُه، أما في الاجتهاد فإنه لا يجزمُ بخطئه، وإنما يغلبُ على ظنه ذلك، لذا لم يجبْ عليه الإبلاغُ عند الأكثر.
4ـ لا يُنكَرُ تغيُّرُ الفتوى بتغيُّر الأزمان :
نصَّ العزُّ ابنُ عبد السلام، والقَرافيّ، وابن القيم، وغيرُهم على أن الحكمَ أو الفتوى قد يتغيّران في المسألة الواحدة لأجل تغيُّر الأعراف والعادات والأزمان، ونحو ذلك مما له أثرٌ في الحكم.
وقد توسّع في القاعدة بعض المتأخِّرين، ولم يقصروها على الأحكام التي ترجعُ إلى العرف والعادة.
وأنكرها بعضُ العلماء لمَّا فَهم منها العمومَ لجميع الأحكام، أو لما في ظاهرها من الاحتمال الباطل الذي يُوهمُ بأن الحكمَ في المسألة الواحدة بعينها قد يتغيّرُ عند الله جل وعلا بلا نسخٍ.
وحملوا ما يذكرُه العلماءُ من الأمثلة على تغيُّر الأحكام لتغيُّر الأزمان أو الأحوال على أن الحكمَ الشرعيَّ لم يتغيّرْ، وإنما تخلّف تعلُّقُه بالصورة المشابهة في الظاهر للصورة السابقة لعدم تحقُّق المناط، حيث كان موجوداً في الصورة السابقة وغيرَ موجودٍ في الصورة اللاحقة.
وهذا نظيرُ حكم النفقة للزوجة، فقد كان يُقدَّرُ بشيءٍ يسيرٍ من الطعام واللباس؛ لتعارُف الناس عليه، وفي هذا الوقت لم يعُدْ كافياً، وكذلك السُّكنى، فإن الشرعَ لم يُحدّدْ نوعَ البيت الذي يجبُ أنْ يُوفِّرَه الزوجُ للزوجة، وإنما تُرك ذلك للعُرف، ولقدرة الزوج ويُسره أو عُسره. فهذا الحكمُ لم يتغيّرْ، ولكنه جاء في صورة قاعدةٍ عامّةٍ، يُترَكُ تطبيقُها للقُضاة عند التخاصُم، والمعتمدُ في تحديدها عرفُ أهل البلد وعاداتُهم.
ولهذا فقد يكونُ البيتُ الشرعيُّ في عصرٍ أو بلدٍ غرفةً واحدةً .
وفي بلدٍ آخَرَ مكوناً مما لا يقلُّ عن أربع غرفٍ مع مرافقها.
وكذلك إنكار المنكر يكون واجبا حين يغلب على الظن زواله بالإنكار، ويحرم حين يغلب على الظن أن إنكاره يؤدي إلى منكر أعظم منه ( ).
ومع ذلك لا يُقالُ الحكمُ تغير، إلا بشيءٍ من التسامح في العبارة.
ولذا فإن القاعدةَ بحاجةٍ إلى ضبطٍ حتى لا يُفهمَ منها نسخُ الأحكام المنصوصةِ التي لا مدخلَ للعرف والعادة في تحديدها، مع وجود أسبابها.
ونص القاعدة - كما ذكرها ابن القيم - ليس فيه إلا عدمُ الإنكار على مَن تغيرت فتواه لتغير الأزمان والأحوال.
وكذلك الحكمُ القضائي كالفتوى؛ ولهذا اتفق العلماءُ على أن القاضيَ يجب أنْ يعرفَ عاداتِ الناس وأعرافَهم حتى يقضيَ بينهم، ولا يجوز أنْ يقضيَ مَن لا علمَ له بذلك.
الباب السادس
التقليد
تعريفه :
التقليدُ في اللُّغة : وضعُ القِلادة في العُنق.
وفي الاصطلاح : اختلف العلماءُ في تعريفه، وانبنى على ذلك الخلافِ اختلافُهم في حكمه.
فقد عرَّفه بعضُهم بأنه : قَبُول قولِ الغير من غير حجةٍ.
وهذا التعريفُ ذكره جماعةٌ من الأصوليين، منهم : الغزاليُّ، وابنُ قدامة، والآمديُّ، وابنُ الحاجب، وابنُ الهمام، والشوكانيُّ، وغيرهم.
ويَردُ على هذا التعريف إشكالٌ، وهو : أن قولَهم : « من غـير حجة » هل يُقصدُ به أن القَبُولَ لا حجةَ عليه؟ أو أن القولَ نفسَه ليس عليه حجةٌ؟
فإنْ أُريد أن القَبولَ لا حجةَ عليه لزم خروجُ اتِّباع العاميّ للعالم؛ لأن ذلك قد قامت حجّتُه، وهي قوله تعالى : { } [النحل43]، والإجماعُ على صحّة سؤال العاميّ للعالم.
وإنْ أرادوا أن الذي ليس عليه حجةٌ هو القولُ نفسُه، فهذا مشكِلٌ من جهة أن القولَ الذي يَعرف المقلدُ أنه لا حجةَ عليه لا يجوزُ اتباعُ العالمِ فيه عند أكــثر العلماء، بل حكي الاتفاق عليه.
والفريقُ الثاني عرَّفوا التقليدَ بأنه : قَبولُ قولِ القائل وأنتَ لا تَعرفُ من أين قاله ( ).
أو : أخذُ مذهب الغير بلا معرفةِ دليله ( ).
وقد ذهب إلى هذا جماعة من العلماء، منهم : القفالُ الشاشيُّ، والمرداويُّ، وابنُ النجار.
ومن الذين عبروا باللفظ الأول مَن قصد هذا المعنى، ولكنه ظن أن عبارته تفيده كابن قدامة رحمه الله، فإنه في أثناء كلامه أوضح أن مرادَه المعنى الذي ذكره الفريقُ الثاني.
ولو وازنا بين التعريفين لاخترنا تعريفَ الفريقِ الثاني، ولكن يرد عليه اعتراضٌ لا بدَّ من الاحتراز عنه. وهو : هل يخرج الإنسانُ من مرتبة التقليد إذا عَرف دليلَ المسألة، وإنْ لم يكنْ قادراً على دفع الشُّبَه عن الدليل والجواب عن أدلة القول الآخر؟
فالظاهر من حال أكثر الأصوليين والفقهاء أنهم لا يُخرجونه عن مرتبة التقليد بمجرَّد معرفة الدليل. ولهذا يجب أن يزيدوا قيداً فيقولوا : « أخذ مذهب الغير من غير معرفة رجحان دليله »، حتى يصدُقَ اسمُ المقلِِّد على مَن لا يعرفُ رجحانَ الدليل، وإن عرف الدليل.
وهذه الزيادة لا بدَّ منها لمن لا يرى واسطةً بين الاجتهاد والتقليد.
وأما مَن جعل مرتبةَ الاتّباع واسطةً بين الاجتهاد والتقليد فلا تلزمهُ هذه الزيادةُ؛ لأنه ربما جعل مَن يعرف الدليلَ متّبعاً وليس مقلِّداً، كما قال ذلك ابنُ حزم، وغيره.
والذي يظهرُ لي عدمُ جواز التسوية بين العاميّ الصِّرْف الذي لا يفقه الدليلَ حتى لو تُلي عليه، والمتعلمِ الذي يُمكنه معرفةُ الدليل ووجهُ دلالته، ولكنه لا قدرةَ له على ردّ أدلة القول المخالف أو لا علمَ له بها.
فالأول مقلِّدٌ، والأخيُر متَّبعٌ للدليل.
وعلى ذلك : فيمكن الأخذُ بتعريف الفريق الثاني للتقليد من غير زيادة.
أركانُ التقليد:
للتقليد ثلاثةُ أركانٍ، هي :
1- المقلِّدُ.
2- المقلَّدُ.
3- المقلَّدُ فيه.
فالأولُ هو العاميُّ، والثاني هو المجتهدُ، والثالثُ هو الحكمُ المأخوذُ عن المجتهد بطريق التقليد من غير معرفة دليله.
حكمُ التقليد:
تكلّم الأصوليون في حكم التقليد، ففرّقوا بين التقليد في الأصول والتقليدِ في الفروع، وحصل في نقل الأقوال خلطٌ كثيٌر، والسببُ عدمُ اتفاقِهم على تعريف التقليد.
فالذين عرّفوا التقليدَ بأنه : « قَبول قولِ الغير من غير حجةٍ » وقصدوا بهذا أن القولَ المقلَّدَ فيه لا حجةَ عليه إلا قولُ المجتهد أو فعلُه ذهبوا إلى تحريمه والمنعِ منه، وهو ما فعله ابنُ حزم وابنُ القيم والشوكانيُّ، ونقلوه عن جمهور العلماء.
ولا ينبغي أنْ يُفهمَ من هذا أنهم يمنعون العامةَ من سؤال العلماء، فإن هذا مجمعٌ عليه لا يُنكره أحدٌ، ولكنهم لا يُسمونه تقليداً، إذا كان العالِمُ أفتى بقول بناءً على الدليل.
وقد أوجب ابنُ حزم على العاميّ أنْ يسألَ المفتيَ عن دليله، فلا يَقبل فتواه إلا إذا ذكر له الدليلَ، أو قال له : إن هذا حكمُ الله جلّ وعلا.
وحينئذٍ عنده أن السائل لا يكون مقلِّداً، بل متَّبعاً لشرع الله الذي ظهر على لسان المفتي.
وأما ابنُ القيم والشوكانيُّ فقد اتجه ذمُّهما للتقليد إلى ما يفعله أتباعُ المذاهبِ من الفقهاء الذين يتّبعون مذاهبَ أئمتِهم ولو تبيّن لهم أن الدليلَ قامَ على خلافها! فلهذا حرّموا التقليدَ وشنّعوا على مَن أجازه.
ونقل الشوكانيُّ أن مذهبَ جماهير العلماء تحريمُه.
وما ذاك إلا لأنه فسّره بأنه : « قَبولُ قولُ الغيرِ دونَ حجةٍ » ( ).
وأما الفريقُ الثاني الذين عرّفوه بأنه: « قَبولُ قولِ الغير من غيِر معرفةِ دليلِه » أو نحو ذلك، فإنهم فرّقوا بين التقليد في أصول الإيمان، والتقليد في الفروع، فمنعوا الأولَ وأجازوا الثاني.
وفيما يلي بيانُ الخلاف المذكور في الموضعين.
التقليدُ في الأصول
محلُّ النزاع : ظنّ بعضُ الأصوليين أن المقصودَ بالأصول مسائلُ الاعتقاد عموماً.
والصوابُ : أن المرادَ الأصولُ التي يَدخل بها الإنسانُ في الإسلام، وهي : الإيمان بالله جل وعلا، واستحقاقُه العبادةَ وحده، والإيمانُ بصدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذه الأصولُ هي التي قال جمهور العلماء : إنها لا يجوزُ التقليدُ فيها، وإنما يجبُ على كلّ مسلمٍ أنْ ينظرَ في أدلّتها حتّى ترسخَ في قلبه، فلا يتزعزعُ إيمانُه بها لأدنى شبهة.
واستدلوا على ذلك بالآيات التي فيها ذمُّ التقليد، كقوله تعالى : { } [البقرة170]، وقوله تعالى في معرِض ذمّ المشركين : { } [الزخرف23].
وحملوا هذه الآياتِ على ذمّ التقليد في أصل الإيمان.
واستدلّوا بدليلٍ عقليٍّ، وهو : أن المقلِّدَ إما أنْ يكونَ شاكّاً في صدق مَن قلّده أو متيقِّناً صدقَه: فإنْ كان شاكّاً فلا يصحُّ إيمانٌ مع الشك. وإنْ كان متيقِّناً: فإما أنْ يكونَ بناء على نظرٍ واستدلالٍ، أو بناءً على ثقته بمَن قلّده.
فإنْ كان بناءً على نظرٍ واستدلالٍ فهو قد استدلَّ، وليس مقلِّداً.
وإنْ كان بناءً على ثقته بمَن قلّده وسكونِ نفسِه إليه، فما الفرقُ بين سكونِ نفسِه وسكونِ أنفُسِ المقلِّدين من النصارى إلى ما يقولُه القُسسُ والرهبانُ؟!
وقد خالف بعضُ العلماءِ في إيجاب النظرِ على الجميعِ، ظناً منهم أن المطلوبَ الاستدلالُ على طريقة المتكلمين، وهذا ليس مراداً عند المحقِّقين، وإنْ كان هناك مَن ظنّ أنه مرادٌ، حتى قال : مَن لم يعرفْ دليلَ التمانُع فلا يصحُّ إيمانُه!
والصحيحُ : وجوبُ النظرِ على القادرِ على ذلك، حتى لا يهتزَّ إيمانُه لأدنى شبهةٍ؛ لأن القادرَ على النظر إذا تركه كان مفرِّطاً في المحافظة على عقيدته من الزيغ والضلالة.
وليس المقصودُ المعرفةَ بدفع جميع الشُّبه في مجال الاعتقاد، وإنما المقصودُ النظرُ الدالُّ على وجود الله، ووحدانيته، واستحقاقِه للعبادة، وصدقِ الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما بقيةُ مسائلِ الاعتقادِ فيكفي فيها التقليدُ كمسائل الفروع الآتي ذكرُها.
ثمرة الخلاف :
ظن البعضُ أن ثمرةَ الخلاف أن مَن أوجب النظرَ لا يُصحّحُ إيمانُ مَن لم ينظرْ، ونقلوا عن أبي الحسن الأشعري عدمَ صحّة إيمانِ العوامِّ.
وهذا النقلُ لا يصحُّ. والبناءُ المذكورُ لا يصحُّ أيضاً.
وثمرةُ الخلافِ تظهرُ في أن مَن أوجبَ النظرَ في تلك المسائل يحكمُ بتأثيم مَن تركه مع قدرته عليه، أما مع العجز عنه فلا. ولا يعدُّه شرطاً لصحّة الإيمان، بل الإيمانَ صحيحٌ إذا لم يخالطْه شكٌّ، وإن لم يعرفْ ما يدلُّ عليه بالنظر.
التقليدُ في الفروع
المرادُ بالفروع هنا: ما ليس من الأصول التي يدخل بها الإنسانُ في الإسلام، فيدخلُ في الفروع بعضُ مسائل الاعتقاد، ومسائلُ أصولِ الفقه والفقهُ.
وقد اختلفوا في جواز التقليد في تلك المسائل.
فذهب الجمهورُ إلى جواز التقليد فيها.
واستدلوا بإجماع الصحابة على إفتاء العوام إذا سألوا، وعلى أن فرضَ الجاهلِ سؤالُ العالم.
واستدلوا بقوله تعالى : { } [النحل43].
وبقول الرجل في قصة العسيف عند النبي صلى الله عليه وسلم : « وإني سألت أهلَ العلم فأخبروني أنّ على ابني جلدَ مائةٍ وتغريبَ عامٍ » (متفق عليه عن أبي هريرة)، ولم ينكرْ عليه الرسولُ صلى الله عليه وسلم سؤالَه لأهل العلم.
وبقول الرسولِ صلى الله عليه وسلم : « ألا سألوا إذْ لم يعملوا » (أخرجه أبو داود عن جابر).
ومنع من التقليد في الفروع ابنُ حزم والشوكانيُّ.
ومنعُهم مبنيٌّ على تعريفهم للتقليد، ولو وافقناهم على التعريف لوافقناهم على الحكم.
وأما إذا اخترنا أن التقليدَ هو: « الأخذُ بمذهبِ الغيِر من غيرِ معرفةِ دليله »، أو «... من غير معرفة رجحان دليله » فلا يمكنُ أنْ نمنعَ التقليدَ؛ لأن أكثرَ المسلمين يعملون بالأحكام من غير أنْ يعرفوا الأدلةَ الخاصّةَ عليها.
ومن منكري التقليد مَن منع التقليدَ بمعنى : التزام مذهب إمامٍ معيَّنٍ من غير بحثٍ عن حجّته، وأجاز للعاميّ تقليدَ مَن شاء.
والفرقُ بين هذا المذهب ومذهب الجمهور : أنه يمنعُ التَمَذْهُبَ بمذهبِ إمامٍ معيَّنٍ، ولا يمنعُ أصلَ التقليدِ، والجمهورُ يُجيزون التمذْهُبَ ويعدُّونَه فرعاً عن جواز التقليد.
وحجتهم على جواز التمذهب : أنه إذا جازَ لغير المجتهد تقليدُ مَن شاء من العلماء جاز له أنْ يختارَ منهم واحداً فيقلِّدَه دونَ غيره، لثقته في علمه وعدالته وورعه.
والمانع من التمذهب يحتجُّ بأنه لم يكنْ معروفاً في صدر الإسلام. وأنه يؤدِّي إلى التعصُّب وتركِ الحق.
ويُجابُ بأن عدمَ اشتهارِه في صدر الإسلام يُمكن منُعه، ولا يستطيعُ مدّعيه أنْ يُقيمَ الدلالةَ على عدم وجود التزام بعض العوامّ بسؤالِ واحدٍ بعينه من المفتين.
ولو سُلِّمَ، فإن عدمَ اشتهارِه في الصدر الأول لا يدلُّ على تحريمه. وأيضاً فإن المفتين في الصدر الأول لم تكنْ لهم مذاهبُ معروفةٌ في جميع مسائل الفقه. وهذا جعل المقلّدين يسألون مَن وجدوه حين تعرِض لهم المسألةُ.
وأما قولهم : إنه يؤدّي إلى التعصُّب وتركِ الدليل الشرعيّ، فيُجابُ بأن الممنوعَ هو التعصُّبُ المذهبيُّ وتركُ الدليل مع معرفتِه والعلمِ برُجحانه، وهذا غير لازمٍ من التمذهُب لزوماً بيِّناً، ولكنه قد يحدثُ.
والذي يظهر : أن الذين أنكروا التقليدَ بمعنى التمذهبِ حملهم على إنكارِه ما رأوه في عصرهم من التعصُّب الممقوت الذي يصدُّ عن الحـقّ، ويفرِّقُ الأمةَ، حتى أصبح الدينُ كأنه مللٌ شتّى. ومن مظاهره : قولُ بعضِ أتباع المذاهب ببطلان الصلاة خلفَ مَن يُخالفُ المذهبَ؛ لاحتمال أنه فعلَ ناقضاً من نواقض الوضوء التي لا يراها إمامُه ناقضـةً، وهي عند إمام المقتدي به ناقضةٌ.
ولا شكّ أن مثلَ هذا مخالفٌ لما عليه المحقّقون من أتباع المذاهب كافّة، وحكوا عليه الإجماع.
حكمُ تقليدِ المجتهد لمجتهد آخَرَ :
نقل كثيرٌ من الأصوليين الاتّفاقَ على أن المجتهدَ إذا نظر في الواقعة وتوصّلَ فيها إلى ظنٍّ غالبٍ بحكم الله، لا يجوزُ له أنْ يتركَ ما غلب على ظنه ويعملَ بظنِّ غيره.
وحصروا الخلافَ في المسألة فيما إذا لم ينظرْ في المسألة بعدُ، أو نظرَ فيها ولم يتوصّلْ إلى ظنٍّ غالبٍ.
وغلط بعضُهم فحصر الخلاف فيما إذا اتّسع الوقتُ للنظر والاجتهاد، وحكى الاتفاق على جواز التقليد للعالم إذا ضاق الوقت عن النظر. والصواب: دخولُ ذلك في الخلاف.
أهم الأقوال في المسألة :
الأول: عدمُ جوازِ التقليد للمجتهد مطلقاً. وهو مذهبُ جمهورِ الأصوليين.
واستدلُّوا بأدلّةٍ كثيرةٍ، منها :
1- حديث : « دعْ ما يريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ » (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان عن الحسن بن علي رضي الله عنهما)، فإن رأي المجتهدِ الآخَرِ مما يرتابُ فيه المجتهد، بخلاف رأيه هو.
وفي الاستدلال ضعفٌ، من جهة أن الحديثَ لا يُفيدُ أكثرَ من ترك المشكوكِ فيه والعملِ بالمقطوع. فلا ينطبقُ على مسألتنا.
2- الأدلّةُ الدالّةُ على ذمّ التقليد، فإنها تشمل تقليد المجتهد - القادر على النظر - لغيره.
3- أن التقليدَ إنما أُذنَ فيه للعاجز عن الاجتهاد، فلا يشملُ القادرَ؛ لقوله تعالى: { } [النحل43]. وعدمُ نظره في المسألة لا يُخرجُه عن كونه من أهل العلم.
القولُ الثاني: لا يجوزُ له التقليدُ، إلاّ إذا ضاق الوقتُ وحضر وقتُ العمل، ولم ينظرْ أو لم يتبيّنْ له فيها رأيٌ. وهو مذهب ابن سُريجٍ، واختاره ابنُ تيميةَ. وجعله بعضُ العلماء جائزاً باتّفاقٍ في هذه الحالة.
ودليلُه : أنه إذا لم يتمكّنْ من النظر لضيق الوقت، أو نظر فلم يظهرْ له حكمٌ معيَّنٌ يكونُ بمنزلة العاميّ؛ إذْ لا يُمكنه التوقُّفُ إلى الأبد.
ولأن اللهَ علّق جوازَ التقليد على عدم العلم بالبيّنات، والمجتهدُ في المسألة التي لم ينظرْ فيها لا علمَ له بأدلّتها.
القولُ الثالث : جوازٌ تقليدٍ المجتهد للأعلم منه، دون مَن هو مثلُه أو أقلُّ منه. وهو مذهب محمد بن الحسن الشيبانيّ.
واحتجَّ : بأن العالم مع مَن هو أعلمُ منه كالعاميّ مع العالم.
وهناك أقوالٌ أخرى: تُجوّز تقليدَ الصحابة وحدهم، أو الصحابة والتابعين.
والراجحُ : القول الثاني، وهو: جوازُ التقليد مع ضيق الوقت لا مع سعته، وكذلك إذا نظر ولم يظهرْ له حكمٌ جاز له التقليدُ؛ وذلك لأن العالمَ حينئذٍ إما أنْ يُقلّدَ، وإما أنْ يتركَ العملَ. ولا يجوزُ له تركُ العمل مع قدرته على سؤال غيره.
وأما إنْ نظر فلم يظهرْ له حكمٌ فلا ينبغي أنْ يقعَ خلافٌ في جواز التقليد له إذا احتاج إلى العمل.
وأما إذا لم يحتجْ للعمل بنفسه، وإنما سُئل عن الواقعة، فليس له أنْ يُفتيَ تقليداً، بل يدلُّ السائلَ على المفتي أو ينقلُ له فتواه.
سؤالُ العاميّ مَن شاءَ من المفتين :
يجوزُ للعاميّ أنْ يسألَ مَن شاء من المفتين، وله أنْ يسألَ المفضولَ مع وجود الفاضل، عند أكثر العلماء.
واستدلُّوا على ذلك: بالإجماع؛ أخذاً مما عليه الحالُ وقتَ الصحابة والتابعين، فإن العوامَّ كانوا يسألون المفضولَ فيُفتيهم، ولا يأمرُهم بسؤال الفاضل.
ولم يُعهدْ عن أحدٍ من الصحابة أنه كان لا يُفتي مع وجود الأفضل منه في البلدة، وقد أفتى ابنُ عباسٍ وابنُ عمر في حياة الخلفاء الأربعة، رضي الله عنهم أجمعين.
وأوجب بعضُ العلماء على العاميّ البحثَ عن الأعلم والأتقى ليسألَه. وقال : إن العاميَّ يجتهدُ في أحوال المفتين، فيبحثُ عن الأفضل منهم، كما يجتهدُ العالمُ في الأخذ بالأقوى من الدليلين المتعارضين.
موقفُ المستفتي من اختلاف المفتين :
إذا سأل المستفتي أكثرَ من عالمٍ فاختلفوا، أو اشتهرتْ فتاوى العلماء مع اختلافها، كما هو الحالُ في عصرنا الحالي؛ فإن العوامَّ ربما عرفوا فتوى أكثر من عالمٍ في المسألة الواحدة، فما موقفهم؟ وبم يأخذون؟.
الواجب على المستفتي إذا تعارضت الفتاوى : أنْ يأخذَ بفتوى الأعلم من المفتين، فإنْ تساووا أخذَ بقول الأتقى والأورع، فإنْ جهل الأعلمَ أو الأورعَ سأل العارفين بهم عن ذلك، ثم أخذ بمَن يغلب على ظنه أنه الأعلمُ أو الأتقى.
وقال بعضُ العلماء : يتخيّر.
وقال بعضُهم : يعملُ بالأحوط.
وقيل : يعملُ بالأسهل.
والأول هو الصحيحُ.
والدليل على صحّته : أن فتوى العالم عند العاميّ كالدليل عند المجتهد، وإذا تعارضت الأدلّةُ عند المجتهد وجب عليه طلبُ الترجيح، فكذلك العاميّ إذا تعارضتْ عنده الفتاوى.
تقليدُ الميت:
اختلف العلماءُ في حكم تقليد الميت، على أقوال :
الأول : مذهب الجمهور أنه جائزٌ، وربما حكى بعضُهم الإجماعَ عليه؛ أخذاً بعمل أتباع المذاهب.
واستدلَّ له بعضُهم بالقياس على شهادة الشاهد إذا مات، قبل الحكم بها.
واستدلّ بعضُهم بالضرورة؛ لأنّا لو لم نُجوِّزْ تقليدَ الميت لأدّى إلى حَيرة الناس لعدم وجود المجتهد المطلَق.
الثاني : المنع من تقليد الميت مطلقاً.
وهذا القولُ قد يفهم من كلام الرازي اختياره؛ حيثُ أجاز نقلَ الفتوى عن الأحياء دون الأموات، ولكنه أورد بعض أدلة المجيزين لتقليد الأموات ولم يجب عنها، وبه قال بعضُ المعتزلة، وهو قولُ الشيعة.
ودليلُه :
1- أن الميتَ لا يُعتدُّ بقوله في الإجماع؛ إذْ لو وجب الاعتدادُ بقوله ما ثبت إجماعٌ بعد موت أول عالمٍ.
2- أن تجديدَ الاجتهاد واجبٌ، كما قال كثيرٌ من العلماء، والميتُ لا يُمكنُ أنْ يُجدِّدَ اجتهادَه.
3- أن الوقائعَ تختلفُ صفاتُها المؤثِّرةُ في حكمها، وتغيُّرُها يُوجبُ إعادةَ النظر فيها، فما كان مفسدةً في وقتٍ قد يعودُ مصلحةً، أو قد يكونُ أقلَّ مفسدةً من غيره. وهذا لا يُمكنُ تقديرُه إلاّ من الأحياء.
والصوابُ : أن الوقائعَ التي أفتى فيها المتقدِّمون : إما أنْ يغلِبَ على ظننا أن تغيُّرَ العصر لا مدخلَ له في تغيُّرِ حكمِها، أو لا.
فإنْ غلب على ظننا أن الأعرافَ والعاداتِ والمصالحَ لم تتغيّرْ في هذا العصر عنها في العصر السابق، أو أن التغيُّرَ لا مدخلَ له في حكمِها، فلا بأسَ بنقل فتاوى المتقدّمين والعملِ بها من المقلّدين.
وإنْ لم يحصلْ ظنٌّ غالبٌ بذلك، لم يجز الفتوى فيها بنقل مذاهب الأموات، ولم يجزْ للمقلّد إذا اطّلع على فتوى المتقدّمين فيها : أن يأخذَ بها حتى يُراجعَ علماءَ العصر.
ونتيجةً لاكتفاء بعض علماء العصر بنقل مذاهب الأموات في مسائل الاجتهاد دون أنْ ينظروا في أثر تغيُّر الزمان والأعراف والمصالح في المسألة، وقع خللٌ كبيرٌ في الفتاوى، وتأخّر الفقهُ عن مسايرة تطوُّر الحياة.
وهذا الكلام خاصٌّ بمسائل الاجتهاد، التي لم يردْ فيها نصٌّ صريحٌ صحيحٌ، لا معارض له.
التلفيق
يُطلقُ التلفيقُ في الفقه وأصوله ويُرادُ به في الغالب: الإتيانُ في مسألةٍ واحدةٍ بكيفيةٍ لا تُوافقُ قولَ أحدٍ من المجتهدين السابقين.
وحين التمثيل للتلفيق المختلَفِ فيه يذكرون التلفيقَ الناشئَ عن الخلاف في شروط الفعل، أو في مبطلاته، ويعدُّون ذلك مسألةً واحدةً، مع إمكان أنْ يُقالَ إن كلَّ شرطٍٍ يُعدُّ مسألةً مستقلّةً.
مثاله : أن يتوضأ فيمسحَ على شعراتٍ من رأسه تقليداً للشافعيّ، ويمسَّ امرأةً فلا يتوضّأُ تقليداً لأبي حنيفةَ، ثم يُصلّي بهذا الوضوء.
فهذه الصلاةُ لا تصحُّ على مذهب أبي حنيفةَ؛ لعدم مسح ربع الرأس، ولا على مذهب الشافعيّ؛ لكون الوضوء عنده قد انتقض بلمس المرأة.
ويُطلق التلفيقُ على أعمّ من هذا المعنى عند بعضِ العلماء، حيثُ أدخلوا فيه أخذَ المقلِّد في مسألةٍ بمذهب إمامٍ، وفي مسألةٍ أخرى بمذهب إمامٍ آخَرَ، حتى ولو لم يكنْ بين المسألتين تلازمٌ.
وهذا لا يُمكنُ منعُه، إلاّ على قول مَن يُوجبُ على المقلِّد الالتزامَ بمذهبٍ واحدٍ في جميع ما يفعلُ أو يتركُ. وهو قولٌ فاسدٌ لا دليلَ عليه، أوقع فيه الإفراطُ في التقليد.
وقد قام الإجماعُ في عهد الصحابة والتابعين على أن للمقلِّد أنْ يسألَ مَن شاءَ من العلماء، وأن مَن سأل عالماً في مسألةٍ لا يُمنعُ من سؤال غيره في مسألةٍ أخرى.
وقد يُطلَقُ التلفيقُ على أخذ المجتهد بقولٍ جديدٍ مركَّبٍ من قولين مختلفين في المسألة، وهو ما يُسمّيه بعضُهم : « إحداث قولٍ جديدٍ ».
وقد سبق الكلامُ عن هذه المسألة في الإجماع، وبيانُ ما فيها من الخلاف.
وقد يُطلَقُ التلفيقُ على فتوى المجتهد بقولٍ مركَّبٍ من قولين مع عدم اعتقاد رُجحانه، وإنما يُفتي به تخليصاً للمستفتي من ورطةٍ وقع فيها. وهذا يدخلُ فيما يُسمّى بــ (مراعاة الخلاف).
والصحيحُ : أن المجتهدَ إذا رأى أن هذا القولَ أرجحُ في حقّ هذا المستفتي مراعاةً ليُسر الشريعة، ورفعاً للحرج، فيكونُ قد ترجّحَ عنده القولُ في هذه الصورة بخصوصها، وفتواه حينئذٍ صحيحةٌ.
وأما إذا كان يرى أن الصورةَ المعروضةَ عليه فيها قولٌ آخَرُ أرجحُ فليس له تركُه والفتوى بالمرجوح.
أما التلفيقُ بالمعنى المشهور، وهو : « الإتيانُ في مسألةٍ واحدةٍ بكيفيةٍ لا يقولُ بها أحدٌ من المجتهدين السابقين »، فقد اختُلف في جوازه. وهو قد يقعُ من المقلِّد بقصدٍ أو بغير قصدٍ.
فإنْ وقع بغير قصدٍ : فلا شكَّ في جوازه؛ للإجماع على أن له أنْ يعملَ برأي مَن استفتاه، ولا يمتنع أنْ يستفتيَ شافعياً في الوضوء ويستفتي مالكياً في نقض الوضوء، ثم يُصلي بوضوءٍ لم يُعمِّمْ فيه مسحَ الرأس ولا أكثره، وقد مسَّ امرأةً أجنبيةً.
وأما إنْ كان التلفيقُ مقصوداً : فإما أنْ يحصلَ من مجتهدٍ أو مقلدٍ.
فإنْ حصل التلفيقُ من مجتهدٍ فيفرَّقُ بين أنْ يرى رجحانَ القول الجديد المركَّب الذي أداه إليه اجتهاده إما مطلقاً أو في هذه الصورة التي استُفتي فيها، أو أنه لا يرى رجحانَه حتى في هذه الصورة.
فإنْ كان يرى رجحانَ القول مطلقاً أو في هذه الصورة ففتواه صحيحةٌ على الراجح؛ لأن المسألةَ خلافيةٌ لا إجماعَ فيها.
وإنْ كان لا يرى رجحانَه لا في هذه الصورة ولا مطلقاً ففتواه باطلةٌ.
وأما إنْ حصل التلفيقُ المقصودُ من مقلِّدٍ فلا يصحُّ، لاحتمال أنْ يقعَ في مخالفةِ نصوصِ شرعيةِ من حيثُ لا يعلمُ. ولأن العملَ بقولٍ جديدٍ من غير استفتاءٍ عملٌ بالهوى والشهوة، وهو ينافي التدينَ.
وقد اشترط بعض العلماء لصحة التلفيق شروطاً، أهمها :
1 ـ أن لا يخالف إجماعاً أو نصاً من كتاب أو سنة.
2 ـ أن لا يكون بقصد التحلل من عهدة التكليف.
تتبع الرخص
يُقصدُ بتتبُّع الرخص : الأخذُ بأخف الأقوال في المسائل الخلافية.
وهذا العملُ قد يحصُل من مجتهدٍ أو مقلدٍ.
فالحاصل من المجتهد لا يجوز إلا أنْ يؤدّيَه اجتهادُه إلى رجحانه مطلقاً، أو في صورةٍ من الصور التي سئلَ عنها. كما تقدم في التلفيق.
وأما من المقلد فإن التتبعَ للرخص لا يكونُ إلا ممن له علمٌ بالمذاهب؛ وقد أجازه بعضُ العلماء. والصوابُ منعُه؛ لأن فرضَ المقلد سؤالُ أهل العلم، كما قال تعالى : { } [النحل43].
ولأن تتبعَ الرخص يؤدّي إلى التحلُّل من رِبقة التكاليف الشرعية، وهو عملٌ بالهوى بدون دليل. ولهذا قال بعضُ العلماء : مَن تتبّع الرخصَ فقد تزندق.
وينبغي أنْ يُعلمَ أن تتبعَ الرخص إنما يتحقّقُ في شأن مَن هذا ديدنُه في مسائل الخلاف.
وأما من أخذ في مسألة أو مسألتين بالقول الأخفّ لحاجته إليه : فهذا قد اختُلف في صحّة عمله، بناءً على ما ذكرناه سابقاً في مسألة العامي إذا سأل أكثر من عالم فاختلفوا فماذا يصنع؟ وقد ذكرت في المسألة أقوال كثيرة، منها : أن له أنْ يأخذَ بالأسهل.
ولكن الراجحَ أنه يطلبُ الترجيحَ فيأخذُ بفتوى الأعلم والأورع، فإنْ تساويا سأل ثالثاً.
وقد استأنس القائلون بجواز الأخذ بأسهل الأقوال بما رُوي عن الإمام أحمد أنه سأله رجلٌ عن مسألةٍ في الطلاق، فقال : إن فعل حنث. فقال له : يا أبا عبد الله، إن أفتاني إنسان (يعني: بعدم الحنث)، فقال : تعرف حلْقةَ المدنيين؟ ـ حلقة بالرّصافة ـ فقال له: إنْ أفتوني يحلُّ؟ قال : نعم ( ).
وهذا النقلُ ليس دالاًّ على تجويز الإمام أحمد اتّباع المقلِّد لرخص المذاهب؛ لأن القصةَ تدل – إن صحّتْ – على جواز أخذ المقلِّد في مسألةٍ اجتهاديةٍ لا نصَّ فيها بأسهل الرأيين، ولم يظهر من كلام السائل ولا من كلام الإمام أحمدَ ما يدلُّ على أن ذلك من عادةِ السائل وديدنِه في مسائل الخلاف.
وقد يُنازَع في دلالة القصة حتى على التخيُّر عند اختلاف المجتهدين ولو لم يُتّخذْ عادةً؛ لأن الإمامَ أحمدَ أرسله إلى علماءٍ ثقاتٍ يعرفهم، وقال له إنْ أفتوك بالحلّ فرأيُهم أرجحُ لكثرتهم، وللعاميّ عند اختلاف المفتين أنْ يأخذَ بقول الأكثر منهم؛ لأن الكثرةَ من المرجِّحات.
الخاتمة :
الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات وترفع الدرجات. أما بعد :
فقد انتهى هذا السفر الذي آمل أن يكون موافقا لصحيح الأدلة من المنقول والمعقول، محققاً لما رجوته من استيعاب أهم مسائل الأصول، على وجه يكفي قارئه عن كثير من المطولات، ويحرر كثيراً من المشكلات.
وإني لآمل من الله جل وعلا أن يجعل ما بذلته فيه من جهد زيادة في الحسنات وتكفيراً للسيئات.
وأرجو من القارئ الكريم أن لا يبادر إلى تخطئة ما يراه مخالفاً للمشهور قبل المراجعة والتأمل.
كما أرجو أن يكتب إليّ بما له من ملحوظات لتلافيها في الطبعات القادمة إن شاء الله تعالى؛ عملاً بقول الله جل وعلا : { } [المائدة2].
واللهَ أسأل أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل به، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
مقدمة 3
التمهيد : التعريف بأصول الفقه 5
نشأة أصول الفقه 5
تعريف أصول الفقه 10
تعريف الفقه 11
تعريف الأصول 14
تعريف أصول الفقه باعتباره علَماً 15
موضوع أصول الفقه 17
فوائد علم أصول الفقه 18
استمداد أصول الفقه 21
الباب الأول : الحكم الشرعي 24
تعريف الحكم الشرعي 24
أقسام الحكم الشرعي 28
تعريف الواجب 30
أقسام الواجب 32
تقسيم الواجب بالنظر إلى ذاته ووقته 32
الفرق بين الواجب الموسع والواجب المضيق 36
انقسام الواجب إلى عيني وكفائي والفرق بينهما 37
انقسام الواجب إلى محدد وغير محدد 39
ما لا يتم الواجب إلا به 40
زيادة الواجب غير المحددة هل تكون واجبة 42
المندوب تعريفه وطرق معرفته 43
أسماء المندوب 44
هل يلزم المندوب بالشروع فيه؟ 46
الحرام تعريفه وطرق معرفته 48
التضاد بين الحرام والواجب 49
المكروه تعريفه وطرق معرفته 51
المباح تعريفه وطرق معرفته 53
الحكم الوضعي تعريفه وأقسامه 55
أوصاف العبادة المؤقتة (الأداء القضاء الإعادة) 61
العزيمة والرخصة 62
الفرق بين الرخصة والمخصوص من العموم 63
الفرق بين الحكم التكليفي والوضعي 65
التكليف : تعريفه 68
صحة تسمية أوامر الشرع تكاليف 68
شروط التكليف 70
شروط الفعل المكلف به 73
التكليف بما لا يطاق 74
موانع التكليف 79
أهلية الوجوب وأهلية الأداء 79
الباب الثاني: أدلة الأحكام الشرعية 94
تعريف الدليل وأقسامه 94
الأصل في الأدلة الشرعية العموم 96
القراءة الصحيحة والشاذة والباطلة 98
تعريف السنة وأقسامها 103
شروط الراوي 109
حجية السنة 111
شروط الحنفية لقبول خبر الآحاد 116
أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم 119
الإجماع 124
حجية الإجماع السكوتي 130
أهل الإجماع 134
عمل أهل المدينة 137
القياس 142
تعريف العلة 146
شروط القياس 149
طرق معرفة العلة 160
أقسام القياس 169
حجية القياس 173
القياس في الحدود والرخص والكفارات 177
التعليل بالحكمة 179
قول الصحابي 184
شرع من قبلنا 189
الاستحسان 193
الاستصحاب 199
الاستصلاح 204
سد الذرائع 211
الباب الثالث : دلالة الألفاظ 214
تعريف الأمر 216
دلالة الأمر على الوجوب 222
دلالة الأمر على الفورية 226
دلالة الأمر علىالتكرار 231
سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته 236
اقتضاء الأمر الإجزاء بفعل المأمور به 243
الأمر بالأمر بالشيء 249
دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده 253
الأمر بعد الحظر 259
الأمر في الواجبات الكفائية 266
تعلق الأمر بالمعدوم 268
تعريف النهي وصيغته 270
اقتضاء النهي التحريم 273
اقتضاء النهي الفورية والاستمرار 275
النهي عن الشيء أمر بضد من أضداده 276
النهي بعد الأمر 277
اقتضاء النهي الفساد 278
تعريف العام والخاص 285
الفرق بين العام والمطلق 287
أقسام العام 289
العموم المعنوي 291
تقسيم العام باعتبار استعماله في عمومه أو عدمه 297
صيغ العموم 299
الخلاف في وضع صيغة للعموم 309
قوة دلالة العام 315
العام بعد التخصيص 318
تعريف التخصيص 321
المخصصات المتصلة 324
شروط الاستثناء 328
الاستثناء المتعقب للجمل 336
الاستثناء من النفي 342
الشرط الذي يحصل التخصيص به 345
المخصصات المنفصلة 348
العموم الوارد على سبب 358
دخول المخاطِب في عموم خطابه 361
دخول العبيد والكفار في الخطاب العام 363
العمل بالعام قبل البحث عن مخصص 364
المطلق والمقيد 367
المنطوق والمفهوم 374
دلالة الاقتضاء 375
دلالة الإشارة والإيماء 377
حجية مفهوم المخالفة 382
منهج الحنفية في تقسيم كيفية الدلالة 388
دلالة اللفظ من حيث الظهور والخفاء (النص والظاهر والمجمل) 390
تقسيم الحنفية دلالة اللفظ من حيث الوضوح والخفاء 401
تعريف البيان ومراتبه 406
تأخير البيان 410
التخريج على قاعدة تأخير البيان 413
الباب الرابع : التعارض وطرق دفعه 415
شروط التعارض 416
طرق دفع التعارض الظاهري 419
الجمع بين المتعارضين 420
النسخ 422
شروط الناسخ 423
طرق معرفة النسخ 427
الترجيح تعريفه وشروطه 429
الترجيح من جهة السند 432
الترجيح من جهة المتن 434
الترجيح لأمر خارجي 438
الترجيح بين محامل اللفظ الواحد 440
الترجيح بين المعقولين 442
الباب الخامس : الاجتهاد 448
تعريف الاجتهاد وأركانه 448
شروط الاجتهاد 451
تجزؤ الاجتهاد 455
اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة 458
المصيب في مسائل الاجتهاد واحد 461
تجديد الاجتهاد 467
تغير الاجتهاد والقواعد المبنية عليه 471
الباب السادس : التقليد 476
تعريف التقليد 476
أركان التقليد وحكمه 478
التقليد في الأصول 480
التقليد في الفروع 482
سؤال العامي من شاء من المفتين 486
تقليد الميت 487
التلفيق 489
تتبع الرخص 492
الخاتمة 494
فهرس الموضوعات 495
أصول الفقه
الذي لا يسع الفقيهَ جهلُه
تأليف
أ.د. عياض بن نامي السلمي
عضو هيئة التدريس بقسم أصول الفقه
بكلية الشريعة بالرياض
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، وترفع الدرجات، أحمده على آلائه ونعمه، وأعوذ به من عذابه وغضبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، بعثه الله بالحق بشيراً ونذيراً، فبشر ويسر، وحذر وأنذر، حتى تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد : فقد طلب مني كثير من الإخوان في مناسبات عديدة أن أكتب كتاباً في أصول الفقه يكون متوسطاً في حجمه، جامعاً لأهم مسائل هذا العلم، مع وضوح العبارة وضرب الأمثلة التي تقربه للفهم وتظهر فوائده لطلاب العلم.
وقد رأيت أن أجيب طلبهم بتأليف كتاب يحتوي على ما لا يستغني عنه الفقيه من أصول الفقه، مع تجنب الإطالة في مسائل الخلاف، والاكتفاء بالأقوال المشهورة وأهم أدلتها، والعناية ببيان حقيقة الخلاف، وتصحيح ما يقع من الوهم أو سوء الفهم للمشتغلين بهذا العلم في تحرير مسائله وتقريرها وتصويرها.
وقد عُنيتُ عنايةً خاصة بثمرات الخلاف، والوقوف عند بعض القضايا الشائكة وتحريرها وتقريبها للفهم، وقد أخالف ما عليه أكثر الأصوليين في اختيار رأي أو تعريف، أو نحو ذلك، لا رغبةً في المخالفة، ولكن إيضاحاً لما أعتقده من الحق، أو تصحيحاً لخطأ نشأ عن سوء الفهم أو تضارب النقول عن أئمة الأصول.
وقد اجتهدتُ في أن يكون الكتاب شاملاً للمناهج التي تدرس في كليات الشريعة وأصول الدين في الجامعات السعودية؛ رجاء أن يكون الطلابُ أولَ المستفيدين منه.
وليشمل الكتاب جميع المسائل المهمة في أصول الفقه قسمته إلى تمهيد وستة أبواب وخاتمة، على النحو التالي :
التمهيد : التعريف بأصول الفقه.
الباب الأول : الحكم الشرعي.
الباب الثاني : أدلة الأحكام الشرعية.
الباب الثالث : دلالة الألفاظ.
الباب الرابع : التعارض وطرق دفعه.
الباب الخامس : الاجتهاد.
الباب السادس : التقليد.
وقد رأيت أن لا أثقل الكتاب بالهوامش والحواشي، فاقتصرت على توثيق المعلومات التي لا يتكرر وجودها في كتب التخصص، أو التي فيها شيء من الغرابة.
وفي تخريج الأحاديث اقتصرت على عزو الحديث لمن خرَّجه في الصلب، وإذا خُرّج في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت به.
واللهَ أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم.
والحمد لله أولا وآخرا. وصلى الله وسلم على رسوله وآله وصحبه أجمعين.
عياض السلمي
الرياض 1/1/1426هـ
التمهيد
التعريف بأصول الفقه
1 ـ نشأة أصول الفقه :
أصول الفقه ككثير من العلوم الإسلامية لم يأخذ شكله النهائي الذي يميزه عن سائر علوم الشريعة إلا في آخر القرن الثاني، أما في العهد النبوي وعهد الصحابة وأوائل عهد التابعين فلم يكن أصول الفقه علما مستقلا متميزا عن غيره من علوم الشريعة، ولكن قواعده العامة كانت موجودة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأدلة الشرعية التي هي موضوع هذا العلم الرئيس كانت معروفة، والاستدلال بالكتاب والسنة والقياس كان حاصلا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلالة الكتاب والسنة كانت معروفة للصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بحكم معرفتهم بلغة العرب التي نزل بها القرآن وتكلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم أمراء الفصاحة والبيان، وأعرف الناس بمعاني اللغة من حقيقة ومجاز، وإطلاق وتقييد، وعموم وخصوص، ومنطوق ومفهوم، ولم يكونوا بحاجة إلى أن توضع لهم قواعد تبين طرق الدلالات.
وهم بالإضافة إلى ما سبق قد عرفوا أسباب النزول، والظروف التي قيلت فيها الأحاديث القولية، وشهدوا الحوادث التي قضى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بقضاء أو سنَّ فيها سنة، فأغناهم ذلك عن كثير مما احتاج إليه المتأخرون، وكانوا يجمعون إلى ذلك سلامة النية وحسن القصد في طلب الحق من غير هوى ولا تعصب.
كان الصحابة رضي الله عنهم يفزعون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يعرض لهم من الحوادث، فإن كان الحكم قد أوحي إليه به أفتاهم وأرشدهم، سواء أكان الوحي متلواً أم غير متلو، وإن لم ينزل عليه في ذلك وحي صريح نظر فيما أوحي إليه، فإن ظهر له حكم المسألة أخبرهم به وإلا انتظر الوحي الذي لا يلبث أن يأتيه عن قرب بحكم ما أشكل عليه.
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة بالحمر الأهلية، فقال : « ما أُنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: { * }[الزلزلة 7-8]» (متفق عليه).
فهذا استدلال من الرسول صلى الله عليه وسلم بعموم الكتاب على مسألة جزئية، ومثله إنكاره على أبي بن كعب رضي الله عنه تأخره عن إجابة ندائه لاشتغاله بالصلاة، واستدلاله عليه بعموم قوله تعالى : { }[الأنفال 24] (أخرجه أحمد والترمذي)، ومثل هذه القصة ما حصل لأبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه (أخرجه البخاري).
ومن اجتهاداته فيما لم يرد فيه نص بخصوصه ولا بعمومه اجتهاده في أخذ الفداء من أسرى بدر، وعقد الصلح مع أهل مكة عام الحديبية، وسيأتي لهذا مزيد بيان في باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى.
وأما الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يجتهدون في فهم النصوص من الكتاب والسنة، ويسأل بعضهم بعضا فيما خفي عليه، ويقيسون المسائل بما يشبهها، ولم يكونوا بحاجة إلى وضع قواعد تضبط استدلالهم مع حضور تلك القواعد في أذهان المجتهدين منهم، وكذلك كان الحال في عهد كبار التابعين مع ظهور التفاضل بينهم في العلم والفتوى.
وفي أواخر عهد التابعين بدأت المدارس الفقهية تظهر قدرا أكبر من التمايز والاختلاف، فبرز في العراق ما سمي أخيرا بمدرسة أهل الرأي، وبرز في المدينة ما عرف بمدرسة أهل الحديث ( ). وكان طلاب الفتوى يترددون بين علماء هذا الاتجاه أو ذاك، وربما سأل بعضهم في النازلة أكثر من عالم من غير أن ينكر هؤلاء أو أولئك على عوام الناس سؤالهم لمن يثقون به.
وكان في كل بلد من حواضر الإسلام علماء يرجع إليهم الناس في الفتيا والقضاء، ولهؤلاء العلماء طلاب تأثروا بمنهجهم واقتفوا آثارهم وربما التقى العلماء فتناظروا وأدلى كل منهم بحجته، فإما أن يرجع أحدهم إلى قول صاحبه أو يبقى على رأيه لقناعته بصحته لا حبا في الخلاف، وربما التقى الطلاب فتفاخر كل منهم بأستاذه ومعلمه.
وفي هذه الأثناء بدأ التعصب لرأي الشيخ والإعجاب به يطغى على الإنصاف عند بعض الطلاب، ولم تكن هناك قواعد يرجع إليها لوزن الآراء ومعرفة الراجح منها والمرجوح.
وفي هذا الوقت كثر اختلاط العجم بالعرب، وضعف اللسان العربي، ودخل الوضع في الحديث لنصرة مذهب سياسي أو لتأييد رأي، وتصدر للرواية من لم يكن أهلا، واحتاج القرآن إلى تفسير وإيضاح، واحتاجت السنة إلى تمييز الصحيح منها عن الضعيف.
ولذلك كله شرع الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في وضع قواعد تضبط الاستدلال، وتبين ما يصلح دليلا وما لا يصلح، وتبين عمل الفقيه عند تعارض الأدلة عنده، وتؤسس قواعد الفهم لنصوص الكتاب والسنة، فكتب الرسالة، وجعلها بمثابة مقدمة لكتاب الأم، فتلقاها أكثر الناس بالقبول وأعجبوا بها حتى قال الإمام أحمد : « ما أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا وللشافعي عليه مِنَّة، فقلنا : يا أبا محمد كيف ذلك؟ قال : إن أصحاب الرأي كانوا يهزأون بأصحاب الحديث حتى علمهم الشافعي وأقام عليهم الحجة»( ). ولم يكن كتاب الرسالة هو كل ما كتبه الشافعي في أصول الفقه، بل كتب كتبا أخرى لكنها لم تكن في شمول الرسالة ولا في تمحضها لمسائل هذا العلم، ومن تلك الكتب اختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وجماع العلم، وكتاب أحكام القرآن( ).
وبعد الإمام الشافعي تتابع التأليف في هذا العلم فكتب الإمام أحمد بن حنبل كتاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتب داود الظاهري : الإجماع، وإبطال التقليد، وخبر الواحد، والخصوص والعموم، وكتب عيسى بن أبان كتابا في خبر الواحد، وكتب الكرخي رسالة في أصول الفقه طبعت مع كتاب تأسيس النظر لأبي زيد الدبوسي وهي تقع في ورقات قليلة أشبه بقواعد فقهية لعلماء الحنفية، ومن أقدم كتب الحنفية الموجودة : الفصول، لأبي بكر الجصاص، وهو مطبوع محقق.
وكان القرنان الخامس والسادس هما عصر ازدهار التأليف في أصول الفقه، حيث ظهرت فيهما أهم كتب أصول الفقه مثل العمد للقاضي عبد الجبار، والمعتمد لأبي الحسين البصري، واللمع، والتبصرة كلاهما لأبي إسحاق الشيرازي، والعدة للقاضي أبي يعلى، والمستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل للغزالي، والواضح لابن عقيل، والتمهيد لأبي الخطاب الكلوذاني، وأصول السرخسي، وأصول البزدوي، وإحكام الفصول، والإشارة، لأبي الوليد الباجي.
وفي أواخر القرن السادس وما بعده انتشرت المختصرات والشروح، فأما المختصرات فكان القصد منها الحفظ وجمع أكبر قدر من المسائل الأصولية في كتاب صغير يمكن حفظه. وأما الشروح فكان القصد منها حل ما في المختصرات من إشكال، وتفصيل ما فيها من إجمال، وتقريب المسائل بضرب الأمثلة وبيان الراجح من الأقوال بذكر الأدلة.
وفي العصر الحديث ضعفت همم الناس عن حفظ المختصرات، وقصرت أفهامهم عن إدراك ما فيها من المبهمات، ولم يجدوا من الوقت ما يقضونه في دراسة المطولات، من الشروح والمؤلفات، فاحتاجوا إلى نوع جديد من المؤلفات، يكون سهل العبارة محصلا للمقصود من أصول الفقه بأيسر طريق.
ولما كان أصول الفقه من علوم الآلة لا من العلوم التي تقصد لذاتها وإنما للتوصل إلى الفقه في الدين ومعرفة الحلال من الحرام بطريق يطمئن إليها العالم ويقتنع بها طالب العلم، لم أر بأساً من الإسهام في إعادة صياغة هذا العلم بأسلوب ميسر، مع المحافظة على أسسه وقواعده، ومحاولة التقريب بينه وبين الفقه، ليمتزج العلمان فتؤخذ الثمرة من المثمِر طرية يانعة.
وما يتخوّف منه بعض الغيورين من ابتعاد الناس عن كتب التراث وجهلهم بلغتها وأسلوبها إن هم اكتفوا بتلك المؤلفات الحديثة، لا أرى له ما يؤيده من النقل ولا من العقل؛ فإن النقل إنما جاء بالأمر بالتفقه في الدين ومعرفة حكم الله جل وعلا بالطريق الصحيح والعمل به : { } [التوبة 122] «رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها »، ولم يتعبدنا الله جل وعلا بقراءة كتاب غير كتابه ولا بحفظ كلام سوى كلامه، ولم يتعبدنا الله بالاجتهاد في فهم معميات المختصرات، ولا بالاجتهاد في منطوق كلام أحد من خلقه ومفهومه إلا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو حجة يجب تأملها والنظر فيها وفق ما تقرر من قواعد الفهم والاستدلال.
وأما العقل فإنه يقتضي ضرورة البحث عن الحق بأيسر وسيلة وأقربها، وأن لا يضيع الإنسان عمره في سلوك الدروب المتعرجة مع تمكنه من الوصول إلى الغاية بالطريق المستقيم.
وليس معنى هذا الكلام الدعوة إلى ترك كتب المتقدمين والاكتفاء عنها بكتب المتأخرين، وإنما المقصود أن لا يظن من لم يسعفه ذهنه بإدراك كتب المتقدمين أن الطريق أمامه موصدة فيرضى بمرتبة التقليد، بل عليه أن يعرف مما كتبه المحدثون ما يمكنه من الاختيار والترجيح، ويعينه على معرفة القول الباطل من الصحيح.
2 ـ تعريف أصول الفقه :
لا أظن أن هذا العلم بعد اشتهاره وكثرة المؤلفات فيه بحاجة إلى تعريف، فهو أشهر من أن يعرف، ولكن العادة جرت بأن كل من كتب في أصول الفقه يذكر تعريفه، إما لأن هذا العلم متداخل مع علوم شتى من علوم الشريعة مثل الفقه والحديث والتفسير، ومتداخل مع علوم اللغة كعلم المعاني والبيان والنحو، وإما لأن الذين كتبوا في هذا العلم من المتقدمين اعتادوا أن يذكروا تعريفه لأنه لم يتميز في عهدهم تميزا كاملا عن غيره من العلوم ثم جاء من بعدهم فقلدهم، وإما لأنهم تأثروا بما يقوله أهل المنطق من أنه يجب على كل من درس علما أن يعرف تعريفه وموضوعه وغايته، ثم يشرع في تعلم مسائله.
وإرضاء لرغبة عامة طلاب العلم أذكر التعريف المختار لهذا العلم بالنظر إلى كونه مركباً إضافياً، وبالنظر إلى كونه عَلَماً على عِلم مخصوص من علوم الشريعة.
أ ـ تعريف أصول الفقه بالنظر الأول :
أصول الفقه مركب من مضاف ومضاف إليه، وتعريفه يقتضي معرفة جزءيه، والمضاف إليه آصل من المضاف، فينبغي أن نعرفه أولا ثم نعرف المضاف.
تعريف الفقه :
الفقه في اللغة : الفهم، أو هو معرفة باطن الشيء والوصول إلى أعماقه، كما يقول الراغب الأصفهاني في المفردات، أو هو فهم الأشياء الدقيقة، ومنه قوله تعالى : { } [الإسراء44] { } [هود91].
وفي الاصطلاح : « العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية ».
شرح التعريف :
قولهم : (العلم): جنس، يشمل العلم بالأحكام الشرعية وبغيرها من التصورات والأحكام. والمراد به هنا مطلق الإدراك الشامل للظن واليقين. وليس المراد به الإدراك القطعي اليقيني؛ لأن كثيرا من مسائل الفقه ظنية، بل إن من العلماء من خص الفقه بمعرفة المسائل الاجتهادية ولم يجعل المسائل الظاهرة التي يشترك في معرفتها العامة والخاصة من الفقه. أو يقال : المراد بالعلم مجموعة المعارف المندرجة تحت هدف كلي واحد، كما يقال: علم الطب، وعلم الفلك، مع أن كثيرا من قضاياهما ظني. وهذا أولى من جواب الرازي الذي زعم فيه أن الفقه ليس من باب الظنون؛ لأنه مبني على مقدمتين قطعيتين فيكون قطعياً.
وهاتان المقدمتان هما :
1ـ مقدمة وجدانية، وهي ما يجده المجتهد في نفسه من الظن بأن هذا حكم الله.
2ـ مقدمة إجماعية، وهي الإجماع على أن ما هذا شأنه يجب العمل به.
وإنما قلت : إن هذا أولى؛ لما في جواب الرازي من التكلف.
وقولهم : (بالأحكام): قيد أخرج العلم بما لا حكم فيه وهو التصور. والحكم يراد به هنا : إثبات أمر لآخر أو نفيه عنه.
وقولهم : (الشرعية) : أخرج العلم بالأحكام غير الشرعية كالحكم بصحة العبارة لغة أو بخطئها، وكالعلم بنفع هذا الدواء للمريض وضرره، فالأول حكم لغوي، والثاني طبي.
وقولهم : (العملية) أي : المتعلقة بما يصدر عن الناس من أعمال كالصلاة والزكاة والصوم والبيع، وهذا القيد يخرج الأحكام الاعتقادية، فإن العلم بها لا يسمى فقها في الاصطلاح؛ لاختصاص الفقه بالعلم بالأحكام العملية، وهذا لا ينفي أنهم كانوا يطلقون اسم الفقه الأكبر على مسائل الاعتقاد، ولكن هذا العلم اختص باسم آخر وهو علم التوحيد أو علم الكلام.
وقولهم : (المكتسب) : صفة للعلم، والعلم المكتسب هو الحادث الذي يحصل باجتهاد وعمل، فيخرج علم الله جل وعلا فإنه أزلي، وعلم جبريل عليه السلام فإنه حصل بإعلام الله له ولا كسب له فيه، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه فإنه علم لدُنِّيٌّ فلا يسمى فقها في الاصطلاح، وأما ما حصل باجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم فيدخل في مسمى الفقه.
وقولهم: (من أدلتها التفصيلية)، متعلق بقولهم المكتسب، فالأدلة هي وسيلة اكتساب هذا العلم، وهذا يخرج علم المقلد فإنه ليس مكتسبا من الأدلة بل اكتسبه بتقليد غيره.
والأدلة التفصيلية : هي الأدلة الجزئية الخاصة بكل مسألة فقهية، مثل آية : { } [المائدة 3] الدالة على تحريم كل أجزاء الميتة. وحديث: « أيما إهاب دبغ فقد طهر » (أخرجه أحمد وأصحاب السنن من حديث ابن عباس مرفوعا، ومعناه في صحيح مسلم) الدال على طهارة جلد الميتة بالدبغ، وقياس الخنزير على الكلب في وجوب غسل الإناء من سؤره سبعا، وهكذا سائر الأدلة التفصيلية.
ومع أن كلمة الفقه لم تكن تطلق في الاصطلاح الأول إلا على الأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية بنوع من الاجتهاد، غير أن المتأخرين أصبحوا يطلقون هذه الكلمة على جميع الأحكام العملية التي تحويها كتب الفقه المصنفة مع أن فيها ما يشترك في معرفته الخاص والعام من المسلمين؛ لدلالة النصوص القطعية المشتهرة عليه، فيكون الفقه اسما لمجموع تلك المسائل لا للعلم بها أو ببعضها.
وتأسيساً على ما سبق أصبح اسم الفقيه يطلق على من عرف تلك الأحكام، سواء عرفها بنظر واجتهاد، أو عرفها تقليدا لإمام من الأئمة.
ولو راعينا المعنى المراد من كلمة الفقه في عرف القرآن والسنة وعرف الصحابة والتابعين، لقصرنا اسم الفقيه على من عرف الأحكام الشرعية التي تحتاج في إدراكها إلى نظر واجتهاد دون ما يشترك فيه عامة المسلمين، وكانت معرفته مبنية على إدراك أدلتها لا تقليداً لغيره، ولم نفرق بين الأحكام الاعتقادية والعملية.
وهاهنا سؤال أورده الآمدي وغيره، خلاصته : أن الفقه إذا كان هو العلم بالأحكام الخ، فينبغي أن لا يسمى فقيها إلا من علم تلك الأحكام كلها، وهذا لا يجتمع لواحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عن العلماء توقفهم في بعض المسائل ولم يمنع ذلك من إطلاق وصف الفقه عليهم، ولم يخرجوا من الفقهاء لتوقفهم.
والجواب عنه : أن المراد بالعلم بتلك الأحكام ليس حضورها في ذهن العالم بالفعل، وإنما حضور أكثرها في ذهنه، وقدرته على استنباط بعضها بعد النظر والاجتهاد، فيكون علمه لبعضها بالفعل وللباقي بالقوة القريبة بحيث يستطيع معرفتها دون حاجة إلى تعلم علم جديد.
تعريف الأصول :
الأصول : جمع أصل، وهو في اللغة : ما يبنى عليه غيره. ويطلق على منشأ الشيء.
وفي الاصطلاح : أطلق لفظ الأصل على عدة معان، أهمها ما يلي :
1ـ الدليل : كما يقول الفقهاء: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة والإجماع، أي : الدليل عليها.
2ـ القاعدة المستمرة : كما يقول الأصوليون : الأصل أن الخاص مقدم على العام عند التعارض، وكما يقول النحاة : الأصل في المبتدأ التقديم وفي الخبر التأخير.
3ـ الراجح : كما يقول الأصوليون : الأصل بقاء ما كان على ما كان. والأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعية.
4ـ مخرج المسألة الفرضية، أي : العدد الذي تخرج منه الفروض المقدرة بلا كسر، كما يقول الفرضيون: أصل هذه المسألة كذا، وأصول المسائل 2، 3، 4، 6، 8، 12، 18، 24.
5ـ المقيس عليه، كما يقول الأصوليون في باب القياس : أركان القياس أربعة: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم.
وأقرب هذه المعاني لإطلاق الأصل هنا هو المعنى الأول ثم الثاني.
ب ـ تعريف أصول الفقه باعتباره علَماً :
وأما أصول الفقه الذي هو علَم على علم من علوم الشريعة فهو : كما عرفه الرازي : « مجموع طرق الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد ».
شرح التعريف :
قوله : (مجموع طرق الفقه) أي : مجموع الطرق التي توصل إلى إدراك الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
وعبَّر بالطرق دون الأدلة؛ لأن الأدلة عند كثير من العلماء لا تشمل ما يفيد الظن مثل القياس والاستصلاح ونحوهما من الطرق التي جعلها الفقهاء أمارات على الأحكام، وإنما تطلق على النصوص القطعية والإجماع القطعي فحسب.
قوله : (الإجمالية): نسبة إلى الإجمال وهو ضد التفصيل، وعبر بالإجمالية ليخرج طرق الفقه التفصيلية التي يعد الاشتغال بها من عمل الفقيه كما أسلفنا.
وبحث الأصولي لا يتعلق بآية من القرآن بخصوصها كيف تدل على ما دلت عليه من الأحكام، ولا حديث بعينه، ولا قياس بعينه، وإنما يبحث في حجية الكتاب وحجية السنة وحجية القياس، وهكذا. فهو يبحث في عوارض تلك الأدلة وما توصف به من قوة أو ضعف وإحكام أو نسخ، وفي شروطها وترتيبها وكيفية الجمع بينها عند تعارضها في نظر من لم يتأملها جيدا.
قوله : (وكيفية الاستفادة منها) أي : طرق استفادة الأحكام من الأدلة والأمارات الموصلة إليها، وهذا يشمل طرق الدلالة اللفظية والعقلية، وطرق نصب الدليل الذي يوصل إلى معرفة الحكم الشرعي، سواء أكان الدليل نصّاً من قرآن أو سنة ونحوهما أم معقولا من النص كالقياس والاستصلاح وغيرهما، وهذا يدخل ما ذكره الأصوليون في دلالات الألفاظ من العام والخاص والمطلق والمقيد، والأمر والنهي، والمنطوق والمفهوم، كما يُدخل طرق معرفة العلة المستنبطة ونحو ذلك مما لا يخفى.
قوله: (وحال المستفيد) أي: وكيفية حال المستفيد، والمراد بالمستفيد صنفان: المجتهد والمقلد، فالمجتهد يستفيد الحكم من الدليل أو الأمارة التي نصبها الشرع لتهدي إلى الحكم. والمقلد يستفيد الحكم من المجتهد بسؤاله عنه.
وحال المجتهد والمقلد مما يدخل في أصول الفقه، فالعلم بشروط الاجتهاد وحكمه، وأنواع المجتهدين وآداب الاجتهاد وحكم التقليد وآداب الاستفتاء، وما يتبع ذلك كله داخل في أصول الفقه.
وهذا التعريف من أجود التعريفات التي ذكرها الأصوليون، غير أنه عبر بلفظ الكيفية، وهي مصدر صناعي من الكيف، وليست فصيحة كما يقول أهل اللغة، والأولى أن يستعاض عنها بلفظ صفة.
كما أنه يمكن الاستعاضة عن قوله : « طرق الفقه » بـ « أدلة الفقه »؛ لأن الدليل يطلق على القطعي والظني على الصحيح من قولي العلماء كما سيأتي.
وهناك من جعل أصول الفقه هو العلم بتلك الأدلة على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها. الخ.
والأصولي: هو من عرف طرق الفقه الإجمالية وصفة الاستفادة منها وحال المستفيد.
وقد شاع إطلاق اسم الأصولي على كل من له اشتغال بعلم أصول الفقه تعليما وتأليفا، كما شاع إطلاق أصول الفقه على الجملة الغالبة من مسائل هذا العلم، فصح أن يسمى أصوليا من أدرك غالب مسائله بالفعل وكانت له ملكة تمكنه من إدراك ما عداها دون حاجة إلى تعلم علم جديد أو التلقي عن عالم آخر.
3 ـ موضوع أصول الفقه :
موضوع هذا العلم : الأدلة، سواء أكانت قطعية أم ظنية.
وقيل: موضوعه: الأدلة والأحكام.
والذي يظهر من تعريف الفخر الرازي الذي نقلناه فيما سبق، أن هذا العلم له ثلاثة موضوعات رئيسة هي :
1ـ طرق الفقه على سبيل الإجمال، ويقصد بها الأدلة بنوعيها القطعي والظني، أو المتفق عليه والمختلف فيه، والبحث فيها يشمل حجيتها وقوتها في الإيصال إلى الحكم، وشروط حجيتها وترتيبها وجميع عوارضها.
2ـ صفة الاستفادة منها، وهذا يشمل طرق الدلالة أهي عقلية أم لفظية؟ حقيقية أم مجازية؟ بطريق المنطوق أم المفهوم؟ بطريق الخصوص أم العموم؟. وهذا يعرف عند المتأخرين بطرق الاستنباط، كما يشمل طرف معرفة العلة وإجراء الأقيسة.
3ـ صفة المجتهد والمقلد وما يتبع ذلك من شروط الاجتهاد وأحكامه، وسبيل دفع التعارض والمرجحات، ومعنى التقليد وأحكامه.
4 ـ فوائد علم أصول الفقه :
لا شك أن العلم يشرف بشرف الغاية من تعلمه، وأصول الفقه له غايات عظيمة وفوائد كبيرة في الدنيا والآخرة، وأهم غاياته وأهدافه ما يلي :
1ـ التفقه في الدين، ومعرفة ما للمكلف وما عليه من الحقوق والواجبات، وهذا يحصل بمعرفة أصول الفقه وتطبيق قواعده على الأدلة التفصيلية وعلى الحوادث الجزئية.
وقد يقول قائل إن الفقه قد جمع من قبل العلماء السابقين، ودونت فيه الدواوين الكبيرة فلا حاجة إلى البدء من حيث بدأوا، فلم تبق حاجة لدراسة علم أصول الفقه.
والجواب أن كثرة ما كتب في علم الفقه يدعو طالب العلم إلى تعلم أصول الفقه؛ ليعرض هذه الثروة الفقهية الضخمة التي اختلفت فيها أقوال الفقهاء وتعددت أدلتهم على الميزان العادل، والمحك المظهر للخطأ من الصواب، وهو أصول الفقه، فمن عرف أصول الفقه نظرا وتطبيقا يمكنه أن يعرف من تلك الأقوال والمذاهب ما هو أقرب إلى الحق وأجرى على قواعد الشريعة. والخلاصة أن كثرة المؤلفات الفقهية تدعو إلى تعلم هذا العلم والتعمق فيه لنقد الأقوال وبيان الراجح من المرجوح.
2ـ معرفة الحكم الشرعي لكل ما يجدُّ من الحوادث والوقائع التي لم يرد فيها بخصوصها نص صريح ولا ظاهر بيِّن، ولم يتكلم عنها الفقهاء السابقون لعدم وجودها في عصرهم. ونحن نرى في هذه الأيام حجم المسائل التي تعرض على المجامع الفقهية من حيث عددها ومن حيث خطورتها وأهميتها وتعقيدها، حتى إن بعضها يتوقف فيه علماء المجمع الفقهي ولا يصدرون فيه فتوى لعدم اكتمال صورته في أذهانهم، أو للحاجة إلى مزيد بحث في الأدلة، أو للاختلاف في تكييفه.
ومن القضايا التي جدت في هذا العصر على غير مثال سابق : التلقيح الصناعي، وأطفال الأنابيب، والرحم المستعار، وتجميد الأجنة والبويضات، والاستنساخ، وقضايا الحاسوب وبرامجه، وقضايا الانترنت، وإجراء العقود عن طريقه، والقضايا السياسية وكيفية حلها كالقضايا الحدودية بين الدول وما أشبه ذلك.
3ـ معرفة حِكَم الشريعة وأسرارها بالتأمل في علل الأحكام ومقاصدها ومعرفة المقاصد الشرعية الضرورية والحاجية والتحسينية، وتنزيل كل مقصد في منزلته عند التزاحم، ومعرفة ترتيب الواجبات والمستحبات لتقديم الأقوى دليلا والأكثر نفعا على ما سواه، ومعرفة المصالح والمفاسد ومعرفة المعتبر منها في الشرع والملغى، ومعرفة درجات المعتبر لتقديم ما يستحق التقديم.
4ـ مواجهة خصوم الشريعة الإسلامية الذين يزعمون أن الشريعة لم تعد صالحة للتطبيق في هذا الزمن، وذلك ببيان قدرة الشريعة على استيعاب حاجات الناس في الحاضر والمستقبل، وقدرتها على حل مشاكل الناس بما يتفق مع نصوص الوحي وعمل الصحابة والتابعين، وهذا لا يتم إلا بمعرفة أصول الفقه والقدرة على القياس والتخريج، والإحاطة بطرق الاستنباط من منطوق ومفهوم، وخصوص وعموم، وإطلاق وتقييد ونحو ذلك مما يدرس في أصول الفقه، ولو انصرف الناس عن دراسة هذا العلم لانسد باب الاجتهاد، ووقف الناس عندما اشتملت عليه كتب الفقه القديمة التي كتبت لتستوعب مشاكل العصر الذي هي فيه.
5ـ حماية الفقيه من التناقض، فالفقيه الذي لم يتعمق في دراسة هذا العلم تأتي فتاواه متناقضة فيفرق بين المتماثلات،ويسوي بين المختلفات، وهذا يضعف الثقة فيما يقول، ويسيء إلى الشريعة ويقلل من قيمتها في نفوس الجاهلين بها من المسلمين أو غيرهم. وأما من أحاط بأصول الفقه تأصيلا وتطبيقا فإنه يبرز الوجه المشرق للشريعة الربانية، ويكون بفتاواه وآرائه داعيا للإسلام مرغبا فيه ذابا عنه شبه الأعداء.
وأخيراً ربما يظن كثير من الناس أن أصول الفقه تقتصر فائدته على الفقه في المسائل العملية، والحق خلاف ذلك؛ فإن فائدة هذا العلم لا يستغني عنها المفسر والمحدث والمتكلم والباحث في العقائد، وكل من يحتاج إلى فهم نصوص الوحي والاستدلال بها، فإن هذا العلم عبارة عن قواعد للفهم الصحيح والاستدلال الصحيح، والجمع بين ما ظاهره التعارض، ولهذا نستطيع القول إن تسميته بأصول الفقه لا يعني اقتصار فائدته على استنباط الأحكام الفقهية، ولعل الذين سموا مؤلفاتهم بالأصول من غير تقييد بالفقه لحظوا هذا الملحظ فعمموا، ومن هؤلاء الغزالي الذي سمى كتابه : «المستصفى من علم الأصول» والرازي سمى كتابه : « المحصول من علم الأصول » والبيضاوي سماه : « منهاج الأصول في علم الأصول » والشوكاني سماه : « إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ».
والناظر في مسائل هذا العلم يجد كلامهم عن أصول التفسير وأصول الحديث إلى جانب طرق الاستنباط من الأدلة النقلية التي يستوي في الحاجة إليها المفسر والمحدث وغيرهما.
5 ـ استمداد أصول الفقه:
يستمد علم أصول الفقه مادته مما يلي :
1 ـ القرآن الكريم والسنة النبوية :
فإن هذين المصدرين هما أساس العلوم الشرعية كلها، فكل علم لا أصل له في الكتاب والسنة فليس من علوم الشريعة.
ووجه استمداده من هذين المصدرين أن موضوعات علم أصول الفقه ثلاثة أنواع كما سبق، أهمها أدلة الأحكام، والقرآن والسنة ترجع إليهما جميع الأدلة التي يذكرها الأصوليون سواء أكانت نقلية أم عقلية، محل اتفاق أم محل اختلاف، فحجية الإجماع والقياس والمصالح والاستحسان والعرف وشرع من قبلنا وأقوال الصحابة، راجعة إلى الكتاب والسنة، وطرق الدلالة، وطرق دفع التعارض بين الأدلة، وبيان منزلة كل دليل، راجع إلى الكتاب والسنة، ولهذا نجد أن أكثر القواعد الأصولية قد استدل عليها بالقرآن أو بالسنة أو بهما معاً.
2 ـ علم أصول الدين، ويعبر عنه أكثرهم بعلم الكلام :
ووجه استمداد أصول الفقه منه أن العلم بالأدلة الإجمالية وصحة الاستدلال بها مبني على معرفة الله تعالى وصفاته وما يجب له سبحانه وما يجوز له وما يمتنع إطلاقه عليه، والعلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه وما يجوز أن يقع من الرسول صلى الله عليه وسلم وما لا يجوز.
3 ـ اللغة العربية :
ووجه استمداده من اللغة العربية : أن اللغة هي وعاء الكتاب والسنة، والكتاب نزل بلغة العرب، والسنة القولية جاءت بلسان الرسول العربي، والاستدلال بهما مبني على معرفة طرق العرب في الإفهام والفهم، ومن جملة أصول الفقه طرق دلالة الألفاظ على المعاني من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، واشتراك وإجمال، ومنطوق ومفهوم، وحقيقة ومجاز، وهذه كلها إنما يتبع فيها ما جرى عليه عرف أهل اللغة الذين نزل القرآن بلغتهم وتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بها، إلا أن يكون للشرع عرف حادث فيقدم عند الاحتمال.
وفي هذا يقول إمام الحرمين : « ومن مواد أصول الفقه العربية؛ فإنه يتعلق طرف صالح منه بالكلام على مقتضى الألفاظ، ولن يكون المرء على ثقة من هذا الطرف حتى يكون محققا مستقلا باللغة العربية » ( ).
4 ـ الفقه :
وجَعْل الفقه مما يستمد منه أصول الفقه مشكل؛ من جهة أن الفقه كما عرفوه هو : « العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية » فلو كان الأصول مستمدا من الفقه لما عرف إلا بعد معرفة الفقه، والحال أن الفقه لا يعرف إلا بعد معرفة الأصول فيكون دوراً ممتنعاً.
وعدل الآمدي وغيره إلى الاستعاضة عن الفقه بالأحكام الشرعية، وأوضح أن المقصود تصوُّر تلك الأحكام ومعرفة حقائقها حتى يتصور إثباتها أو نفيها، ولا يقصد معرفة وجودها أو نفيها في آحاد المسائل؛ فإن هذا لا يعرف إلا بمعرفة أصول الفقه.
ومراد من عبر بالفقه : أن أصول الفقه يحتاج في إدراكه إلى إدراك أمثلة من الفقه يمثل بها لتتضح القواعد الأصولية، فالأصولي حين يتكلم عن طرق الدلالة يحتاج إلى ضرب أمثلة فقهية توضح مقصده، وإلا كان كلامه نظريا يصعب استيعابه وفهمه، كما أنه لا بد له من معرفة معنى الأحكام الفقهية كالواجب والمندوب والحرام والمكروه الخ؛ لأنه حين يقرر حجية السنة يقرر أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة، وأن معصيته حرام، ولا بد من تصور معنى الواجب والحرام، وهكذا سائر القواعد الأصولية.
وأما من جعل المستمد منه الأحكام الشرعية كالآمدي ومن تبعه، فمراده تصور معنى المحرم والمكروه والمباح والواجب والمندوب والصحيح والفاسد، ونحو ذلك من الأحكام.
الباب الأول
الحكم الشرعي
تعريفه :
الحكم في اللغة : المنع، ومنه سميت حَكَمَةُ الدابة وهي حديدة في اللجام، لأنها تمنع الدابة من مخالفة مراد صاحبها. ويطلق الحكم بمعنى القضاء، وفيه معنى المنع؛ لأن قضاء القاضي يمنع ضياع الحقوق.
وفي اصطلاح جمهور الأصوليين : « خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع ».
وعند الفقهاء : هو مقتضى خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين الخ، أو مدلول خطاب الله الخ.
ومال بعض الأصوليين إلى اختيار هذا التعريف؛ لأن التعريف الأول يلزم منه اتحاد الدليل والحكم في التعريف، والمعروف عند الفقهاء التفريق بينهما.
شرح التعريف :
قولهم : (خطاب الله)، الخطاب في اللغة توجيه الكلام نحو الغير لإفهامه. والمرادا بخطاب الله هنا : أمره ونهيه، وخبره وما تفرع عنه من وعد ووعيد، وتعليق على سبب أو شرط ونحو ذلك. وهو يشمل ما عرف من كلامه المقروء الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم سواء أكان قرآنا أم سنة، وما عرف من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عرف من سائر الأدلة فإنها عائدة إلى الوحي المتلو أو غير المتلو، وما هو عائد إليهما أو إلى أحدهما فهو بمنزلتهما.
وهذا التفسير أولى من تفسير بعضهم للخطاب بأنه الكلام النفسي؛ لأن إطلاق هذا اللفظ يجر إلى الوقوع في مذهب القائلين إن كلام الله ليس هو اللفظ المسموع، بل هو معنى قائم بذاته، وأن القرآن المسموع عبارة عن كلام الله وليس كلام الله. وهذا مردود بقوله تعالى : { }[التوبة 6]. فإنه يدل على أن كلام الله هو ذلك اللفظ المسموع المقروء، وما تضمنه من المعنى المراد لله جل وعلا.
ولا يمكن تفسير الخطاب هنا بأنه كلام الله بلفظه ومعناه؛ لأنه حينئذ لا يشمل إلا الخطاب الوارد في القرآن فيخرج ما دلت عليه السنة وما دل عليه الإجماع والقياس وغيرهما من الأدلة؛ لأن لفظها ليس من الله.
وقولهم: (المتعلق بأفعال المكلفين)، أي: الذي له ارتباط بأفعال المكلفين من جهة كونها مطلوبة أو غير مطلوبة، ومن جهة صحتها وفسادها وما يتبع ذلك.
وأفعال المكلفين: كل ما يدخل تحت قدرة المكلف، فتشمل الأعمال القلبية، وأعمال الجوارح فيدخل في ذلك إيجاب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره، كما تدخل أفعال الجوارح من صلاة وحج وزكاة ونحو ذلك.
وتشمل الإقدام على الفعل والكف عنه، فيدخل إيجاب الصوم الذي هو كف عن الطعام والشراب والجماع بنية، كما يدخل إيجاب الصلاة التي هي عبارة عن أفعال وأقوال مخصوصة.
والمراد بالمكلفين : من توافرت فيهم شروط التكليف الآتي ذكرها. والأولى أن يعبر بلفظ العباد؛ ليشمل المكلف وغيره؛ لأن من الأحكام ما يتعلق بالصغير والمجنون، وليسا مكلفين.
وقولنا : المتعلق بأفعال المكلفين (أو العباد على ما هو الأولى)، يخرج كل خطاب من الله جل وعلا تعلَّق بما عدا ذلك، كالخطاب المتعلق بما لا يعقل من وصف للكون وما فيه من جبال وأشجار وأنهار وشمس وقمر ونحو ذلك، كقوله: { * } [الذاريات 47-48]، وكذلك ما ورد من ذكر أحوال الماضين كقوله تعالى : { * * * * } [الفجر 7-11] فهذه الآيات وأمثالها ليست بالنظر إلى ذاتها حكما شرعيا، ولكن إذا ضم إليها ما ورد من الأمر بالتصديق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي وما ورد من وجوب الاعتبار في أحوال الماضين والاتعاظ بما جرى لهم صارت متعلقة بأفعال المكلفين فتكون حكما.
وكذلك الآيات المتعلقة بذوات المكلفين كأصل خلقهم الوارد في قوله تعالى: { } [طه 55] وقوله تعالى : { } [ص 71]، فمن حيث إنها متعلقة بذوات المكلفين لا يصدق عليها تعريف الحكم، ولكن إذا ضممنا إلى ذلك ما أراده الله جل وعلا وأمر به من وجوب شكر النعمة صارت أحكاما. ولهذا المعنى قال بعض العلماء إن جميع آيات القرآن الكريم تستنبط منها أحكام شرعية، وأنكروا على من حصر آيات الأحكام في خمسمائة آية أو نحوها.
وقولهم : (بالاقتضاء)، المراد بالاقتضاء : الطلب، سواء أكان طلب فعل أم طلب ترك.
وطلب الفعل نوعان: طلب الفعل طلبا جازما، وهذا يسمى إيجابا، وطلب الفعل طلبا غير جازم ويسمى الندب.
وأما طلب الترك فنوعان أيضا وهما : طلب الترك طلبا جازما، وهو المسمى بالتحريم، وطلب الترك طلبا غير جازم، وهو المسمى بالكراهة.
ويعرف كون الطلب جازما أو غير جازم بطرق سيأتي بيانها عند الكلام عن أقسام الحكم التكليفي وتعريف كلٍّ منها.
وقولهم : (أو التخيير)؛ لإدخال القسم الخامس من أقسام الحكم التكليفي وهو الإباحة، وهو تخيير الشارع بين الفعل والترك، وقد أسقط بعضهم هذه الزيادة؛ لأن الإباحة ليست حكما شرعيا عنده بل هي حكم عقلي سابق للأحكام الشرعية، وهذا خطأ؛ فإن الإباحة حكم شرعي ولكنها قد تعرف بخطاب التخيير، وقد تعرف بسكوت الشارع عن الأمر والنهي، وقد تعرف بما سوى ذلك.
وقولهم : (أو الوضع)، المراد بالوضع : جعْلُ الشيءِ سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو وصفه بالصحة أو الفساد أو البطلان.
وهذه الزيادة أسقطها بعضهم من تعريف الحكم؛ لأن ما عرف بالأحكام الوضعية راجع عنده إلى الأحكام التكليفية فلا حاجة إلى هذه الزيادة، وأما الذين أثبتوها فقد رأوا أن نصب الأسباب والشروط والموانع والإخبار عن التصرفات بأنها صحيحة أو فاسدة لا يدخل في التعريف إلا بهذه الزيادة.
وأما تعريف الحكم الشرعي عند الفقهاء فهو: مقتضى خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين الخ. والسبب في ميلهم إلى هذا أن الحكم عندهم صفة لفعل المكلف، ولهذا يقسمونه إلى حرام ومكروه وواجب ومندوب ومباح.
وعند الأصوليين الحكم اسم للخطاب الوارد من الله جل وعلا، فلا يقسمونه إلى حرام وواجب الخ , بل إلى تحريم وإيجاب الخ كما سيأتي.
أقسام الحكم الشرعي :
الحكم الشرعي عند الأصوليين قسمان: الحكم التكليفي، والحكم الوضعي.
هذا هو الشائع عندهم، ولكن الأولى أن يقسم ثلاثة أقسام كما هو واضح من تعريفه السابق، وهذه الأقسام هي :
1ـ الحكم التكليفي.
2ـ الحكم التخييري.
3ـ الحكم الوضعي.
وذلك لأن الإباحة ليست من الأحكام التكليفية على الصحيح، وإنما عدت مع الأحكام التكليفية للاكتفاء بتقسيم الحكم إلى تكليفي ووضعي، وعدم زيادة قسم ثالث في أقسام الحكم الشرعي غير القسمين المذكورين.
وقد تكلف بعضهم لإدخال الإباحة في الحكم التكليفي فقال : إن دخولها في هذا القسم جاء من جهة وجوب اعتقاد الإباحة فيما سوَّى الشرع فيه بين الفعل والترك، ولا يخفى أنها حينئذ ليست إباحة وإنما هي إيجاب، وأن الحكم الوضعي يساوي الإباحة في ذلك، فلا بد أن نعتقد سببيَّة ما جعله الله سببا وشرطيَّة ما جعله شرطا.
والحكم التكليفي هو : خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء. وهذا يشمل الإيجاب، والندب، والتحريم، والكراهة.
فالإيجاب : طلب الفعل طلباً مشعراً بالذم على الترك. كقوله تعالى : { } [الإسراء 78].
والندب: طلب الفعل طلباً مُشعراً بعدم الذم على الترك. كقوله: { } [النور 33]، وقد عرف كونه مشعرا بعدم الذم على الترك من جهة أن الكتابة بيع العبد نفسه، وقد استقر في الأفهام أن الله لا يوجب على الإنسان بيع ماله، أو من حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه؛ فإنه لم يلزم أحدا منهم بمكاتبة عبده.
والتحريم : طلب ترك الفعل طلبا مشعراً بالذم على الفعل. كقوله تعالى : { } [الإسراء 32].
والكراهة: طلب ترك الفعل طلبا مشعرا بعدم الذم على الفعل. كقوله صلى الله عليه وسلم: « لا يمش أحدكم بالنعل الواحدة »، وقد علم إشعاره بعدم الذم من كونه أدبا قصد به عدم تضرر الماشي.
وأما الحكم التخييري فهو : التسوية بين الفعل والترك. كقوله تعالى : { } [البقرة 187].
وأما الحكم الوضعي فهو : خطاب الله بجعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا أو صحيحا أو فاسدا. وسيأتي تعريف كل منها وأمثلته بعد الفراغ من أقسام الحكم التكليفي عند الفقهاء.
تقسيم الحكم التكليفي عند الفقهاء :
الفقهاء يتكلمون في بيان حكم أفعال العباد، ولذلك جعلوا الحكم صفة لفعل العبد وقسموه إلى خمسة أقسام هي: الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، والمباح.
والحنفية زادوا على هذه الأقسام قسمين آخرين هما : الفرض، والمكروه كراهة تحريم.
وسنتكلم عن كل واحد من هذه الأقسام باختصار؛ لأن المقصود من ذكرها معرفة اصطلاحات الفقهاء، والقدرة على تصور الأحكام الشرعية.
الواجـب
تعريفه :
الواجب في اللغة : الساقط، يقال : وجب إذا سقط. ويطلق الواجب بمعنى اللازم. وهذا الإطلاق ذكره بعض أهل اللغة ولكنه قد يكون متأثرا بالمعنى الشرعي للكلمة.
وفي الشرع هو : كل ما ورد الشرع بذم تاركه مطلقا.
وهو يشمل ما جاء في الشرع ذم لتاركه سواء أكان عملاً أم اعتقاداً.
ولفظ (مطلقاً) متعلق بتاركه، أي أن الذم يتناول من ترك الواجب تركا مطلقا، فلم يتركه في أول الوقت دون آخره، ولم يتركه ليفعل ما يقوم مقامه، ولم يتركه لقيام غيره من المكلفين به.
وهذا القيد في التعريف جيء به ليكون الحد جامعا لثلاثة أنواع من الواجبات هي :
1ـ الواجب الموسع : كالصلاة التي يجوز تركها في أول الوقت مع فعلها في أثنائه، فلولا زيادة لفظ مطلقا لقيل إن الواجب الموسع في أول الوقت ليس بواجب؛ لأنه لا يذم تاركه.
2ـ الواجب المخير : مثل وجوب التكفير عن اليمين الحانثة بواحد من ثلاثة : العتق، والإطعام، والكسوة. فكل واحد من هذه الثلاثة بخصوصه يجوز تركه من غير ذم لكن بشرط أن يفعل غيره، فلولا زيادة وصف الترك بالإطلاق لقيل الواجب المخير ليس داخلا.
3ـ الواجب الكفائي : مثل غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه، فهذا واجب على عموم المسلمين العالمين بموت ذلك المسلم، ولكن لو تركه بعضهم وفعله آخرون لم يأثم التارك ولم يذم، فلو لم نصف الترك بقولنا مطلقا، للزم خروج الواجب الكفائي لأن تاركه لا يذم، ولما زدنا هذا الوصف دخل الواجب الكفائي؛ لأن تركه ليس مطلقا بل من بعض المكلفين دون بعض.
أقسام الواجب
1 ـ تقسيم الواجب بالنظر إلى ذاته :
ينقسم الواجب بالنظر إلى ذاته قسمين : معين، ومخير.
فالمعيَّن هو : ما طلبه الشرع بعينه من غير تخيير بينه وبين غيره. مثل الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحو ذلك.
والمخير هو : الواجب الذي خُيِّر فيه المكلف بين أشياء محصورة. مثل كفارة اليمين فإنها واجبة، ولكن المكلف مخير بين ثلاثة أشياء : العتق، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوة عشرة مساكين.
وهذا النوع أنكره المعتزلة؛ لوجود التضاد بين الإيجاب والتخيير، وقالوا كيف يسمى واجباً ثم يوصف بالتخيير.
والخلاف بينهم وبين الجمهور خلاف لفظي لا فائدة فيه؛ لأن المنكرين لوجود الواجب المخير يقولون: هذه الخصال واجبة على البدل، ولا يقولون يجب على المكلف أن يفعل الثلاثة ولا أنه يأثم على ترك الثلاثة كل على حدة، والمثبتون يقولون الواجب واحد غير معين. وقد جعل بعضهم من أثر الخلاف أن المكلف لو فعل اثنتين من خصال الكفارة دفعة واحدة فهل يثاب ثواب الفرض عليهما؟ وجعل مقتضى مذهب المعتزلة أنه يثاب عليهما ثواب فرض، ومقتضى مذهب الجمهور أنه يثاب على إحداهما ثواب الفرض وعلى الأخرى ثواب النافلة، ولا يخفى أن تقدير الثواب غيب عنا، وتحكمه عوامل أخرى من الإخلاص وطيب النفس بما يبذل الإنسان وغير ذلك.
2 ـ تقسيم الواجب بالنظر إلى وقته :
ينقسم الواجب بهذا الاعتبار إلى مؤقت وغير مؤقت :
فالمؤقت : هو ما حدد له الشرع وقتا معينا، له بداية ونهاية. مثل الصلاة.
وغير المؤقت : هو المطلق عن التوقيت الذي لم يحدد له الشرع وقتا معينا. مثل أداء النذور والكفارات.
والمؤقت ينقسم قسمين : مضيق، وموسع.
فالواجب المضيق : هو الذي حدد له الشرع وقتا لا يتسع لغيره من جنسه معه. مثل الصيام، فإن الصيام له وقت محدد يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا الوقت لا يتسع إلا لصيام واحد، فلا يمكن أن يصوم يوما واحدا عن القضاء وعن النذر مثلا، ولكن هذا الوقت يتسع لغير الصيام من الواجبات والمندوبات التي ليست صياما، ولهذا المعنى قلنا : لا يتسع لغيره من جنسه معه.
والموسع : عكس المضيق، فهو : الذي حدد له الشرع وقتا يتسع له ولغيره من جنسه معه. ومثاله : الصلاة، فإن الوقت المحدد لصلاة العشاء مثلا يبدأ من غروب الشفق الأحمر ويمتد إلى نصف الليل لمن لا عذر له. فهذا الوقت يتسع لصلاة الفرض ولصلاة أخرى غير فرض العشاء.
وهذا النوع أنكر بعض الحنفية وجوده، فقالوا : ليس في الشرع واجب موسع؛ لأن التوسع ينافي التوقيت، ولأن ما يسميه الجمهور واجبا موسعا يجوز تركه في أول الوقت ولا يجوز تركه إلى خروج الوقت باتفاق. والحجة عليهم قائمة بوجوده في الشرع، كالصلاة التي لها وقت حدده الشرع وهو أوسع مما يحتاج إليه المكلف لأدائها، وقد ورد في الحديث الصحيح أن جبريل عليه السلام صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس مرة في أول الوقت، ومرة في آخره ثم قال: « الوقت ما بين هذين » (أخرجه الترمذي وأحمد والنسائي بألفاظ متقاربة).
وقد انقسم الحنفية عند الجواب عن هذا الدليل إلى فرق :
أ ـ فرقة قالت : الصلاة في أول الوقت نفل سد مسد الفرض، ولا تكون فرضا إلا حين يضيق الوقت فلا يبقى منه إلا ما يكفي لأدائها.
ب ـ وفرقة قالت : من صلى الصلاة في أول الوقت تكون في حقه فرضا إن جاء آخر الوقت وهو مكلف بالصلاة أي : بالغ عاقل. وإن جاء آخر الوقت وهو ليس بأهل للصلاة عددنا صلاته قبل ذلك نافلة.
ج ـ وفرقة قالت : الوقت يتضيق عليه بالشروع فيها، فإذا شرع فيها فذلك وقتها.
وقولهم : إنه يجوز تركه في أول الوقت دون آخره، يجاب عنه بأنه في أول الوقت يجوز تركه بشرط العزم على الفعل في الوقت الآتي، وهذا يختلف عن حد المندوب؛ فإن المندوب يجوز تركه بلا شرط.
والخلاف بين الفريقين راجع إلى أن سبب وجوب الصلاة أهو آخر الوقت أم كل جزء من أجزاء الوقت يصلح سببا؟ فمن جعله آخر الوقت أنكر التوسع في الوجوب، ومن جعل كل جزء من أجزاء الوقت يصلح سببا أثبته.
وقد بنوا على الخلاف مسائل فرعية، أهمها :
1 ـ أن من سافر بعد دخول الوقت يقتضي مذهب الجمهور أنه لا يجوز له القصر، ويقتضي مذهب الحنفية أنه يجوز له ذلك. ولكن جمهور العلماء على جواز القصر، وعذرهم عن عدم تطبيق قاعدتهم : أن القصر صفة في الصلاة فيراعى بها حالة أدائها، فالمقيم الذي دخل عليه الوقت وجب عليه أداء الصلاة من غير تحديد لعدد ركعاتها، فإن صلاها في الحضر صلاها أربعا، وإن صلاها في السفر صلاها اثنتين. قال النووي : « ففي وجه قاله المزني وابن سريج لا يجوز القصر، وعلى الصحيح المنصوص وقول جمهور أصحابنا يجوز القصر، فعلى هذا إنما جاز القصر لأنه صفة للصلاة، والاعتبار في صفتها بحال فعلها لا بحال وجوبها، ولهذا لو فاته صلاة في حال قدرته على القيام أو الماء ثم عجز عنهما صلاها قاعدا بالتيمم وأجزأته » ( ).
2 ـ إذا حاضت المرأة بعد دخول وقت الصلاة بزمن كان يمكنها أن تؤدي الصلاة فيه، فعلى القول بأن كل جزء من الوقت سبب للوجوب فيجب عليها القضاء إذا طهرت، وعلى القول بأن سبب الوجوب آخر الوقت فلا قضاء عليها.
والمنصوص عليه عند الحنفية أنها لا قضاء عليها، وعلله بعضهم بأنها لم تدرك الوقت الذي تعلق به الوجوب، وعلله آخرون بأنها إذا لم تصل في أول الوقت انتقلت السببية إلى الوقت الذي يليه، وهكذا إلى أن يتضيق الوقت.
والجمهور اختلفوا في ذلك : فمنهم من أوجب القضاء؛ لأن كل جزء من الوقت يصلح سببا، فإذا حاضت بعد دخوله استقر الواجب في ذمتها، ومنهم من قال لا قضاء عليها لأنها فعلت ما يجوز لها فعله وهو ترك الصلاة في أول الوقت، مع العزم على فعلها في آخره ثم حيل بينها وبين أدائها بسبب ليس من جهتها، والقول الأول أقرب؛ لقاعدتهم في الواجب الموسع.
3 ـ إذا أخر الواجب الموسع فمات في أثنائه قبل ضيق الوقت، فعلى القول بإنكار التوسع لا إثم عليه، وعلى القول بإثبات التوسع اختلفوا :
فمنهم من قال : إن أخرها ذاكرا، ولم يعزم على الفعل في الوقت يكون آثما، وإن أخرها ناسيا أو عازما على الفعل في الوقت فلا إثم عليه، وهذا هو المناسب للقول بالتوسع، وبأن أول الوقت سبب لوجوب الصلاة.
وقيل : لا إثم عليه وإن لم يعزم على الفعل في آخر الوقت، وهو مرجوح؛ لأنه إذا كان ذاكرا فإما أن يفعل أو يعزم على الفعل أو يعزم على الترك، فإذا لم يفعل فليس أمامه سوى خيارين، وأحدهما محرم، فيكون الثاني واجبا لأنه لا يتم ترك الحرام إلا به فيكون واجبا، وهو العزم على الفعل في تالي الوقت ( ).
الفرق بين الواجب الموسع والواجب المضيق :
1ـ الواجب الموسع لا يصح أداؤه إلا بنية اتفاقا، وأما الواجب المضيق كالصوم في رمضان، فعند أكثر الحنفية أنه لا يحتاج إلى نية الفرض، بل ينصرف الصوم إليه من غير نية تخصيصه، وعند الجمهور لا بد من النية ( ).
2ـ أن الواجب الموسع لا يمتنع صحة غيره من الواجبات في زمنه، فله أن يصلي في وقت الظهر ظهرا فائتة أو صلاة أخرى، وأما الواجب المضيق فليس له أن يؤدي في وقته غيره إلا إذا كان ممن يجوز له ترك هذا الواجب كالمسافر في رمضان، فقد اختلفوا هل يجوز أن ينوي بصيامه في رمضان واجبا آخر كالكفارة والنذر مثلا؟ فقال بعضهم : لا يجوز؛ لأن وقت رمضان مضيق فلا يتسع لغيره، وقال بعضهم : إذا كان معذورا لا يكون مطالبا بصيام رمضان، ولا دليل على منعه من صيام نذر أو كفارة ( ).
3 ـ تقسيم الواجب بالنظر إلى المخاطب بفعله :
ينقسم الواجب بالنظر إلى المخاطب بفعله قسمين : عيني وكفائي :
الواجب العيني : وهو ما طلب الشرع فعله من كل مكلف بعينه، كالصلاة والزكاة والحج.
الواجب الكفائي : وهو ما طلب الشرع حصوله من غير تعيين فاعله.
وهذا النوع يدخل فيه ما أوجبه الله على الأمة بمجموعها من غير تخصيص أفراد بأعيانهم كالجهاد، وما أوجبه على جماعة محصورة من غير تحديد من يقوم به منهم بعينه كوجوب غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه، فإن ذلك واجب على من حوله من المسلمين.
أهم الفروق بين الواجب العيني والواجب الكفائي :
1ـ أن الواجب العيني مطلوب من كل واحد من المكلفين بعينه، فلا يقوم فعل غيره مقام فعله إلا بإذنه، فإن أذن له في فعله نيابة عنه فإن كان الواجب مما تدخله النيابة أجزأه ما يفعله ذلك الغير عنه وإلا فلا. وأما الواجب الكفائي فلا يطلب من كل واحد ولا من واحد معين، بل إذا قام به من يكفي أجزأ، ولا يشترط فيه الإذن، بل مهما فعل أجزأ عمن لم يفعل وسقط عنه الإثم.
2ـ أن الواجب العيني مصلحته ترجع إلى فاعله، أما الواجب الكفائي فمصلحته عامة.
3ـ الواجب الكفائي ينوب فيه البعض عن الكل، وأما الواجب العيني فلا يكفي فعل بعض المكلفين عن بعضهم الآخر.
4ـ الأمر في الواجب العيني موجـه لجميع المكلفين، أي : لكل واحـد منهـم،
والأمر في الواجب الكفائي اختلف فيه :
فقيل : إنه موجه للجميع لكن يسقط بفعل البعض.
وقيل : موجه إلى بعض غير معين.
وقيل : متوجه إلى المجموع من حيث هو مجموع.
واستدل الأولون بأدلة منها:
1ـ أن الواجبات الكفائية الواردة في القرآن والسنة جاءت بصيغة العموم كالواجبات العينية، فقوله تعالى : { } [البقرة 216]، كقوله : { } [البقرة 183]، مع أن الأول كفائي والثاني عيني.
2 ـ أن الإثم يلحق الجميع إذا تركوا، ولو لم يكونوا مخاطبين به ما أثموا.
واستدل القائلون بأنه موجه إلى بعض مبهم بدليلين :
1 ـ قوله تعالى: { } [التوبة 122]. فالخطاب هنا موجه إلى بعض مبهم وهو متعلق بواجب كفائي.
2 ـ أنه يسقط بفعل بعض المكلفين، ولو خوطب به الجميع لما سقط إلا بفعل الجميع كسائر الواجبات العينية.
وأما القائلون إن الخطاب موجه إلى المجموع لا إلى الجميع، أي إلى الهيئة الاجتماعية، فاستدلوا بدليل واحد هو : أنه لو وجه الخطاب فيه إلى الجميع (إلى كل فرد) لما سقط بفعل بعضهم، ولو وجه إلى بعض مبهم لترك؛ لأن كل مكلف سيقول لست مقصودا، فلم يبق إلا أن نقول متوجه إلى المجموع من حيث هو مجموع.
والراجح : أنه متوجه إلى الجميع ويسقط بفعل بعضهم؛ لرجحان أدلة هذا القول.
وأما استدلال من أوجبه على بعض مبهم بقوله تعالى: { } [التوبة 122] فيجاب بأن الأمر هنا ليس أمر إيجاب بل ندب واستحباب؛ بدليل أنه جاء بصيغة الحض والترغيب في النفقة.
وأما استدلالهم بأنه يسقط بفعل بعض المكلفين، فيجاب بأنه لا تلازم بين الأمر بالشيء والمخاطبة به، وسقوط الفعل، فإن الواجب العيني لا خلاف في توجه الأمر فيه إلى كل واحد من المكلفين، ومع ذلك يسقط من غير فعل بالنسخ، أو بفوات الوقت المحدد للعبادة عند من يرى ذلك، أو بأخذ الواجب منه دون إذنه، أو بإسقاط صاحب الحق إن كان حقا لآدمي.
وأيضا فإن سقوط الواجب الكفائي بفعل بعض الأمة؛ لأجل أن المقصود من فرضيته إيجاده بغض النظر عن موجده. ومما يدل على صحة هذا القول أنهم لو فعلوه جميعا أثيبوا ثواب الفرض، ولو تركوه جميعا عوقبوا عقاب تارك الفرض.
4 ـ انقسام الواجب إلى محدد وغير محدد :
مما يذكره الأصوليون هنا انقسام الواجب إلى محدد وغير محدد.
ويعنون بالمحدد : ما ورد تقديره في الشرع بمقدار ظاهر لكل أحد، كمقادير الزكاة، وأروش الجنايات، ومدة المسح.
ويعنون بغير المحدد : ما طلب فعله من غير تحديد مقداره، مثل الطمأنينة في الركوع والسجود. وهو تقسيم لا يترتب عليه كبير فائدة.
ما لا يتم الواجب إلا به
هذه القاعدة من القواعد الأصولية المهمة التي انبنى عليها فقه كثير، وهي ليست على الإطلاق المذكور في العنوان، ولا تصدق بعمومها. وإنما نقول : ما لا يتم الواجب إلا به ينقسم قسمين :
1 ـ ما لا يتم الوجوب إلا به، كشروط الوجوب، وأسبابه، وانتفاء موانعه، فهذه ليست واجبة باتفاق، فليس على المكلف أن يمسك عن إنفاق ما عنده من مال حتى يتم الحول ويزكيه، وليس عليه أن يمسك ما عنده من بهيمة الأنعام أو يزيدها حتى تبلغ نصابا لتجب فيها الزكاة مثلا. وإنما يتصرف في ماله تصرفا عاديا من غير هروب من الزكاة، فإذا حال الحول وعنده نصاب زكاة زكاه وإلا فلا. فهذه الشروط والأسباب وإن كانت داخلة في عموم « ما لا يتم الواجب إلا به » لكنها غير مرادة.
2 ـ ما لا يمكن عقلاً أو شرعاً أو عادةً أن يفعل الواجب تاما إلا بفعله، وهذا ينقسم أيضا قسمين :
أ ـ ما ليس بمقدور للمكلف، كغسل اليد في الوضوء إذا تعذر لقطع ونحوه، وكالركوع والسجود إذا تعذر ليبس في ظهره ونحو ذلك. فهذا خارج عن القاعدة فلا يجب باتفاق.
ب ـ ما هو مقدور للمكلف، مثل غسل جميع الثوب الذي أصابته نجاسة ولا يدري موضعها، وإمساك جزء من الليل مع النهار حتى يتم صيام النهار، والوضوء للصلاة، ونيتها. وهذا ينقسم أيضا قسمين :
1ـ ما ورد في إيجابه نص مستقل كالوضوء والنية للصلاة، وهذا واجب باتفاق، ولم ينقل عن أحد فيه خلاف.
2ـ ما لم يرد فيه بخصوصه دليل مستقل، وهذا هو موضع النزاع، وهو الذي قال بعض العلماء فيه : لا نسميه واجبا وإن وجب فعله تبعا.
والخلاف في هذه القاعدة ضعيف، والقاعدة معمول بها عند جميع الأئمة، ومن نقل فيها خلافا فإنما هو في التسمية، وفي استحقاق هذه الزيادة ثوابا مستقلا. وإنما قال الجمهور : تسمى هذه الزيادة واجبا؛ لأنها لا يجوز تركها أبدا إلا بترك الواجب، وترك الواجب يذم عليه المكلف فكذلك ما لازمه.
ومن فروع هذه المسألة :
1 ـ إذا اشتبهت أخته بأجنبية اشتباها لا يمكن معه معرفة المحرمة عليه منهما بأي طريق، وجب عليه ترك نكاح الاثنتين. ويؤيده حديث : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ». ولكن لو اشتبهت أخته بنساء قرية لا يحرم عليه النكاح من نساء تلك القرية؛ لأن القاعدة هنا عارضتها قاعدة أخرى وهي قاعدة : « العبرة بالغالب لا بالنادر ».
2 ـ إذا اشتبهت الميتة بمذكاة وجب اجتنابهما معا؛ لأن إحداهما منصوص على تحريمها، والأخرى لا يتم اجتناب الحرام إلا باجتنابها.
3 ـ إذا أصابت النجاسة طرفاً من ثوبه كالكم ـ مثلا ـ ولم يعرف موضعها، فإنه يغسل ما يتيقن بغسله أنه غسل النجاسة، وحينئذ يكون قد غسل ما وجب غسله بالنص وما لا يتم فعل ذلك الواجب إلا به.
4 ـ إذا امتنع المدين من سداد الدين وعنده عقار زائد عن حاجة السكنى وجب عليه بيعه لسداد الغرماء، فإن امتنع أجبره القاضي.
زيادة الواجب غير المحددة هل تكون واجبة؟ :
هذه المسألة تذكر بعد قاعدة « ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب »؛ لشبهها بها، وذلك لأن كلا منهما زيادة في الواجب، غير أن الأولى كالشرط للواجب فلا يتم بدونها، والثانية متصلة به من آخره، وهذه الزيادة إذا كانت متميزة لا يختلفون في أنها ليست واجبة، مثل أن يدفع في زكاة الفطر كيسا من الأرز فيه عشرون صاعا، وزكاته هو وأسرته خمسة عشر صاعا، فهذه الزيادة مندوبة، وأما إن كانت غير متميزة مثل الزيادة في الركوع والسجود على القدر الذي تحصل به الطمأنينة، فهذه اختلفوا فيها على قولين، ولا يترتب على الخلاف فيها كبير فائدة؛ إذ لا يظهر للخلاف فائدة إلا مقدار الثواب أيثاب عليها ثواب فرض أم ثواب نافلة؟ ومقدار الثواب يرجع إلى أمور أخرى من الإخلاص وإتقان العمل، وهو أمر مغيب عنا، فلا نطيل بذكر الأدلة.
المندوب
تعريفه وطرق معرفته:
المندوب في اللغة : اسم مفعول، من الندب، وهو الدعاء، فيكون معنى المندوب: المدعو إليه.
وفي الاصطلاح : هو ما طلب الشرع فعله طلبا غير جازم.
ويعرف كون الفعل مندوباً بطرق كثيرة منها :
1ـ الأمر المقترن بما يدل على جواز الترك، كالأمر في قوله تعالى : { } [النور 33] فالأمر بمكاتبة العبيد للندب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشدد على الصحابة في مكاتبة عبيدهم، بل أقرهم على إمساك الأرقاء مع علمه بما فيهم من الخير.
2ـ الترغيب فيه بذكر ثوابه من غير أمر، كقوله صلى الله عليه وسلم : « من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل » (متفق عليه).
3ـ بيان محبة الله للفعل، كقوله صلى الله عليه وسلم : « كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم » (متفق عليه).
4ـ مدح فاعله، كقوله تعالى: { } [الفرقان 63].
5ـ فعل الرسول صلى الله عليه وسلم للفعل تقربا من غير أن يأمر به، مثل الاعتكاف.
هل المندوب مأمور به حقيقة؟:
اختلف العلماء في تسمية المندوب مأموراً به حقيقة :
فذهب الأكثر إلى أنه مأمورٌ به حقيقة، واستدلوا بأن فعله يسمى طاعة، والطاعة هي امتثال الأمر، وبأن انقسام الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب شائع ذائع عند حملة الشرع.
وذهب آخرون إلى أنه ليس مأمورا به حقيقة، بل مجازا، واستدلوا بحديث: « لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة » (متفق عليه).
ووجه الاستدلال من الحديث أنه يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالسواك خشية المشقة، مع أنه ندبهم إليه بقوله وفعله، فعلم من هذا أن الندب ليس أمرا حقيقة وأن المندوب ليس مأمورا به حقيقة، وهذا الاستدلال قوي.
وقد أجاب عنه الأولون بأن المراد لأمرتهم أمر إيجاب. وفي الجواب نظر؛ لأنه تأويل لا حاجة له.
ومما يشكل على القول الأول أنه يلزم منه أن الأمر مشترك بين الإيجاب والندب، وهذا خلاف ما عليه الجمهور في مقتضى الأمر كما سيأتي.
أسماء المندوب :
يسمى المندوب عند جمهور العلماء من المذاهب الثلاثة غير المذهب الحنفي بأسماء كثيرة، أهمها : السنة، والمستحب، والرغيبة، والنافلة، والتطوع، ونحو ذلك.
وعند بعض الحنفية ينقسم المندوب إلى :
سنة هدى : وهي ما كان أخذها هدى، وتركها ضلالة، ويمثلونها بصلاة العيد، والأذان، والإقامة، والصلاة في جماعة، وتركها يستوجب اللوم والعتاب. وهذا النوع يسميه الجمهور سنة مؤكدة، ويمثلونه بصلاة الوتر، ولهذا قال أحمد : « تارك الوتر رجل سوء » مع أنه لا يرى وجوب الوتر.
سنة مطلقة : وهي ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به أمر إيجاب، مثل السنن الرواتب، وصيام الاثنين والخميس، ونحو ذلك.
نافلة : وهي ما شرع من العبادات الزائدة على الفروض.
وذهب بعض الحنابلة إلى تقسيم المندوب إلى ثلاثة أقسام :
سنة : وهي ما عظم أجره.
نافلة : وهي ما قل أجره.
فضيلة ورغيبة : وهو ما توسط أجره.
وهذا تقسيم مبني على عظم الأجر، وذلك أمر مغيب عنا، والأجر يختلف باختلاف النية والإخلاص وإحسان الفعل.
ومن الألفاظ المشهورة عند الفقهاء:
السنة المؤكدة : وهي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه في الحضر والسفر، مثل الوتر وسنة الفجر.
والمستحب : وهو ما رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم فعله أو لم يفعله، مثل صيام يوم وترك يوم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : « خير الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما» ولم يفعل هذا، ومما فعله صيام الاثنين والخميس، وصيام عاشوراء.
هل يلزم المندوب بالشروع فيه؟:
اختلف العلماء في ذلك، ومحل الخلاف فيما عدا الحج والعمرة والصدقة، فأما الحج والعمرة فقد اتفقوا على وجوب إتمامهما؛ لقوله تعالى : { } [البقرة 196]. وأما الصدقة بالمال كالنفقة على الفقير فلا خلاف في جواز قطعها.
1ـ ذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلى أن المندوب يجب بالشروع فيه، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها :
أ ـ قوله تعالى : { } [محمد 33]، ووجه الدلالة : أن الآية فيها نهي عن إبطال العمل، والنهي يقتضي التحريم، وإذا حرم إبطال المندوب وجب إتمامه.
ب ـ ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد الصحابة ـ وكان صائما صوم تطوع ـ : « كل وصم يوما مكانه » (أخرجه الدارقطني من حديث جابر ) ووجه الدلالة من الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالقضاء، والأصل في الأمر الوجوب، ولا يأمر بقضائه إلا إذا كان واجبا.
ج ـ أن المندوب ينقلب واجبا إذا نذره، فالنذر صير المندوب واجبا بالقول، أي بقوله : لله علي كذا، والشروع في المندوب فعل صيّر المندوب لله فوجبت صيانته عن الإفساد. وخلاصة هذا الدليل قياس الشروع في الفعل على النذر.
د ـ القياس على الحج والعمرة.
وذهب الجمهور إلى عدم وجوبه بالشروع فيه، واستدلوا بأدلة منها :
أ ـ قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر »، ووجه الدلالة من الحديث ظاهرة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الصائم المتطوع مخيرا بين الصيام والفطر، وإذا كان الصيام المندوب لا يجب بالشروع فيه فكذلك سائر المندوبات، إلا ما قام عليه دليل بخصوصه كالحج .
ب ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأل أهله: « أعندكم طعام؟» فإن قالوا نعم أكل منه، وإلا قال: « إني إذا صائم » (أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عائشة). ووجه الاستدلال أنه يكون ناويا الصوم، ثم إن وجد طعاما أكل وإلا أكمل صيامه.
ج ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الذي كان صائما أن يفطر كما مر في الحديث الذي استدل به للحنفية. ووجه دلالته على عدم الوجوب أنه لو كان إتمامه واجبا لما أمره بالفطر؛ لأنه يكون آمرا بمعصية، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر بمعصية.
وقول الجمهور أرجح.
وأما الاستدلال بالآية فالمقصود بها إبطال الأعمال بالرياء أو بالردة.
وأما الحديث فهو دليل للجمهور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز للصائم المتطوع أن يفطر، وقوله : « صم يوماً مكانه » ندب؛ لأنه عوض عن ندب.
وأما تشبيه الشروع بالنذر فبعيد جدا، وإلا لوجب على من شرع في الإنفاق على فقير أن يستمر، ولم يقل بذلك أحد.
وأما القياس على الحج والعمرة فمردود؛ للفرق بينهما وبين سائر الواجبات.
وثمرة الخلاف تظهر في إيجاب القضاء، فعند أبي حنيفة إذا شرع في نفل ثم قطعه وجب عليه القضاء، وعند الجمهور لا يجب.
الحـرام
تعريفه وطرق معرفته:
هو ما يذم شرعا فاعله. أي : ما عُرف من الشرع ذم فاعله، سواء عرف ذلك بقرآن أو سنة أو إجماع أو دليل آخر.
ويعرف كون الفعل حراماً بطرق منها :
1ـ النهي عنه من غير أن تصحبه قرينة تدل على أنه للكراهة. مثل الزنا، فقد نهى الله عنه بقوله : { } [الإسراء32].
2ـ النص على الخبر بتحريمه، كقوله تعالى : { } [البقرة275].
3ـ ذم فاعله، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه » (أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس مرفوعا).
4ـ توعد الفاعل بالعقاب، كقوله تعالى ـ بعد ذكر بعض المحرمات ـ : { * } [الفرقان68-69].
أقسام الحرام :
يقسم بعض العلماء الحرام قسمين :
1ـ حرام لذاته : وهو ما كان مفسدة في ذاته. مثل القتل، والسرقة، وأكل لحم الخنزير.
2ـ حرام لغيره : وهو ما تكون مفسدته ناشئة من وصف قام به لا من ذاته. مثل الصلاة في المقبرة، والبيع وقت نداء الجمعة الثاني.
وقد يطلق الحرام لغيره على ما حرِّم لكونه وسيلة إلى الحرام، مثل النظر إلى مفاتن المرأة الأجنبية.
التضاد بين الحرام والواجب :
الحرام ضد الواجب، والنهي ضد الأمر، ولهذا لا يمكن أن يكون الشيء الواحد بالعين حراما واجبا، مأمورا به منهيا عنه من جهة واحدة.
وما قد يبدو أنه كذلك فإما أن يكون واحداً بالجنس لا بالعين كالسجود، فإنه إذا وقع للصنم كان حراما، وإذا وقع لله كان واجبا أو مندوبا، فهذا ليس من الواحد بالعين، بل من الواحد بالجنس أو بالنوع، وإما أن يكون الواحد بالعين له جهتان تنفك إحداهما عن الأخرى فيكون حراما من جهة وطاعة من جهة أخرى، ومثّل له بعضهم بالصلاة في الدار المغصوبة؛ فإنها من حيث كونها صلاة طاعة لله، ومن حيث كونها في دار مغصوبة معصية؛ لأن الغصب محرم، ولذا قالوا إنها صحيحة ومجزئة وعليه إثم الغصب، ونظيرها أن يأمر السيد عبده بخياطة ثوبه وينهاه عن دخول دار بعينها، فلو دخل الدار وخاط الثوب استحق المدح على خياطة الثوب واستحق الذم على دخول الدار.
وذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة في الدار المغصوبة ليس لها إلا جهة واحدة فلا يمكن أن تكون صحيحة، واستدلوا على ذلك بأن الصلاة عبارة عن قيام وقعود وركوع وسجود، ولا بد لهذه الأفعال من مكان تفعل فيه عادة، فالمكان شرط عادي لأداء الصلاة، فإذا كان المكان منهيا عن اللبث فيه كان البقاء فيه حراما وجميع ما يفعل فيه باطلا محرما لا يمكن أن يكون طاعة.
والصحيح : أن الواحد بالعين إذا كان النهي ليس منصبا عليه بذاته، ولا على هيئته المكونة من الفعل وصفته لا يبطل، وإلا كان باطلا، فالوارد في الشرع في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ليس فيه النهي عن الصلاة ولا عن الصلاة في الدار المغصوبة، بل فيه النهي عن الغصب والأمر بالصلاة، فالجهة منفكة فتصح الصلاة ويأثم على الغصب.
أما إذا انصب النهي على ذات المأمور به فيكون نسخا كالنهي عن المتعة بعد الأمر بها، وكذلك إذا اتجه النهي إلى الموصوف مع صفته كالنهي عن بيع الملامسة والمنابذة، والنهي عن الصلاة في المقبرة ونحوها، فالمنهي عنه باطل.
فإذا ضبط الطالب هذه القاعدة أمكنه أن يعرف الفعل الذي له جهتان تنفك إحداهما عن الأخرى فيمكن أن يكون حراما من جهة وطاعة من جهة، والفعل الذي ليس له إلا جهة واحدة أو له جهتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى فلا يمكن أن يكون حراما طاعة.
المكـروه
تعريفه وطرق معرفته :
المكروه في اللغة : المبغَض.
وفي الشرع : هو المحرَّم؛ لأن الله تعالى ذكر بعض المحرمات، ثم قال : { } [الإسراء38]، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة ).
والمقصود بقيل وقال : نقل الكلام للنميمة أو للغيبة، والمذكورات في الحديث محرَّمة.
وفي اصطلاح الأصوليين والفقهاء، يطلقه الجمهور على : « ما نهى عنه الشرع نهيا غير جازم » أو : « ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله » مثل المشي بنعل واحدة، والإعطاء والأخذ بالشمال.
ويطلقه الحنفية على شيئين :
1ـ المكروه كراهة تحريم، وهو : ما نهى عنه الشرع نهيا جازما، ولكنه ثبت بطريق ظني، مثل أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
2ـ المكروه كراهة تنزيه، وهو: ما نهى عنه الشرع نهيا غير جازم. وهو مرادف للمكروه عند الجمهور.
وكون الشيء مكروها كراهة تنزيه يعرف بأمور، منها:
1ـ النهي عنه مع وجود قرينة تدل على عدم العقاب على الترك، مثل : المشي بنعل واحدة؛ فإن النهي عنه خرج مخرج التأديب والحمل على ما يناسب المروءة، وترك ما يضادها.
2ـ أن يترتب على فعل الشيء الحرمان من فضيلة، مثل : أكل الثوم والبصل، فمن أكلهما ممنوع من دخول المسجد.
المباح
تعريفه وطرق معرفته:
وهو في اللغة : المأذون فيه، والمطلق.
وشرعا : ما خير الشرع فيه بين الفعل والترك. مثل : أكل اللحوم وغيرها من الأطعمة مما لم يأت نهي عن أكله.
والإباحة تعرف بطرق منها :
1ـ النص على التخيير بين الفعل والترك. مثل :
ـ قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الوضوء من لحوم الغنم: « إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ » (رواه مسلم)، وهو يدل على إباحة الأمرين، وقد يستدل على فضل الوضوء بدليل آخر.
ـ وتخيير بريرة ـ حين عتقت وزوجها عبد ـ بين المفارقة والبقاء تحته (متفق عليه) فهو يدل على إباحة الأمرين.
ـ وقوله ـ لمن سأل عن صيام رمضان في السفر ـ : « إن شئت فصم وإن شئت فأفطر » (رواه البخاري).
2ـ نفي الإثم والمؤاخذة، كقوله تعالى : { } [البقرة 173]، وقوله تعالى : { } [البقرة 229].
3ـ النص على الحل، كقوله تعالى : { } [البقرة 187].
4ـ الأمر الوارد بعد الحظر، كقوله تعالى : { } [الجمعة 10].
5ـ كون الفعل مسكوتا عنه؛ فإن الأصل في الأشياء المنتفع بها الحل، ومن أمثلة ذلك: الانتفاع بوسائل الحياة المتطورة في هذا العصر، من مآكل ومشارب، ووسائل الاتصال الحديثة، والنقل، ونحو ذلك.
القسم الثاني
الحكم الوضعي
تعريفه:
الحكم الوضعي : هو خطاب الله تعالى بجعْلِ الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو صحيحاً أو فاسداً.
أقسام الحكم الوضعي :
أ ـ السبب :
السبب في اللغة : ما يحصل الشيءُ عنده لا به. ومنه سمي الحَبْل سببا، كما في قوله تعالى : { } [الحج 15].
وفي الاصطلاح : يطلق على عدة معانٍ هي :
1ـ العلامة المعرِّفة للحكم، مثل قولهم : غروب الشمس سبب للفطر، وطلوع الفجر سبب لوجوب الإمساك في رمضان.
2ـ العلة الكاملة، أي : العلة المستكملة شروطها المنتفية موانعها، كما يقال : أخذ المكلف، المال البالغ ربع دينار فصاعدا، خفية، من حرز مثله، بلا شبهة، سبب القطع في السرقة. وكقولهم : الوطء في فرج محرم، بلا شبهة، من مكلف، هو سبب حد الزنى.
وبالنظر إلى هذين المعنيين عرفه بعضهم بأنه : « ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته »، وهذا التعريف ينطبق على المعنى الثاني (العلة الكاملة)؛ وذلك لأن السرقة إذا توافرت فيها الشروط وانتفت الموانع لزم من وجودها وجوب القطع، وإذا انعدمت انعدم القطع لأجلها، ولا يمتنع قصاصا، وهذا فائدة قولهم : « لذاته » أي : أن وجود المسبب لذات السبب وعدمه لعدم ذات السبب.
3ـ العلة مع تخلف شرطها، كما يقولون : ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة وإن لم يحُلِ الحول.
4ـ ما يقابل المباشرة، فمن حرَّض على القتل ولم يقتل يسمى متسببا، والقاتل يسمى مباشرا، والفقهاء يقولون : إذا اجتمع المباشر والمتسبب في الجناية يكون الحكم على المباشر إلا إذا كان غير مكلف لجنون أو لصغر فيحكم على المتسبب.
ب ـ العلة :
العلة في اللغة : المرض، أو ما اقتضى تغييرا في المحل.
وفي الاصطلاح : « وصف ظاهر منضبط دل الدليل على كونه مناطا للحكم ».
ومثالها : الإسكار علة لتحريم الخمر، والطعم مع اتحاد الجنس علة لتحريم التفاضل في بيع البر بالبر والتمر بالتمر وما جرى مجراهما.
والفقهاء قد يجعلون العلة مرادفة للسبب، وقد يجعلونها مباينة له، فيطلقون السبب على ما لا تعرف حكمته مما هو علامة على ثبوت حكم أو نفيه، مثل غروب الشمس، الذي هو علامة على وجوب صلاة المغرب، ويطلقون العلة على ما عرفت حكمته مما هو علامة على ثبوت حكم أو نفيه، مثل الإسكار علة للتحريم.
وقد يجعلون السبب أعم من العلة، فيقولون : السبب يطلق على ما عرفت حكمته وما لم تعرف. وأما العلة فلا تطلق إلا على ما عرفت حكمته. فهذه ثلاثة اصطلاحات لهم مشهورة.
ج ـ الشرط :
وهو في اللغة التأثير، أو العلامة.
وفي الاصطلاح : وصف يلزم من عدمه عدم ما علق عليه، ولا يلزم من وجوده وجوده ولا عدمه.
مثاله : الطهارة شرط لصحة الصلاة، فيلزم من عدم الطهارة عدم صحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الطهارة صحة الصلاة ولا عدمها؛ لأن الطهارة قد تحصل ولا تحصل صلاة، أو تحصل صلاة غير مستوفية لبقية الشروط والأركان.
والشرط ينقسم أربعة أقسام بالنظر إلى طريق معرفته :
1ـ شرعي : وهو ما عرف اشتراطه بالشرع، مثل : الطهارة للصلاة.
2ـ عقلي : وهو ما عرف اشتراطه بالعقل، مثل : الحياة شرط للعلم.
3ـ عادي : وهو ما عرف اشتراطه بالعادة، مثل : وجود السلم شرط لصعود السطح.
4ـ لغوي : وهو التعليق الحاصل بإحدى أدوات الشرط المعروفة في اللغة، كإن وإذا ونحوهما.
وهذا النوع الأخير يسمى شرطا من حيث الاسم، وهو سبب من حيث المعنى؛ لأنه ينطبق عليه تعريف السبب؛ لأنه يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته. وهذا معنى قولهم : « الشروط اللغوية أسباب ».
د ـ المانع :
هو في اللغة بمعنى : الحاجز أو الحائل.
وفي الاصطلاح : وصفٌ يلزم من وجوده عدم متعلقه، ولا يلزم من عدمه وجوده ولا عدمه.
مثل : الرق مانع من الإرث، والدَّين الحال مانع من الزكاة على الصحيح. فالرق وصف متعلق بشخص هو ابن للميت مثلا، فلولا هذا الوصف لورث من تركته، ولكن لوجود هذا الوصف منع من الإرث، فيكون هذا الوصف مانعا من موانع الإرث. وعدم الرق لا أثر له في وجود الإرث ولا عدمه، فقد يعدم الرق ولكن يكون الشخص ليس من الوارثين أصلا أو محجوبا بوارث آخر، كأن يكون الميت له ابن وابن ابن وكلاهما حر غير رقيق، فابن الابن لا يرث مع أنه ليس برقيق؛ لأنه محجوب بالابن.
هـ ـ الصحة :
الصحة في اللغة : ضد المرض.
وفي الاصطلاح : ترتب الآثار المقصودة من الفعل عليه.
وهذا التعريف يصلح للصحة في العبادات وفي المعاملات؛ فإن الآثار المقصودة من فعل العبادة عند الفقهاء هي براءة الذمة وسقوط المطالبة به، وهذه تحصل من الفعل الصحيح للعبادة. وعند المتكلمين المقصود من فعل العبادة موافقة الأمر، ولهذا جعلوا الصحة هي موافقة الأمر، سواء أسقط القضاء بالفعل أم لا.
والآثار المقصودة من المعاملة تختلف باختلاف نوعها، فإن كانت بيعا فهي دخول الثمن في ملك البائع والمبيع في ملك المشتري، وهذا يترتب على العقد الصحيح، وإن كانت إجارة فالمقصود منها تمكين المستأجر من العين المستأجرة لينتفع بها، وتمكين المؤجر من تملك الأجرة لينتفع بها، وهذا كله يحصل من العقد الصحيح.
ومن العلماء من فرق بين تعريف الصحة في العبادات وتعريفها في المعاملات؛ فجعل التعريف الذي ذكرته صالحا لتعريف الصحة في المعاملات، وأما تعريف الصحة في العبادات فقد ذكروا له تعريفين : أحدهما للمتكلمين، وهو : موافقة الفعل لأمر الشارع. والآخر للفقهاء، وهو : سقوط القضاء.
والصحيح: ما ترتبت آثاره المقصودة منه عليه، وهذا يصدق على الصحيح من العبادات والعقود والإيقاعات كالطلاق والعتاق.
و ـ الفساد والبطلان :
الفساد في اللغة : ضد الصلاح.
والبطلان : ذهابُ الشيء خُسْراً وهَدَراً.
وفي الاصطلاح : تخلف الآثار المقصودة من الفعل عنه. فإن كانت عبادة ففسادها أن لا تبرأ بها الذمة، ولا يحصل بها الثواب. وإن كان عقدا أو نحوه ففساده أن لا يترتب عليه أثره من نقل الملك أو حل الاستمتاع ونحو ذلك.
الفرق بين الفاسد والباطل :
الفاسد والباطل عند الجمهور بمعنى واحد، وهو : ما لا يترتب عليه أثره.
وعند الحنفية يفرق بينهما بأن الفاسد : ما شرع بأصله ولم يشرع بوصفه، والباطل : ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه.
ومثال الفاسد عندهم : العقود الربوية، فإذا باع رشيد من رشيد درهما بدرهمين فالعقد فاسد وليس بباطل، ومثال الباطل عندهم : إذا باعه حمل الحمل الذي في بطن ناقته، أو باع الدم بدراهم، فالعقد باطل في الصورتين؛ لأن الخلل في المبيع، فحمل حمل الناقة معدوم، والدم نجس.
وبين العقدين ـ عندهم ـ فرق كبير؛ فإن العقد الفاسد إذا اتصل بالقبض يفيد الملك الخبيث، والباطل لا يفيد شيئا. والعقد الفاسد يمكن إصلاحه برد الزيادة إذا كانت هي سبب الفساد فيكون الباقي حلالا طيبا، أما الباطل فهو لغو لا فائدة فيه ولا يمكن إصلاحه.
تنبيه :
وقع التفريق بين الفاسد والباطل للشافعية في عقد الكتابة، فجعلوا منها فاسدا وباطلا، وفرقوا بينهما. ووقع مثل ذلك للحنابلة في النكاح ففرقوا بين العقد الفاسد والباطل وجعلوا الباطل ما اختل ركنه ككون الزوجة معتدة، والفاسد ما اختل شرطه كالنكاح بلا ولي.
والصحة والفساد جعلهما الرازي وأتباعه من الأحكام التكليفية، وقالوا الصحة ليست شيئا زائدا على الاقتضاء والتخيير، بل هي راجعة إلى واحد من الأحكام التكليفية الخمسة.
وجعلها ابن الحاجب من الأحكام العقلية لا من الأحكام الشرعية.
أوصاف العبادة المؤقتة
العبادة المؤقتة بوقت محدد سواء أكانت فرضا أم نفلا تتصف بإحدى صفات ثلاث هي:
أ ـ الأداء: وهو فعل العبادة في وقتها المعين غير مسبوق بفعل مختل.
فقولنا: (فعلها في وقتها المعين)، يخرج فعلها بعد فوات وقتها، فلا يسمى أداء.
وقولنا : (غير مسبوق بفعل مختل)، يخرج الإعادة.
ب ـ القضاء: وهو فعل العبادة المؤقتة بعد فوات وقتها. كأداء صلاة الصبح بعد طلوع الشمس لعذر النوم.
ج ـ الإعادة: وهي فعل العبادة في وقتها بعد فعل مختل.
فقولنا : (بعد فعل مختل)، يخرج الأداء؛ لأنه لا يكون مسبوقا بفعل. ووصف الفعل السابق بالخلل يشمل ما اختل شرطه أو ركنه، وما نقص ثوابه وإن استكمل الشروط والأركان، مثل الصلاة منفردا، فمن صلى منفردا ثم وجد جماعة سن له أن يعيد لاستدراك الفضل الذي فاته، فإن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة.
وأما الواجب الذي لم يؤقت بوقت محدد كالكفارات، فيوصف بالإعادة ولا يوصف بالأداء والقضاء الاصطلاحيين. ولا يمتنع أن يقول : أديت ما وجب علي من كفارة، ولكن لا يقصد بذلك الأداء الاصطلاحي بل مجرد الفعل، يدل على ذلك أنك لا تقول : صيام الكفارة أداء أم قضاء؟ وأما الإعادة فيوصف بها كل فِعل فُعِل أوَّلا على ضرب من الخلل، سواء أكان له زمن محدد أم لا ( ).
تقسيم الحكم إلى عزيمة ورخصة
عَدَّ بعض العلماء من أقسام الخطاب الوضعي وصف الحكم بالعزيمة أو الرخصة، وبعضهم جعله تقسيما آخر للحكم وهو أولى، ولكنه تقسيم للحكم التكليفي والتخييري لا للحكم الوضعي، فلا يوصف السبب والشرط والمانع بالعزيمة والرخصة.
والعزيمة في اللغة : القصد المؤكد، كما قال تعالى : { ـ ـ ـ ـ } [طه 115].
وفي الاصطلاح : وصف للحكم الثابت ابتداء لا لأجل عذر.
ويوصف به الواجب والمندوب والمكروه والحرام والمباح، ولا يطلق إلا في مقابل الرخصة.
والرخصة في اللغة : التسهيل والتيسير، ومنه قولهم : رخص السعر، وقولهم : أرض رخصة أو رخيصة، إذا كانت دمثة لينة.
وفي الاصطلاح: وصف للحكم الثابت على خلاف دليل شرعي باق لعذر.
فقولنا : (على خلاف دليل شرعي)، يخرج كل حكم لم يشرع على خلاف دليل شرعي آخر.
وقولنا : (باق)، يخرج ما شرع على خلاف دليل منسوخ فلا يسمى رخصة اصطلاحا.
وقولنا: (لعذر)، يخرج ما شرع على خلاف دليل شرعي لمخصص لا لأجل العذر.
الفرق بين الرخصة والمخصوص من العموم:
الفرق بين الحكم المخصوص من العموم والحكم الثابت رخصة : أن الأول خصص لعدم وجود الداعي للحكم العام فيه، والثاني خصص مع وجود الداعي للحكم العام فيه ولكن لأجل العذر رخص في تركه مع جواز فعله. وإذا منع تركه فإنما يمنع لسبب آخر كما نوجب على المضطر أن يأكل من الميتة ما تبقى به حياته لئلا يهلك نفسه، مع أن الأصل في أكل الميتة للمضطر أنه رخصة، فالمفسدة التي لأجلها ورد النهي عن أكل الميتة موجودة في الميتة التي رخص للمضطر في أكلها، ولكن أبيح له الأكل دفعا للمشقة، وفي تخصيص الحامل من المطلقات وجعل عدتها وضع الحمل وعدة غيرها ثلاثة قروء، الأمر مختلف، فالحكمة التي أمرت لأجلها المطلقة الحائل بالانتظار ثلاثة قروء هي التأكد من خلو الرحم، والحامل إذا وضعت قطعنا بخلو رحمها، وهذا معنى قولنا : في الرخصة الداعي موجود، وفي التخصيص معدوم.
ما الأحكام التي توصف بأنها رخصة؟ :
الأصل في الرخصة أن لا يوصف بها إلا الإباحة، ولكن قد يعرض للحكم الموصوف بأنه رخصة ما يجعله واجبا أو مندوبا، وذلك كالأكل من الميتة لمن أشرف على الهلاك، الأصل أنه رخصة ولكن يكون واجبا إذا أدى تركه إلى الهلكة.
والفطر للمسافر في نهار رمضان رخصة، ولكن إذا شق عليه الصوم يكون الفطر مندوبا. وأما القصر في السفر فمن العلماء من جعله واجبا؛ لمواظبة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، ولحديث عائشة : « فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر» (أخرجاه في الصحيحين، وهذا لفظ مسلم) ولا وجه لتسميته رخصة حينئذ.
ومنهم من جعله مندوبا لمواظبة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، ولا يمكن أن يواظب إلا على الأفضل. يقول تاج الدين السبكي : « واعلم أن الإيجاب والندب واستواء الطرفين أو رجحان أحدهما أمر زائد على معنى الرخصة؛ لأن معناها التيسير، وذلك بحصول الجواز للفعل أو الترك، يرخص في الحرام بالإذن في فعله، وفي الواجب بالإذن في تركه، وأدلة الوجوب والندب وغيرها تؤخذ من أدلة أخرى » ( ).
الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي
أنكر بعض الأصوليين تقسيم الحكم الشرعي إلى تكليفي ووضعي، وجعلوا ما يسميه الجمهور أحكاما وضعية من السبب والشرط وما ذكر معهما، راجعاً إلى الأحكام التكليفية أو التخيير، وقالوا إنها ليست أحكاما بل هي إعلام بالحكم، فالسبب : علامة على الحكم، وكذلك الشرط والمانع علامة على تخلف الحكم، والصحة راجعة إلى إباحة الانتفاع إذا كانت في العقود، والفساد يعني تحريم الانتفاع.
وأما في العبادة فالصحة كون الفعل موافقا للمشروع، والفساد عكسه، وهذا حكم عقلي لا شرعي؛ لأنه يدرك بالعقل.
والصحيح : أنها أحكام شرعية، ولا يصدق عليها اسم شيء من الأحكام الخمسة المتقدمة، ولا بد لها من تسمية فاصطلح على تسميتها بالأحكام الوضعية؛ لأن الشرع هو الذي جعل السبب سببا والشرط شرطا والمانع مانعا الخ.
وإذا تقرر ذلك فهناك فروق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، تتلخص فيما يلي :
1ـ أن الحكم التكليفي لا يوصف به إلا فعل المكلف، وهو البالغ العاقل، أما الحكم الوضعي فلا يختلف باختلاف الفاعل، فمن فعل ما هو سبب للضمان أُلزم به، سواء أكان بالغا عاقلا أم لا، فالصبي إذا أتلف شيئا لغيره انعقد سبب الضمان.
2ـ أن الحكم التكليفي من شرطه العلم، فالجاهل به لا يثبت في حقه تكليف، والحكم الوضعي لا يشترط العلم به، فمن فعل المحرم جاهلا بتحريمه فلا يؤثّم بل يُعذر، ولكن من فعل سببا من أسباب الضمان لزمه وإن لم يعلم بكونه سببا للضمان، فلو منع فضل طعامه مضطرا حتى مات ضمنه، سواء أعلم بأن ذلك سبب للضمان أم لا. ولكن في العقوبات البدنية كالحدود لا يلزمه الحد إذا كان جاهلا بالتحريم، فمن سرق وادعى عدم علمه بحرمة السرقة، وأمكن تصديقه لكونه حديث عهد بالإسلام مثلا، فلا تُجعل السرقة سببا في إقامة الحد عليه؛ لأن وجوب الحد تابع للتحريم، والتحريم حكم تكليفي لا يثبت مع الجهل.
وأما في ضمان المتلفات فإن الضمان ليس تابعا للتحريم بدليل أنه إذا اضطر يباح له الأكل من مال غيره وعليه ضمانه، ولذا قالوا : « الاضطرار لا يبطل حق الغير ».
ومما يزيد الأمر وضوحا أن المرأة يقع عليها الطلاق علمت به أولا، ولكن لو تكلم الزوج بلفظ الطلاق من غير أن يعرف معناه فلا يقع، وكذلك لو تكلم بلفظ الهبة أو البيع دون علم بمعناه، لعدم القصد.
3ـ أن خطاب التكليف يشترط فيه قدرة المكلف على فعل ما كلف به؛ لقوله تعالى : { } [البقرة 286]، وقوله : { } [الحج 78]. وأما خطاب الوضع فليس من شرطه ذلك ولهذا فإن كثيرا من الأسباب لا قدرة للمكلف على إيجادها أو منعها ولا يمنع ذلك من كونها أسبابا، مثل دخول شهر رمضان سبب لوجوب الصوم مع كون السبب المذكور ليس في مقدور المكلف منعه ولا إيجاده. وموت المورث سبب للإرث وليس هو من فعل الوارث ولا داخلا تحت قدرته. وكذلك الشأن في الموانع تمنع الحكم وإن كانت ليست من فعل الإنسان الذي له علاقة بذلك الحكم، فوجود الجمع من الإخوة يمنع الأم من إرث الثلث وليس لها مدخل فيه ولا تستطيع منعه ولا إيجاده.
4ـ أن الحكم التكليفي توصف به الأفعال التي هي من كسب العبد، وما ليس من كسبه لا يكون مكلفا به، فكل فعل يقع من غير كسب من العبد لا يقال إنه حرام عليه ويستحق عليه العقوبة، ولا يقال إنه واجب أو مندوب في حقه فلا ينال عليه ثوابا : { } [النجم 39]. وهذا لا يتعارض مع حديث : « من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا » (رواه مسلم من حديث جرير البجلي مرفوعا)، وذلك لأن التسبب كسب، فما وقع نتيجة لفعله فله أجره وعليه وزره.
وأما الحكم الوضعي فلا يشترط أن يكون من كسب العبد فقد يكون من كسبه ككثير من الشروط التي تشترط لصحة العبادة، وقد لا يكون من كسبه كالأسباب والشروط والموانع الخارجة عن كسبه، فلو أرضعت زوجته طفلة حرمت عليه مع أنه لم يفعل شيئا؛ لأن الرضاع سبب لانتشار المحرمية مع أنه ليس من كسبه.
التكليـف
تعريفه :
التكليف في اللغة: مصدر كلف يكلف وهو الإلزام بما فيه كلفة، والكلفة هي المشقة، فيكون التكليف بمعنى الأمر بما فيه مشقة. وكلف بالشيء كلفا وكلفه : أحبه، والمتكلف : الواقع فيما لا يعنيه ( ).
والتكليف في الاصطلاح : « الخطاب بأمر أو نهي » وعرفه بعضهم بأنه : « الإلزام بما فيه كلفة ومشقة ».
ومن عرف التكليف بأنه : الخطاب بأمر أو نهي، جعل الأحكام التي تسمى تكليفية حقيقة أربعة، هي : الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، وأما الإباحة فسميت تكليفا إما بالنظر إلى اعتقادها وإما من باب التغليب. وقد تقدم أن الأولى إخراج الإباحة عن الأحكام التكليفية.
ومن عرف التكليف في الاصطلاح بمثل التعريف اللغوي فقال : « هو الإلزام بما فيه كلفة ». فقد قصر الأحكام التكليفية على الواجب والمحرم؛ لأنها هي التي فيها إلزام.
صحة تسمية أوامر الشرع ونواهيه تكاليف:
أنكر بعض العلماء أن تسمى أوامر الشرع ونواهيه تكاليف؛ لأنها ليس فيها مشقة ( ).
والصواب : صحة الإطلاق؛ إما من جهة أن الإطلاق جاء من قولهم : كَلِفت بالأمر، إذا أحببته، وتكاليف الشرع محبوبة للمؤمن، وإما من جهة أن التكاليف الشرعية لا تخلو من مشقة، ولكنها مشقة معتادة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : « حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات » (رواه مسلم من حديث أنس مرفوعا)، وتكون المشقة المنفية هي المشقة الخارجة عن المعتاد المؤدية إلى اختلال الحياة أو المعاش.
ومما يدل على صحة تسمية أوامر الشرع تكليفا قوله تعالى : { } [البقرة 286] فالآية تدل على امتناع التكليف بما خرج عن الوسع والطاقة، وتدل على صحة التكليف بما يدخل تحت الوسع والقدرة بطريق المفهوم.
أركان التكليف :
للتكليف ثلاثة أركان : المكلِّف، والمكلَّف، والمكلَّف به، وقد يزاد ركن رابع هو الصيغة والطلب.
فالمكلِّف : هو الآمر وهو الله جل وعلا.
والمكلَّف : هو البالغ العاقل.
والمكلَّف به : هو الفعل أو الترك.
وصيغة التكليف : هي الأمر والنهي وما جرى مجراهما.
شروط التكليف
التكليف له شروط بعضها يرجع إلى المكلف وبعضها يرجع إلى الفعل المكلف به.
والشروط التي ترجع إلى المكلَّف قسمان :
أ- شروط عامة.
ب- شروط خاصة ببعض التكاليف.
فالشروط العامة في كل التكاليف هي :
1ـ البلوغ :
وهو يحصل ببلوغ الذكر أو الأنثى خمس عشرة سنة، كما يحصل بالإنزال باحتلام أو بجماع، أو بنبات الشعر الخشن حول العانة. وتزيد الأنثى بالحيض والحمل فإنها من علامات بلوغها.
والدليل على كون البلوغ شرطا للتكليف حديث : «رفع القلم عن ثلاثة»، وذكر منهم : « الصغير حتى يحتلم » (أخرجه أحمد وأصحاب السنن).
تكليف المميز :
واختلف العلماء في مَن بلغ عشر سنين ولم تظهر عليه علامات البلوغ هل يعد مكلفا؟
فذهب الجمهور إلى أنه ليس بمكلف؛ للحديث السابق.
وذهب الإمام أحمد في رواية إلى أنه مكلف بالصلاة دون غيرها؛ لحديث : «واضربوهم عليها لعشر»، ولا يضرب على الترك من ليس بمكلف. وذهب بعض المالكية إلى أنه مكلف بالمندوبات والمكروهات دون الواجبات والمحرمات؛ لأنه يثاب على الطاعات إذا فعلها فتكون مندوبة في حقه، ولا يعاقب على المعاصي فتكون مكروهة في حقه.
2ـ العقل وفهم الخطاب:
فمن لا يعقل الخطاب ولا يفهمه لا يمكن أن يخاطب، وخطابه عبث وسفه يتنزه الله عنه.
والدليل على عدم خطاب المجنون قوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة »، وذكر منهم : « المجنون حتى يفيق ». ويلحق بالمجنون كل من لا يعقل الخطاب من نائم أو مغمى عليه أو ذاهل ناس فإنه حال نسيانه لا يخاطب. وهذا لا يمنع وجوب الفعل في ذمته ووجوب قضائه، وقد يسمى مخاطبا بهذا المعنى أي بمعنى لزوم الفعل في ذمته.
3ـ القدرة على الامتثال :
فالعاجز لا يكلف؛ لقوله تعالى : { } [البقرة 286] وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الطلاق 7]، وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الحج 78].
4ـ الاختيار :
وهو أن لا يكون مكرها على الفعل ولا على الترك، والدليل على اشتراط هذا الشرط قوله تعالى: { } [النحل106]، فالآية تدل على عدم مؤاخذة من أكره على النطق بكلمة الكفر، وإذا عذر في النطق بكلمة الكفر فمن باب أولى عذره فيما عدا ذلك من حقوق الله جل وعلا.
وأما حقوق الآدميين فلا تسقط بالإكراه؛ لأن إيجابها من باب الربط بين الأسباب ومسبباتها. وسيأتي بيان للمسألة في موانع التكليف.
5ـ العلم بالتكليف :
فمن لم يعلم بالتكليف لا يُعدُّ مكلفاً، قال تعالى : { } [الإسراء 15]، والحكمة من بعثة الرسل تعليم الناس حكم الله تعالى، ومفهوم الغاية في هذه الآية يدل على أنه بعد بعثة الرسل يمكن مؤاخذة المكلفين على تقصيرهم وتفريطهم.
والتكاليف الشرعية منها ما لا يعذر أحد بجهله بعد الدخول في الإسلام؛ لكونها مما علم من الدين بالضرورة، مثل وجوب الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وتحريم الزنا، والكذب، والظلم، ونحو ذلك.
فهذه الأحكام من ادعى الجهل بها من المسلمين إما أن يكون كاذبا في دعواه أو يكون مفرطا ومضيعا لدينه؛ لأن العلم بها يقارن العلم بالإسلام.
والصنف الثاني من الأحكام يمكن أن يجهلها المسلم لعدم اشتهارها أو لغموض أدلتها أو لحاجتها إلى نظر واستنباط، مثل حرمة بيع العينة، وبعض أنواع البيوع التي قد يجهلها الإنسان العادي، وبعض أحكام الطهارة كالمسح على الخفين، وبعض أحكام الصلاة كصلاة المسبوق وصلاة من لا يجد ما يستره، وبعض أحكام الزكاة كزكاة الحلي وأنصبة الزكاة، وبعض أحكام الصوم كاستعمال الإبر المغذية ونحوها.
فهذا النوع من الأحكام يعذر الجاهل بدعوى الجهل به فلا يلحقه إثم بما فعله أو تركه مما يخالف حكم الله، ولكن يجب عليه استدراك ما فاته إذا علم بحكم الله جل وعلا، ومن العلماء من رأى أنه لا يطالب باستدراك ما فاته ولا يؤاخذ إلا بحقوق الآدميين؛ فإنها لا تسقط بجهله؛ لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير.
والقول الأول هو الصحيح إن شاء الله، ولكن قد يعذر في استدراك ما فاته بجهله إذا كانت مطالبته بذلك توقعه في حرج ومشقة، كمن صلى أكثر عمره وهو يمسح على خف لا يستر محل الفرض أو يمسح على خف لم يلبسه على طهارة ونحو ذلك. وسيأتي للمسألة مزيد بيان في موانع التكليف.
الشروط المقيَّدة :
وأما الشروط التي تختلف باختلاف المكلف به فمنها : الحرية، فهي شرط للتكليف بالجهاد والجمعة، وليست شرطا للتكليف بالصلاة والصوم. ومنها : الذكورية، وهي شرط للتكليف بالجمعة، ومنها : الإقامة، شرط للجمعة، ونحو ذلك.
شروط الفعل المكلف به :
1ـ أن يكون معلوماً :
والمراد بهذا الشرط أن تكون حقيقة الفعل المأمور به معلومة، والأمر به معلوما لدى أهل العلم من المكلفين، والدلائل عليه منصوبة؛ لأن الأمر بغير المعلوم عبث يتنزه الله عنه. وليس معناه أن يعلمه كل مكلف، بل يكفي نصب الدلائل على التكليف به بحيث يعرفها من طلبها.
وهذا الشرط يختلف عن الشرط السابق الذي ذكرناه في شروط المكلف؛ لأن ذلك الشرط يشمل كل مكلف، ولذلك وقع الخلاف في اشتراطه.
أما هذا فهو شرط في الفعل نفسه بغض النظر عن آحاد المكلفين، فإذا كان معلوم المقدار وعُلِم الأمر به من بعض المكلفين صح التكليف به، ويجب على من جهل مقداره أن يطلب العلم به من أهله، وأما مؤاخذة كل مكلف بتقصيره فكما تقدم،تختلف باختلاف اشتهار التكليف به وعدمه، فيعذر في جهل بعض الأفعال دون بعض كما تقدم، ويعذر حديث الإسلام، ومن عاش ببادية فيما لا يعذر به غيره.
2ـ أن يكون معدوماً :
ومعناه أن يكون غير حاصل حال الأمر به إن كان مأمورا به؛ وذلك لأن الحاصل لا يمكن تحصيله، فمن صلى الفجر لا يؤمر به بعد فعله، وهذا الشرط لا ينطبق إلا على المأمور به، أما المنهي عنه فيمكن أن يكون معدوما كما ينهى المسلم عن الزنا وهو لم يرتكبه، وعن الكذب وهو لم يكذب، ويكون موجودا كما ينهى الكاذب عن الكذب، وشارب الخمر عن شربه، مع مباشرته للفعل المحرم، ولم أجد من نبه على اختصاص هذا الشرط بالمأمور به مع ظهوره لمن تأمله، وقد يقال : إن النهي عن الفعل المستقبل ـ وهو معدوم ـ لا عن الموجود الواقع، والأول أظهر.
3ـ أن يكون ممكناً :
ومعنى الإمكان أن لا يكون واجب الوقوع ولا ممتنع الوقوع عقلا، وخالف الأشعرية فأجازوا التكليف بالمحال، واختلفوا في وقوعه في الشرع، وأكثرهم لا يرى وقوعه.
ومحل النزاع هو المستحيل عقلا كالجمع بين الضدين، أو عادة كالصعود إلى السطح بلا سلم، أو ما يقوم مقامه.
أما المستحيل لتعلق علم الله الأزلي بعدم وقوعه فلا خلاف في جواز التكليف به ووقوعه، والصواب أنه لا يسمى مستحيلا؛ لأنه ممكن بمقتضى العقل والعادة، ولأن علم الله بعدم وقوعه غيب عنا ولم نكلَّف بمعرفته ولا ببناء الأحكام عليه.
ومثاله : تكليف من علم الله أنه يموت على الكفر بالإيمان، وتكليف من علم الله أنه لا يدرك الصلاة، بالصلاة، فالمثال الأول لا خلاف في جوازه ووقوعه، والمثال الثاني وقع فيه خلاف لفظي؛ لاتفاقهم على أنه معذور إذا مات وهو عازم على الصلاة في آخر وقتها أو ساه عنها، أما إذا كان ذاكرا عازماً على الترك فيأثم على ذلك القصد السيء على الصحيح، وقد قيل لا يلزمه العزم بل يكون معذورا إذا مات قبل ضيق الوقت.
الأدلة على امتناع التكليف شرعاً بما لا يطاق عقلا أو عادة :
1ـ قوله تعالى: { } [البقرة 286]، ووجه الدلالة أن الله أخبر ـ وخبره صدق ـ أنه لا يكلف الإنسان ما لا يطيق، ولا شك أن المستحيل غير داخل تحت الوسع والطاقة.
2ـ قوله تعالى: { ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الحج 78]، وجه الدلالة: أن الله أخبر ـ وخبره صدق ـ أنه لم يجعل في ديننا حرجا، ولا شك أن التكليف بالمستحيل حرج عظيم.
3ـ قوله تعالى: { }، وجه الدلالة: أن التكليف بالمستحيل عسر ومشقة، والله أخبر ـ وخبره صدق وحق ـ أنه لا يريد بنا العسر.
4ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » (متفق عليه). وجه الدلالة : أن الحديث يدل على عدم وجوب الإتيان بالعمل الشاق الذي لا يستطيعه الإنسان وإن كان ممكنا، ومن باب أولى لا يكلف بالمستحيل.
5ـ استقراء فروع الشريعة الإسلامية يدل على عدم وقوع التكليف بالمستحيل.
6ـ أن المستحيل لا يتصور وقوعه، وما لا يتصور وقوعه فليس بشيء فلا يؤمر به.
7ـ ما ثبت في صحيح مسلم أنه لما نزل قوله تعالى : { } [البقرة 284] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: أيْ رسولَ الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟! بل قولوا : سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير » قالوا : سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ} إلى قوله : { ـ } [البقرة 285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله عز وجل : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } قال : نعم، { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } قال : نعم { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } قال : نعم { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [البقرة 286] قال : نعم. (رواه مسلم). ـ
وذهب أكثر الأشعرية إلى جواز التكليف بما لا يطاق، وزعموا أنه مذهب أهل السنة والجماعة، واختلفوا في وقوعه، فذهب بعضهم إلى أنه جائز وواقع، وذهب آخرون إلى عدم وقوعه رأفة ورحمة من الله عز وجل، وساق الرازي في المحصول عليه أدلة كثيرة أكثرها تدل ـ لو سلمت ـ على وقوعه في الشريعة الإسلامية.
ومن قال بجواز التكليف بما لا يطاق، إن كان مراده الجواز العقلي فإننا لا ندعي أن العقل هو المانع منه بل الدليل على امتناعه الشرع.
وإن ادعوا الجواز الشرعي فهو مردود بالأدلة السابقة.
وأما القائلون بالوقوع شرعا فقد استدلوا على الجواز والوقوع بأدلة منها :
1ـ قوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ }. [البقرة286]، ووجه الدلالة: قالوا: لو لم يكن ذلك ممكن الحصول لما سألوا الله أن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به؛ لأن الممتنع لا يشرع أن يسأل الله منعه، فلا يجوز أن تقول اللهم لا تظلمني.
والجواب من وجهين :
أ ـ أن المراد بما لا طاقة لهم به : الشاق، وليس المستحيل الوقوع عقلا أو عادة.
ب ـ أن الله قد استجاب دعاءهم كما ثبت في صحيح مسلم أن الله قال : قد فعلت، وقد تقدم الحديث بطوله، واستجابته تدل على عدم وقوعه.
2ـ أن أبا لهب مكلف بالإيمان، مع علم الله جل وعلا بأنه لا يؤمن، ووقوع خلاف علم الله محال، فيكون قد كلف بالإيمان وهو محال.
وساق الآمدي هذا الدليل بوجه آخر فقال : إن الله أخبر أن أبا لهب من أهل النار، بقوله : { ـ ـ ـ ـ } [المسد 3]، ومع ذلك أمره بالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هذه الآية التي تدل علىعدم إيمانه، فيكون قد أمر أن يؤمن بأنه لن يؤمن، وهذا محال.
والجواب من وجهين :
أ ـ أن هذا ليس تكليفا بالمحال؛ لأن إيمان أبي لهب لم يكن محالا في حياته؛ إذ لم يحل بينه وبين الإيمان حائل، وإنما منعه كبره وعناده، ومرادنا بالمحال المستحيل عقلا أو عادة.
ب ـ أن الآية ليس فيها نص على أنه لن يؤمن، بل فيها أنه سيصلى النار، وقد يدخل النار المؤمن لتمحص ذنوبه ثم يخرج منها كما قال تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ * ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [مريم 71-72].
وقد نسب الآمدي وغيره إلى أبي الحسن الأشعري القول بأن التكاليف الشرعية كلها مما لا يطاق تفريعا على قوله بأن أفعال العباد مخلوقة والله خالقها، وقوله : إن القدرة على الفعل لا تتقدم الفعل.
والصحيح أنه لا يلزم على القول بأن أفعال العباد مخلوقة لله أن تكون التكاليف الشرعية مما لا يطاق؛ لأن القول بخلق الأفعال لا يناقض القول بأن العبد هو الفاعل لفعله حقيقة، فإذا أثيب أو عوقب فإنما يثاب ويعاقب على فعله. وأما قوله بعدم تقدم القدرة على الفعل فغير مسلم، والكلام فيه ليس من غرض الأصولي والفقيه، ومحله علم الكلام.
موانع التكليف
اعتاد جمهور الأصوليين أن يتكلموا عن التكليف وشروطه، ويذكروا موانعه ضمن كلامهم عن شروطه.
وأما الحنفية فمنهجهم بحث شروط التكليف وموانعه تحت اسم الأهلية وعوارضها.
والأهلية عندهم قسمان : أهلية الوجوب، وأهلية الأداء. ولكل منهما شروط على النحو التالي :
أولا : أهلية الوجوب :
وهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه.
وهي ملازمة للإنسان منذ بداية حياته، وشرط ثبوتها للإنسان الحياة، وقد يطلق عليها الفقهاء الذمة، ويعرفونها بأنها : « وصف شرعي مقدر يصير به الإنسان أهلا لما يجب له وعليه »، وكما يكون للإنسان ذمة صالحة لتعليق الحقوق والواجبات بها، يكون للشخص الاعتباري ذمة كذلك مثل الشركات والأوقاف وبيت المال، وبهذا يصح أن نقول للشخص النائم أو الساهي أو المغمى عليه إنه أهل للوجوب، أي : أن ذمته صالحة لأن يتعلق بها التكليف.
ثانيا : أهلية الأداء :
وهي صلاحية الإنسان لصدور الأفعال والأقوال منه على وجه يعتد به شرعا.
وشرطها الأساس : التمييز، فإذا كان الإنسان مميزا اعتد الشرع بأقواله وأفعاله في الجملة.
تمام الأهلية ونقصانها:
كلٌّ من أهلية الوجوب وأهلية الأداء قد تكون ناقصة أو تامة، فأهلية الوجوب الناقصة تثبت للجنين في بطن أمه؛ لأنه تثبت له حقوق ولا تترتب عليه واجبات، ولكن تلك الحقوق لا بد لثبوتها من ولادته حيا، فإن ولد ميتا لم يثبت له حق الإرث والوصية ونحوها.
وأهلية الوجوب الكاملة تثبت للإنسان منذ ولادته إلى وفاته ولا تفارقه بسبب الصبا أو الجنون أو نحو ذلك، ولكنه إذا لم يبلغ سن التمييز، أو بلغ ولكنه مجنون فلا ينضم إلى هذه الأهلية أهلية الأداء، وما عليه من واجبات يقوم وليه بأدائها من ماله، فيخرج عنه ما يجب عليه من نفقة أو زكاة أو ضمان متلف من ماله.
وأما أهلية الأداء الناقصة فهي تثبت للإنسان منذ بلوغه سن التمييز إلى البلوغ ولا تثبت للمجنون الذي لا يعقل، ولكنها تثبت لضعيف الإدراك ومن به تخلف عقلي.
وهذا النوع من الأهلية يترتب عليه صحة ما يفعله من حصلت له من العبادات، فيصح إسلام الصبي وصلاته وحجه وصيامه ونحو ذلك، ولكن لا يكون ملزماً بأدائها إلا على جهة التأديب والتمرين.
وأما حقوق العباد فتصرفات الطفل التي ترتب له حقوقا وترتب عليه واجبات على أقسام :
1ـ التصرفات النافعة نفعا محضا، أي التي لا ضرر فيها كقبول الهبة والصدقة، وهذه تنفذ وتصح.
2ـ التصرفات الضارة ضررا محضا مثل الطلاق والعتق والهبة والضمان، وهذه لا تصح من الصبي المميز ولو أجازها الولي؛ لأن الولي لا يملكها.
3ـ التصرفات الدائرة بين النفع والضرر، مثل البيع والإجارة والنكاح، وهذه موقوفة على إجازة الولي، إن أجازها صحت وإلا فلا.
وأما أهلية الوجوب الكاملة فتثبت للإنسان بالبلوغ والعقل، وفي التصرفات المالية يشترط لها الرشد أيضا.
ولما كان التكليف عند جمهور العلماء هو الخطاب بأمر أو نهي ذكروا من الموانع كل ما يمنع توجه الخطاب عقلا أو شرعا.
وأهم هذه الموانع :
1ـ الجنون :
وهو ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف وشرط توجه الخطاب للمخاطب.
ولا يختلف العلماء في أن الجنون يمنع التكليف في الجملة. والدليل قوله صلى الله عليه وسلم « رفع القلم عن ثلاثة » وذكر منهم : « المجنون حتى يفيق » (رواه أحمد وأصحاب السنن) وأما الأحكام التي تثبت للمجنون فهي تختلف باختلاف متعلقها على النحو التالي :
أ- أحكام أقواله.
ب- أحكام أفعاله.
ج- أحكام تركه.
فأما أقواله فهي لغو لا يؤاخذ عليها ولا يترتب عليها حكم شرعي لا في الدنيا و لا في الآخرة، فلو قذف أو باع أو اشترى فلا أثر لشيء من ذلك، وهو محل وفاق.
وأما أفعاله، فإذا كانت عبادات، فهي لغو لا أثر لها، وإن كان فيها ضرر بالغير فهو لا يؤاخذ عليها في الآخرة، وأما في الدنيا فعليه ضمانها إن ترتب عليها ضمان، فلو أتلف مالا أو قتل قتيلا فلا إثم عليه ولا قصاص ولكن الضمان يثبت في ماله أو على عاقلته؛ لأن الضمان ليس مشروطا بالتكليف.
وأما الترك فإنه لا يؤاخذ عليه فيما يتعلق بحقوق الله، فلا يطلب منه القضاء لو أفاق من جنونه إلا إذا كانت العبادة لم يذهب وقتها. وهذا مذهب الجمهور.
وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لو أفاق في آخر اليوم لزمه قضاء صلوات ذلك اليوم. وذهب محمد بن الحسن إلى أنه إذا مرت عليه الصلاة السادسة ولم يفق سقط عنه صلوات اليوم السابق، وإلا قضاها.
2ـ النسيان :
وهو ذهول القلب عن الشيء مع سبق العلم به.
والنسيان عذر يمنع المؤاخذة الأخروية لقوله صلى الله عليه وسلم : « إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان » (أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا).
وأما أفعال الناسي وأقواله وتركه فهي لغو لا يعتد بها ولا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، ولكن إذا فعل ما يبطل العبادة ناسيا فقال بعض العلماء : لا تبطل عبادته، وقال بعضهم : تبطل، لأن المبطلات أسباب للبطلان فلا يشترط لها التكليف؛ لأنها من أحكام الوضع، وقال الحنفية بالتفريق بين العبادة التي هيئتها تذكر بها كالصلاة، والعبادة التي ليس لها هيئة خاصة تذكر المتلبس بها كالصوم، فالأولى لا يعذر بالنسيان فيها، والثانية يعذر فيها بالنسيان، كما أنه إذا فعل ما يضر بالآخرين ناسيا ترتب عليه الضمان لإهماله، وأما المؤاخذة الأخروية فهي ساقطة عنه، وأما الحد والتعزير فيسقطان عنه إذا قام على دعوى النسيان دليل أو قرينة، ولا يكتفى بمجرد دعوى النسيان.
3ـ الجهل :
وهو انعدام العلم عمن يتصور منه العلم.
وهو من حيث كونه عذرا رافعا للتكليف على أنواع أربعة :
أ ـ الجهل بالله جل وعلا وإنكار وجوده أو قدرته ونحوهما من صفاته الثابتة بالنصوص القطعية، وما يجب له من العبادة. فهذا لا يعذر به الإنسان بعد علمه بإرسال الرسل إلى الخلق. وذلك لقوله تعالى : { } [الإسراء 15] فمفهومه أنه بعد بعث الرسل سيعذب العصاة والكفار، ولقوله تعالى : { * * } [الكهف 103-105]، ولقوله تعالى : { } [فصلت 23]، فهذه الآيات تدل على أن ظنهم السيء لم يعفهم من العقوبة.
ولأن الله جل وعلا قد أرسل الرسل إلى الخلق ولم يدع أمة إلا أرسل فيها نذيراً { } [فاطر 24]، وغرس الإيمان بوجود الخالق في فطرة الإنسان « كل مولود يولد على الفطرة» { } [الروم 30] وأعطى الإنسان عقلا ليتفكر في خلق الله فيستدل به عليه، فإذا سمع بالإسلام وما يأمر به وما ينهى عنه وجب عليه أن ينظر فيه، فإذا نظر في دين الإسلام بعقل متجرد عن الهوى اهتدى إلى أنه دين الحق. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار» (أخرجه مسلم بلفظ قريب من هذا عن أبي هريرة مرفوعا) فمجرد السماع بمحمد صلى الله عليه وسلم وبعثته ورسالته يوجب على العاقل التفكر فيما جاء به من الدين، فإذا تفكر فيه اهتدى إلى أنه الحق. وإن أعرض ولم ينظر كان مقصرا ملوما معاقبا على إعراضه وتقصيره.
ب ـ الجهل بما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالجهل بوجوب الصلاة والزكاة، والجهل بحرمة الزنى والربا والظلم، ونحو ذلك. فهذا لا يعذر به أحد ممن عاش بين المسلمين؛ لأنه إما ناشئ عن تقصير وتفريط، وإما أنه دعوى كاذبة فيدعى الجهل وهو يعلم.
ج ـ الجهل في موضع الاجتهاد أو الاشتباه، كالجهل بحرمة بعض أنواع البيوع، وبعض الأحوال العارضة للإنسان في صلاته أو في حجه، ونحو ذلك مما يصعب على عامة الناس الإحاطة به. فهذا النوع يسقط عن الجاهل اللوم والذم، ولكنه يلزم باستدراك ما فعله على غير الصفة الصحيحة إذا أمكن ذلك من غير مشقة خارجة عن المعتاد.
د ـ الجهلُ من حديث العهد بالإسلام أو ممن عاش حياته في البلاد الكافرة بما يعرفه عامة المسلمين في البلاد الإسلامية يعد عذرا مسقطا للمؤاخذة الأخروية، ولكن يلزم الجاهل باستدراك ما فاته إذا أمكن استدراكه، وذلك كالجاهل بوجوب الغسل من الجنابة وتحريم الأخت من الرضاعة ونحو ذلك مما هو معلوم للمسلمين الذين يعيشون في البلاد الإسلامية ولكن قد يجهله من عاش في البلاد الأخرى.
4ـ النوم :
يذكر بعض الأصوليين أن النوم مانع من التكليف، وأن النائم غير مكلف، ومرادهم ـ كما سبق ـ أن الخطاب لا يتوجه إليه حال نومه وإنما يتوجه إليه بعد الاستيقاظ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم « رفع القلم عن ثلاثة » وذكر منهم : « النائم حتى يستيقظ ».
والقول بعدم تكليفه حال نومه يعني أن ما يصدر منه من الأقوال لغو لا يعتد به حتى لو نطق بالطلاق أو بكلمه الكفر أو بالقذف أو ببيع أو شراء أو نحو ذلك لا يعتد به. وأما الأفعال فيؤاخذ على ما يوجب الضمان منها؛ لأن الضمان ليس من شرطه التكليف.
ولا يقال : يلزم من عدم تكليفه أنه لو نام حتى ذهب وقت الصلاة لا تلزمه، ولو نام جميع النهار لا يلزم الصوم؛ لأن عدم تكليفه حال نومه لا يمنع من لزوم القضاء عليه لقوله صلى الله عليه وسلم « إنه ليس في النوم تفريط،إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها » (رواه النسائي والترمذي وصححه، ومعناه في صحيح مسلم) والصيام كذلك؛ لأن الله أوجب قضاءه على المعذور لمرض أو سفر. فالنوم عذر يسقط الإثم ولا يسقط القضاء.
5ـ الإغماء :
وهو مرض يتسبب في تعطل قوى الإدراك لدى الإنسان.
وهو مانع من التكليف وأشد من النوم؛ لأن النائم لو نبه لصحا من نومه بخلاف المغمى عليه.
واختلف العلماء في قضاء العبادة التي مر وقتها على الإنسان وهو مغمىً عليه، فقال الشافعي لا قضاء عليه، وقال الحنفية إن كان طويلا فيلحق بالجنون ويسقط القضاء كما مثلنا في المجنون، وإن كان قصيرا فيلحق بالنوم فلا يسقط به القضاء.
وما نقل عن الشافعي هو الصحيح، والفرق بين النائم والمغمى عليه هو أن النوم فيه جانب تقصير من جهة العبد؛ إذ كان ينبغي أن يحتاط لصلاته فلا ينام قرب وقتها، أو ينام عند من يوقظه. وأما الإغماءُ فليس فيه تقصير من العبد ألبتة.
6ـ السكر :
وهو حالة تحصل للإنسان تغطي عقله فيضعف تمييزه بين الأشياء أو يذهب بالكلية.
وقد اختلف العلماء في عدِّ السكر مانعا من التكليف :
فذهب بعضهم إلى أنه ليس مانعا وأن السكران مكلف، و استدلوا على ذلك بقوله تعالى : { }
[النساء 43] وجه الدلالة : أن الله نهاه حال سكره عن الصلاة، فدل ذلك على أنه أهل للخطاب.
واستدلوا أيضا بأنه مرتكب لمحرم، فلا يكون ذلك سببا في عذره، وإلا لجعله الناس ذريعة لارتكاب الجرائم؛ فيسكر ثم يقتل أو يزني أو يسرق.
وذهب آخرون إلى أنه غير مكلف؛ لأنه كالمجنون لا يعقل الخطاب.
وردوا على الاستدلال بالآية السابقة بأن المراد بها : لا تسكروا قرب وقت الصلاة حتى لا تدخلوا في الصلاة وأنتم سكارى، وقالوا: هذا نظير قوله تعالى: { } [آل عمران 102] أي : لا تفارقوا الإسلام حتى لا تموتوا على الكفر.
وفرق بعضهم بين أقواله وأفعاله وقالوا هو مكلف بالأفعال دون الأقوال فيؤاخذ على القتل والزنى وإتلاف المال ولا يؤاخذ على القذف والطلاق، ولا تنفذ عقوده.
وفرق بعضهم بين أن يكون السكر بقصد أو من غير قصد فإن كان قاصدا شرب المسكر فيؤاخذ وإلا فلا. والأولى أن يقال السكر درجات فقد يصل بالإنسان إلى حالة لا يعقل فيها شيئا ولا يعرف طريقه، ولا يعرف أشياءه الخاصة كنعله وعمامته.
وهذا ينبغي أن يقال إنه يمنع التكليف إذا فسرنا التكليف بالخطاب بأمر أو نهي ولا يلزم من ذلك أن يعذر في أقواله وأفعاله المتعلقة بحقوق الآدميين بل يؤاخذ عليها، ويعاقب عقوبة الصاحي إن كان سكره باختيار ويؤاخذ المتسبب في سكره إن كان سكره بفعل غيره.
وأما إذا لم يبلغ به السكر هذا المبلغ فيكون مكلفا بأقواله وأفعاله؛ لأنه يعقل الخطاب ويفهمه فصح خطابه. ولأن كثيراً ممن اعتادوا شرب الخمر من الكفار والفساق لا يذهب عقولهم ولا يفقدهم التمييز فهم يقومون بأعمالهم التجارية والصناعية ويعقدون الصفقات الكبيرة وهم على هذه الحال.
7ـ الإكراه :
وهو حمل غيره على فعل لا يفعله لو خلي ونفسه.
وقد قسمه الحنفية والجمهور إلى ملجئ وغير ملجئ، ولكن اختَلَف اصطلاحهم في تعريف الإكراه الملجئ وغير الملجئ على النحو التالي :
الإكراه الملجئ عند الجمهور : هو الذي لا يكون للمكره فيه قدرة على الامتناع ويكون كالآلة في يد المكره، ومثلوه بما لو ألقاه من مكان مرتفع على صبي فمات، أو ربطه وأدخله في دار حلف ألا يدخلها.
وغير الملجئ عندهم ماعدا ذلك من أنواع الإكراه كالتهديد بالقتل أو الضرب أو السجن.
والإكراه الملجئ عند الحنفية : هو أن يكون التهديد فيه بقتل أو قطع طرف أو جرح أو ضرب مبرح أو حبس مدة طويلة ممن يستطيع أن يفعل ذلك.
فهم حددوا ما يسمى إكراها ملجئا بالنظر إلى نوع التهديد فإن كان متَحَمَّلا سُمّي غير ملجئ وإن كان غير متحمل عادة سُمي ملجئا. ولهذا اختلفوا في بعض أنواع من التهديد هل يعد الإكراه بها مُلجئا؟ مثل حبس الوالد أو الولد، أو ضربهما أو قتلهما، إلى غير ذلك.
وغير الملجئ عند أكثر الحنفية هو ما كان التهديد فيه بأقل مما ذكر في الملجئ.
تحرير محل النزاع :
أما الإكراه الملجئ باصطلاح الشافعية ومن وافقهم فهو يمنع التكليف باتفاق؛ لأن المكلف لا ينسب إليه شيء من العمل فهو كالآلة.
ولكن الحنفية لا يسمون هذا النوع إكراها، بل يقولون الفعل لا ينسب إلى الإنسان أصلا، فلا يقال أكره عليه , فإذا أُلقِي الإنسان من مكان مرتفع على طفل فمات الطفل فالقاتل ليس الملقَى، بل الملقي، والملقى لا يعدو أن يكون آلةً، فهو كالحجر.
وأما الإكراه غير الملجئ باصطلاح الحنفية فهو لا يمنع التكليف باتفاق، لأنه تهديد بما يمكن تحمله، فإقدام المكره على الفعل يكون باختياره؛ لأنه متمكن من الصبر على الأذى الذي هدد به. ويبقى الإكراه الملجئ باصطلاح الحنفية وهو ما كان التهديد فيه بقتل أو قطع طرف أو جرح أو ضرب مؤلم ونحو ذلك ممن يمكنه فعل ما هدد به.
فهذا مختلف فيه على أقوال :
القول الأول: أن الإكراه لا يمنع التكليف وهو مذهب الشافعية والحنفية وجمهور الأصوليين، ولكن الحنفية يعبرون بعبارة أخرى وهى قولهم : « لا يؤثر في أهلية الوجوب ولا في أهلية الأداء » لأنهم لا يعبرون بالتكليف.
القول الثاني: أنه يمنع التكليف بما يوافق مراد الشارع ولا يمنع التكليف بنقيضه، وهذا مذهب أكثر المعتزلة. ومعناه أن من أكره على فعل مراد للشارع فَفَعَله لأجل الإكراه لا يعد مكلفا فلا يثاب على هذا الفعل. وإن امتنع يعد مكلفا فيعاقب على الترك، وإن أكره على فعل يخالف مراد الشارع كالزنا وسب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن امتنع فهو مكلف ويثاب، وإن فعل فليس بمكلف، فلا يعاقب.
والسبب في هذا القول أنهم يربطون بين التكليف والثواب والعقاب، فحيث وجد التكليف فلا بد من الثواب أو العقاب، وحيث عدم التكليف فلا ثواب ولا عقاب.
والجمهور مع قولهم إن الإكراه لا يمنع التكليف لا يقولون إن المكره يؤاخذ على كل ما يقوله أو يفعله؛ لأن التكليف عندهم الخطاب بأمر أو نهي، والمكره مخاطب، وكونه مخاطبا لا يلزم منه حصول الثواب أو العقاب ولا يلزم منه صحة جميع تصرفاته، والحكم الفقهي لما يفعله المكره فيه تفصيل على النحو التالي :
1 ـ الإكراه بحق على بيع ماله لسداد الغرماء أو على عتق عبده، ونحو ذلك فهذا ينفذ ويصح.
2 ـ الإكراه بغير حق، وهذا يختلف حكمه باختلاف المكره عليه، فهو إما أن يكون قولا أو فعلا.
أ ـ فأما الأقوال فهي أنواع نجمل أهمها فيما يلي :
1 ـ العقود المالية، كالبيع والإجارة ونحو ذلك، وهذه لا تصح ولا تنعقد عند الجمهور، وذهب الحنفية إلى أنها فاسدة لا باطلة، ويمكن تصحيحها برضا العاقدين بعد ارتفاع التهديد والإكراه.
2 ـ العتق والنكاح والطلاق، وهي عقود لا تقبل الفسخ، وهذه لا تقع مع الإكراه عند الجمهور، وعند الحنفية تقع؛ لأنها تقع مع الهزل فمع عدم الرضا كذلك، ولكن يرجع على من أكرهه لضمان ما لحقه من الخسارة.
3 ـ الأقوال المحرمة كالنطق بكلمة الكفر وسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه يعد الإكراه عذرا مسقطا لعقوبتها إن نطق بها وقلبه مطمئن بالإيمان كما قال تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [النحل 106]. والنطق بها رخصة فإن صبر على الأذى وامتنع أثيب على ذلك، وأما القذف ونحوه فالإكراه يسقط عقوبته والإثم المترتب عليه.
ب ـ الأفعال، وهي أنواع، أهمها ما يلي :
1 ـ أفعال الكفر، كتمزيق المصحف وإهانته والذبح للصنم ونحو ذلك، وهذه كالنطق بالكفر يرخص للمكره في فعلها إن فعلها وقلبه مطمئن بالإيمان على الصحيح. وذهب بعض العلماء إلى أنه يؤاخذ عليها؛ لحديث الرجلين اللذين مرَّا على صنم لا يجوزه أحد حتى يقرِّب إليه قربانا، فامتنع أحدهما فقتلوه فدخل الجنة، وقال الآخر : لا أجد ما أقرِّبه له، فقالوا : قَرِّب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فدخل النار. (أخرجه ابن أبي شيبة من حديث سلمان)
والصواب عدم مؤاخذته، وهذا الحديث لا دليل فيه على مسألتنا؛ لأن الرجل الذي قرب ذبابا قربه مختارا طائعا بدليل أنه علل عدم التقريب للصنم بعدم وجوده ما يقربه، ولم يعلله بالتحريم والخوف من غضب الله جل وعلا.
ويمكن أن يجاب بأن هذا في شرع من قبلنا وقد جاء شرعنا بخلافه فأباح لنا النطق بكلمة الكفر مع طمأنينة القلب فقال تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [النحل 106]، وقال صلى الله عليه وسلم : « إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » (أخرجه ابن ماجه) ولا فرق بين الأقوال والأفعال الكفرية.
2 ـ قتل المعصوم أو جرحه أو قطع طرف من أطرافه، والإكراه لا يبيح ذلك باتفاق؛ فالفاعل يأثم باتفاق، وهل يقتص منه؟ اختلف في ذلك، فقيل : يقتص من المكرَه، وقيل : يقتص من المكرَه والمكرِه، وقيل : يُقتص من المكرِه (بالكسر) فقط، وقيل : يسقط القصاص، والصواب الاقتصاص من المكرَه (بالفتح).
3 ـ الزنى : والإكراه عليه لا يبيحه باتفاق، واختلفوا في إقامة الحد على المكره، والصواب أنه لا حد عليه؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، والإكراه شبهة قوية، وأما المكرِه فلا حد عليه باتفاق.
وفرق بعضهم بين المرأة والرجل، فقال إذا أكرهت المرأة على الزنى فلا إثم عليها، وإن أكره الرجل ففعل فعليه الإثم؛ لأن زناه لا يكون إلا باختياره؛ إذ لا جماع بغير شهوة وانتشار، فإن حصل منه ذلك كان مطاوعا مختارا.
وبهذا يتبين أن قول جمهور العلماء : « إن المكرَه مكلفٌ، وإن الإكراه لا يمنع التكليف » لا يعني مؤاخذته على كل ما أكره عليه.
ولَمَّا رأى بعض العلماء أن الله قد عفا عن المكره إلا في الحالات التي قدم فيها صيانة نفسه على صيانة غيره من المسلمين، قال : إن المكره غير مكلف، وهو وإن خالف الجمهور في ذلك من حيث اللفظ لكنه موافق لهم في المعنى، غير أنه نظر إلى آثار التكليف ـ وأهمها المؤاخذة الأخروية ـ فوجدها منتفية فنفى التكليف.
والقول بعدم تكليف المكره هو الأليق بمذهب السلف، والأقرب إلى ظاهر القرآن والسنة؛ لأن الله تعالى لم يؤاخذ من نطق بكلمة الكفر مكرها فقال تعالى: { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ }. [النحل106] والرسول صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » (أخرجه ابن ماجه).
والتكليف مع الإكراه فيه حرج شديد ومشقة عظيمة، والله تعالى يقول : { } [البقرة 286]، ويقول : { } [الحج 78] ويقول : { } [المائدة 6].
والإجماع الذي حكوه على أن الإكراه لا يبيح قتل المعصوم والزنى، يحمل على أنه لم يسقط عنه الإثم؛ لأنه في القتل قدم مصلحة نفسه على مصلحة أخيه المسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » (متفق عليه من حديث أنس). وفي مسألة الزنى لأن القرينة تدل على أنه أقدم على الزنى لشهوة وإلا لما استطاع أن يجامع. وأما المرأة المغتصبة غير المطاوعة فهي غير مكلفة على الصحيح.
وقد تكون مسألة تكليف المكره ذات صلة بمسألة أخرى وهي مسألة التكليف بما لا يطاق، فإن أكثر الأشعرية على صحة هذا التكليف كما تقدم، ولهذا ناسبهم أن يقولوا هنا بتكليف المكره.
وعلى القول الصحيح هناك أنه لا يجوز التكليف بما لا يطاق ينبغي أن نقول هنا بمنع تكليفه
الباب الثاني
أدلة الأحكام الشرعية
تعريف الدليل :
الأدلة : جمع دليل، والدليل في اللغة : المرشد إلى الشيء والهادي إليه.
وفي الاصطلاح : «ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري».
والمراد بالنظر : الفكر الموصل إلى علم أو ظن. ووصف بكونه صحيحا ليخرج النظر الفاسد المخالف لمقتضى العقل السليم أو للفطرة المستقيمة أو للغة أو للشرع، والمراد بقولنا مطلوب خبري أي حكم من الأحكام.
وقلنا : ما يمكن التوصل الخ، حتى يدخل الدليل الذي لم يتنبه المجتهدون للاستدلال به، فإنه دليل وإن لم يستدل به فعلا، وهو أفضل من قولنا ما يتوصل؛ لأنه يدل على أن الدليل هو ما حصل التوصل به فعلا.
وقولنا : بصحيح النظر فيه، يخرج النظر الفاسد فإنه لا يوصل إلى الحكم الصحيح، وإن توهم الناظر أنه يوصل إليه. وهذا القيد لا يمنع من دخول الدليل الذي لم ينظر فيه نظرا صحيحا ولم يتوصل به إلى المطلوب؛ لأن عدم الاستدلال به جاء من جهة فساد النظر لا من جهة عدم دلالته.
أقسام الأدلة الشرعية :
1ـ تنقسم الأدلة الشرعية من حيث الاتفاق على العمل بها وعدمه ثلاثة أقسام:
أ ـ أدلة متفق عليها، وهي الكتاب، والسنة.
ب ـ أدلة فيها خلاف ضعيف، وهي الإجماع والقياس.
ج ـ أدلة فيها خلاف قوي، وهي قول الصحابي والاستحسان والمصلحة المرسلة وشرع من قبلنا والاستصحاب وسد الذرائع.
2ـ وتنقسم من حيث طريق معرفتها إلى قسمين :
أ ـ أدلة نقلية، وهي الكتاب والسنة والإجماع وقول الصحابي وشرع من قبلنا والعرف.
ب ـ أدلة عقلية، وهي القياس والمصلحة المرسلة وسد الذرائع والاستحسان والاستصحاب. وليس مرادهم أنها عقلية محضة بل هي عقلية مستندة إلى نقل.
ويقسمها بعضهم إلى ثلاثة أقسام :
نقلية محضة، وعقلية محضة، ومركبة من العقل والنقل. ولا يترتب على ذلك التقسيم كبير فائدة، والتقسيم غير منضبط.
والسبب في اختلافهم في تقسيمها أن بعضهم يعد ما للعقل مدخل في دلالته دليلا عقليا وإن كان مستندا إلى نقل، وبعضهم يعد ما يستدل به العقلاء قبل الشرع دليلا عقليا وما لا يعرف كونه دليلا إلا بعد ورود الشرع يعده دليلا شرعيا.
والظاهر أن الأدلة الشرعية منها ما يدل بمقتضى الوضع اللغوي مثل أكثر نصوص الكتاب والسنة. ومنها ما لا يدل إلا بضميمة إليه كنص شرعي آخر مثل قول الصحابي وشرع من قبلنا والإجماع ونحوها. ومنها ما يستدل به العقلاء قبل ورود الشرع وجاء الشرع مؤيدا له كبعض أنواع القياس والاستصحاب والمصالح المرسلة.
3ـ وتنقسم الأدلة الشرعية من حيث قوة دلالتها إلى قطعية وظنية :
والدليل القطعي : هو ما دل على الحكم من غير احتمال ضده. وقيل ما دل على الحكم ولم يحتمل غيره احتمالا ناشئا عن دليل. فعلى الأول يكون الاحتمال الممكن ـ وإن كان بعيدا لا دليل عليه ـ ناقلا للدليل من القطع إلى الظن، وعلى الثاني لا ينتقل الدليل إلى الظن بمجرد الاحتمال بل لا بد أن يكون الاحتمال مستندا لدليل.
مثاله قوله تعالى : { } [البقرة 196]. فدلالة العدد هنا على الأيام الواجب صيامها دلالة قطعية.
والظني : ما دل على الحكم مع احتمال ضده احتمالا مرجوحا، ومثاله : قوله تعالى : { } [البقرة 264]، فالآية تدل بظاهرها على أن كلا من المن والأذى يبطل الصدقة ويذهب أجرها، ولا يلتفت إلى الاحتمال المرجوح الذي تحتمله الآية وهو أن الصدقة لا تبطل إلا بمجموع الأمرين.
الأصل في الأدلة الشرعية العموم :
الأدلة الشرعية تحمل على العموم سواء وردت بصيغة العموم أم بصيغة الخصوص، إلا أن يدل على خصوصيتها دليل.
ومعنى ذلك أن الدليل الشرعي من القرآن أو السنة يجب أن يعد شاملا لمن ورد في بيان حكمه ومن يماثله من المكلفين على مر العصور.
فالآيات والأحاديث الواردة بصيغة العموم لا إشكال في عمومها بطريق اللغة، وأما الواردة بصيغة الخصوص كالتي وجه الخطاب فيها إلى فرد أو أفراد محصورين فتكون عامة فيمن حاله كحالهم ممن يأتي بعدهم إلا أن تقوم دلالة على أنها خاصة بمن وردت فيه بعينه لا بوصفه.
فالأحاديث الواردة في رجم ماعز لَمّا زنى يدخل فيها كل زان محصن، والأحاديث الواردة في قتل العرنيين الذين قتلوا الرعاة وسملوا أعينهم تشمل من يفعل مثل فعلهم بطريق المعنى، وقوله صلى الله عليه وسلم ـ في المحرم الذي وقصته دابته ـ : « لا تخمروا رأسه » (متفق عليه) يشمل كل من مات محرما على الصحيح من قولي العلماء، ومن قال بخصوص الحديث إنما قال بذلك لدلالة قامت عنده على الخصوصية.
والدليل على ذلك الأصل من وجوه :
1ـ عموم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الشرع؛ لقوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الأعراف158]، وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [سبأ28]، وقوله صلى الله عليه وسلم : « بعثت إلى الناس كافة » (أخرجه البخاري بهذا اللفظ ومسلم بمعناه).
2ـ قوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الأحزاب21]. فإذا كان التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم مطلوباً فيكون ما يثبت في حقه من الأحكام ثابتاً في حق أمته إلا أن يقوم دليل على الخصوصية.
3ـ الأدلة الدالة على مشروعية القياس تدل على عموم الأدلة؛ لأن القياس مبناه على توسيع مجرى النص وإدخال من لا يدخل تحته وضعاً بطريق المعنى.
الدليل الأول
الكـتـــــاب
القراءة الصحيحة والقراءة الشاذة :
القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف تسهيلا وتيسيرا على الناس، يدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « أنزل القرآن على سبعة أحرف » متفق عليه.
والأحرف السبعة التي نزل القرآن بها كلها عربية، ولما جمع القرآن في المصاحف الجمعة الأخيرة اقتصر فيه على حرف واحد، وهو الحرف الذي كانت قريش تقرأ به.
والقراءات العشر لا تخرج عن الحرف الذي أثبت في المصحف العثماني. وقيل إن مصحف عثمان مشتمل على الأحرف السبعة ( ) وليس هذا موضع بسط الكلام في ذلك.
والقراءات منها ما هو صحيح، ومنها ما هو شاذ، ومنها ما هو باطل.
فالقراءة الصحيحة هي : ما صح سندها، ووافقت اللغة ولو من وجه، ووافقت رسم المصحف العثماني.
والقراءة الشاذة : ما صح سندها ووافقت اللغة ولو من وجه، وخالفت رسم المصحف العثماني.
والمخالفة قد تكون بزيادة كلمة أو تغييرها ونحو ذلك، ومثالها قراءة ابن مسعود : « فصيام ثلاثة أيام متتابعات »، فكلمة (متتابعات) غير موجودة في المصحف العثماني، ولهذا أطلق عليها بعض العلماء اسم القراءة الشاذة أو الآحادية.
والقراءة الباطلة : ما اختل فيها أحد الشرطين الأولين، وهما : صحة السند، وموافقة اللغة العربية. فأي قراءة لم يصح سندها أو لم توافق العربية بوجه من الوجوه هي قراءة باطلة لا تجوز القراءة بها ولا الاحتجاج بها باتفاق.
ولما كان رسم المصحف العثماني متواترا، عدوا ما خرج عنه آحادا أو شاذا.
واختلفوا في القراءة الشاذة أو الآحادية هل تجوز القراءة بها في الصلاة؟:
فذهب الجمهور إلى عدم صحة القراءة بها؛ لأنها ليست قرآنا؛ إذ القرآن متواتر وهي ليست متواترة. وذهب بعض العلماء إلى صحة القراءة بها في الصلاة إذا صح سندها، واستدل بأن ابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما كانوا يقرأون بها ولا يمكن أن نقول ببطلان صلاة هؤلاء وأمثالهم.
وهذا القول إحدى الروايتين عن مالك وإحدى الروايتيتن عن أحمد واختاره ابن القيم رحمه الله ( )، ومذهب الجمهور أحوط. وكون القراءة نقلت عن أحد الصحابة بطريق الآحاد لا يلزم منه كونها قرآنا، ولا يلزم أنه كان يقرأ بها في الصلاة؛ لاحتمال أنه كان يقولها تفسيرا لما في القرآن من إجمال، وتقييدا لما فيه من إطلاق.
حجية القراءة الشاذة :
اختلف العلماء في حجية القراءة الشاذة (الآحادية) على قولين :
القول الأول : أنها حجة، وهو منسوب لأبي حنيفة وأحمد، وأكثر أصحابهم، وحكاه البويطي عن الشافعي.
ودليل هذا القول : أن هذه القراءة نقلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسند صحيح فهي لا تخلو إما أن تكون قرآنا أو سنة، وعلى كلا الاحتمالين فهي حجة.
القول الثاني : أنها ليست بحجة، وهو المشهور عن الشافعي رحمه الله.
والدليل على ذلك أن الصحابي نقلها على أنها قرآن، لا على أنها سنة، وهي لا يمكن أن تكون قرآنا؛ لأن القرآن متواتر وهي غير متواترة، ولأن الظاهر أنها تفسير من الصحابي نفسه، ومذهب الصحابي ليس حجة عند الشافعي.
والصواب الأول، وقولهم : لا يمكن أن تكون قرآنا، لا يصح إلا على التسليم باشتراط التواتر في كل كلمة من كلمات القرآن وهذا محل خلاف، قال الشوكاني: « وقد ادُّعِي تواتر كل من القراءات السبع... وليس على ذلك أثارة من علم؛ فإن هذه القراءات كل واحدة منها منقولة نقلا آحاديا كما يعرف ذلك من يعرف أسانيد هؤلاء القراء، وإنما هو قول قاله بعض أهل الأصول، وأهل الفن أخبر بفنهم »( ).
وقولهم: إنها قول صحابي، يجاب بأن قول الصحابي في تفسير القرآن حجة؛ لما علمناه من تورعهم عن القول في كتاب الله بما لا علم لهم به. والله أعلم.
ومن الفروع التي بنيت على هذا الأصل ما يلي :
1ـ وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين، فمن أوجبه استدل بقراءة ابن مسعود « فصيام ثلاثة أيام متتابعات » كالحنفية والحنابلة، ومن لم يوجبه لم يستدل بهذه القراءة كالشافعية والمالكية في الأظهر.
2 ـ المراد بالصلاة الوسطى في قوله تعالى : { } [البقرة238] ورد في قراءة عائشة : « والصلاة الوسطى وصلاة العصر » ( )، فمن احتج بالقراءة الآحادية احتج بهذه القراءة على أن الصلاة الوسطى ليست صلاة العصر؛ لعطفها بالواو على الصلاة الوسطى، والعطف يقتضي المغايرة، ومن لم يحتج بالقراءة الآحادية لم يحتج بهذه القراءة، وربما ذهب إلى أنها صلاة العصر أو غيرها بأدلة أخرى.
ومن العلماء من لم يستدل بهذه القراءة؛ لعدم ثبوتها عنده، لا لأنه لا يقول بحجية القراءة الآحادية.
3 ـ تفسير القروء الوارد في العدة بالأطهار.
قال تعالى : { } [البقرة228] واختلفوا في المراد بالأقراء : أهي الحيض أم الأطهار؟ فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنها الحيص، وذهب مالك والشافعي إلى أنها الأطهار.
ومما استدل به من قال إنها الأطهار، قراءة: « فطلقوهن لقبل عدتهن» بدل قوله: { } [الطلاق1] ذكر ذلك الإمام الشافعي في الأم( )، مع أن المشهور عن الشافعي عدم الاحتجاج بالقراءة الآحادية، ولعله احتج بهذه القراءة لأنها مسندة للنبي صلى الله عليه وسلم لا إلى أحد من الصحابة كما في قراءتي ابن مسعود وعائشة السابقتين، وأما أبو حنيفة وأحمد فلعل القراءة لم تصح عندهما، فتركا الاحتجاج بها. والله أعلم.
الدليل الثاني
الســـــــــــنة
تعريف السنة :
السنة في اللغة : الطريقة، سواء أكانت حسنة أم سيئة، ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح : « من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها... » (أخرجه مسلم).
وفي الاصطلاح : ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير.
هذا تعريفها عند الأصوليين.
وعند المحدثين : زيادة : الوصف، إذ يقولون السنة : ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف. ويريدون بالوصف ما ورد عن الصحابة من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان وصفا خَلْقيا أو خلُقيا.
والأصوليون لم يدخلوا هذا النوع في السنة؛ لأنهم يتكلمون عن السنة التي هي دليل يستدل به ويتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم فيه، ولا شك أن صفات الرسول التي ليست من فعله لا يمكن أن تكون دليلا على الوجوب أو الاستحباب؛ إذ لا يتعلق بها حكم.
وتطلق السنة في كلام العلماء إطلاقات أخرى، فهي تطلق على المستحب والمندوب، وتطلق في مقابل البدعة فيقال هذا صاحب سنة وذاك صاحب بدعة، ولها إطلاقات أخرى.
أقسام السنة :
تنقسم السنة من حيث ذاتها ثلاثة أقسام هي :
1ـ السنة القولية : وهي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول غير القرآن، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « من كذب علي متعمدا فليتبؤا مقعده من النار » (متفق عليه).
2ـ السنة الفعلية : وهي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل، مثل ما نقل من صفة وضوئه وصفة صلاته، والتركُ مع قيام الداعي بمثابة الفعل.
3ـ السنة التقريرية : وهي ما نقل من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول قيل أو فعل فُعل في حضرته، أو علم به ولم ينكره. ومن أمثلة ذلك ما رواه الشيخان : من أكل الضب على مائدته من غير إنكار، وما روياه أيضا : من رؤيته للحبشة وهم يلعبون بالحراب في المسجد، وتمكين عائشة من النظر إليهم.
ومما يوجد في كتب بعض المتأخرين : تقسيمهم السنة من حيث ورودها إلينا إلى متواترة وآحادية، أو متواترة ومشهورة وآحادية، وعندي أن هذا ليس تقسيما للسنة وإنما هو تقسيم للخبر الناقل لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالسنة لا تنقسم إلى هذه الأقسام، بل هذه أقسام الخبر سواء أكان ناقلا لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أم لغيرها.
وكذلك تقسيمهم السنة إلى صحيحة وحسنة وضعيفة ليس راجعا إلى ذات السنة بل راجع إلى الخبر الذي نقل لنا السنة، فلو تيقنا أنها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لما سميناها ضعيفة، بل الضعف في السند الناقل لها، ولهذا نجد المتقدمين يجعلون هذين التقسيمين للخبر أو للحديث، والسنة أخص منهما.
الفرق بين السنة والخبر:
السنة كما عرفناها ـ فيما سبق ـ هي : ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير.
وأما الخبر في اللغة فهو النبأ، وجمعه أخبار. وفي الاصطلاح : ما يحتمل الصدق والكذب لذاته.
ومعنى قولهم : لذاته، أي : بالنظر إلى ذات الخبر دون النظر إلى المخبِر والقرائن التي تحف بالخبر، وبهذا القيد يدخل في تعريف الخبر خبر الصادق، والأخبار التي لا يمكن أن تكذب لحفوف القرائن بها، أو لقيام الدليل القاطع على صدقها كأخبار القرآن والسنة المتواترة، والأخبار التي دلت القرائن على صدقها.
ويطلق الخبر على ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن، وما نقل عن الصحابة والتابعين. وقد يجعلون الخبر ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأثر ما نقل عن الصحابة والتابعين.
أقسام الخبر :
الخبر بمعناه الاصطلاحي ينقسم عند الجمهور قسمين: المتواتر والآحاد.
وعند الحنفية ثلاثة أقسام : المتواتر، والمشهور، والآحاد.
1 ـ تعريف المتواتر : هو ما رواه جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة وأسندوه إلى حس.
وهو نوعان :
أ ـ المتواتر اللفظي : وهو ما اتفق الرواة على لفظه ومعناه، مثل حديث : « من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار » فقد روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ستين صحابيا.
وقد اعتنى جماعة من العلماء بجمع الأحاديث التي رأوا أنها بلغت حد التوتر. وهي قليلة إذا قيست بما جعلوه من الآحاد.
ب ـ المتواتر المعنوي : وهو ما اتفق الرواة على معناه دون لفظه حتى أصبح المعنى مقطوعا به وإن كان اللفظ لم يبلغ درجه القطع. ومثاله الأحاديث الواردة في المسح على الخفين؛ فإن معناها المشترك بينها وهو (مشروعية المسح على الخفين) متواتر، وإن كانت ألفاظها غير متواترة.
2 ـ الآحاد : وهو ما رواه واحد أو أكثر ولم يبلغوا حد التواتر. وأغلب الأحاديث من هذا القسم.
3 ـ المشهور عند الحنفية : هو ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم واحد أو اثنان ثم تواتر في عصر التابعين أو تابعي التابعين. ومثلوه بحديث عمر بن الخطاب ـ ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى » متفق عليه.
وتقسيم الخبر إلى متواتر وآحاد، أو إلى متواتر ومشهور وآحاد، يكاد يجمع عليه علماء الأصول وعلماء الحديث، ولكنهم لم يتفقوا على تحديد دقيق للعدد الذين تعد روايتهم تواترا والذين تعد روايتهم آحادا، فكل ما ذكروه من تحديد لم يقم عليه دليل صحيح.
وهذا قد حدا ببعضهم إلى أن يعرِّفوا المتواتر بأنه : ما أفاد العلم واليقين، والآحاد ما أفاد الظن، مع أن الناس يختلفون في العدد الذي يفيد اليقين فمنهم من يقطع بما رواه له عدد يسير، ومنهم المولع بالشك الذي لا يتيقن بالخبر وإن رواه عدد كثير، ومنهم المطلع على الأخبار العالم بأحوال الرواة الخبير بألفاظ النبوة الذي ربما قطع بصحة الحديث الذي رواه اثنان أو ثلاثة، ومنهم من ليس كذلك.
ومع اختلاف الناس في ذلك، لكنهم لا يختلفون فيما رواه عدد كثير يفوق الحصر أنه متواتر، ولكن مثل هذا لا وجود له في الأحاديث النبوية، ولهذا نجدهم يمثلون له بالخبر بوجود مكة والمدينة ونحو ذلك مما لا يتصور فيه الخلاف.
والذين عرّفوه بأنه ما أفاد القطع، لا بد أن يعترفوا أن الخبر قد يتواتر عند شخص ولا يتواتر عند غيره، فقد يقطع شخص بصدقه ولا يقطع الآخر، وحينئذ لا يمكن أن نرتب على هذا التقسيم تكفير المخالف للخبر إذا قال إن الحديث لم يتواتر عندي ولم أقطع بصحته عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا قد دعا بعض العلماء إلى إنكار التقسيم من أساسه، وعدم التعويل عليه، وعدم التفريق بين ما سماه المحدثون متواترا وما سموه آحادا متى صح سنده، وقالوا : العبرة بصحة الخبر، فمتى صح وجب العمل به قطعا.
وينقسم الخبر من حيث صحته إلى ثلاثة أقسام: صحيح، وحسن، وضعيف:
1 ـ الصحيح :
وهو ما رواه عدل تام الضبط عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسَلِم من الشذوذ والعلة القادحة.
ومعنى قولهم : (عدل)، أي: مرضي في دينه وخلقه، وهو المواظب على الواجبات المجتنب للكبائر وما يخل بالمروءة من الصغائر.
وقولهم : (تام الضبط)، أي: أنه يغلب عليه حفظ ما سمعه من الحديث وعدم مخالفة الثقات في ذلك.
وقولهم : (عن مثله)، أي: أن رجال السند لا بد أن يكونوا كذلك من لدن الراوي الذي نقل لنا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقولهم : (وسلم من الشذوذ والعلة القادحة):
الشذوذ : هو مخالفة الراوي للثقات الأثبات.
والعلة القادحة : وصف خفي يوجب رد الحديث. وهذا لم يضبطه المحدثون بضابط محدد، وإنما ذكروا أمثلة للأحاديث المعلة كما فعل الترمذي في علل الحديث، وفعله غيره من علماء الحديث.
ويصرح كبار النقاد من المحدثين بأن نقد الحديث صناعة لا يتقنها إلا أهلها، ويدل على ذلك القصة المنقولة عن أبي حاتم الرازي حين أعل بعض الأحاديث، فقال له السائل : تدعي علم الغيب؟ قال : ما هذا ادعاء علم الغيب، قال : فما الدليل على ما تقول؟ قال : سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم، فذهب السائل إلى أبي زرعة فسأله فوجد جوابه مطابقا لجواب أبي حاتم، ثم رجع إلى أبي حاتم وقال : ما أعجب هذا! تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما ( ).
وأما الأصوليون فقد ذكروا صفات يُرَدّ لها خبر الآحاد عند بعض العلماء، وهذا من قبيل إعلال الحديث بعلة قادحة عند من رد الحديث لأجلها، ومن ذلك أن الحنفية قالوا إذا انفرد الراوي برواية ما تعم به البلوى فلا يقبل حديثه، ومثلوا له بحديث : الوضوء من مس الذكر، وحديث : إيجاب الوضوء من أكل لحم الإبل.
وقالوا هم وغيرهم إذا انفرد بما تتوافر الدواعي على نقله من العدد الكثير لا تقبل روايته، وإذا خالف خبر الآحاد النص الصريح من القرآن لا يقبل، ومثلوا للأول بما يحتج به الشيعة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم عهد لعلي بن أبي طالب بالخلافة بعده، وللثاني بما رواه عمر وابنه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» متفق عليه. فإن عائشة رضي الله عنها ردت الحديث لمعارضته لقوله تعالى: { } [فاطر18]، وقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يُبكى عليها، فقال : « إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها » (أخرجه مسلم، ونحوه في البخاري) وجمهور العلماء لم يتركوا الحديث بل تأولوه بما لا يتعارض مع الآية، وهو مراد عائشة رضي الله عنها.
2 ـ الحسن :
وقد اختلف المحدثون في تعريفه، فأدخله بعضهم في الصحيح، ومن أوضح ما قيل في تعريفه أنه : ما نقله عدل خفيف الضبط بسند متصل من غير شذوذ ولا علة قادحة ( ). فيكون الفرق بينه وبين الصحيح في قوة الضبط وخفته.
3 ـ الضعيف :
وهو ما لم يجمع صفات الصحيح أو الحسن.
وهناك تقسيمات أخرى عند المحدثين لا نطيل بذكرها.
شروط الراوي الذي تقبل روايته :
يشترط في الراوي عدة شروط بعضها محل وفاق وبعضها محل خلاف، وأهمها ما يلي:
1 ـ الإسلام :
والدليل على اشتراطه أن الله أوجب التوقف في خبر الفاسق فالكافر أولى بذلك، قال تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الحجرات6]. كما أن الكافر متهم بالإضرار بالدين والكذب عليه فلا يقبل قوله فيه.
وهذا الشرط محل وفاق، ولكن المراد اشتراط هذا الشرط عند الأداء لا عند التحمل، أي أن الكافر لو سمع حديثا من الرسول صلى الله عليه وسلم حال كفره ثم رواه بعد إسلامه قبل منه.
2 ـ البلوغ :
والدليل على اشتراطه أن الصبي مرفوع عنه التكليف وهو آمن من العقوبة على الكذب فلا يبعد أن يكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 ـ العدالة :
وهي صفة راسخة في النفس تحمل المتصف بها على ملازمة التقوى وترك الكبائر، وما يخل بالمروءة من الصغائر ( )، ويعنون بما يخل بالمروءة الأعمال الخسيسة التي لا تناسب مكارم الأخلاق، كالغش في التوافه.
والدليل على اشتراطها قوله تعالى : { } [الحجرات6]؛ حيث أوجب التوقف في خبر الفاسق وعدم الحكم به حتى يروى من طريق آخر رواته عدول. ولأن الفاسق متهم بالكذب فلا يقبل قوله.
4 ـ الضبط :
وهو الحفظ لما يسمعه أو يراه، وقلة الخطأ فيه.
والدليل على اشتراطه أن من كثر منه الغلط فيما ينقله ويرويه لا يغلب على الظن صدقه، ومن لا يغلب على الظن صدقه لا يقبل خبره في الدين.
حجية السنة :
السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، ولا يختلف المسلمون في حجية السنة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا فالأخبار المتواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم حجة باتفاق المسلمين.
وأما أخبار الآحاد فقد خالف فيها بعض المتكلمين، فقال بعضهم إنها ليست حجة، وقال بعضهم يشترط في حجية خبر الآحاد أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنان ويرويه عن كل واحد منهما اثنان حتى يصل إلينا.
وهذه المذاهب لم يعتنقها ـ والحمد لله ـ أحد من الأئمة المتبوعين، بل جميعهم اعتدوا بأخبار الآحاد إذا صحت واحتجوا بها.
ومما استدلوا به على حجية أخبار الآحاد ما يلي :
1ـ قوله تعالى: { } [التوبة122].
وجه الدلالة : أن الطائفة في اللغة تطلق على الواحد وعلى العدد القليل والكثير، وقد أوجب الله عليهم أن ينذروا قومهم، ولولا أن نذارتهم مقبولة لما كان لإيجاب النذراة عليهم فائدة.
2ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله وأمراءه وقضاته وسعاته المأمورين بجمع الزكاة، وهم آحاد فلو لم يجب قبول خبرهم عنه لما أرسلهم، ولما حصل المقصود بإرسالهم.
3 ـ إجماع الصحابة على قبول خبر الواحد والعمل به، ويدل على إجماعهم قضايا ووقائع لا يمكن تكذيبها مجتمعة، ومن ذلك :
ـ أن أبا بكر ورث الجدة السدس بعد أن ردها، وقال : ما علمت لك في كتاب الله حقا، ولا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئا فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الصحابة فشهد المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، وشهد معه محمد بن مسلمة فأعطاها أبو بكر السدس (أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه).
ـ وعمر ورث المرأة من دية زوجها لما روي له أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها (رواه الترمذي وصححه)، وكان لا يرى ذلك قبل سماع الحديث.
ـ ومن ذلك ما روي عن عمر ـ ـ من استدلاله بالحديث الذي رواه عبد الرحمن بن عوف في دخول البلد الذي وقع فيها الطاعون (أخرجه مسلم)، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.
4ـ إجماع العلماء على أن المستفتي مأمور بقبول قول المفتي وهو واحد، وإجماعهم على أن القاضي يجب عليه القضاء بشهادة عدلين مع أن خبرهما يحتمل الكذب.
والذين اشترطوا لقبول خبر الآحاد أن يرويه اثنان عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرويه عن كل واحد منهما اثنان إلى أن يصل إلينا احتجوا بما يلي :
1ـ قياس الرواية على الشهادة.
2ـ ما روي عن عمر أنه طالب أبا موسى الأشعري بمن يشهد معه حينما روى له حديث الاستئذان ولم يقبله حتى شهد له أبو سعيد الخدري (متفق عليه)، وأبو بكر لم يقبل خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى شهد معه محمد بن مسلمة كما تقدم.
وأما الذين أنكروا الاحتجاج بما ليس بمتواتر فأهم ما احتجوا به ما يلي :
1ـ قوله تعالى : { } [الإسراء36]. قالوا وخبر الآحاد لا يفيد العلم فلا يجوز اتباعه.
2ـ ما روي عن بعض الصحابة من ردهم لبعض الأخبار كرد عائشة لخبر عمر وابنه في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، ورد ابن عباس خبر أبي هريرة في الميت: « من حمله فليتوضأ » (أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه) وقال : لا يلزمنا الوضوء من حمل عيدان يابسة.
والجواب عن أدلة المشترطين للقبول رواية اثنين كما يلي :
قياسهم الرواية على الشهادة لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق، فالرواية خبر عام في الدين والشهادة إلزام لشخص بعينه فيتهم الشاهد الواحد بقصد الإضرار بالشخص المعين ولا يتهم الراوي المسلم العدل بالإضرار بالأمة عموما.
وشهادة العبد مردودة عند الجمهور وروايته مقبولة باتفاق. وشهادة المرأة مردودة في بعض الوقائع وروايتها مقبولة باتفاق.
وأما استدلالهم بما روي عن بعض الصحابة من طلب من يشهد للراوي الواحد فيجاب عنه بأنهم طلبوا ذلك لزيادة التثبت ولإشعار الناس بعظم الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يتجرأ عليها كل أحد. وفي هذا يقول عمر رضي الله عنه لأبي موسى : « أما أني لم أتهمك ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد » (أخرجه أبو داود)، وأبو بكر قد يكون طلب من يشهد للمغيرة لأن الله لم يذكر للجدة شيئا حين ذكر أصحاب الفروض فلا بد من زيادة التثبت لتوريثها.
ومما يدل على أنهم لم يردوا خبر الواحد أنهم قبلوا أخبار الآحاد من غير أن تكون من رواية اثنين فأكثر، فقبل أبو بكر خبر : « إنّا معاشر الأنبياء لا نورث » (أخرجه النسائي بهذا اللفظ ومعناه في الصحيحين)، وقبل عمر حديث عبد الرحمن بن عوف في المجوس : « سنوا بهم سنة أهل الكتاب » (رواه مالك والشافعي والبيهقي، وهو معلول، ولكن قال البيهقي : إجماع أكثر المسلمين عليه يؤكده) وقبل خبر توريث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، وخبره في الحكم إذا نزل الطاعون بأرض، وخبر دية الجنين (أخرجه مسلم)، ونحو ذلك.
ثم إن خبر الاثنين كخبر الواحد لا يرتقي إلى درجة التواتر باتفاق المقسمين للخبر.
وأما الذين منعوا الاستدلال بخبر الآحاد مطلقا فيجاب عن أدلتهم كما يلي:
1ـ الآية دلت على النهي عن اقتفاء ما لا نعلم وجوب اتباعه؛ وخبر الآحاد قد أجمع الصحابة والتابعون على وجوب اتباعه، فالعلم بوجوب العمل به حاصل.
أو يقال إن العلم المذكور في الآية ليس المراد به العلم اليقيني الذي لا يحتمل النقيض، بل هو ما يغلب على الظن، وهذا المعنى هو الذي يقصد بالعلم في القرآن كما قال تعالى : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، فإن العلم في هذه الآية لا يمكن أن يحمل على ما لا يحتمل النقيض.
2ـ وأما ما ذكروه عن بعض الصحابة من رد لأخبار الآحاد، فالثابت منه لم يكن الرد فيه لكونه خبر آحاد، بل لكونه معارضا لأدلة قطعية أقوى منه، فعائشة ردت خبر تعذيب الميت بآية : { } [النجم38]. ولهذا فإن الذين قبلوه تأولوه على معنى لا يخالف هذه الآية. وكذلك ما روي عن ابن عباس من رده لخبر أبي هريرة ، له فيه عذر آخر غير كونه خبر آحاد، ولذا لم يحتج في رده بكونه خبر واحد، والذين قبلوا خبر أبي هريرة في الأمر بالوضوء من حمل الجنازة، منهم من حمله على الاستحباب، ومنهم من حمله على الوضوء قبل حمله حتى يكون على طهارة عند الصلاة عليه، وهذا معنى لطيف، والحديث يحتمله.
منزلة السنة من القرآن :
السنة بالنسبة للقرآن على ثلاثة أنواع :
أ ـ سنة مبينة للقرآن، كالسنة التي تخصص القرآن أو تبين مجمله، مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من صفة الصلاة وصفة الحج، فهذا بيان لما في القرآن من الأمر بالصلاة والحج.
ب ـ سنة مؤكدة لما في القرآن من غير زيادة، كقوله صلى الله عليه وسلم : « اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم » الحديث، فهذا موافق لقوله تعالى : { ـ ـ } [النساء19]. وكذلك الأحاديث الواردة في تحريم القتل وأكل المال بالباطل مؤكدة لما ورد في القرآن من ذلك.
ج ـ سنة زائدة على ما في القرآن : وهي السنة التي جاءت بأحكام زائدة على ما في القرآن، مثل السنة الواردة في ميراث الجدة وميراث الأخوات مع البنات: « اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة » وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها.
وهذه الأنواع ذكرها الإمام الشافعي في الرسالة وتبعه عليها أكثر العلماء.
وقد أنكر الشاطبي وجود النوع الثالث، وقال إنه راجع إلى النوع الأول.
شروط الحنفية لقبول خبر الواحد :
اشترط أكثر علماء الحنفية لقبول خبر الآحاد الذي لم يبلغ درجة الشهرة عندهم شروطا خالفهم فيها جمهور العلماء، وفيما يلي نذكر هذه الشروط، ودليل اشتراطها، ورأي جمهور العلماء فيها :
1ـ أن لا يكون الخبر فيما تعم به البلوى، ومرادهم بما تعم به البلوى ما يحتاج إليه أكثر الناس حاجة متأكدة متكررة، فإذا كان الحكم الذي تضمنه خبر الواحد مما يحتاج أكثر الناس إلى بيانه لكثرة وقوعهم في سببه وتكرر حدوثه فلا بد أن ينقله عدد كبير يحصل بنقلهم العلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد أن يبين حكمه لعموم الناس، ولا يكتفي ببيانه لواحد أو اثنين.
ومثلوا هذا بخبر بسرة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من مس ذكره فليتوضأ » (أخرجه مالك وأحمد والترمذي والنسائي) وخبر جابر في الأمر بالوضوء من لحم الإبل، (رواه مسلم) قالوا ليس من المعقول أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان نقض الوضوء بمس الذكر لعموم الناس مع أن أكثرهم لا يلبس السراويل مما يجعل إفضاءه بيده إلى ذكره كثير الحدوث، ثم كيف تختص بسماع هذا الحديث امرأة مع أن المقصود به في المقام الأول الرجال؟.
وفي الحديث الثاني قالوا : إن عادة أكل لحوم الإبل منتشرة في عهد الصحابة، فلو كان أكل لحم الإبل ناقضا للوضوء لتكرر من الرسول صلى الله عليه وسلم التنبيه عليه وإبلاغه إلى عامة الناس، ولو فعل لم يقتصر نقله على واحد أو اثنين من الصحابة.
وجمهور العلماء يقولون إذا صح الحديث وجب قبوله والعمل به، سواء أكان مما تعم به البلوى أم لا، ونقل الحديث من واحد أو اثنين لا يدل على أن البقية لم يسمعوه ولم يعلموا به؛ لأن الصحابة كان أكثرهم يتحرج من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كفاه غيره رواية الحديث سلم من العهدة.
وبعض العلماء حملوا هذين الحديثين وما جرى مجراهما على الندب دون الوجوب، وهم مطالبون ببيان الصارف للأمر عن الوجوب ولا حجة لهم سوى ما ذكره الحنفية.
2ـ عدم مخالفة الخبر للأصول والقواعد الثابتة في الشريعة، وقد يعبر عنه بعضهم بعدم مخالفة الأصول أو عدم مخالفة القياس، ولا يعنون بالقياس معناه الضيق بل ما تقرر من قواعد الشريعة ودلت عليه أصولها وفروعها.
ومثلوا لمخالف القياس بحديث المصراة الوارد في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تُصَرُّوا الأبلَ والغنمَ، فمن ابتاعها فهو بخيرِ النظَرَينِ بعد أن يحتلبَها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر » .
ووجه مخالفة هذا الخبر للأصول : أن قواعد الشرع تقضي بأن ضمان المتلفات يكون بالمثل أو بالقيمة، وفي الحديث ضمان لبن المصراة بصاع من تمر، والصاع ليس مثلا للبن ولا مساويا لقيمته، فهو مخالف لقواعد الشرع.
وحجة الجمهور أن الخبر إذا خالف غيره من الأصول صار أصلا بنفسه، فيجمع بينه وبين غيره بحمل كل من الأحاديث على معناه.
3ـ أن يكون الراوي فقيها، وهذا الشرط ذكره بعضهم مطلقا، وقال بعضهم إنما يشترط هذا إذا كان الحديث مخالفا للقياس ( ).
والصحيح قبول خبر العدل سواء كان فقيها أو غيره إذا لم يعارض بما هو أقوى منه.
والدليل على ذلك أن الأدلة الدالة على قبول خبر الواحد لم تشترط الفقه في الراوي.
4ـ أن لا يعمل الراوي من الصحابة بخلاف روايته، فإن عمل بخلاف ما رواه لم يقبل حديثه، ومثلوه بخبر أبي هريرة مرفوعا: « إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا » مع أن أبا هريرة كان يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا، وعللوا هذا بأن الراوي عدْل فإذا خالف ما روى دل على نسخه؛ إذ لو تركه مع عدم نسخه لكان ذلك قادحا في عدالته.
والجمهور قالوا إن العبرة بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا بما يفعله الصحابي، فالصحابي ليس معصوما من الخطأ والنسيان، فقد يكون ترك العمل به نسيانا أو تقصيراً.
أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم
سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تنقسم ثلاثة أقسام كما تقدم :
1ـ السنة القولية 2ـ السنة الفعلية 3ـ السنة التقريرية.
فالقولية سيأتي الكلام عنها في دلالات الألفاظ، وأما الفعلية فقد خصها بعض العلماء بتأليف مستقل، ومن أفضل ما كتب في أفعال الرسول كتاب أبي شامة المقدسي واسمه : « المحقَّق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول ». وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم على أنواع، لكل واحد منها دلالته، ويمكن اختصارها على النحو التالي :
1 ـ الأفعال الجبلية :
وهي التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى بشريته مما يحتاجه البشر عادة من حركة أو سكون أو نوم أو أكل أو شرب، مثل ما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقة مشيه وأكله القثاء بالرطب ولبسه الجبة الشامية ونحو ذلك.
فهذا النوع يفيد الإباحة عند الجمهور ولا يتعلق به أمر ولا نهي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله من غير قصد إلى القربة به، ومن غير قصد إلى اختصاصه دون غيره في الغالب، بل فعله لكونه الأرفق به، فليفعل كل مكلف ما يناسبه.
وقال بعض العلماء إنه يفيد الاستحباب استدلالا بما روي عن ابن عمر أنه كان يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة فكان ابن عمر رضي الله عنهما يتعاهدها فيصب في أصلها الماء لئلا تيبس. نقله نافع مولى ابن عمر، ونقل عنه أيضا أنه كان يتوخى سلوك طريق النبي صلى الله عليه وسلم في حجه ويقول لعل قدما أن تواطئ قدما.
2 ـ الأفعال التي قام الدليل على كونها خصوصية له صلى الله عليه وسلم :
كزواجه بأكثر من أربع مجتمعات، فهذا لا خلاف في عدم جواز التأسي به فيه، وأما ما ثبت وجوبه عليه وحده دون الأمة فالاقتداء به فيه مندوب كقيام الليل والأضحية ونحو ذلك.
3 ـ ما فعله بيانا لمجمل أو امتثالا للأمر الوارد في الكتاب أو في السنة القولية:
كصلاته وصيامه وحجه بعد نزول الآيات الواردة في ذلك، وبعد قوله صلى الله عليه وسلم: « صلوا كما رأيتموني أصلي » (أخرجه البخاري)، وقوله : « لتأخذوا عني مناسككم » (أخرجه مسلم).
فهذا النوع لا خلاف في أنه لا يخرج عن الوجوب أو الندب، وحكمه حكم المبين، فما كان بيانا لواجب فهو واجب وما كان بيانا لمستحب فهو مستحب، هكذا نص أكثر الأصوليين ( ). وفيه نظر؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين لنا الصلاة بفعله وليس كل ما فعله في الصلاة فرضا مع أن الصلاة فرض.
والأولى أن يقال : إن الأفعال التي تدخل في حقيقة الصلاة وواظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتركها ورواها كل من نقل صفة صلاته تعد واجبة كالركوع والسجود والجلوس بين السجدتين، وأما الأفعال التي ثبت أنه تركها أحيانا أو ترك ذكرها بعض من نقل صفة صلاته كتحريك أصبعه السبابة، وكذا ما لا يعلم إلا بالسؤال عنه من الأذكار الخفية فلا ترقى إلى الوجوب بل تكون مستحبة إلا أن يقترن بالفعل قول يدل على الوجوب.
4ـ الفعل المبتدأ المطلق الذي ليس امتثالا ولا بيانا ولا هو من الخواص ولا أفعال العادة الجبلية فهذا على ثلاثة أضرب :
أ ـ أن يكون معلوم الصفة من وجوب أو ندب أو إباحة، وهذا يحمل على صفته ولا يحتمل خلافا. وإنما تعلم صفته بالقرائن أو اتفاق السلف على حكمه، مثل الاعتكاف فهو مستحب عند جميع الفقهاء، مع أنه لم يثبت فيه إلا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
ب ـ أن يكون غير معلوم الصفة ولم يظهر فيه قصد القربة، فهذا يحمل على الإباحة؛ لأن الأصل عدم التعبد، وقيل على الندب مثل الترجل والتكحل.
ج ـ أن يكون غير معلوم الصفة (الحكم) ولكن ظهر فيه قصد القربة، وهذا فيه خلاف قوي بين العلماء على أقوال :
القول الأول : الوجوب : وهو قول الأكثر، فهو محكي عن الإمام مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، واختاره أكثر أصحابه واختاره ابن السمعاني وقال هو أشبه بمذهب الشافعي، وهو مذهب أكثر المعتزلة ( ).
واستدل لهذا القول بأدلة منها :
1ـ قوله تعالى: { } [الأعراف158].
ووجه الدلالة : أن الأمر في قوله: { } يحمل على الوجوب؛ لأنه الأصل في الأمر.
2ـ قوله تعالى : { } [النور63]. وفعله من أمره.
3ـ قوله تعالى : { } [آل عمران31]. ومحبة الله واجبة فما ترتب عليها كذلك.
4ـ ما رواه أبو سعيد الخدري من أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعله في الصلاة فخلعوا نعالهم. أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم. ووجه الدلالة من الحديث أن الصحابة فهموا وجوب المتابعة في الفعل المجرد.
القول الثاني: الندب : وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد وحكي عن الشافعي.
واستدل لهذا بأن القربات التي يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم لا تخرج عن الوجوب والندب، وأقل درجاتها الندب، وما زاد عليه يحتاج إلى دليل.
القول الثالث : لا يفيد الوجوب ولا الندب بمفرده بل يحمل على الإباحة، وهو مذهب الكرخي واختاره السرخسي، وقال ابن عبد الشكور : «هو الصحيح عند أكثر الحنفية » ( ). وهؤلاء يستدلون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بالتبليغ، والتبليغ لا يكون إلا باللفظ، فالفعل يحتمل الوجوب والندب والإباحة فنجزم بالمتيقن وهو الإباحة وما زاد على ذلك لا بد من دليل آخر عليه.
القول الرابع : الوقف، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو الخطاب، ويبدو أن سببه تعارض الأدلة.
والراجح هو القول الثاني، وهو حمله على الندب.
وما ذكره أصحاب القول بالوجوب لا دلالة فيه؛ فالأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أمر مطلق فلا يدل على اتباعه في كل فعل، وامتثال المطلق يتحقق بالاتباع فيما عرفنا أنه واجب. وفعل الصحابة لا دليل فيه على أنهم اعتقدوا الوجوب، بل يحتمل أنهم فعلوه على الندب، وقوله تعالى: { } [النور63] ظاهره المخالفة فيما أمر به أمر إيجاب، وكلامنا في الفعل المجرد عن الأمر.
وأما حديث أبي سعيد فهو دليل على عدم الوجوب لمجرد الفعل؛ حيث سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب خلع نعالهم سؤال إنكار، ولو كان فعله يقتضي الوجوب لما أنكر عليهم.
وأما القائلون بحمله على الإباحة فيرد عليهم بأن ما يغلب على الظن كونه قربة لا يمكن حمله على الإباحة، وقولهم إن الرسول مأمور بالبلاغ يجاب بأن المندوب يكفي في تبليغه فعل الرسول إياه، بخلاف الواجب.
وأما الوقف فمرده لتعارض الأدلة، وقد بينت رجحانَ أدلة القول الثاني.
وقد حمل بعض العلماء القول بالوجوب على أن المراد بالوجوب وجوب التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، فما فعله الرسول على جهة الوجوب عليه فهو واجب على غيره، وما فعله على جهة الاستحباب فهو مستحب لغيره، وهذا تأويل حسن يتفق مع صنيع الفقهاء في تفريعاتهم.
الدليل الثالث
الإجـمــــاع
تعريفه :
الإجماع في اللغة : العزم المؤكد، يقال : أجمع أن يفعل كذا أي عزم عليه.
وفي الاصطلاح : اتفاق مجتهدي الأمة الإسلامية في عصر من العصور على حكم شرعي.
ويزيد بعضهم قيدا في التعريف فيقول : « بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم » وهذا القيد معروف لدى الجميع وهو غير داخل في حقيقة الإجماع ولكنه بيان للوقت الذي يكون فيه الإجماع المعتد به.
ومحترزات التعريف واضحة.
تصور وقوع الإجماع :
اختلف العلماء في إمكان حصول الإجماع على ثلاثة أقوال :
1 ـ أنه ممكن الوقوع مطلقا في عهد الصحابة وبعدهم، وهو مذهب الجمهور.
وحجتهم : أنه ليس بمحال في ذاته ولا يترتب على فرض وقوعه محال، وهذا حد الممكن، وزادوا على ذلك أنه لا يشترط أن يتكلم الجميع بالحكم الشرعي بل يكفي أن يتكلم به بعضهم ويسكت الباقون وهذا غير ممتنع. ثم زادوا على ذلك بضرب أمثلة للإجماع كإجماع الصحابة على جمع القرآن في مصحف واحد، والوقوع دليل الإمكان وزيادة.
2 ـ وقال بعضهم هو غير ممكن؛ لأن بلاد الإسلام واسعة وعلماء الشريعة متباعدون في الأمصار، وهم إلى جانب ذلك مختلفون في الطباع والقرائح والفهوم، فالعادة تقضي بامتناع إجماعهم كما تقضي بامتناع اتفاق الناس في ساعة معينة على أكل طعام واحد. وقد لخص إمام الحرمين شبههم في ثلاث شبهات :
الأولى : تعذر عرض مسألة واحدة على الكافة.
والثانية : عسر اتفاقهم والحكم مظنون.
والثالثة : تعذر النقل تواتراً عنهم ( ).
3 ـ وقال بعض العلماء هو ممكن في عصرالصحابة دون من بعدهم من العصور؛ لأن العلماء بعد عصر الصحابة تفرقوا في الأمصار تفرقا شديدا يصعب معه معرفة أقوالهم في المسألة.
4 ـ التفصيل على النحو التالي : إن كانت المسألة من كليات الدين ووجدت الدواعي للنظر فيها فالإجماع عليها ممكن وإلا فلا، وهو اختيار إمام الحرمين في البرهان.
والذي يظهر أن مراد الفريق الأول وهم الجمهور الرد على من أنكر إمكان الإجماع مطلقا فيكفي فيه التسليم بإمكانه ولو مع القيود التي ذكرها إمام الحرمين.
وفي العصر الحاضر لا يمتنع أن يجتمع المجتهدون من علماء المسلمين ويتفقوا على حكم واحد وإن لم يكن في المسألة دليل قاطع، وذلك لتوافر وسائل الاتصال.
أنواع الإجماع :
ينقسم الإجماع باعتبارات متعددة أهمها :
أ ـ أقسامه من جهة تصريح المجتهدين بالحكم، وله من هذه الجهة ثلاثة أقسام:
1ـ الإجماع الصريح: وهو ما صرح فيه أهل الإجماع بالحكم، وهذا نادر الوجود بل لو قيل بانعدامه لكان أولى، لكن لا يخرج عن الإمكان ولا يقال بامتناعه.
2ـ الإجماع السكوتي: وهو أن يصرح بعض المجتهدين بالحكم ويشتهر قوله ويسكت الباقون عن إنكاره.
3ـ الإجماع الضمني: وهو المستنتج من اختلاف أهل العصر على قولين أو أكثر، فيدل ذلك على اتفاقهم على أن ما خرج عن تلك الأقوال باطل.
ب ـ تقسيمه من حيث قوة دلالته :
وله بهذا الاعتبار قسمان :
1ـ قطعي، وهو ما تحقق فيه شرطان وهما : التصريح بالحكم من أهل الإجماع، ونقله إلينا بطريق قطعي.
2ـ ظني، وهو ما اختل فيه أحد هذين الشرطين.
حجية الإجماع :
1ـ ذهب جماهير العلماء إلى أن الإجماع حجة مطلقا.
واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
أ ـ قوله تعالى : { } [النساء115].
وجه الاستدلال أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بجهنم، ولا يتوعد بها إلا على فعل محرم، فدل ذلك على أن ترك سبيل المؤمنين محرم واتباعه واجب.
ب ـ قوله تعالى : { } [البقرة143].
وجه الاستدلال : أن الله جعل الأمة شهداء على غيرهم من الأمم، وهذا يدل على قبول قولهم إذا اتفقوا؛ لأن الشاهد قوله مقبول، والشهادة تشمل الشهادة على أعمال الناس وأحكامها.
ج ـ قوله تعالى : { } [النساء59].
وجه الاستدلال : أن الآية تدل بطريق مفهوم المخالفة على أن ما اتفقوا عليه ولم يتنازعوا فيه حق؛ لأنها نصت على رد المتنازع فيه إلى الله والرسول، ففهم من ذلك أن المتفق عليه حق.
د ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها » وفي لفظ : « إن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدا، وإن يد الله مع الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذ شذ في النار » (أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه والطبراني بألفاظ مختلفة، وهو مشهور المتن وله شواهد كثيرة. انظر : المقاصد الحسنة ص 460، وكشف الخفاء 2/488).
وجه الاستدلال : أن الله عصم الأمة إذا اجتمعت من الخطأ والضلالة، فثبت أن ما اجتمعت عليه الأمة صواب، والمعتبر قوله في أمور الشرع هم العلماء المجتهدون دون غيرهم فيكون إجماعهم معصوما من الخطأ، وهذا شرف عظيم لهذه الأمة ليس لغيرها من الأمم.
2ـ وذهب بعض العلماء إلى أن الحجة في إجماع الصحابة وحدهم وهو رواية عن الإمام أحمد، ومذهب الظاهرية ( ).
واحتجوا بأن ما يحكى من إجماعات بعد عهد الصحابة غير صحيح؛ إذ لا يمكن جمع آرائهم في مسألة واحدة مع تفرقهم في الأمصار، ولذا نقل عن الإمام أحمد أنه قال : « من ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا » ( ).
3ـ وذهب النظام وطوائف من الرافضة إلى أن الإجماع ليس حجة. فأما النظام فحجته عدم تصور وقوعه، ولو تصور لم يتصور نقله إلينا بطريق صحيح متواتر، والآحاد لا يعتبر عنده. وأما الروافض فلأن الحجة عندهم في قول الإمام المعصوم دون غيره فإن كان في عصر الأئمة المعروفين لم يعتبر قول غيره، وبعدهم لا حجة في قول أحد حتى يأتي الإمام المعصوم الذي يزعمون أنه اختفى في سرداب وأنه الإمام المنتظر.
وإذا أطلق أحد منهم حجية الإجماع في عصر الصحابة أو التابعين وتابعيهم فهو من باب التعمية على الناس؛ لأن العلماء إذا وافقوا إمامهم فالحجة عندهم في قوله وبقية العلماء تبع، وإن خالفوه فلا إجماع والحجة في قوله وحده ( ).
فأما قول منكري الحجية مطلقا فظاهر البطلان؛ لأنهم عولوا على عدم إمكانه وقد بينا أنه ممكن في القديم والحديث، واحتجوا بعدم إمكان نقله متواترا، وعند الجمهور لا يشترط التواتر لنقله بل يكفي فيه خبر الآحاد.
ثم لو اشترط فهو ممكن كما تواتر نقل اتفاق النصارى على صلب المسيح وهو باطل فكيف لا يمكن نقل الاتفاق على الحق. ولكن إذا نظرنا إلى واقع الإجماعات المنقولة في كتب أهل العلم نجد أن أكثرها غير صحيح وإنما اعتمد ناقله على أنه لم يعلم مخالفا في هذه المسألة أو اكتفى بالمنقول عن الأئمة الأربعة، أو اكتفى بنقل واحد لم ينقل عن معاصريه بل عمن لم يعاصرهم، مما يدل على أنه معتمد على الشهرة بين أهل العلم، وربما اعتمد في نقل الإجماع على قيام الدليل القاطع الذي لا يمكن أن يخالفه أحد من العلماء. ولا شك أن هذا الطريق في نقل الإجماع لا يورث القطع بل غايته الظن بعدم وجود مخالف.
وأما من اعتمد في نقل الإجماع على قيام الدليل القاطع فإن الحجة حينئذ تكون في الدليل القاطع، والإجماع فائدته دفع ما يتوهم من التأويل. ولا يقال بناء على هذا تكون فائدة الإجماع ضعيفة؛ لأننا نقول بل الإجماع دليل مهم فكثير من آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لو جردنا النظر إليها عما فهمه منها الصحابة والتابعون لما قطعنا بمقتضاها، ولأمكن حملها على احتمالات كثيرة، ولكن لما عرفنا اتفاق الصحابة والتابعين ومن بعدهم على تفسيرها لم يجز لنا أن نتأولها على خلافه.
فهذه الأدلة لو خلت عن الإجماع لكانت ظنية، لكنها معه صارت قطعية. مثال ذلك : أن قوله تعالى : { } [النساء12]. لو لم يتفق الصحابة على أن المراد بالأخ والأخت هنا الإخوة لأم لكانت معارضة لآية : { } [النساء176].
وهذه فائدة عظيمة.
ومن فوائده : قطع النزاع في المسائل المستجدة، فإذا اتفق علماء العصر على حكمها لم يكن لأحد خلافهم، ولكن ينبغي أن لا تترك الأدلة الصحيحة لدعوى الإجماع، وأن لا تقبل دعوى الإجماع إلا ممن له إحاطة بأقوال العلماء واطلاع على صحيحها وضعيفها، ومشهورها وشاذها.
حجية الإجماع السكوتي :
اختلف العلماء في الإجماع السكوتي الذي عرف بتصريح بعض العلماء وسكوت الباقين، هل يعد حجة؟
فذهب الجمهور إلى حجيته، واستدلوا بما يلي :
1ـ أن سكوت العالم عن فتوى غيره يدل على موافقته إياه؛ إذ لو كان يعتقد بطلان تلك الفتوى لما سكت عن الإنكار؛ لأن السكوت عن إنكار الباطل محرم لا يقدم عليه العلماء المجتهدون.
2ـ ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : « لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ». فالحديث يدل على أنه لا يمكن أن تخلو الأمة من قائم لله بالحجة وتكون بين مخطئ للحق وساكت عن الإنكار؛ إذ لو كانوا كذلك لم يتحقق ما في الحديث من الوعد ببقاء طائفة من الأمة ظاهرة على الحق؛ لأن ظهورها يقتضي إظهار ما هي عليه من الحق.
وذهب الإمام الشافعي إلى أنه لا يمكن أن ينعقد إجماع مع سكوت بعض العلماء، بل لا بد من تصريح الكل. واستدل على ذلك بأنه لا ينسب إلى ساكت قول، وبأن العالم قد يسكت مع عدم موافقته لأسباب كثيرة منها :
أ ـ أن يغلب على ظنه أن غيره قد كفاه مؤنة الإنكار على الفتوى.
ب ـ أن يسكت خوفا من سلطان أو نحوه.
ج ـ أن يسكت لكونه لم ينظر في المسألة بعد، أو لتعارض الأدلة عنده.
وذهب بعضهم إلى أنه يعد حجة ولكن ليس بإجماع. وهذا القول راجع إلى القول بالحجية؛ إذ إن مراد هذا القائل والله أعلم أن الإجماع السكوتي حجة ظنية بخلاف الإجماع الصريح فهو حجة قطعية، ولذلك لا ينبغي أن يعد هذا قولا جديدا في المسألة.
وذهب بعضهم إلى أنه إن كان الذي تكلم في حكم المسألة حاكما فلا يكون سكوت الباقين دليلا على اتفاقهم، وإلا كان دليلا، وهو رأي ابن أبي هريرة من الشافعية، واستدل بأن العادة جارية بعدم الاعتراض على حكم الحاكم وإن كان غيره من العلماء لا يوافقونه، وأنه من عادة العلماء حضور مجالس الحكم وعدم الاعتراض على حكم القاضي وإن كان على خلاف مذهب الحاضرين، وهذه العادة لم تعهد في الفتاوى والآراء الصادرة من غير القضاة فوجب التفريق بينها على النحو السابق.
والراجح : أن الإجماع السكوتي حجة، ولكنه حجة ظنية ليست في درجة الإجماع الصريح.
وما استدل به الإمام الشافعي من أنه « لا ينسب إلى ساكت قول » يجاب عنه بأن السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان، والعالم يلزمه أن ينكر المنكر، فإذا سكت عن الإنكار دل سكوته على موافقته على الفتوى.
وما ذكر من الاحتمالات التي يمكن أن يحمل عليها سكوته كلها احتمالات ضعيفة؛ إذ لو تحقق بعضها لقامت عليه قرائن تدل عليه، ولما سكت عن الإنكار إلى وفاته، ثم إن عادة العلماء الجهر بالحق وعدم الخوف من سلطان أو غيره، وإذا سكت العالم عن الإنكار علانية فلن يسكت عن بيان الحق لطلابه وخاصته وناقلي فقهه، وأما سكوته لعدم نظره في المسألة فلا ينافي الإجماع؛ لأنه حينئذ لا قول له في المسألة.
وينبغي أن نعلم أننا لو اشترطنا تصريح كل عالم بالموافقة على الحكم لما أمكن أن نجد مسألة نقل إلينا فيها قول جميع المجتهدين، وكل ما نقله العلماء الذين ينقلون الإجماع هو من قبيل الإجماع السكوتي، فليتأمل.
وأما الإجماع الضمني، فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه حجة، وهو مذهب أكثر الأصوليين، واستدلوا على ذلك بأن إحداث قول ثالث لا يخلو من أمرين : أحدهما أن يكون هذا القول المحدث خطأ وحينئذ لا يعتد به. والثاني أن يكون هذا القول صوابا فيكون القولان أو الأقوال التي ذهب إليها أهل العصر السابق كلها خطأ فتخلو الأمة في عصرهم عن قائم لله بالحجة، وهذا مستحيل دل على استحالته أدلة حجية الإجماع، فتبين أن كلا الاحتمالين باطل فيكون إحداث قول جديد باطلا.
القول الثاني : أنه ليس بحجة ولا إجماع، واستدلوا على ذلك بأن الإجماع لا يمكن أن يؤخذ من الخلاف، وأصحاب العصر السابق قد اختلفوا فكيف يستدل باختلافهم على الإجماع. وأيضا فإن أصحاب القرن السابق قد اختلفوا في المسألة، فيستدل باختلافهم على أن المسألة خلافية، وأن الخلاف فيها سائغ، وإذا ساغ الخلاف فيها فلا مانع من إحداث قول جديد.
القول الثالث : التفصيل، فإن كانت أقوال المختلفين بينها قدر مشترك والقول المحدث يرفع ما اتفقت عليه فهو باطل، وإن لم يرفع ما اتفقت عليه الأقوال فهو اجتهاد سائغ.
ومثلوا للقول الذي يرفع ما اتفقت عليه الأقوال السابقة بأن الصحابة اختلفوا في ميراث الجد والإخوة فقال بعضهم : يشَرّك بينهم، وقال الآخرون الميراث للجد، والإخوة محجوبون، والقدر المشترك بين القولين أن الجد لا يمكن أن يحرم من الإرث حينئذ، فلو قال المتأخر : الميراث للإخوة والجد يحجب بهم لكان قوله باطلا مخالفا للإجماع.
ومثلوا للقول المحدث الذي لا يرفع ما اتفق عليه القولان السابقان بما إذا اختلف المتقدمون في العيوب هل يفسخ بها النكاح، فقال بعضهم : لا يفسخ النكاح بالعيوب، وقال بعضهم يفسخ بها، فلو ذهب ذاهب بعد عصرهم إلى أن بعض العيوب يفسخ بها دون بعض لما كان قوله مخالفا للإجماع.
وكذلك مثلوه بالخلاف في متروك التسمية، فلو اختلفوا على قولين : أحدهما بتحريمه والآخر بحله، ثم جاء المتأخر وفرق بين متروك التسمية عمدا ومتروك التسمية سهوا؛ فحرم الأول دون الآخر، لما عد قوله مخالفا للإجماع.
والذي يظهر لي أن قول القائلين إن اختلافهم على قولين إجماع على المنع من إحداث قول ثالث ليس بأولى من قول الآخرين : اختلافهم على قولين تسويغ للخلاف في المسألة وإقرار لكونها اجتهادية لا قطعية، ولهذا فلا يعد اختلافهم على قولين إجماعا على المنع من إحداث قول جديد، والمسائل التي اختلف فيها السابقون على قولين وفصل فيها المتأخرون أكثر من أن تحصى. والعصمة إنما ثبتت للأمة بشرط الاتفاق، أما مع الاختلاف فلم تثبت لهم العصمة، بل ربما أخطأ كل منهم في بعض ما قال وأصاب في بعضه الآخر فلا يمتنع أن يكون القول بالتفصيل هو الصواب.
والأحاديث التي استدل بها من جعل إحداث القول الثالث مخالفا للإجماع، كحديث: « لا تزال طائفة من أمتي على الحق » وما في معناه، لا دليل فيها على الدعوى؛ لأن المراد بالحديث ليس العصمة من الخطأ في كل مسألة وإن صغرت، وإنما المراد بقاء طائفة من المسلمين على الدين الحق، ووقوع الخطأ منهم في مسألة جزئية لا ينفي كونهم على الحق؛ إذ لو لزم من الخطأ مجانبتهم الحق لما سلم من ذلك أحد، ولو سلمنا أن هذا مراد الحديث فإن خطأ الطوائف التي نقلت أقوالهم في هذه المسألة لا يمنع وجود طائفة قالت بالقول الحق فيها وإن لم يصل إلينا قولهم، ثم إن الحديث ليس فيه أنهم يعلنون قولهم، بل فيه أنهم على الحق، أي : في عملهم وسيرتهم.
أهل الإجماع (الذين ينعقد بهم الإجماع) :
يعتد في الإجماع بالعلماء المجتهدين بغض النظر عن سنهم وطبقتهم وبلادهم، فلا ينعقد الإجماع إلا باتفاق علماء العصر المجتهدين وقت النظر في النازلة.
والدليل على ذلك : أن الآية التي هي مستند الإجماع تدل على أن اللوم يحصل بترك سبيل المؤمنين، وإذا اختلف المؤمنون لم يصح أن يسمى ما قاله الأكثر سبيل المؤمنين، بل سبيل بعض المؤمنين. ولو أخذ بظاهر الآية لاعتد بالعوام، ولكن لما كان العوام مأمورين باتباع العلماء لقوله تعالى : { } [النحل43]. أصبح المعتد بقولهم العلماء المجتهدين.
وينبني على ما تقدم أن التابعي إذا بلغ درجة الاجتهاد في حياة الصحابة، يعتد بقوله في المسائل التي لم يقم عليها إجماع قبل بلوغه درجة الاجتهاد، فلو خالف التابعي المعاصرين له من الصحابة لم يعد مخالفا للإجماع إذ لا إجماع حينئذ.
وينبني على ذلك أيضا أن من حصَّل بعض العلوم التي لا بد منها لبلوغ درجة الاجتهاد دون بعضها لا يعتد بقوله، فالمحدث الذي لا يعرف أصول الفقه وقواعده، والفقيه الحافظ للفروع الذي لا يعرف أحاديث الأحكام، والأصولي الذي لا يعرف أدلة الأحكام لا يعتد بقولهم في الإجماع، لكن الأصولي القادر على الاستنباط إذا عرف أدلة المسألة وأحاط بأكثرها اعتد بقوله فيها، والمحدث إذا عرف اللغة وأصول الفقه اعتد بقوله، والفقيه إذا عرف أصول الفقه واللغة وأدلة المسألة موضع البحث اعتد بقوله فيها. وهذا مبني على أن الاجتهاد يتجزأ فيكون العالم مجتهدا في بعض أبواب الفقه ومسائله دون غيرها. كما سيأتي في باب الاجتهاد.
وهذا يجعلنا نجهل أهل الاجتهاد في كل مسألة، فلا نجزم بحصول الإجماع فيها، مع وجود مخالف وإن لم نره من أهل الاجتهاد، فالإجماع مع وجود مخالف لا يمكن الاحتجاج به على الغير؛ لأن الخصم ربما عد المخالف من أهل الاجتهاد فلا يتحقق الإجماع عنده.
هل يشترط لتحقق الإجماع انقراض العصر :
المراد بانقراض العصر موت العلماء المجمعين على حكم الواقعة قبل رجوعهم عن رأيهم. وليس المراد موت جميع علماء العصر، بل موت الذين أفتوا في المسألة.
هذا الأمر اشترطه بعض العلماء واحتجوا عليه بأن العالم لا يمكن منعه من الرجوع عن رأي رآه ثم تبين له خطؤه، وبأن علي بن أبي طالب قال : «اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، وأنا الآن أرى بيعهن» (أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي بسند صحيح) فرجع عن رأي اتفق عليه.
والصحيح أن انقراض العصر ليس شرطا؛ لأن الأمة إذا اتفقت على حكم فهي معصومة من الخطأ؛ لحديث : « لا تجتمع أمتي على ضلالة » وما جاء في معناه من الأحاديث، فإذا حصل الإجماع وجب أن يكون على صواب وإذا كان صوابا فما عداه خطأ؛ لأن الصواب لا يتعدد.
وجواز رجوع العالم إنما هو في المسائل التي لم يحصل فيها إجماع.
وما روي عن علي لا دليل فيه؛ لأنه حكى اتفاقه مع عمر وحده ولم يحك اتفاق المسلمين جميعا، ومع هذا فقد أنكر عليه جابر بن زيد، وقال : رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك، أو قال : من رأيك في الفرقة.
ومما يؤيد القول بعدم اشتراط انقراض العصر أنه لو اشترط هذا الشرط لما تحقق إجماع أبدا؛ لأنه قبل أن ينقرض أهل العصر يبلغ درجة الاجتهاد علماء آخرون من الطبقة التي تليهم ومن حقهم أن يفتوا في تلك المسألة بخلاف ما اتفق عليه من سبقهم إذ لم ينعقد الإجماع بعد، فإن أفتوا بموافقتهم من قبلهم أصبحوا من أهل الإجماع فلا ينعقد حتى يموتوا ثم يأتي في عصرهم علماء من الطبقة الثالثة فيجوز لهم أن يخالفوا في تلك المسألة أو يوافقوا، وهكذا فلا يتحقق الإجماع أبدا.
والمشترطون للانقراض يقولون إنه ممكن؛ لأن العبرة بموت المجمعين من الطبقة الأولى قبل وجود المخالف من الطبقة الثانية أو الثالثة، ولا يشترط موت من لحق بهم من الطبقة الثانية أو الثالثة. وهذا لا دليل عليه إذ كيف يجعل موت فلان من الناس دليلا على التحريم أو الإباحة أو غيرهما من الأحكام؟.
الإجماعات الخاصة :
يذكر الأصوليون خلافا في الاحتجاج بإجماع طائفة معينة من العلماء كإجماع أهل البيت الذي يحتج به الرافضة، وإجماع الخلفاء الأربعة، وإجماع أبي بكر وعمر، وإجماع أهل المدينة، وإجماع أهل البصرة، ونحو ذلك.
والراجح عند الجمهور أن هذه الإجماعات لا حجة فيها؛ لأن الأدلة الدالة على حجية الإجماع إنما دلت على حجية إجماع الأمة إذا اتفقت، وتأولوا الأحاديث الواردة في الأمر باتباع الخلفاء الراشدين واتباع أبي بكر وعمر على أنها تدل على لزوم طريقتهم في سياسة الدولة وتصريف شؤونها، أو لزوم طريقتهم في الاستدلال بالكتاب والسنة وما دلا عليه.
وأشهر ما وقع فيه الخلاف من تلك الإجماعات إجماع أهل المدينة أو عمل أهل المدينة، وكلام أكثر الأصوليين عنه مجمل يحتاج إلى تفصيل وبيان، فأقول :
عمل أهل المدينة :
عمل أهل المدينة ليس المقصود به عملهم في جميع الأعصار، بل في عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين فحسب، وقد جعله القاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي على ضربين : نقلي واستدلالي.
والنقلي كنقلهم الصاع والمد والأذان والأوقات وترك أخذ الزكاة من الخضروات، وهذا حجة عند جمهور العلماء، وقال أبو العباس القرطبي إنه لا ينبغي الخلاف فيه.
وأما الاستدلالي فهو ما ذهبوا إليه بطريق الاجتهاد، وهذا هو محل الخلاف بين المالكية وغيرهم، بل قال القاضي عبد الوهاب إن المالكية مختلفون فيه على ثلاثة أوجه هي :
1ـ أنه ليس بحجة ولا مرجح، وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني والأبهري وأبي الفرج وغيرهم.
2ـ أنه مرجح عند التعارض ولا يستدل به منفردا.
3ـ أنه حجة ( ).
والذين رأوا حجيته من المالكية ونسبوه لإمامهم، أخذوه مما عرف عن الإمام مالك أنه كان يروي الخبر ثم يترك العمل به ويقول : « وليس على هذا العمل عندنا » يعني في المدينة كما فعل في خيار المجلس.
ويشكل على هذا النقل أن الإمام مالكا رحمه الله ذكر في الموطأ في باب العيب في الرقيق إجماع أهل المدينة على أن البيع بشرط البراءة لا يجوز ولا يبرأ من العيب لو اشترطه، ثم خالفهم، ولعل هذا هو ما جعل بعض علماء المالكية ينكرون احتجاج مالك بإجماع أهل المدينة إلا فيما سبيله النقل.
وأظهر ما يستدل به للقول بحجية إجماع أهل المدينة : أن المدينة قد ضمت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناءهم وأبناء أبنائهم، وأن ما اتفقوا عليه لا بد أن يكون ظاهرا معلوما في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون حجة. وكذلك ما تركوه مع قيام الداعي إليه لا يتركونه إلا بحجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الاستدلال بالأحاديث الواردة في فضل المدينة وفضل الأنصار ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأهلها فلا دلالة فيها على حجية إجماعهم أو عملهم.
واستدل الجمهور على عدم الحجية بأن أدلة الإجماع ما خصت أهل المدينة بل عمت الأمة.
انعقاد الإجماع بعد الخلاف :
إذا اختلف أهل العصر الواحد في مسألة على قولين فأكثر، ثم رجع بعضهم عن قوله واتفقوا، هل يعد هذا إجماعا؟:
الصحيح عند الأكثر أنه إجماع، وقال ابن الباقلاني والقاضي عبد الوهاب المالكي لا يكون إجماعا؛ لأن اختلافهم أولا إجماع على تسويغ الخلاف، فلا ينقضه رجوع بعضهم عن رأيه.
وقال الجويني : إن قرب العهد كان اتفاقهم بعد الاختلاف إجماعا، وأما إن تمادى الزمان واستقر الخلاف فليس اتفاقهم بعد ذلك إجماعا.
والصحيح: أنه يعد إجماعا؛ لأنه قول كل المجتهدين في هذا العصر، والقول الذي رجع عنه صاحبه لا عبرة به.
وأما إذا اختلف أهل العصر السابق على قولين ثم اتفق الذين بعدهم على قول من القولين كما لو اختلف الصحابة على قولين ثم اتفق التابعون على أحدهما، فاختلف العلماء في ذلك هل يعد إجماعا؟ :
فذهب بعضهم إلى أنه إجماع؛ لأنه قول كل أهل العصر الثاني.
وذهب بعضهم إلى أنه ليس إجماعا؛ لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها فيبقى جواز تقليدهم فيها بعد موتهم.
والصحيح : أن هذا لا يعد إجماعا؛ لأن متبع القول الذي مات قائله لا يصدق عليه أنه اتبع غير سبيل المؤمنين، والمعتمد في الاستدلال هو الآية المذكورة سابقا، ولأن الأمة لم تجتمع على حكم واحد في تلك المسألة بل اختلفوا فلا يصدق على هذه الصورة حديث : « لا تجتمع أمتي على ضلالة ».
وأما حديث : « لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين » فالمقصود بالحديث ليس مسائل الفروع الاجتهادية، وإنما المقصود بقاء طائفة من الأمة على الدين الحق. ولو سلم أنه يعم كل مسائل الخلاف فإن المتبع لصاحب القول السابق المخالف لما أجمع عليه علماء العصر قد يكون هو الذي على الحق وإن كان مقلدا، والحديث ليس فيه إلا بقاء طائفة على الحق فلا يشترط أن تكون تلك الطائفة من المجتهدين.
مخالفة الواحد والاثنين هل تنقض الإجماع؟:
الجمهور على أن الإجماع لا يتحقق إلا باتفاق كل المجتهدين من أهل العصر، وأن مخالفة واحد أو أكثر تخرم الإجماع؛ لأن الأدلة الدالة على الحجية وعصمة الأمة تدل على ذلك.
وقال ابن جرير الطبري : إن مخالفة الواحد والاثنين لا تخرم الإجماع؛ لحديث : « عليكم بالسواد الأعظم ».
وما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون قول الأكثر من المرجحات عند تعادل الأدلة في نظر المجتهد، كما أنه من المرجحات عند العامي ومن يلحق به من صغار طلاب العلم، ولهذا فلا يستنكر على العالم تهيبه من مخالفة مذهب جماهير العلماء إلا إذا وجد نصا صريحا واضحا على خلاف قولهم، ومن النادر جدا أن يوجد دليل صحيح صريح يخالفه جمهور العلماء.
حكم المخالف للإجماع :
يكثر في كلام العلماء تكفير مخالف الإجماع أو تفسيقه، ولكن ذلك إنما يحمل على الإجماع الصريح المنقول بطريق التواتر والقطع، وقد قلنا فيما مضى إن هذا النوع من الإجماع غير موجود إلا على مسائل دلت عليها نصوص قطعية، وحينئذ يكون تكفير المخالف أو تفسيقه لمخالفة تلك النصوص لا لمخالفة الإجماع وحده.
وأما ما عدا ذلك من الإجماعات فهي لا تعدو أن تكون أدلة ظنية لا يمكن دعوى تكفير المخالف لها أو تفسيقه، وبخاصة حين يكون معه دليل من عموم كتاب أو سنة.
والتكفير والتفسيق من الأمور التي يجب أن لا يتعجل فيها المفتي؛ إذ لا يستحقها إلا من أنكر ما علم من الدين بالضرورة، وقامت عليه الحجة، وانقطع عذره، كما هو معلوم في موضعه.
الدليل الرابع
القياس
تعريفه :
القياس في اللغة : التقدير، يقال : قاس الطبيب الجرح، إذا قدر عمقه، وقاس البزاز القماش إذا قدره بالمتر. ويطلق على المساواة بين شيئين، كما يقال: فلان لا يقاس بفلان، أي : لا يساوى به.
وفي الاصطلاح : نجد أن للأصوليين اتجاهين رئيسين في تعريفه :
الأول : جعل القياس اسما لفعل المجتهد الذي ينظر في المسألة غير المنصوص على حكمها ليلحقها بالمنصوص عليها.
الثاني : جعل القياس اسما للتساوي الواقع بين المسألتين، سواء تفطن له المجتهد فاستدل به على حكم غير المنصوص أم لم يتفطن له.
وعلى هذا يمكن أن نعرفه بناء على الاتجاه الأول بأنه : إلحاق فرع بأصل في الحكم الشرعي الثابت له لاشتراكهما في علة الحكم.
ومثله التعبير بلفظ : حمل فرع على أصل في حكم...الخ. وكذا قولهم: حمل معلوم على معلوم... الخ.
وأما على الاتجاه الثاني فيمكن أن يعرف بأنه : مساواة فرع لأصل في حكم شرعي لاشتراكهما في علة الحكم.
وكل من هذين التعريفين لم يسلم من الاعتراض، ولكن لما كان المقصود بالتعريف تمييز المعرف عن غيره أمكن الاكتفاء بأي منهما.
والقياس ينقسم إلى قياس طرد وقياس عكس، ولكن العلماء حين يعرفونه إنما يعرفون قياس الطرد لأنه الأصل، أما قياس العكس فقل من يراعيه عند تعريف القياس؛ إما لأنه لا يرى حجيته، وإما لقلة وروده في كلام الفقهاء، وإما لاختلاف الحقيقتين وتعذر الجمع بينهما في تعريف واحد.
والمراد بالطرد هنا : ثبوت الحكم لثبوت الوصف المدعى عليته.
والعكس : انتفاء الحكم لانتفاء الوصف المدعى عليته.
وإذا نظرنا إلى تعريفات الأصوليين للقياس نجد أن غالبهم لا يلتفت إلى قياس العكس عند التعريف فلهذا يعبرون بلفظ إثبات أو إلحاق أو حمل أو مساواة، ويعبرون بلفظ : لاشتراكهما في العلة، أو لتساويهما في العلة، ومعلوم أن هذا إنما يصدق على قياس الطرد؛ إذ هو الذي يثبت به حكم للمسكوت عنه مساو لحكم المنطوق، لتساويهما في علة الحكم.
وما جرى عليه جمهرة الأصوليين من قصر التعريف على قياس الطرد دون قياس العكس هو الأولى؛ لاختلاف الحقيقتين وعدم إمكان الجمع بينهما في تعريف واحد. ولهذا فسنذكر التعريف المختار لقياس الطرد لأنه المقصود بالقياس عند الإطلاق. فأقول : أحسن ما يعرف به القياس أن يقال :
« هو إثبات مثل حكم الأصل للفرع لتساويهما في علة الحكم ».
شرح التعريف :
لشرح التعريف لا بدّ من معرفة معاني الكلمات الآتية : الحكم، الأصل، الفرع، العلة.
فالحكم سبق تعريفه، والمقصود به هنا : أي حكم من الأحكام الشرعية، كالوجوب والتحريم والندب.
الأصل : المقصود به هنا : المقيس عليه، أي : الصورة أو المسألة التي ثبت حكمها بنص أو إجماع، أو اتفق عليه الخصمان المتناظران.
الفرع : المقصود به هنا : المقيس، أي الصورة أو المسألة التي يراد إثبات حكمها بالقياس.
العلة : المراد بها هنا : المعنى الذي ثبت الحكم في المسألة المقيس عليها لأجله، سواء عرف ذلك بنص أو باجتهاد ونظر.
فمعنى التعريف : أن القياس هو تسوية المجتهد في الحكم بين مسألتين : إحداهما ثبت حكمها بنص أو إجماع أو اتفاق من المتناظرين، والأخرى محل خلاف، فيقوم المجتهد بإلحاقها بالأولى المتفق على حكمها لأجل اشتراك المسألتين في الوصف الذي يغلب على الظن أنه علة ثبوت الحكم في المسألة المقيس عليها.
مثاله : أن الخمر محرمة باتفاق المسلمين؛ للنصوص الكثيرة الواردة في تحريمها، والنبيذ الذي هو عصير الفواكه أو التمر أو الشعير ونحوه إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه، اختلف في تحريمه. فذهب جمهور العلماء إلى تحريمه قياسا على الخمر. فالخمر هي الأصل في هذا القياس، والنبيذ فرع، والعلة الجامعة بينهما الإسكار، فكل منهما مسكر، والحكم الذي ثبت للفرع هو التحريم.
وهذا المثال يذكره أكثر الأصوليين، مع أن تحريم النبيذ ثابت بقوله صلى الله عليه وسلم : «وكل مسكر خمر»، فالقياس هنا لا حاجة إليه إلا للاستدلال به على من لا يرى صحة الحديث.
مثال آخر : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « البر بالبر مثلا بمثل » الحديث، فقاس جمهور العلماء الذرة على البر، وحكموا بتحريم بيعها بجنسها مع التفاوت في المقدار، ولم يخالف في هذا إلا الظاهرية، فالأصل في هذا المثال البر، والفرع الذرة، والعلة الجامعة أن كلا منهما مكيل يمكن ضبط مقداره بالكيل، والحكم هو تحريم التفاضل إذا بيع بجنسه.
وبعض العلماء عللوا ذلك بالطعم فقالوا : البر مطعوم، والذرة كذلك، فالذرة تأخذ حكم البر.
وبعضهم علل بالاقتيات والادخار، فقال تقاس الذرة على البر ويثبت تحريم بيعها بجنسها مع التفاضل، والعلة الجامعة هي الاقتيات والادخار، فكل من البر والذرة يقتاته الناس ويدخرونه ولا يفسد بالادخار.
أركان القياس :
اتضحت أركان القياس من خلال التعريف والمثال، وتبين أن له أربعة أركان :
1 ـ الأصل، وهو المسألة المقيس عليها. هذا في الاصطلاح الأكثر استعمالا، ولكن قد يطلق الأصل على الدليل المثبت للحكم، وقد يطلق على الحكم نفسه.
2 ـ الفرع، وهو الصورة المقيسة، أو المراد إثبات حكمها بالقياس.
3 ـ الحكم، وهو حكم الشرع الذي ثبت في الأصل، سواء أكان تحريما أم وجوبا أم إباحة أم غير ذلك.
4 ـ العلة، وهي الوصف الذي يشترك فيه الأصل والفرع، ويغلب على الظن أنه مناط الحكم ومتعلقه.
وقد جريت على المشهور، مع أن الأولى أن نعبر بالوصف الجامع لا بالعلة؛ لأن الوصف الجامع أعم من العلة، فقد يكون علة وقد يكون وصفا شبهيا، وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام عن شروط العلة.
تعريف العلة :
العلة في اللغة : المرض، أو هي تغير المحل.
وفي الاصطلاح اختلف في تعريفها، وأحسن ما قيل في تعريف العلة، أنها : « وصف ظاهر منضبط دل الدليل على كونه مناطا للحكم ».
ومعنى قولهم: (وصف) أي: معنى من المعاني، ولهذا كثر في كلام الأصوليين والفقهاء إطلاق المعنى على العلة، بل إن المتقدمين لا يكادون يذكرون (العلة) بل (المعنى).
وقولهم : (ظاهر) : قيد يخرج الوصف الخفي الذي لا يطلع عليه إلا من قام به، مثل الرضى في البيع، فإنه لا يعلل به وإنما يعلل انعقاد البيع بقول الشخص بعت أو قبلت، فالنطق بالصيغة وصف ظاهر، ولهذا جعل هو العلة في انعقاد البيع.
قولهم : (منضبط)، الوصف المنضبط هو الذي لا يختلف باختلاف الأفراد ولا باختلاف الأزمنة والأمكنة.
ومثلوا لغير المنضبط بالمشقة إذا قيل : علة الفطر في السفر المشقة، فإن المشقة تختلف باختلاف الأفراد والأزمان والأمكنة.
ومثلوا للمنضبط بالسفر إذا عللنا جواز الفطر به.
وقولهم : (دل الدليل على كونه مناطا للحكم)، أي : قام دليل معتبر من الأدلة الدالة على العلة على أن هذا الوصف علة الحكم.
ومعنى قولهم : (مناطا للحكم) أي : متعلَّقا للحكم، بمعنى أن الحكم يعلق على هذا الوصف فيوجد بوجوده ويعدم بعدمه.
وهذا التعريف يصلح لجميع المذاهب مع اختلافهم في أثر العلة، وذلك أن العلماء اختلفوا في أثر العلة في الحكم على ثلاثة مذاهب :
1ـ مذهب المعتزلة : أن العلة لها أثر في ثبوت الحكم، فهي المثبتة للحكم، كما أن العلة العقلية هي المثبتة لحكمها، فكما نقول: التسويد علة لكون المحل أسود، والأكل علة للشبع، والشرب علة للري، نقول: اختلاف الوزن علة لتحريم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة مع التفاضل، وهكذا.
2 ـ مذهب الأشاعرة : أن العلة ليس لها أثر في وجود الحكم، وإنما هي علامة مجردة عليه، والحكم يسند لله وحده لا للعلل.
3 ـ المذهب الثالث : أن العلة لها أثر في الحكم، ولكن ليست مؤثرة بذاتها، بل الله جل وعلا هو الذي جعلها مؤثرة، وهذا القول هو اللائق بمذهب السلف؛ لأنه مقتضى نصوص القرآن والسنة، كقوله تعالى : { } [المائدة32] وقوله : { } [الحشر7] وقوله : { } [الزخرف55].
وهذا خلاف نقل إلى أصول الفقه من خلافهم في علم الكلام؛ فإن المعتزلة يثبتون الأسباب ويجعلونها مؤثرة بنفسها، أو يسندون التأثير إليها، والأشعرية ينكرون أثر الأسباب ويجعلون المؤثر هو الله وحده، والأسباب والعلل عندهم ليست إلا علامات على أن الله أراد وجود المسبب، فالمعتزلة يقولون : النار محرقة بذاتها، إلا إن أراد الله أن يسلبها هذه الخاصية فإنه على كل شيء قدير، والأشعرية يقولون : النار لا تكون محرقة إلا إذا أراد الله لها ذلك.
والقول الحق في ذلك هو الجمع بين القولين، فلا ننكر أثر الأسباب والسنن التي جعلها الله في الكون لعمارته وبقائه، وفي الوقت نفسه لا نقول إن ذلك يكون بغير إرادةالله وتدبيره، بل نقول : العلل والأسباب لها تأثير، ولكن تأثيرها ليس بذاتها، بل الله جل وعلا هو الذي جعلها كذلك، وبهذا لا نكون أثبتنا خالقا مع الله، بل الله خالق كل شيء فهو خالق الأسباب والمسببات.
ومذهب المعتزلة والماتريدية أقرب إلى مذهب السلف من مذهب الأشاعرة في هذه المسألة.
وقد بنى الأشاعرة مذهبهم في كون العلة مجرد علامة، على مذهب فاسد وهو عدم تعليل أفعال الله، وهذا يناقض كثيراً من نصوص القرآن والسنة، كقوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [المائدة32] وقوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ} [الحديد23] وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الحشر7].
وهو أيضا يناقض ما ذكروه في مواضع من باب القياس.
وقد نبه الرازي على تناقض الأشاعرة فقال: « وأما الفقهاء فإنهم يصرحون بأنه تعالى إنما شرع هذا الحكم لهذا المعنى، ولأجل هذه الحكمة، ولو سمعوا لفظ الغرض لكفّروا قائله مع أنه لا معنى لتلك اللام إلا الغرض » ( ).
شروط القياس
عرفنا أن أركان القياس أربعة، فينبغي أن نعرف شروط كل واحد من هذه الأركان.
أولا : شروط الأصل :
يذكر علماء الأصول القدماء والمحدثون للأصل شروطا كثيرة، وإذا تأملناها وجدناها شروطا لحكم الأصل، وإذا أردنا أن نذكرها تحت شروط الأصل فلا بد أن نسبقها بقولنا : أن يكون حكمه كذا...
وبعضهم يذكرها تحت شروط الحكم؛ لأن المراد بالحكم هنا الحكم الثابت في الأصل الذي يراد إثبات مثله في الفرع. ولهذا نقول : إن الأصل هو المقيس عليه، وشرطه : أن يكون له حكم شرعي ثابت بنص، أو إجماع، أو اتفاق الخصمين المتناظرين.
مثال ما له حكم ثابت بنص : بيع البر بالبر متفاضلا، ثبت تحريمه بحديث : « لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلا بمثل ». فيجوز أن يقاس عليه العدس.
ومثال ما له حكم ثابت بالإجماع : الأفيون والحشيس، يقاس عليه القات، فتحريم الحشيش ثابت بالإجماع فيقاس عليه القات.
ومثال ما له حكم اتفق عليه الخصمان وليس محل إجماع: قتل الحر بالمكاتب، اتفق الشافعية والحنفية على عدم قتل الحر بالمكاتب، وقاس الشافعية العبد على المكاتب، ورد الحنفية هذا القياس، مع أنهم يوافقون على حكم الأصل؛ لأنهم يخالفون في علته.
ثانيا : شروط الفرع :
1 ـ أن يكون غير منصوص على حكمه؛ لأنه إذا نص على حكمه أو دخل في عموم النص الدال على حكم الأصل فلا حاجة للقياس، هكذا قالوا، مع أنه لا مانع أن يتضافر على الحكم أكثر من دليل، فقد يكون الحكم دل عليه النص والقياس، والممنوع هو معارضة النص بالقياس.
2 ـ أن تكون علة الأصل موجودة فيه؛ لأن شرط تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع وجود العلة في الفرع.
3 ـ اشترط بعض العلماء في الفرع أن لا يكون متقدما على الأصل، فإن كان متقدما على الأصل لم يجز قياس المتقدم على المتأخر، ومثلوا ذلك بالوضوء مع التيمم، فإن مشروعية الوضوء سابقة لمشروعية التيمم فلا يقاس الوضوء على التيمم، وبذلك أبطلوا قياس الشافعية الوضوء على التيمم في إيجاب النية بجامع أن كلا منهما عبادة مشروعة.
ولا يخفى أن هذا الشرط لا يستقيم إلا في الأسماء الشرعية التي عرفت من قبل الشرع، أما في الأسماء اللغوية فلا يستقيم؛ إذ لا يعرف متى وضعت العرب هذا اللفظ لهذا المعنى. والراجح في هذا جواز قياس المتقدم على المتأخر؛ لأن القياس مظهر للحكم الشرعي وكاشف عنه وليس مثبتا له حتى نقول كيف يثبت حكم المتقدم بما هو متأخر عنه.
ثم إن إضافة شروط وقيود على حكم سابق ليس مستغربا في الشريعة، فلا يمتنع أن تكون النية ليست شرطا في الوضوء في أول الإسلام ثم اشترطت بعد نزول آية التيمم.
ثالثا : شروط الحكم :
المراد بالحكم هنا: الحكم الثابت في الأصل المقيس عليه، وله شروط أهمها:
1 ـ أن يكون حكما شرعيا عمليا، لا عقليا ولا لغويا؛ لأن الحكم العقلي لا يثبت بالقياس، واللغوي وإن أمكن ثبوته بالقياس لكنه ليس القياس الشرعي المصطلح عليه عند العلماء.
ومعنى قولهم عمليا : أي ليس من الأحكام الاعتقادية، كاعتقاد وجود الله واتصافه بصفات الكمال، وثبوت الجنة والنار والبعث والجزاء، فهذه أحكام عقدية لا مدخل للقياس في إثباتها، وإنما تثبت بالتوقيف.
2 ـ أن يكون باقيا غير منسوخ، فالحكم المنسوخ لا يجوز إثبات مثله في الفرع بطريق القياس.
وقول بعض العلماء : « الحكم المنسوخ لا يجوز القياس عليه » فيه تساهل في العبارة؛ فإن الحكم ليس مقيسا عليه، بل الأصل هو المقيس عليه، وهذا التعبير ناشئ من عدم الالتزام بالمصطلح، فالأصل يطلق على المقيس عليه، ويطلق على حكم الأصل، ولكن ينبغي أن يسير المؤلف على أحد هذه الإطلاقات ولا يعبر بهذا اللفظ مرة عن المعنى الأول ومرة عن المعنى الثاني، فيوقع القارئ في الحيرة.
ونقل عن بعض الحنفية أنهم أجازوا القياس على ما نسخ حكمه، ولكن ليس في إثبات الحكم المنسوخ نفسه للفرع، بل لإثبات بعض شروطه أو قيوده أو صفاته الأخرى، ومثلوه بقياس صيام رمضان على صيام عاشوراء في جواز صحته بنية من النهار قبل الزوال، وصيام عاشوراء كان واجبا ونسخ وجوبه برمضان، ومع ذلك قاسوا صوم رمضان الذي هو فرض على صيام عاشوراء ـ الذي كان فرضا ـ في صحته بنية من النهار.
وأنكر الجمهور هذا القياس، وتمسكوا بحديث : « لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل ».
3 ـ أن يكون ثابتا بنص أو إجماع أو اتفاق من الخصمين المتناظرين.
فإن كان ثابتا بنص فيجوز القياس عليه وإن خالف فيه من خالف، مثل قياس سؤر الخنزير على سؤر الكلب في النجاسة ووجوب غسله سبعا، وسؤر الكلب ثبت حكمه بحديث صحيح، وخالف فيه الإمام مالك وقال : إن الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب تعبدي لا لأجل نجاسته، وكذلك قياس الإجارة على البيع في ثبوت خيار المجلس وهو ثابت بنص صحيح، وخالف فيه الإمام مالك وخلافه في حكم المقيس عليه لا يمنع غيره من القياس عليه.
وإن كان ثابتا بالإجماع، فقال بعض العلماء : لا يقاس عليه ما لم يعرف مستند الإجماع؛ لأن القياس لا بد فيه من معرفة العلة، ولا تعرف إلا بمعرفة النص الوارد في حكم الأصل.
والصحيح : جواز القياس على ما ثبت بالإجماع؛ لأنه لا يمكن أن يثبت الإجماع إلا لنص صريح واضح أو لعلة معتبرة شرعا.
وأما إذا كان حكم الأصل متفقا عليه بين الخصمين، ولا يعرفان له دليلا من كتاب ولا سنة، فقيل يصح القياس على هذا الأصل بين الخصمين ليقنع أحدهما الآخر برأيه، كما يحصل بين المقلدين لمذهب واحد إذا عرفوا نص إمامهم في مسائل فأراد أحدهم أن يقيس على تلك المسائل فيمكنه ذلك لإقناع خصمه المتفق معه في حكم الأصل، وكذا بين مقلدي المذاهب المختلفة إذا اتفقت مذاهبهم على حكم الأصل المقيس عليه ولم يعرفوا دليله.
والصحيح : أن القياس نوع من الاجتهاد، ولا يجوز أن يشتغل به من لم يبلغ رتبة الاجتهاد، فالذي يعرف مذهب إمامه ولا يعرف دليله، ليس له أن يقيس على أصل لا يعرف دليله إلا أن يكون قياسا بنفي الفارق مما يشترك فيه جميع العقلاء.
وأما إذا كان حكم الأصل قد ثبت بالقياس واتفق الخصمان على ذلك الحكم وهما مجتهدان فهل يجوز لهما القياس عليه؟
اختلفوا في ذلك، والصحيح عدم جواز القياس على ما ثبت بالقياس؛ لأنه إذا عرف دليل الأصل في القياس الأول فينبغي أن يقيس عليه مباشرة بلا واسطة، وإن لم يعرف دليل الأصل في القياس الأول فلا يجوز القياس.
وأيضا فإن العلة التي لأجلها ثبت الحكم في الأصل في القياس الأول، إن كانت موجودة في الفرع في القياس الثاني، فينبغي أن يقاس هذا الفرع على الأصل الأول بلا واسطة، وإن لم تكن موجودة، فلا يصح القياس حينئذ.
وقد بنى الماوردي هذا الخلاف على اختلافهم في تعليل الحكم بعلتين، فمن أجازه أجاز القياس على ما ثبت حكمه بالقياس مع اختلاف العلة.
ومثاله : قياس الأرز على البر في تحريم التفاضل بعلة الكيل، ثم يقيس الموز على الأرز بعلة كونه نبتا لا ينقطع عنه الماء ( )، أو بعلة كونه مطعوما. فالعلة الأولى غير موجودة في البر، والثانية موجودة.
4 ـ أن يكون حكم الأصل معقول المعنى، أي : معروف العلة. فإن كان فيما لا يدخله التعليل فلا يجوز القياس حينئذ، ولهذا قال العلماء : الأحكام التعبدية لا يجري فيها القياس ( ).
ومثال ما ليس معقول المعنى : أن الصلاة فرض عند غروب الشمس فلا نقول إنها فرض عند طلوعها، وصلاة الجنازة على القبر جائزة فلا نقيس عليها صلاة النافلة.
رابعا : شروط العلة :
أكثر الأصوليين يعبرون عن الوصف الجامع بالعلة، ثم يذكرون من شروط العلة أن تكون وصفا مناسبا، وهذا لا يستقيم على قول من يرى جواز الاستدلال بقياس الشبه وقياس الدلالة؛ لأن الوصف الجامع في هذين القياسين هو الشبه في الأول ودليل العلة في الثاني، ولا يشترط لهما ظهور المناسبة، فالوصف الجامع الذي هو ركن من أركان القياس قد يكون علة، وقد يكون دليل العلة، وقد يكون وصفا شبهيا، كما سيأتي.
والشروط التي تشترك فيها هذه الثلاثة هي :
1 ـ أن يكون وصفا ظاهرا لا خفيا، مثل الإسكار علة لتحريم الخمر، وكون العبد لا يجبر على ابتداء النكاح يعلل به عدم إجباره على فسخه، وكون العبد يصح نكاحه يستدل به على صحة طلاقه وظهاره، وكون الوضوء قربة فيستدل به على اشتراط النية فيه.
2 ـ أن يكون الوصف منضبطا، أي : لا يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة اختلافا كبيرا.
فإن كان غير منضبط، فلا يصح التعليل به كالمشقة في الفطر في السفر، فإن الناس يختلفون في قدرة تحملهم، فمنهم من يشق عليه السفر وإن كان قصيرا، ومنهم من لا يشق عليه السفر، والشرع من مقاصده التساوي بين الناس في الحكم الشرعي، فلهذا جعل السفر مناط الحكم لأنه مظنة المشقة.
هكذا قال كثير من العلماء، والصواب أن المشقة علة للتخفيف، ولكن ليس كل ما فيه مشقة يكون علة للتخفيف، بل المشقة الخارجة عن المعتاد هي التي تصلح علة للتخفيف.
وأما التعليل لجواز الفطر للمسافر بالسفر فهو تعليل بعلة قاصرة على المحل لا تتعداه إلى غيره وهي قليلة الفائدة؛ إذ لا يبنى عليها قياس وإنما هي قصر للنص على محله.
ومع أن كثيرا من العلماء قالوا بقاعدة : المشقة تجلب التيسير، إلا أنهم لم يجعلوا الفطر في السفر مقصورا على من لحقته مشقة، بل عملوا بعموم النص الوارد في جواز الفطر للمسافر وإن كان منهم من حدد السفر المبيح للفطر بيوم وليلة أو بفراسخ محددة؛ لظنه أن ما دون ذلك لا توجد فيه مشقة.
ولم يقولوا : إن من لم يشق عليه السفر لا يجوز له الفطر والجمع والقصر، وذلك لعدم التجرؤ على مخالفة النص، فإن النص عام في كل مسافر فلم يقيدوه بالمشقة. ولا يختلفون في أن من شق عليه الصيام مشقة تفضي به إلى الهلاك أو الضرر الذي لا يتحمل، جاز له الفطر وإن كان مقيما في بيته، وهذه المشقة تختلف من شخص لآخر فما يشق على فلان من الناس ويلجئه إلى الفطر ربما لا يشق على غيره.
3 ـ أن يكون الوصف متعديا، أي : يوجد في غير الأصل كوجوده في الأصل، فإن كان الوصف المعلل به قاصرا، أي : لا يتعدى محل الأصل الذي ثبت حكمه بالنص فتسمى العلة القاصرة، وقد أنكر التعليل بها الحنفية وأثبتها الشافعية، والجميع متفقون على أن العلة القاصرة لا يبنى عليها قياس، فلا تكون ركنا من أركانه.
مثال التعليل بالعلة القاصرة : تعليل جواز الفطر في السفر بالسفر، فإن هذه علة قاصرة لا تتعدى إلى غير المنصوص عليه.
4 ـ ثبوت العلية قطعا أو ظنا، والوصف الجامع يثبت كونه علة بطرق بعضها محل وفاق وبعضها محل خلاف. وستأتي مفصلة إن شاء الله.
5 ـ الاطراد، والمراد به : وجود الحكم كلما وجد الوصف المدعى كونه علة.
وعكسه : الانتقاض، وهو وجود الوصف مع تخلف الحكم.
والنقض هو : إبداء صورة أو أكثر وجد فيها الوصف المدعى عليته، مع تخلف الحكم.
مثاله، لو علل القصاص بالقتل، فإن هذه العلة منتقضة؛ لأن القتل خطأ لا قصاص فيه باتفاق، ولأن القاتل يقتل ولا قصاص في قتله، الخ.
وأما إذا علل القصاص بالقتل عمدا عدوانا فإن هذه العلة مطردة غير منقوضة، فكل من قتل مسلما معصوما يستحق القتل.
واختلف في هذا الشرط، فذهب أكثر الأصوليين إلى أنه شرط لصحة العلة مطلقا، سواء أكانت منصوصة أم مستنبطة.
وذهب بعضهم إلى أنه شرط للعلة المستنبطة فقط.
والصحيح : أنه ليس بشرط لصحة العلة مطلقا؛ لأن العلة يكتفى فيها بالظن الغالب، وتخلف الحكم عن العلة في موضع لا يلغي الظن الغالب إذا شهد لهذا الظن شواهد أخرى، فإن تخلف الحكم في هذا الموضع قد يكون لفوات شرط من شروط العلة أو لوجود مانع، ولكن إذا اعترض على العلة بالنقض فلا بد للمستدل أن يبين سبب تخلف الحكم في هذا الموضع، فإن عجز عن بيان الفرق بين الصورة التي اعترض بها المعترض ومحل النزاع سقط استدلاله.
وهناك شروط أخرى مختلف فيها، وهي تذكر في كتب الأصول في مسائل خاصة، مثل مسألة التعليل بالحكم، أو التعليل بالاسم المجرد، أو عدم التركيب من أكثر من وصف، أو التعليل بالعدم، ونحو ذلك.
فهذه المسائل تشير إلى شروط مختلف فيها، اشترطها بعض العلماء في العلة فقال : يشترط أن تكون العلة وصفا وألا تكون اسما مجردا أو مركبة من أوصاف متعددة، أو عدمية (منفية).
وحيث إن الراجح عدم اشتراطها فنكتفي بضرب أمثلة للتعليل بتلك العلل المختلف في توافر شروط العلة فيها.
مثال التعليل بالحكم : قول الفقهاء في تكبيرة الإحرام : ركن من أركان الصلاة فلا يقوم غيرها مقامها كالركوع. فالعلة التي عللوا بها هي كون تكبيرة الإحرام ركنا في الصلاة، وهو حكم شرعي؛ إذ معنى الركن عندهم الفرض.
وتعليلهم عدم قضاء الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من طواف القدوم بكونه سنة فات محلها، وهو تعليل بعلة ذات وصفين : أحدهما حكم شرعي وهو قولهم سنة؛ إذ المقصود بالسنة هنا المندوب، ويدخل في هذا كثير مما يسمى بقياس الدلالة، كقولهم في الذمي : صح طلاقه فيصح ظهاره، فعلة صحة الظهار هنا هي صحة الطلاق. وكقولهم في المحرمات : حرم أكله فيحرم بيعه، أو حرم أخذه فحرم إعطاؤه، ونحو ذلك.
والصحيح من هذه الأقيسة يرجع إلى قياس الدلالة الذي يكون الجمع فيه بين الأصل والفرع بدليل العلة.
مثال التعليل بعلة مركبة من وصفين فأكثر : قولهم في علة القصاص : إنها القتل عمدا عدوانا، فهي مركبة من ثلاثة أوصاف، وفي علة قطع يد السارق : إنها سرقة نصاب من حرز مثله. وقولهم في قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية : طهارة حكمية فوجبت لها النية كالتيمم.
مثال التعليل بالاسم المجرد : قولهم في تعليل جواز التيمم بالجبس : تراب فيصح التيمم به كسائر ما يطلق عليه الاسم. وكقولهم في الرماد : ليس بتراب فلا يصح التيمم به، فهذا تعليل بنفي الاسم المجرد.
مثال التعليل بالوصف العدمي : قولهم : عدم الملك علة لوجود حرمة الانتفاع، وعدم الطهارة علة لبطلان الصلاة، ويدخل في هذا، التعليلُ بعدم الشرط.
والظاهر لي أن الوصف العدمي لا يصلح أن يكون علة في القياس لإثبات حكم وجودي، والذين استدلوا علىجواز تعليل الوجودي بالعدمي قصدوا التعليل المجرد الذي لا يرجع إلى قياس فرع على أصل.
وأما تعليل العدم بالعدم، والعدم بالوجود، فجائز بلا خلاف يعتد به.
مثال الأول : التعليل بعدم السبب، مثل : عدمت القرابة والنكاح والولاء فانعدم الإرث، ومثال الثاني : التعليل بوجود المانع، كقولهم : وجد الرق فانعدم الإرث، وليس من عادتهم أن يذكروه في القياس إلا نادرا.
طرق معرفة العلة
يتعرف المجتهد على العلة بعدة طرق، بعضها محل وفاق وبعضها محل خلاف، أهمها ما يلي:
1 ـ النص :
والمقصود به أن يرد بيان العلة في النص من قرآن أو سنة، وهو أقوى الطرق لمعرفة العلة.
والنص على العلة قسمان :
أ ـ نص صريح، مثل قوله تعالى : { } [المائدة32]. ومثل قوله صلى الله عليه وسلم : « إنما جعل الاستئذان من أجل البصر » (متفق عليه).
ب ـ النص غير الصريح، ويقصد به الظاهر في التعليل الذي يحتمل غيره.
ومن أمثلته قوله صلى الله عليه وسلم في الهرة : « إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات » (أخرجه الخمسة)، فقوله إنها من الطوافين، يفيد أن علة طهارتها كونها من الطوافين، وصعوبة التحرز منها فيلحق بها الفأرة ونحوها من سواكن البيوت.
2 ـ الإجماع :
الإجماع طريق صحيح من الطرق التي تعرف بها العلة عند جماهير العلماء، وقد استشكل ذلك بعضهم فقال : كيف يكون الإجماع على العلة دليلا على صحتها، مع أن المخالفين للقياس لا يقولون بالتعليل وهم بعض الأمة؟.
وقد أجاب عن ذلك إمام الحرمين فقال : الذي ذهب إليه ذوو التحقيق أنا لا نعد منكري القياس من علماء الأمة وحملة الشريعة؛ فإنهم مباهتون أولا على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواترا، ومن لم يزعه التواتر ولم يحتفل بمخالفته لم يوثق بقوله ومذهبه، وأيضا فإن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد، والنصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة، وهؤلاء ملتحقون بالعوام، وكيف يدعون مجتهدين ولا اجتهاد لهم؟ » ( ).
ومثال العلة المجمع عليها : الصغر علة للولاية على مال اليتيم، فيقاس عليه الولاية في النكاح. والتعدي على المال علة لوجوب الضمان على الغاصب، فيقاس عليه ضمان المسروق.
ولا يلزم من الإجماع على العلة الإجماع على كل قياس تكون ركنا فيه، فقد يتفقون على علة حكم الأصل ولكن يختلفون في وجودها في الفرع، أو في صحة قياس الفرع عليه؛ لوجود نص يخص الفرع، ونحو ذلك.
3 ـ الإيماء :
وهو في اللغة : الإشارة باليد أو بالرأس ونحو ذلك.
وفي الاصطلاح : فهم التعليل من لازم النص لا من وضعه للتعليل. وله أنواع يصعب حصرها، وأهمها :
أ ـ أن يرتب الحكم على الوصف بالفاء، مثل قوله تعالى : { } المائدة38]، وقوله : { } [النور2]، وقوله صلى الله عليه وسلم : « من أحيا أرضا ميتة فهي له »، وقد عد بعض العلماء هذا النوع من النص الظاهر على العلة ( ).
ب ـ أن يأتي الحكم جوابا على سؤال سائل، فيجعل ما في السؤال علة للحكم كما في سؤال الأعرابي الذي قال : هلكت يا رسول الله، قال : « ما أهلكك؟ » قال : وقعت على أهلي وأنا صائم، قال : « فهل تجد ما تعتق رقبة؟ » الحديث (متفق عليه) فما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم بعد سؤال السائل يدل على أن الحكم سببه المذكور في السؤال وهو الجماع من الصائم في رمضان.
ج ـ أن يعلق الشارع الحكم على وصف لو لم يجعل علة لما كانت له فائدة، وكلام الشارع يجب أن يصان عن العبث.
مثاله : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال : «أينقص الرطب إذا جف؟» قالوا : نعم، قال : « فلا إذن » (أخرجه مالك وأصحاب السنن) فقوله: « أينقص الرطب إذا جف »، إيماء إلى أن العلة في التحريم هي النقصان.
د ـ أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا مناسبا لأن يكون علة لذلك الحكم، كقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » (أخرجه الترمذي صححه وابن ماجه)، وقد ذكره بعضهم مثالا للنوع الثالث الوارد في فقرة ج.
هـ ـ ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الشرط والجزاء، كقوله تعالى : { * } [الطلاق2-3]. فالتقوى علة للخروج من المحن، وعلة للرزق.
4 ـ المناسبة والإخالة :
المناسبة في اللغة : المشاكلة، يقال : بينهما مناسبة أي مشاكلة، وبمعنى المشاركة في النسب، يقال : ناسبه إذا شاركه في نسبه، وبمعنى الملاءمة، يقال : هذا اللباس يناسب الشتاء، أي : يلائمه.
والإخالة : الظن، مأخوذة من قولهم خلت هذا الغلام ابني، أي : ظننته كذلك، أو من الخيال، وهو الظل.
وفي الاصطلاح : تعرف المناسبة بأنها : ملاءمة الوصف المعلل به للحكم الثابت في الأصل.
والإخالة : غلبة الظن بعلية الوصف.
والوصف المناسب هو : الوصف الظاهر الذي يحصل من ترتب الحكم عليه مصلحة أو تندفع به مفسدة.
وقيل : ما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول.
وقيل : الملائم لأفعال العقلاء في العادات ( ).
وقال ابن الحاجب : هو وصف ظاهر منضبط يحصل من ترتب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء من حصول مصلحة دينية أو دنيوية أو دفع مفسدة ( ).
وهذه التعريفات متقاربة المعنى.
5 ـ الدوران :
وهو في اللغة : مصدر دار يدور، وهو يعني : عدم الاستقرار.
وفي الاصطلاح : ثبوت الحكم عند وجود الوصف وانتفائه عند انتفائه.
مثاله : التحريم يوجد في الخمر عند وجود الإسكار ويرتفع عند تخلل الخمر وعدم كونها مسكرة، فيستدل به على أن السكر هو علة التحريم. ووجوب الزكاة مع تمام النصاب وعدمه مع عدمه، فيدل على أن علة الوجوب ملك النصاب.
والوصف يسمى الْمَدار، والحكم هو الدائر.
والدوران يسميه بعض الأصوليين بالطرد والعكس، أي : أنه مجموع الطرد والعكس، فالطرد هو الوجود مع الوجود، والعكس هو العدم مع العدم، والدوران هو مجموع ذلك.
وقد اختلف في إفادته العلية على أقوال، أهمها قولان :
القول الأول : أنه يفيد العلية، وهو رأي الأكثر، ومنهم من جعله مفيدا للعلية قطعا، وأكثرهم قالوا يفيدها ظنا، ومنهم إمام الحرمين ونقله عن القاضي.
وقال ابن السمعاني إليه ذهب كثير من أصحابنا. وقال القاضي أبو الطيب الطبري إن هذا المسلك من أقوى المسالك.
ودليلهم : أنا إذا رأينا شخصا يقوم عند دخول شخص ويجلس عند خروجه، وتكرر ذلك مرارا، كان ذلك دليلا على أن علة قيامه دخول ذلك الرجل، وإن كنا لا نجزم بذلك وقد نجزم به إذا تكرر مرارا كثيرة أو حفت به قرائن أخرى.
قالوا : كذلك إذا وجدنا حكما يدور مع وصف ما فيوجد بوجوده ويعدم بعدمه، يصح أن نستدل بذلك على علِّية الوصف وكونه مدار الحكم.
والقول الثاني : عدم إفادة الدوران العلية، وهو مذهب كثير من الأصوليين وهو اختيار ابن السمعاني والغزالي وأبي إسحاق، ونقله ابن برهان عن القاضي الباقلاني، مع أن إمام الحرمين نقل عنه المذهب الأول. واختار هذا القول الآمدي.
دليله : أن الاطراد وحده ليس دليلا على العلة، والانعكاس ليس معتبرا في العلل الشرعية، فمجموعهما لا يكون دليلا على العلة.
وهذا باطل؛ لأن كون الاطراد وحده لا يصلح دليلا على العلة، والانعكاس وحده كذلك، لا يدل على أنهما إذا اجتمعا لا يصلحان دليلا على العلة، كما أن العلة المركبة من أوصاف إذا أخذنا كل واحد من الأوصاف وحده لا يصلح علة، وإذا اجتمعت صلحت علة، مثل قولنا : علة القصاص القتل عمدا عدوانا، وكل واحد من الأوصاف بمفرده لا يصلح علة.
وعلى ذلك يكون الراجح جواز الاستدلال على علية الوصف بدوران الحكم معه، ولكن ينبغي أن نعلم أنه لكي تكون العلة المستنبطة بهذا الطريق متعدية لا بد أن يتكرر دوران الحكم معها في أكثر من موضع، وقد نقل القرافي عن النقشواني قوله : « الدوران عين التجربة، وقد تكثر التجربة فتفيد القطع وقد لا تصل إلى ذلك » ( ).
6 ـ السبر والتقسيم :
السبر في اللغة : الاختبار، ومنه سمي المسبار وهو الميل الذي تختبر به الجراح. والتقسيم في اللغة : التجزئة.
وفي الاصطلاح: يطلق مجموع اللفظين على مسلك من مسالك العلة، وهو يعني : حصر الأوصاف التي توجد في الأصل وتصلح للعلية في بادئ الرأي، ثم إبطال ما لا يصلح منها فيتعين الباقي ( ).
والمعنى : أن المجتهد ينظر في الأصل المقيس عليه الذي قام الدليل على حكمه، ثم يبحث في أوصافه التي يمكن أن يعلل الحكم بها، وليس بالضرورة أن يكون المجتهد قد حصر جميع الأوصاف التي يمكن التعليل بها فعلا، بل يكفي أن يكون عد منها ما يراه كذلك.
وهذه هي المرحلة الأولى.
والمرحلة الثانية أن ينظر في تلك الأوصاف فيبين بطلان التعليل بكل واحد منها حتى لا يبقى إلا واحد فيكون هو العلة.
والتقسيم في الواقع هو حصر الأقسام وذكرها، والسبر هو اختبارها وإبطالها كلها إلا واحدا. ولهذا أورد على التسمية أن التقسيم متقدم فلماذا أخر فقيل السبر والتقسيم، وأجيب بأن تقديم السبر في الاسم لأهميته في الدلالة على العلية.
مثاله : أن يقول حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع البر بالبر متفاضلا، والعلة إما أن تكون الطعم، أو الكيل، أو القوت والادخار، ثم يبطل الأخيرين ويقول فلم يبق إلا الطعم، أو يبطل الأولين ثم يقول : فلم يبق إلا الاقتيات والادخار.
شروط صحة هذا المسلك :
1ـ أن يكون التقسيم حاصرا، أي : لا يترك المستدل شيئا من الأقسام الممكنة، ولا يلزم أن يكون مترددا بين النفي والإثبات.
2ـ أن يكون إبطال ما عدا الوصف المعلل به بدليل مقبول.
3ـ أن يكون الحكم متفقا على تعليله بين الخصمين.
حجيته :
السبر والتقسيم مسلك صحيح من مسالك العلة، وقد يؤدي إلى ثبوت العلة قطعا إذا كان التقسيم حاصرا قطعا، وأُبطل التعليل بما عدا الوصف المبقى قطعا، والإجماع قائم على تعليل الحكم. وفيما عدا ذلك يكون ثبوت العلة ظنيا.
وأما إذا كان الاتفاق على تعليل الحكم بين الخصمين فحسب فيكون هذا المسلك حجة لإثبات العلة على من وافق على انحصار الأقسام في المذكورات دون غيره.
وقد استدل على كونه دليلا لإثبات المدعى بقوله تعالى : { } [الطور35].
ووجه الدلالة : أن الله جل وعلا قد ساق الآية في معرض الاستدلال على من أنكر وجود الخالق، فذكر القسمين الباطلين والقسم الثالث هو الواقع، وفي ذلك تنبيه على حجية مثل هذا الدليل، وإلا لما ساقه في معرض إقامة الحجة علىمنكري وجود الخالق.
ولو أردنا أن ننظم ما في الآية من الاستدلال على نمط كلام الفقهاء لقلنا : لا يخلو الأمر من ثلاثة احتمالات : إما أن يكون الناس خلقوا هكذا من غير خالق، أو يكونوا قد خلقوا أنفسهم، أو يكون خالقهم هو الله. فالأولان باطلان عقلا، فلم يبق إلا الثالث. والقرآن حين يستدل على وجود الله وإثبات أنه الخالق لا يكون ذلك غاية مقصوده ونهايتها؛ لأن العرب الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يؤمنون بأن الله هو الخالق، ولكن يؤكد لهم هذه الحقيقة ليصل منها إلى أن الله وحده هو المستحق للعبادة.
وهذا التقرير يدل على أن الاستدلال بالسبر والتقسيم لا يقتصر على إثبات العلة، بل يصلح استعماله للدلالة على أي مدعى متى أمكن حصر الاحتمالات واتفق عليها.
وهو راجع إلى القياس الاستثنائي؛ لأن المستدل يذكر الاحتمالات التي لا يخرج عنها موضع النزاع ثم يبين بطلانها كلها إلا واحدا، ويستعمل في إثبات بطلانها القياس الاستثنائي، فيقول لو كان كذا لكان كذا، لكن لم يكن فثبت بطلان هذا الاحتمال.
مثال توضيحي : أن يقول الشافعي : تحريم التفاضل في بيع البر بالبر معلل باتفاق، والعلة إما أن تكون الكيل أو الاقتيات والادخار أو الطعم، لا يصلح أن تكون العلة هي الكيل؛ إذ لو كان الكيل علة لما وقع الربا في القليل مما لا يكال، كالحفنة بحفنتين، لكنه واقع بدليل عموم الأدلة الدالة على تحريم الربا، وموافقة أكثر الخصوم عليه، ولو كان الاقتيات لما كان الملح من الربويات لكنه منها بنص الحديث : « والملح بالملح »، فلم يبق إلا أن يكون الطعم هو العلة.
أقسام القياس
يقسم الأصوليون القياس بعدة اعتبارات، أذكر منها ما يلي :
1ـ تقسيمه من حيث ذكر الوصف المعلل به إلى ثلاثة أقسام :
أ ـ القياس في معنى الأصل : وهو القياس الذي لا يحتاج إلى ذكر وصف جامع بين الأصل والفرع، وذلك لانتفاء الفارق المؤثر بينهما، ومثلوه بقياس العبد على الأمة في تنصيف حد الزنى، فإن القائس لا يحتاج إلى ذكر الوصف الجامع، بل يكفيه نفي الفارق المؤثر بينهما، وكذلك قياس الذرة على البر في تحريم الربا.
ب ـ قياس العلة : وهو القياس الذي يحتاج إلى ذكر الوصف المعلل به لينظر فيه المخالف فيوافق على صحة العلة أو يبطلها، وأمثلته كثيرة في كلام الفقهاء، ومنها قياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار.
ج ـ قياس الدلالة : وهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة، ومثاله : قولهم في عدم إجبار العبد على النكاح : لا يجبر على إبقائه فلا يجبر على ابتدائه كالحر. فالأصل في هذا القياس الحر، والفرع العبد، والوصف الجامع بينهما قولهم : لا يجبر على إبقائه، وهذا الوصف في حقيقته ليس هو العلة، ولكنه دليل على العلة التي هي كون النكاح حقا خالصا للعبد، وإذا كان حقا خالصا له لم يجبر عليه، والحكم المراد إثباته عدم الإجبار على ابتداء النكاح، فهذا القياس لم يذكر فيه القائس العلة الجامعة، وإنما جمع بين الأصل والفرع بدليل العلة.
ومن أمثلته : قولهم في ظهار العبد : صح طلاقه فيصح ظهاره كالحر، فالوصف الجامع هنا هو : صحة الطلاق منه، وهو دليل على مؤاخذته على ما يقول، فيكون مؤاخذا بالظهار، كما أن الحر يؤاخذ على طلاقه وظهاره.
2ـ تقسيمه من حيث مناسبة الوصف المعلل به للحكم إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ قياس العلة أو المعنى : ويعنى به هنا : ما كانت مناسبة الوصف المعلل به ظاهرة فيه، مثل قياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار، فالإسكار علة مناسبة للتحريم لما فيها من إفساد العقل.
2 ـ قياس الشبه : وهو الذي يكون التعليل فيه بوصف يوهم الاشتمال على المناسبة ولكن لا تظهر مناسبته ولا عدم مناسبته.
والوصف الشبهي هو: الوصف الذي لا تظهر مناسبته ولكنه يوهم المناسبة.
وهناك من عرف قياس الشبه بتعريف آخر فقال : هو القياس الذي يكون فيه الفرع مترددا بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبها به. مثل قياس المذي على البول مع أنه يشبه المني الطاهر، ولكن لما رأوه أكثر شبها بالبول في كونه لا يتكون منه الولد ألحقوه به.
والتعريف الأول أسلم، وهذا المثال يدخل فيه من جهة أن الوصف الذي ذكروه، وهو كونه لا يتكون منه الولد ليس ظاهرا في المناسبة.
ولما كان ظهور علية الوصف وعدمه راجعا إلى تقدير المجتهد أصبح هذا القسم مترددا بين الأول والثالث، فقد نجد من يمثل له بمثال مع أن غيره يذكره مثالا للأول أو للثالث.
وهو قسمان : شبه حسي، وشبه حكمي. فإن كان التشابه بين الأصل والفرع في الصورة المحسوسة كقياس الجلوس الأول في الصلاة على الثاني سمي شبها حسيا. وإن كان التشابه بينهما في الحكم كقياس ركن على ركن أو شرط على شرط أو ممسوح على ممسوح كقولهم : الخف ممسوح في طهارة فلا يسن له التثليث كالرأس، فهذا قياس شبه حكمي.
3 ـ قياس الطرد : وهو ما كان فيه الوصف الجامع مقطوعا بعدم مناسبته وعدم التفات الشرع إليه.
وهذا يذكر استكمالا للقسمة وإلا فهو ليس بقياس صحيح عند جماهير العلماء، وإن كان قد نقل عن بعضهم الاستدلال به، ولكن الذين يستدلون به لا يوافقون على أنه مقطوع بعدم مناسبته وعدم إفضائه إلى المناسب فهم يجعلونه كقياس الشبه.
وفي واقع الأمر لا خلاف في عدم حجية مثل هذا القياس، إذا قطعنا بأن العلة التي علق عليها الحكم لا يلتفت إلى مثلها.
ومن أمثلته المضحكة : قول بعض الحنفية ـ في الاستدلال على عدم نقض الوضوء بمس الذكر ـ : طويل مشقوق أشبه البوق فلا ينتقض الوضوء بلمسه، فكونه طويلا مشقوقا وصف لا يمكن أن يعلق عليه الشرع حكما.
وأما قول بعضهم في الاستدلال على أن النبيذ لا يجوز الوضوء به : النبيذ مائع لا تبنى علىمثله القناطر فلا يجوز الوضوء به كاللبن. فهذا قد جعله بعضهم من قياس الدلالة؛ لأن كونه لا تبنى على مثله القناطر دليل على قلته وعدم توافره، والشرع يبني على قلة الشيء وندرته أحكاما كما في التيمم، فإن الشرع جعله بالتراب لتوافره ولم يجعله بالمسك مثلا أو بغيره مما يشبه التراب ولا يتيسر لكل أحد.
وقال آخرون : بل هذا المثال من قياس الطرد الباطل؛ فكون الشيء لا تبنى علىمثله القناطر، وصف طردي، لا مناسبة بينه وبين الحكم الذي رتب عليه وهو عدم جواز الوضوء به.
ومن العلماء من جعل قياس الشبه قسما من قياس الدلالة ( ).
وهناك تقسيمات أخرى للقياس لا أطيل بذكرها.
حجية القياس
القياس حجة عند جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة، ولم يخالف في ذلك سوى الظاهرية وبعض المعتزلة وبعض الرافضة.
والدليل على كون القياس حجة من وجوه كثيرة، نكتفي منها بما يلي :
1 ـ قوله تعالى : { } [الحشر2].
وجه الاستدلال أن الله أمر بالاعتبار بحال الكفار، والمراد بالاعتبار أن يقيس المرء حاله بحالهم ليعلم أنه إن فعل مثل فعلهم استحق جزاء مثل جزائهم، وما أمر الله به فهو واجب.
2 ـ قوله تعالى : { } [الأنبياء104].
وجه الاستدلال : أن الله سبحانه قد نبه إلى وجوب القياس؛ حيث قاس البعث على الخلق الأول، فبين أنه قادر على البعث كما أنه قادر على الخلق من العدم.
3 ـ ما روي أن أعرابيا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود ـ وهو يُعَرِّض لنفيه ـ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هل لك من إبل؟ » قال : نعم، قال : « فما ألوانها؟ » قال : حمر، قال : « فهل فيها من أورق؟ » قال : إن فيها لورقا، قال : « فأنى ترى ذلك جاءها؟ » فقال الرجل لعل عرقا نزعه، فقال عليه السلام: « وهذا لعل عرقا نزعه » (متفق عليه من حديث أبي هريرة).
وجه الاستدلال : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاس الغلام الأسود من أبوين أبيضين على الجمل الأورق من الإبل الحمر، فكما أن ذلك الجمل يحتمل أن يكون نزعه عرق من عروق أجداده، فكذلك الغلام.
4 ـ حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال : « لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ » قال : نعم، قال : « فدَينُ الله أحق أن يقضى » (متفق عليه).
وجه الاستدلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم قاس الصوم على الدين في وجوب قضائه.
5 ـ أن الصحابة ـ ـ كانوا يقيسون ويلحقون النظير بنظيره، فمن ذلك أنهم أدخلوا العول على أنصبة الورثة إذا كانت سهامهم أكثر من سهام المسألة، قياسا على إدخال النقص على الغرماء إذا كانت ديونهم أكثر من مال المدين، وقاسوا العبد على الأمة في تنصيف الحد، وقاسوا سائر المطعومات المكيلة على البر في تحريم بيعه بجنسه متفاضلا.
وقال علي رضي الله عنه حين استشاره عمر في عقوبة شارب الخمر : أرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. (أخرجه مالك في الموطأ).
وقال عمر لأبي موسى الأشعري في الكتاب الذي بعثه إليه : الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب أو السنة، اعرف الأمثال والأشباه ثم قس الأمور عند ذلك فاعمد إلى أحبها عند الله وأشبهها بالحق فيما ترى. (أخرجه الدارقطني في سننه والبيهقي في المعرفة).
6 ـ أنه لو لم يشرع العمل بالقياس لأفضى ذلك إلى خلو كثير من الوقائع عن الأحكام الشرعية؛ لأن النصوص محصورة والوقائع تتجدد، وخلو الوقائع عن الأحكام يؤدي إلى قصور الشريعة ونقصانها وهو محال.
بعض أدلة منكري القياس والجواب عنها :
أولاً : أن الصحابة نقل عنهم ذم العمل بالرأي، فمن ذلك :
أ ـ قول عمر بن الخطاب : إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا. (أخرجه الدارقطني في سننه وفيه ضعف).
ب ـ قول علي : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهر خفيه. (أخرجه أبو داود والدارقطني).
ج ـ قول ابن مسعود : لا يأتي عام إلا وهو شر من الذي قبله، أما أني لست أعني عاما أخصب من عام ولا أميرا خير من أمير، ولكن علماؤكم وخياركم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم. (أخرجه الدارمي في سننه).
والجواب عن هذا من وجهين :
1ـ أن الصحابة ذموا من استعمل الرأي والقياس في غير موضعه أو بدون شرطه، فذمُّ عمر ينصرف إلى من قال بالرأي مع جهله بالنصوص من الكتاب والسنة، ألا تراه يقول : أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، أي : عجزوا عن حفظ الأحاديث. وذم علي ينصرف إلى من استعمل الرأي فيما لا يدرك بالرأي وهو الأمور التعبدية كالمسح على الخفين.
2ـ أنهم ذموا الرأي الصادر من الجاهل الذي ليس أهلا للاجتهاد، وهذا هو المفهوم من الأثر المروي عن ابن مسعود ، ولا شك أن رأي الجاهل مهلكة، ولا سيما إذا كان في أمور الدين.
ومما يدل على أن الرأي المذموم هو ما ذكرناه أن أولئك الصحابة الذين نقل عنهم ذم الرأي كانوا أكثر الصحابة عملا بالرأي والقياس، والمتتبع لسيرتهم يدرك ذلك.
ثانيا : قوله تعالى : { } [النساء105].
وجه الاستدلال : أن الله أمر نبيه أن يحكم بما أراه الله لا بما يراه هو، فإذا كان الرسول ليس له أن يحكم برأيه فغيره من باب أولى.
والجواب عن ذلك : أن القياس قد ثبت بالأدلة النقلية والعقلية التي سبق ذكرها فيكون العمل به من العمل بما أمر الله به فلا يكون ممنوعا، بل هو مما مَنّ الله به عليه وهداه إليه وأراه إياه.
مسائل تتعلق بحجية القياس
يذكر الأصوليون مسائل تتعلق بحجية القياس، من أهمها :
1ـ مسألة الاحتجاج بالقياس في الحدود.
2ـ ومسألة القياس في الرخص والتقديرات.
3ـ ومسألة القياس في الكفارات.
فالمسألة الأولى خالف فيها الحنفية وقالوا الحدود لا قياس فيها، واستدلوا بأن الحدود تدرأ بالشبهات، والقياس فيه شبهة فلا يصلح لإثبات حد من حدود الله.
والجمهور أجازوا القياس في الحدود واستدلوا بأنها أحكام لا تختلف عن غيرها من الأحكام الشرعية، فما جاز في غيرها جاز فيها، وبأن الأدلة الدالة على حجية القياس عامة لم تخصص بعض الأحكام دون بعض، ثم إن الصحابة قاسوا شرب الخمر على القذف فأوجبوا فيه ثمانين جلدة لكونه يفضي إلى القذف : « إذا سكر هذى وإذا هذى افترى ».
وأجابوا عن استدلال الحنفية بأن الشبهة التي تدرأ بها الحدود ليست موجودة في القياس؛ إذ المراد بها وجود الظن بكون مرتكب المحرم معذورا، والقياس لا شبهة فيه إلا كونه ظنيا، وهذا ليس مانعا من العمل به في الحدود؛ بدليل أن الحدود تثبت بشهادة اثنين والشهادة لا توجب العلم القطعي وإنما تورث ظنا غالبا، فتبين أن الظن الغالب كاف لإثبات الحدود وهو يحصل بالقياس، ولهذا قضى الجمهور بقطع النباش قياسا على السارق عند بعضهم، وعند آخرين لكونه سارقا حقيقة، وكذلك جلد اللوطي عند بعضهم قياسا على الزاني غير المحصن ورجمه إذا كان محصنا، والذين قضوا بقتله مطلقا استدلوا بأدلة نقلية ليس هذا موطن ذكرها.
وأما القياس في الرخص فقد منعه بعض العلماء. والصحيح جوازه مع وضوح الشبه والاشتراك في المناسبة، ومثاله : قياس الوحل والريح الشديدة والثلج على المطر، في الترخص لأجلها في الجمع، وقياس المريض على الممطور في الجمع بين الصلاتين في الحضر.
وأما القياس في الكفارات فإن أريد بالقياس إثبات كفارة جديدة بمجرد الرأي فلا يصح ذلك.
وأما قياس فعل على فعل في كونه موجبا للكفارة مثله فهذا صحيح، وهو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام العلماء الذين أجازوا القياس في الكفارات حيث قاس المالكية الأكل والشرب عمدا في رمضان على الوطء في وجوب الكفارة. وقاس الشافعي قتل العمد على قتل الخطأ في وجوب الكفارة.
والحنفية نقل عنهم منع القياس في الكفارات، واعتذروا عن إلحاق الأكل عمدا بالوطء بأنه ليس قياسا بل من باب تنقيح المناط وهو عندهم ليس من القياس، فلا يكون بينهم وبين غيرهم من الجمهور خلاف حقيقي؛ لأنهم حين منعوا القياس في الكفارات قصدوا منع تحديد كفارة على عمل محرم بطريق القياس والاجتهاد؛ لأن العقل مهما بلغ لا يمكن أن يعرف القدر الذي يحصل عنده تكفير الذنب وإنما يعرف ذلك بالنص وما في معناه.
والذين أجازوا القياس في الكفارات لم يمثلوا له إلا بقياس اليمين الغموس على اليمين الحانثة، وقتل العمد على قتل الخطأ.
والحنفية لهم مأخذ آخر لرد هذا القياس، وهو أنه زيادة على النص؛ فإن القرآن نص على الكفارة في قتل الخطأ دون العمد، واليمين الحانثة وهي التي تكون على أمر مستقبل كأن يحلف أن يفعل كذا أو أن لا يفعل كذا ثم لا يبر بيمينه، دون اليمين الغموس وهي اليمين الكاذبة على إثبات شيء أو نفيه.
التعليل بالحكمة
الحكمة تطلق عند الأصوليين على أحد معنيين :
أحدهما : مقصود الشارع من شرعية الحكم من تحقيق مصلحة أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تقليلها. أي : أنها تطلق على جلب المصلحة أو دفع المفسدة.
الثاني : إطلاق الحكمة على المصلحة نفسها أو المفسدة نفسها، فيقال مثلا: الحكمة من إيجاب العدة على المطلقة حفظ الأنساب، والحكمة من إباحة الفطر في السفر المشقة، فهنا أطلقت الحكمة على المصلحة والمفسدة. وهذا المعنى هو المراد هنا.
والحكمة اختلف الأصوليون في جواز التعليل بها على ثلاثة أقوال مشهورة، هي:
1 ـ منع التعليل بها؛ لأنها لا يمكن ضبطها، فهي تختلف من شخص لآخر، ومن مكان لآخر، وتعليق الحكم عليها يفضي إلى اختلاف الناس وتفاوتهم فلا يتحقق التساوي بينهم في أحكام الشريعة، ولا يمكن التحقق من حصول الحكمة حتى يرتب الحكم عليها.
وليس قولهم : لا يصح التعليل بالحكمة، على إطلاقه كما ظن بعض المحدثين، فأخذ يستدل بما ورد في القرآن والسنة من تعليل بالحكمة، وإنما مرادهم عدم جواز التعليل الذي يبنى عليه قياس، وجعلوا تلك التعليلات الواردة في الكتاب والسنة قاصرة غير متعدية، فلا يمكن أن يبنى عليها حكم جديد.
2 ـ جواز التعليل بالحكمة مطلقا، ويبدو أن مرادهم جواز بناء الأحكام على الْحِكَم، سواء جاءت في صورة أوصاف ظاهرة منضبطة، أو قام دليل من الشرع على اعتبارها علة لجنس الحكم أو عينه في كل موضع، أو جاء التعليل بتلك الحكمة في موضع ما مع عدم ضبطها بوصف ظاهر.
وهؤلاء هم الذين يجيزون الاستدلال بالمصلحة المرسلة، كما سيأتي بيان ذلك.
وهم يعللون سقوط الواجبات بالمشقة مطلقا، بغض النظر عن سبب المشقة، ويعللون الوجوب بالمصلحة الحقيقية العامة أو الحاجة أو الضرورة.
3 ـ جواز التعليل بالحكمة المنضبطة دون غيرها، وهؤلاء مع ما يظهر في قولهم من التوسط إلا أن بعضهم يقول : لو انضبطت الحكمة جاز التعليل بها لكنها لا تنضبط.
والحقُّ: أنها إن انضبطت بضابط معين نص الشرع عليه، أو قام عليه إجماع، أو دل عليه دليل مقبول من أدلة ثبوت العلة، فلا خلاف في جواز التعليل بها. فهذا القول خارج عن محل النزاع، وليس في التعليل بالحكمة إلا قولان؛ لأن المنضبطة ليست محل خلاف، فالجميع يقول بجواز التعليل بها إلا الظاهرية المنكرين للقياس مطلقا.
وهذا الموضع من المواضع التي لم تحرر في كتب التراث، وقد حاول تحريرها بعض المتأخرين ( )، ولعل فيما ذكرته ما يعين على تصورها على حقيقتها.
ويبدو أن الذين تناولوها بالبحث من القدماء كانوا متأثرين بنظرة الأشعرية إلى التعليل في علم الكلام، فتكلموا عن التعليل مطلقا، والكلام هنا ينبغي أن يقصر على تعليل يبنى عليه قياس، أو يبنى عليه تعدية الحكم إلى غير المنصوص عليه بطريق الاستصلاح.
فأما بناء القياس على الحكمة غير المنضبطة فغير ممكن عند جماهير العلماء، وأما إثبات الحكم بطريق الاستصلاح فالصواب جوازه كما سيأتي في بابه.
وقد تكرر إطلاق الانضباط والحكمة المنضبطة، ولعل بعض الدارسين لا يدرك المقصود به على حقيقته.
ولإيضاح ذلك أقول : الحكمة : معنى من المعاني يقوم بذهن الفقيه، يفهمه من نص واحد أو نصوص متعددة، فيقول مثلا : الحكمة من قتل القاتل حفظ النفوس؛ لأن المقدم على القتل إذا عرف أنه لو قَتَل قُتِل امتنع عن القتل.
وهذه الحكمة (حفظ النفوس) إذا لم يوضع لها ضابط معين يحدد الوصف أو الأوصاف التي يكون القتل فيها وسيلة لحفظ النفوس فربما قال قائل : ينبغي أن نقتل من هَمَّ بالقتل أو حث عليه أو شجع القاتل على فعله، أو ناوله سلاحا ليقتل به غيره، أو نمنع صناعة الآلات الحادة القاتلة، وهكذا.
أقول : لو تركت هذه الحكمة بلا ضابط لأدّى ذلك إلى ما ذكرنا وزيادة، ولكن الفقهاء وضعوا ضابطا لهذه الحكمة، فقصروا القتل الذي يؤدي إلى حفظ النفوس على القاتل عمدا عدوانا، فهذا الضابط يسمى العلة، وهي مشتملة على الحكمة ولكنها مقيدة ومحددة بما يؤدي إلى حفظ النفوس من القتل، ولهذا قالوا علة القصاص : القتل عمدا عدوانا، ولم يقولوا حفظ النفوس، بل جعلوا حفظ النفوس هو الحكمة التي لأجلها شرع القصاص، وهذه الحكمة ليست على إطلاقها، بل ضبطت بضابط وهو اقتصار القتل على من قَتَلَ عمدا عدوانا، فلا تحفظ النفوس بقتل من همَّ بالقتل أو شجع عليه أو رضيه، وإنما تحفظ بقتل القاتل، كما قال تعالى: { } [البقرة179].
والعلة يدور الحكم معها وجودا وعدما، فإذا وجدت وجد الحكم وإذا عدمت عدم الحكم إذا لم يكن له علة سواها، فإن كان للحكم علة أخرى فلا يلزم أن يعدم عند عدم إحدى العلتين، فوجوب القتل قد يكون لأجل الردة، وقد يكون لأجل الزنى بعد الإحصان، فإذا عدمت الردة فقد يوجد القتل بالعلة الأخرى.
وأما الحكمة فلا يمكن تعليق الحكم بها دائما؛ إذ لا يجوز أن نقول : كل قتل يغلب على الظن أنه يحفظ النفوس يكون مشروعا، ولكنها قد تكون مما ضبطه الشارع بضابط خاص أو عام فيصلح التعليل بها، وقد تكون غير مضبوطة بضابط محدد فلا يعلل بها إلا ما ورد فيه النص، وما كان أولى منه أو مساويا له في الإفضاء إلى الحكمة جزما من غير أن يترتب عليه مفسدة أخرى أو يخالف نصا أو إجماعا.
فما ضبطه الشرع بضابط خاص يسمى علة في القياس الشرعي، وما ضبطه بضابط عام يكون قاعدة كلية شهدت لها جزئيات كثيرة في الشريعة بالاعتبار أخذ من مجموعها هذه القاعدة، ويدخل في ذلك مقاصد الشارع والقواعد الضابطة لها. وما كان مساويا للمنصوص أو أولى منه في تحقيق مقصود الشرع هو مفهوم الموافقة، وهو عند الأكثر في معنى النص فلا يسمى قياسا.
القسم الثالث من الأدلة
قسمنا الأدلة فيما مضى إلى أدلة متفق عليها في الجملة وهي الكتاب والسنة، وأدلة فيها خلاف ضعيف وهي الإجماع والقياس، وأدلة فيها خلاف قوي وهي بقية الأدلة.
وتشمل: قول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستحسان، والاستصحاب، والاستصلاح، وسد الذرائع.
وسوف نتحدث فيما يلي عن كل واحد من هذه الأدلة، فنذكر حقيقته وأمثلته وحجيته، مع توخي الاختصار.
قول الصحابي
تعريفه :
الصحابي عند الأصوليين : من صحب النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به مدة تكفي عرفا لوصفه بالصحبة، ومات على الإسلام.
وعند المحدثين : من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك.
والسر في اختلافهم في المراد بالصحابي أن المحدثين يعنون الصحابي الراوي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن به ومات على إسلامه وجب قبول روايته والحكم بصحة سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجدوا بالاستقراء والتتبع أن الذين ثبت لهم ذلك كلهم عدول، فقرروا أنه لا حاجة للبحث في عدالتهم، وأن روايتهم مقبولة، سواء أكانوا ممن لازموا النبي صلى الله عليه وسلم أو من الأعراب الذين رأواه مرة واحدة بعد إسلامهم.
وأما الأصوليون فإنهم يتكلمون عن الصحابي الذي له اجتهاد في الأحكام الشرعية وله فقه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويمكن تقليده واتباع رأيه، وهذا لا يحصل إلا لمن لازم النبي صلى الله عليه وسلم فترة طويلة وأخذ عنه وأفاد من علمه وخلقه وسيرته، وأما من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مرة فإنه لا يكتسب بهذه الرؤية فقها وعلما يجعله من أهل الاجتهاد في الشريعة، ولذلك لا يمكن أن يقال إن رأيه حجة، وهم إنما عرفوا الصحابي الذي وقع الخلاف في حجية قوله.
والمراد بقول الصحابي : مذهبه الذي قاله أو فعله ولم يروه عن النبيصلى الله عليه وسلم.
أقسامه :
ينقسم قول الصحابي إلى أربعة أقسام :
1 ـ قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه، كالعبادات والتقديرات ونحوها.
وهذا القسم حجة عند الأئمة الأربعة لأنه لابد أن يكون سمعه الصحابي من النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا اجتهاد في الأمور التي لا تعرف إلا بتوقيف، ولكن الأئمة يختلفون في مدى الاحتجاج به قلة وكثرة لعدم الاتفاق على ضابط معين يحدد ما لا مجال للرأي فيه. فقد يرى بعضهم أن هذه المسألة مما لا مجال للرأي فيها فيعمل بقول الصحابي فيها، ويرى الآخر أنها مما يدخله الاجتهاد فلا يعمل بقول الصحابي فيها.
ومن هذا النوع قضاء الصحابة في النعامة إذا اصطادها المحرم ببدنةٍ، وفي الغزال بعنز ( ). فقد أخذ الأئمة بذلك. وكونه من التقديرات يدل على أنه مما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم وليس مما قضي فيه بالاجتهاد.
وقد يقول قائل إن تقدير المثل في جزاء الصيد متروك للاجتهاد فيكون قضاؤهم هذا من باب الاجتهاد.
2 ـ قول الصحابي الذي اشتهر ولم يخالفه غيره فيه، وهذا هو المسمى بالإجماع السكوتي وقد تقدم الكلام فيه.
والشهرة قد يستدل عليها بكثرة خوض الصحابة في المسألة، وقد يستدل عليها بكون الصحابي من الخلفاء الأربعة والمسألة مما تعم به البلوى ويقع لكثير من الناس. مثل جعل عمر رضي الله عنه طلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا توجب البينونة الكبرى.
3 ـ قول الصحابي الذي خالفه فيه غيره من الصحابة، فإنه ليس بحجة، ولكن لا يخرج الفقيه عن أقوالهم إلى قول آخر، بل يتخير من أقوالهم ماهو أقرب للدليل.
هكذا قال كثير من الأصوليين، والذي يظهر من صنيع الفقهاء أن منهم من يستدل بقول الصحابي ولو خالفه غيره إذا رأى رجحانه بقياس أو غيره.
وقولهم : لا يخرج عن أقاويلهم إلى غيرها يؤيد ذلك؛ لأن هذا حال الفقيه عند تعارض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يخرج عما دلت عليه، فإن أمكنه الجمع بينها جمع، وإلا أخذ بما يسنده النظر وتعضده أدلة أخرى.
ويمكن أن يحمل قول الأصوليين : إن قول الصحابي إذا خالفه صحابي آخر ليس بحجة، على أنه لا يكتفى به، ومن اكتفى به فهو مقلد للصحابي لا مستدل بقوله. والله أعلم.
4 ـ قول الصحابي فيما للرأي فيه مجال ولم ينتشر ولم يعرف له مخالف من الصحابة، وهذا هو محل النزاع.
فمن العلماء من يرى حجيته، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد وقول الشافعي القديم.
ومنهم من يرى أنه ليس بحجة، وإلى هذا ذهب الشافعي في قوله الجديد، وجماعة من أتباع المذاهب الأخرى، ولابن القيم كلام في رد هذه النسبة وتقرير أن مذهب الشافعي لا يختلف عن مذاهب الأئمة الثلاثة في ذلك. ولكن علماء الشافعية كلامهم صريح في نقل مذهب الشافعي المتقدم، وهم أعلم برأي إمامهم، علاوة على ما في الرسالة والأم من تصريح بحصر الأدلة في الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
والدليل على حجية قول الصحابي إذا لم يعلم له مخالف من الصحابة، من وجوه :
أ ـ قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » (أخرجه البخاري ومسلم).
فهذه شهادة لهم بالفضل على من سواهم، وهي تقتضي تقديم اجتهادهم على اجتهاد غيرهم.
ب ـ أن قول الصحابي الذي لم يعلم له مخالف يحتمل أن يكون نقلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقدم على الرأي المحض.
ج ـ أن الصحابة شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وحضروا نزول الوحي وهم أعرف الناس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يكون قولهم مقدما على قول غيرهم.
وأما الذين رأوا عدم الحجية فقد استدلوا بعدة أدلة منها :
أ ـ أن الصحابة غير معصومين من الخطأ إذا لم يجمعوا، وقول من لم تثبت عصمته لا يكون حجة.
ب ـ أن التابعين قد أثر عنهم مخالفة آحاد الصحابة، ولو كان قول الصحابي حجة لما صحت مخالفته من التابعي، ولأنكر الصحابي على من خالفه من التابعين، وإذا جاز للتابعي مخالفة الصحابي جاز لغيره ذلك.
والراجح : أن مذهب الصحابي وحده لا يعد حجة إلا إذا غلب على الظن اشتهاره بين الصحابة وعدم إنكاره، كأن يكون من الخلفاء الراشدين الذين هم في موضع القدوة لغيرهم، أو كانت المسألة مما يكثر وقوعه وتعم به البلوى.
وأما إذا اختلف الصحابة على أقوال فالخروج عن أقاويلهم يقتضي تخطئتهم جميعا، وهي بعيدة، فالواجب أن يختار من أقوالهم ما يسنده النظر والدليل.
والاستدلال بحديث : « خير الناس قرني » لا يكفي؛ لأن الخيرية لا توجب حجية قول كل واحد إذا انفرد، بدليل أن التابعين أيضا مشهود لهم بالخيرية في الحديث، ولم يقل أحد إن رأي التابعي حجة يترك لها القياس الصحيح.
وكذلك الاستدلال باحتمال كون ما قاله رواية لا يدل على الحجية؛ لأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
وأما مشاهدتهم الرسول صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي بلغتهم فلا شك أنها ميزة لهم ولكنها لا تكفي لأن يعد قول الواحد منهم دليلا.
وهنا دقيقة ينبغي التنبه لها، وهي أن القول بعدم حجية قول الصحابي لا يدل على المنع من تقليده لمن لا قدرة له على الاجتهاد، أو لمن لم ينظر في المسألة بعدُ وحضره وقت العمل. والله أعلم بالصواب.
شرع من قبلنا
بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بدين الحق، وجعله خاتم النبيين، وجعل شريعته خاتمة الشرائع، والأحكام في كل شريعة قسمان : أصول، وفروع :
فالأصول هي الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، والإيمان بالبعث والجزاء وبالجنة والنار، والاستسلام لله وحده وإفراده بالعبادة.
وهذا القسم قد اتفقت عليه شرائع الأنبياء جميعا، كما قال تعالى : { } [آل عمران19]، وقال : { } [آل عمران85].
وأما الفروع فقد اختلفت فيها الشرائع، وهي المقصودة في هذا الباب.
والمراد بشرع من قبلنا : ما نقل إلينا بطريق صحيح من الشرائع السماوية السابقة.
والطريق الصحيح لمعرفة شرع من قبلنا هو نقل القرآن والسنة النبوية الثابتة، ولا عبرة بما في الكتب التي في أيدي اليهود والنصارى اليوم؛ لأنها قد طرأ عليها التحريف والتبديل.
وما حكي في القرآن والسنة من شرائع الأنبياء السابقين، يمكن تقسيمه إلى الأقسام التالية :
1ـ ما حكاه الله عنهم أو حكاه رسوله صلى الله عليه وسلم وورد في شريعتنا ما يبطله :
وهذا لا خلاف في أنه ليس بحجة، ومثاله قوله تعالى : { } [الأنعام146].
2ـ ما حكاه الله عنهم ووجد في شريعتنا ما يؤيده :
وهذا لا خلاف في أنه شرع لنا، ولكن الدليل على ثبوته هو ما ورد في شريعتنا لا ما ورد في شرائع الأنبياء السابقين.
ومثاله : قوله تعالى : { } [البقرة183] فهذه الآية تدل على أن الصيام كان مشروعا على من قبلنا من الأمم ثم فرض علينا.
3 ـ ما نقل إلينا ولم يقترن بما يدل على نسخه أو مشروعيته في حقنا :
فهذا هو محل الخلاف بين العلماء، أهو شرع لنا يلزمنا العمل به أم لا؟.
ومثاله : ما جاء في قوله تعالى : { } [يوسف72]، فهذه الآية تدل على مشروعية الجعالة ( ) في شريعة يوسف عليه السلام.
وقوله تعالى في قصة ناقة صالح: { } [القمر28]. فهذه الآية تدل على مشروعية قسمة الماء مهايأة ( )، فهل يجوز الاستدلال بالآية علىجواز ذلك في شرعنا؟
ذهب أكثر العلماء إلى الاحتجاج بشرع من قبلنا ما لم يرد في شرعنا نسخه، وهذا المذهب هو المشهور عند الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو أحد القولين عند الشافعية.
والقول الثاني للشافعية أنه لا يحتج به.
والدليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخه شرعنا ما يلي :
1ـ قوله تعالى : { } [الأنعام90].
وجه الاستدلال : أن الله أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء الذين سبقوه، وأمر الرسول أمر لأمته.
2ـ قوله تعالى : { } [النحل123].
وجه الاستدلال: أن الله أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وملته دينه وشرعه.
3ـ قوله تعالى : { } [الشورى13].
وجه الاستدلال : أن الله بين أنه قد شرع لنا ما شرعه لنوح عليه السلام، فثبت أن شرعه شرع لنا ما لم ينسخ.
أمثلة على الاستدلال بشرع من قبلنا :
1ـ الاستدلال على الجعالة بقوله تعالى : { } [يوسف72] وقد ذكر هذا في أكثر كتب الحنابلة الفقهية، وذكره الزركشي في البحر المحيط.
2ـ الاستدلال على مشروعية الضمان بقوله تعالى : { ـ ـ ـ } [يوسف72] أي : كفيل وضامن. وهذا ذكره الزركشي في البحر المحيط ونسبه للشافعي، وهو مذكور في أكثر كتب الفقه الحنبلي.
3ـ الاستدلال على جواز مصانعة السلطان ببعض مال اليتيم حتى يسلم الباقي إذا خشي ولي اليتيم أن يأخذ السلطان المال كله أو يتلفه؛ لقوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الكهف71] فإن الخضر خرق السفينة لعلمه أن الملك الظالم كان يأخذ السفينة الصالحة، فرأى أن انتفاعهم بها بعد إصلاحها أفضل من ذهابها { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [الكهف79] والمعنى: كل سفينة صالحة ( ).
4ـ الاستدلال على عدم تضمين الراعي إذا ذكى الشاة المشرفة على الهلاك، بالقياس على خرق الخضر السفينة لينتفع بها أهلها مرقوعة ( ).
الاستحسان
تمهيد :
ظهرت كلمة الاستحسان بكثرة على لسان الإمام أبي حنيفة، وهو في الغالب يذكرها في مقابلة القياس فيقول : القياس كذا ولكن الاستحسان كذا، وقال محمد بن الحسن : كان أبو حنيفة يناظر أصحابه في المقاييس فينتصفون منه ويعارضونه حتى إذا قال : أستحسن لم يلحقه أحد منهم لكثرة ما يورد في الاستحسان من مسائل.
ونقل عن الإمام مالك وتلاميذه الأخذ بالاستحسان حتى قال مالك : الاستحسان تسعة أعشار العلم ( ).
ومع ذلك فلم نجد عند أولئك الأئمة تعريفا للاستحسان، ولذلك أنكره الإمام الشافعي أشد الإنكار، وقال : من استحسن فقد شرع، وألف كتاب إبطال الاستحسان، وبين فيه انحصار الأدلة في الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأن من قال بالاستحسان فقد جعل عقله مشرعا، وكذلك فعل داود الظاهري فأنكر الاستحسان كما أنكر القياس.
وأما الإمام أحمد فهو يعتمد على السنة والأثر، ولا يلجأ إلى القياس إلا عند انعدام الدليل من الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الصحابة، ولكن الأصوليين من أتباع الإمام أحمد ذكروا أنه يحتج بالاستحسان، نص على ذلك ابن قدامة وصفي الدين البغدادي وغيرهما.
ولما ألف الإمام الشافعي إبطال الاستحسان والرسالة وغيرهما من كتبه اضطر علماء الحنفية للدفاع عن إمامهم فلم يبحثوا عن أدلة تؤيد الاستحسان الذي أنكره الشافعي، وإنما لجأوا إلى تفسير الاستحسان الذي عمل به إمامهم بما لا يجعله مجرد ميل نفسي لا يمكن إقامة دليل عليه، أو « دليل ينقدح في ذهن المجتهد يعسر التعبير عنه » ( )، كما فسره بذلك بعضهم.
ولهذا عرف الحنفية الاستحسان بأنه: كل دليل في مقابلة القياس الظاهر( ). أو أنه : ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس ( ).
وجعله السرخسي في أصوله نوعين رئيسين هما :
1ـ العمل بالاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما لم يقدره الشارع، كالنفقة والمتعة.
2ـ الدليل الذي يكون معارضا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إنعام التأمل فيه، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادثة وأشباهها من الأصول يظهر أن الدليل الذي عارضه فوقه في القوة ( ).
ومما ذكروه في تعريف الاستحسان وأنواعه وأمثلته يتبين أنه ليس بدليل مستقل، وإنما هو راجع إلى أحد الأدلة الأخرى، أو أنه ترجيح لدليل على دليل آخر.
أنواع الاستحسان عند الحنفية :
يتنوع الاستحسان بحسب ما يستند إليه إلى ستة أنواع :
1 ـ استحسان سنده النص :
وهو ترك الحكم الذي يقتضيه القياس أو النص العام، والعمل بمقتضى نص خاص.
مثاله : أن الأصل أن لا يبيع الإنسان ما ليس عنده، هذا مقتضى النص والقياس، أما النص فقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه : « لا تبع ما ليس عندك » (رواه الخمسة وحسنه الترمذي وصححه ابن حزم والألباني في إرواء الغليل).
وأما القياس فلأن بيع ما ليس عنده مثل بيع حبل الحبلة أي : ولد الحمل الذي لم يولد بعد، لأن كلا منهما غير معلوم الوصف للبائع والمشتري.
ولكن ورد الدليل بإباحة السلم، وهو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد، مثل أن يبيع المزارع مائة صاع من التمر الموصوف تسلم بعد شهر أو شهرين بمائتي ريال مدفوعة حالا في مجلس العقد، فينتفع المزارع بالنقد فإذا حل الأجل دفع التمر للمشتري.
فهذا النوع من البيوع يسمى السلم، وقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » (أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس، واللفظ لمسلم، ولفظ البخاري : من أسلف في شيء ففي كيل معلوم...).
وتسمية هذا النوع استحسانا غير مسلمة عند من ينكر العمل بالاستحسان؛ لأن هذا عمل بالنص الخاص، وترك لمقتضى العموم، فهو ترك نص لنص أقوى منه.
2 ـ استحسان سنده الإجماع :
وهو ترك مقتضى القياس أو العموم في مسألة جزئية لأجل الإجماع.
مثاله : الإجماع على جواز عقد الاستصناع، وجواز شرب الماء من أيدي السقاة من غير تحديد قيمته، ودخول الحمام من غير تحديد مدة البقاء فيه ولا مقدار الماء المستعمل ولا الأجرة، فالإجماع منعقد على جوازه مع أن القياس يقتضي عدم جوازه.
3 ـ استحسان سنده الضرورة :
ومثاله : الحكم بطهارة الآبار بنزحها حتى يذهب أثر النجاسة من لون أو طعم أو ريح، وطهارة الحوض بصب الماء فيه حتى يذهب أثر النجاسة أيضا.
ووجه الاستحسان في ذلك أن الآبار والحياض لو قيس تطهيرها علىتطهير الآنية لما أمكن؛ لأنه لا يمكن غسل البئر والحوض كما يغسل الإناء والثوب.
فكل ماء يصب في البئر أو الحوض يتنجس بملاقاة الماء النجس، وكذا لو أريد نزحه فإن الماء الذي ينبع من القاع يلاقي النجاسة فيتنجس.
ولأجل الضرورة قلنا إن البئر تطهر بالنزح منها حتى يذهب أثر النجاسة من لون أو طعم أو رائحة، والأحواض تطهر بالمكاثرة أي بإضافة الماء إليها حتى يذهب أثر النجاسة.
4 ـ استحسان سنده القياس الخفي :
مثاله : الحكم بطهارة سؤر سباع الطير المحرمة كالحدأة والصقر، مع أن القياس الظاهر يقتضي نجاسته كسؤر سباع البهائم، مثل الذئب، والأسد، والنمر.
ووجه الاستحسان : أن القياس الظاهر على سباع البهائم معارض بقياس خفي أولى بالاعتبار، وهو أن سباع البهائم حكم بنجاسة سؤرها لاختلاطه بلعابها، ولعابها نجس، وسباع الطير تشرب الماء بمناقيرها والمناقير لا رطوبة فيها فلا تلوث الماء فهي كالدجاج السائب الذي ربما أكل النجاسة بمنقاره فلا يحكم بنجاسة سؤرها وإن كان قد يقال بكراهة استعماله.
5 ـ استحسان سنده المصلحة :
ومثاله: الحكم بتضمين الأجير المشترك، وهو الذي لا يعمل لشخص بعينه، بل يقدم خدمة لكل من يحتاجه مقابل أجرة معينة كالصباغ والغسال والخياط.
فالأصل أن الغسال إذا أعطي الثوب ليغسله فتلف عنده من غير تفريط لا ضمان عليه؛ لأن هذا مقتضى عقد الإجارة، ولأنه قبضه بإذن صاحبه فهو مؤتمن عليه، ولكنهم عدلوا عن مقتضى ذلك القياس وقالوا يضمن ما تلف عنده إلا أن يكون تلف بقوة قاهرة ظاهرة كالحريق ونحوه.
وسند هذا الاستحسان المصلحة، وهي المحافظة على أموال الناس من الضياع؛ نظرا لكثرة الخيانة بين الناس وقلة الأمانة. ولو لم يضمن الأجير لامتنع كثير من الناس من دفع أمتعتهم إليه خوفا عليها من الضياع أو التلف أو الخيانة.
6 ـ استحسان سنده العرف :
ومثاله : أن الأصل أن من حلف لا يأكل اللحم يحنث بأكل السمك لأنه لحم، فالله قد سماه لحما فقال : ومن كل تأكلون لحما طريا، ولكن قالوا : لا يحنث استحسانا؛ لأن العرف جرى على التفريق بين اللحم والسمك، وأن السمك لا يسمى لحما في العرف، ولا يفهم من إطلاق لفظ اللحم دخول السمك فيه.
حكم العمل بالاستحسان :
إذا نظرنا إلى التعريف المختار للاستحسان، وعرفنا أنواعه، يتبين لنا أن الأنواع الثلاثة الأولى منه لا خلاف فيها بين العلماء، غير أن منهم من لا يسميها استحسانا.
وأما النوع الرابع فمن خالف فيه فإنما يخالف في رجحان القياس الخفي على القياس الظاهر، فهو عنده من باب تعارض الأقيسة والترجيح بينها.
وأما النوع الخامس فالنزاع فيه مبني على النزاع في مستنده وهو المصلحة المرسلة هل تعد دليلا؟ وكذا الشأن في النوع السادس.
والاستدلال بالاستحسان بأنواعه المتقدمة مذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة.
وأما الشافعي فقد نقل عنه إنكاره، وأنه كان يقول : من استحسن فقد شرع، أي: جعل نفسه مشرّعا.
والظاهر أن الشافعي لا ينكر الاستحسان بمعناه الذي ذكرناه، بل ينكر الاستحسان بمجرد الهوى من غير دليل، أو ينكر الاستحسان الذي مستنده المصلحه المرسلة والعرف فقط. والله أعلم.
الاستصحاب
تعريفه :
الاستصحاب في اللغة : طلب الصحبة.
وفي الاصطلاح : هو الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على أنه كان ثابتا في الزمان الأول.
ومعنى التعريف : أنه إذا ثبت حكم بدليل معين في وقت معين يبقى ذلك الحكم ثابتا حتى يرد دليل يرفعه.
ووجه تسميته استصحابا : أن المجتهد يستصحب الحكم الأول حتى يرد ما يدل على ارتفاعه.
مثال ذلك : إذا توضأ ثم شك في وجود ما ينقض الوضوء فإنه يستصحب الحكم السابق، وهو كونه طاهرا حتى يثبت خلافه.
أنواع الاستصحاب :
يتنوع الاستصحاب إلى أربعة أنواع هي :
1ـ استصحاب البراءة الأصلية :
أي : براءة ذمة الإنسان من التكاليف الشرعية والحقوق المالية، حتى يقوم دليل على شغلها بشيء من ذلك. فالحكم بعدم فرضية صلاة سادسة، وبعدم وجوب صوم شعبان معلوم بالبراءة الأصلية، وكذا الحكم ببراءة ذمته من الديون التي لم يقم دليل على تعلقها بها.
2 ـ استصحاب الحكم الذي دل الدليل علىثبوته ولم يقم دليل على تغييره:
مثل الحكم بثبوت الزوجية بناء على عقد النكاح الصحيح من غير أن يطالَب الزوج بدليل على بقاء العقد؛ لأن الأصل بقاؤه ما لم يرد دليل يغير ذلك الأصل، فلو ادعت الزوجة الطلاق فالأصل عدمه وعليها البينة.
3 ـ استصحاب الدليل مع احتمال المعارض :
مثل استصحاب حكم الدليل العام حتى يرد ما يخصصه، واستصحاب النص حتى يرد ما يدل على نسخه.
وقد منع بعض العلماء تسمية هذا النوع استصحابا؛ لأن العمل به عمل بالنص لا بدليل الاستصحاب، وخالف بعضهم في العمل بالعام قبل البحث عن المخصص كما سيأتي بيانه في العام.
4 ـ استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محل الخلاف :
مثاله : إذا تيمم من فقد الماء ثم شرع في صلاته وفي أثنائها رأى الماء أو قدم به خادمه، هل تصح صلاته إذا استمر فيها؟ فمن قال بصحة صلاته استدل باستصحاب الإجماع في موضع الخلاف فقال :صحة صلاة من تيمم لفقد الماء ثابتة بالإجماع حتى يدل دليل على أن رؤية الماء في أثناء الصلاة مبطلة لها، ولا دليل على ذلك.
فصحة الصلاة قبل رؤية الماء متفق عليها، وبعد رؤية الماء مختلف فيها، والمستدل استصحب الإجماع في محل الخلاف، أي : استدل بالإجماع في الصورة المتفق عليها علىالصورة المختلف فيها.
ومن أمثلة هذا النوع قول الظاهرية ومن وافقهم : يجوز بيع أم الولد لأن الإجماع منعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل أن يطأها سيدها وتنجب منه، فنستصحب هذا الحكم الثابت بالإجماع بعد الاستيلاد إلى أن يدل دليل على تغييره.
حكم العمل بالاستصحاب :
الأنواع الثلاثة الأولى من الاستصحاب حجة عند جمهور العلماء، وما وقع من خلاف بينهم فهو في مسائل جزئية اختلف في صحة الاستدلال به فيها.
وذهب الحنفية في المذهب المشهور عندهم إلى أن الاستصحاب يصلح الاستدلال به في النفي لا في الإثبات، فهو لا يصلح لإثبات حكم مبتدأ، بل يصلح لإبقاء ما كان على ما كان إلى أن يثبت دليل التغيير.
ولأجل ذلك قال الحنفية: إن المفقود الذي لا يعرف أنه حي أو ميت يحكم بحياته استصحابا للأصل، فإن الأصل فيه الحياة؛ لأنها آخر العهد به، وبناء على ذلك فإن ما يملكه من مال يبقى مملوكا له ولا ينتقل إلى الورثة، وزوجته لا تتزوج بغيره، وإجارته لا تنفسخ، وهكذا كل الحقوق التي كانت ثابتة له تبقى كما هي إلى أن يحكم بموته حاكم بعد الانتهاء من مدة الانتظار، ولكن لو مات ابنه أو زوجته مثلا في تلك المدة فإنه لا يرثهما؛ لأن الحكم بحياته حكم اعتباري فلا يثبت له الإرث بمقتضى استصحاب الحال السابقة، وهذا معنى قولهم إن الاستصحاب يصلح حجة للدفع فقط.
وعند الجمهور أنه في مدة الانتظار يوقف له نصيبه حتى يرجع فإن لم يرجع كان كبقية ماله يأخذه ورثته، وقيل يرد إلى ورثة الميت الأول.
والدليل على حجية الأنواع الثلاثة الأولى من الاستصحاب ما يلي :
1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل يخيل إليه أنه أحدث في الصلاة : « لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا » (متفق عليه من حديث عبد الله بن زيد ).
وجه الاستدلال : أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم باستصحاب حكم الوضوء مع الشك في وجود الناقض حتى يدل الدليل على انتقاضه يقينا.
2 ـ حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه (متفق عليه).
وجه الاستدلال : أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الأصل براءة ذمة المدعى عليه حتى يثبت شغلها بالبينة الصحيحة، وهذا عمل باستصحاب الحال السابقة حتى يثبت تغيرها.
3 ـ أن العمل بالاستصحاب عمل بالظاهر، والعمل بالظاهر حتى يثبت خلافه مما اتفق عليه الصحابة والتابعون والأئمة بعدهم.
وأما النوع الرابع وهو استصحاب الإجماع في محل الخلاف فالمحققون على أنه ليس بحجة؛ لأنه يؤدي إلى التسوية بين موضع الاتفاق وموضع النزاع وهما مختلفان.
ولأن الإجماع على صحة الصلاة بالتيمم مشروط بعدم الماء، فإذا انتفى هذا الشرط انتفى الإجماع، وكذا في بيع الأمة، الإجماع على جوازه مشروط بعدم الاستيلاد فإذا وجد الاستيلاد انتفى الإجماع.
قواعد مبنية على الاستصحاب :
تدور على ألسنة الفقهاء وفي كتبهم قواعد فقهية مبنية على الاستصحاب، منها :
1ـ قاعدة : اليقين لا يزول بالشك، وهي من القواعد العظمى التي تدخل في جميع أبواب الفقه، ويندرج تحتها مسائل وقواعد كثيرة.
2ـ قاعدة : الأصل بقاء ما كان على ما كان، أي : إذا ثبت للشيء صفة معينة فالأصل بقاؤها حتى يرد ما يدل على تغيرها.
3ـ قاعدة : الأصل براءة الذمة، أي : عدم انشغالها بشيء من التكاليف والحقوق إلا بدليل.
4ـ قاعدة : الأصل في الصفات العارضة العدم، أي : الصفات التي تعرض للأشياء وليست ثابتة لها في الأصل، لا يحكم بوجودها إلا بدليل، فمن اشترى سلعة وقبضها ثم ادعى بعد زمن أنها كانت معيبة فلا يقبل قوله إلا ببينة تشهد له؛ لأن العيب من الصفات العارضة والأصل عدمها، وكذا لو ادعى المشتري أنه شرط الخيار لا تقبل دعواه إلا ببينة.
5ـ قاعدة : الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته. وهي قريبة من التي قبلها، ومثالها : إذا اختلف المتبايعان في عيب طارئ حديث، هل وقع قبل البيع أو بعده، فيحكم بأنه حدث في أقرب زمن للزمن الذي اطلعنا عليه فيه.
الاستصلاح
تعريفه :
الاستصلاح في اللغة : العمل على إصلاح شيء ما.
وفي الاصطلاح : بناء الأحكام على المصلحة المرسلة.
والمصلحة في اللغة : المنفعة، سواء أكانت دنيوية أم أخروية، بجلب نفع أو بدفع ضرر.
والعلماء متفقون على أن الشرع جاء بحفظ المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، وأن الله جل وعلا قد راعى في أحكامه مصالح العباد، وأن الشريعة ليست نكاية بالخلق ولا تعذيبا لهم، وإنما هي رحمة وتزكية، قال تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ } [الأنبياء107] وقال : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [البقرة151] وقال في صفة رسوله صلى الله عليه وسلم : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ } [التوبة128].
وأهل السنة يرون أن مراعاة الشارع لمصالح العباد تفضل منه وكرم وليس بواجب عليه، وأكثر المعتزلة يرون أن مراعاة مصالح العباد واجب على الله أوجبه على نفسه؛ لأنه من لوازم حكمته وعدله.
أقسام المصلحة من حيث اعتبار الشرع لها:
والمصلحة من حيث اعتبار الشرع لها وبناء الأحكام عليها وعدمه تنقسم ثلاثة أقسام :
1ـ مصلحة ملغاة :
وهي كل منفعة دل الشرع على عدم الاعتداد بها وعدم مراعاتها في الأحكام الشرعية، وذلك لانطوائها على مفسدة أعظم منها، أو لأنها تفوّت مصلحة أكبر.
ومثال المصلحة الملغاة ما في الزنى من لذة قضاء الشهوة، وما في ترك قطع السارق من مصلحة تمتعه بأعضائه، وما في التسوية بين الرجال والنساء في الميراث من مصلحة ترغيب النساء في الإسلام، وغير ذلك.
والضابط الذي به نعرف أن المصلحة ملغاة هو مخالفتها لنص أو إجماع أو قياس جلي.
فالمنافع المشار إليها قبل قليل مصادمة لنصوص الشرع الصحيحة الصريحة، وإذا دققنا النظر فيها نجد أنها مصالح جزئية لو روعيت لفوتت مصالح كلية.
2ـ مصلحة اعتبرها الشارع بعينها وراعاها في أصل معين يمكن أن يقاس عليه ما يشبهه:
وهذه هي المصلحة التي تتضمنها العلة في القياس، ويسميها بعضهم المناسبة، ومثالها : مصلحة حفظ العقل التي تضمنها تحريم الخمر، فيقاس على الخمر كل ما يذهب العقل من المخدرات والحشيش ونحو ذلك.
وهذه لا يختلف القائلون بحجية القياس في مراعاة الفقيه لها في اجتهاده، ولكنهم لا يعدونها دليلا مستقلا غير القياس.
3ـ مصلحة اعتبر الشارع جنسها، ولا يشهد لعينها أصل معين بالاعتبار:
بمعنى أن نصوص الشرع العامة تدل على مراعاة جنس هذه المصلحة، ولكننا لا نجد نصا خاصا على تحقيق هذه المصلحة بهذا الحكم المعين بخصوصه؛ إذ لو وجدنا أصلا خاصا وأمكن القياس عليه لكانت من النوع الثاني.
ومثال هذا النوع : المصلحة الناشئة من جمع القرآن في مصحف واحد، فهذا العمل فيه مصلحة حفظ الدين، ولكن لم نجد نصا يدل على حفظ الدين بهذه الطريقة بخصوصها، ولا بشيء يشبهها شبها يمكن معه قياسها عليه.
ومن ذلك المصلحة الناشئة عن وضع إشارات المرور في الشوارع العامة، ومعاقبة من لا يراعيها، فإن هذا العمل فيه مصلحة ظاهرة للناس؛ حيث إن الالتزام بهذه الإشارات يحفظ أرواح الناس وأموالهم، وعدمه يؤدي إلى التصادم وتعطيل الحركة وهلاك الأنفس والأموال، فهذه المصلحة من حيث جنسها قد جاء بها الشرع، ولا يشك مسلم في أن الإسلام يدعو إلى حفظ الأنفس والأموال، ولكن لا نجد نصا خاصا يدل على حفظها بهذه الطريقة (أي: بوضع إشارات المرور) ولا بطريقة تشبهها شبها بينا يمكن قياسها عليها.
وهذه المصلحة هي التي تسمى المصلحة المرسلة، وهي التي اختلف في حكم الاحتجاج بها على إثبات الأحكام الشرعية.
ولا يصح أن نفسر المصلحة المرسلة بالمهملة أو المسكوت عنها؛ فإن الشرع لم يهمل شيئا من المصالح الحقيقية، وإنما أهمل المصالح المتوهمة، والظاهر أن قولهم : المرسلة، لإخراج المقيدة، وهي التي شهد لها أصل خاص بالاعتبار، وأمكن القياس عليها.
حكم العمل بالمصلحة المرسلة :
ذهب جمهور الفقهاء إلى الاستدلال بالمصلحة المرسلة في إثبات الأحكام الشرعية، وأكثر الإمام مالك من العمل بها حتى ظن بعض الناس اختصاصه بها.
والأصوليون يذكرون خلافا قويا في عدها من الأدلة، وينقلون عن الإمام الشافعي إنكار الاحتجاج بالمصلحة التي لا ينتظم منها قياس صحيح، ورأى الغزالي أن ما يقع منها في مرتبة الضروريات يمكن الاحتجاج به وإن لم يشهد له أصل معين، بخلاف ما يقع في رتبة الحاجيات والتحسينيات، وأنكر ابن قدامة الاحتجاج بها في روضة الناظر، ولكنه في كتبه الفقهية يعلل بالمصلحة المرسلة أحيانا.
وفي المقابل نجد الطوفي يرى أن المصلحة إذا كانت ضرورية تقدم على النص، وقد أنكر عليه هذا من جاء بعده واستبشع قوله.
والحق أن المصلحة الضرورية القطعية لا يمكن أن يوجد في النصوص ما يعارضها.
فهذا القول وإن كان في ظاهره شناعة، إلا أنه لا يترتب عليه عمليا ما يحملنا على اتهام الطوفي في عقيدته، كما فعل بعض من رد عليه؛ لأنه لا يوجد مثال صحيح تتعارض فيه مصلحة ضرورية مع نص شرعي صحيح.
وخلاصة القول أن الذين خالفوا في الاحتجاج بالمصلحة المرسلة إنما خالفوا في عدها دليلا مستقلا أو في تقديمها على النصوص أو في المصالح المعارضة بمثلها أو بما هو أعظم منها.
أدلة العمل بالمصلحة المرسلة :
يستدل للعمل بالمصلحة المرسلة بأدلة كثيرة، ومنها :
1ـ أن الصحابة رضي الله عنهم عملوا بالمصالح المرسلة فيما طرأ لهم من الحوادث، فمن ذلك :
ـ جمع القرآن في مصحف واحد.
ـ وإيقاع عمر الطلاق الثلاث بكلمة واحدة.
ـ وقتل الجماعة بالواحد، وهذا يعد إجماعاً منهم.
2ـ الآيات الدالة على أن الشريعة جاءت لمصالح العباد والتيسير عليهم، كقوله تعالى : { ـ ـ ـ ـ ـ } [الأنبياء107] وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ} [البقرة185] وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ } [النساء28] وقوله : { ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ} [الحج78].
فهذه الايات تدل على أن من مقاصد الشرع التيسير على الناس ورفع الحرج، والعمل بالمصالح المرسلة فيه تيسير على الناس؛ إذ لو كلفنا الرجوع إلى النصوص الخاصة لخلت كثير من الوقائع عن الأحكام، ولو لم يلتفت الشرع إلى مصالح العباد ويبني عليها الأحكام التي تحفظها لوقع الناس في الضيق والحرج.
شروط العمل بالمصلحة المرسلة :
يشترط للعمل بالمصلحة المرسلة ما يلي :
1ـ أن تكون المصلحة حقيقية لا متوهمة، فالمصلحة المتوهمة لا ينظر إليها، ومثالها : ما يتوهمه بعض الناس من أن التسوية بين الرجل والمرأة في الإرث فيه مصلحة، وهي ترغيب الكفار في الإسلام، ومن ذلك : ما يتوهمه البعض من أن العمل بالقوانين الوضعية المستوردة فيه مصلحة وهي التسوية بين الناس في الحقوق والواجبات.
وهؤلاء وأولئك غفلوا عن أن خالق الناس أعلم بما يصلحهم وما يناسبهم، وأن ترغيب الكفار في الإسلام بترك فرض من فرائضه مفاسده أعظم مما يتوخى فيه من مصلحة، وما في القوانين الوضعية من المصالح يمكن تحصيلها من الشريعة على وجه أكمل.
2ـ أن لا تعارض نصا من كتاب أو سنة، أو إجماعاً صحيحاً، فإن عارضت شيئا من هذه الأدلة فهي مصلحة ملغاة؛ إما لانطوائها على مفسدة أعظم، أو لتفويتها مصلحة أعظم.
3ـ أن لا تعارض مصلحة مساوية لها أو أعظم منها، فإن تعارضت المصالح رجحنا أقواها أثرا وأعمها نفعا وأكثرها دفعا للمفسدة، وإذا تعارضت مصلحة فرد أو فئة مع المصلحة العامة قدمنا المصلحة العامة.
4ـ أن تكون في مواضع الاجتهاد لا في المواضع التي يتعين فيها التوقيف، كأسماء الله وصفاته، والبعث والجزاء، وكأصول العبادات، فإن المصلحة المرسلة لا يمكن أن يستدل بها على ثبوت عبادة أو زيادة فيها أو نقص شيء منها.
أمثلة تطبيقية للعمل بالاستصلاح :
1ـ ضرب العملة السائرة في كل بلد، فهذا العمل لو طبقنا عليه دليلا من النص لم نجده؛ إذ ليس في القرآن أمر بذلك، ولم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به، ولكن الحاجة ماسة إليه ليتعامل الناس بعملة مقبولة عند جميعهم، تمكنهم من مبادلتها بما يحتاجونه من مأكول ومشروب وملبوس ومركوب وخدمات ينتفعون بها، ولذا وجب على الدولة أن تقوم بضرب عملة وتحميها من التزوير حتى تحتفظ بقيمتها.
2ـ وضع الإشارات التي تنظم السير في الطرقات، ووجوب الوقوف عندها، فوضعها في المدن الكبيرة من الضروريات التي يؤدي الإخلال بها إلى تلف الأنفس والأموال، فيجب على ولي الأمر وضعها، ويجب على الناس الالتزام بها.
3ـ تسجيل الأنكحة والمواليد في سجلات خاصة، فهذا من الحاجيات التي يؤدي الإخلال بها إلى فقدان كثير من المصالح، وقد يقال : إنها مما يحفظ الأنساب فتلحق بالضروريات.
4ـ الإلزام باستخراج بطاقات الجنسية، ورخص القيادة، ومعاقبة المخالف لذلك.
فهذه كلها مما تدعو الحاجة إليه لضبط الأمن، ومعرفة الأنساب، والمحافظة على الأرواح والأموال.
سد الذرائع
تعريف الذرائع :
الذرائع : جمع ذريعة، والذريعة هي الوسيلة المؤدية إلى الشيء، سواء أكان مصلحة أم مفسدة.
وسد الذرائع : منع الوسائل المفضية إلى المفاسد.
والأقوال والأفعال المؤدية إلى المفسدة أربعة أقسام :
الأول : وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة قطعا، كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر، والزنى المفضي إلى مفسدة اختلاط الأنساب وثلم الأعراض.
الثاني : وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المباح، ولكن قصد بها التوسل إلى المفسدة، مثل عقد النكاح بقصد تحليل الزوجة لزوجها الأول الذي طلقها ثلاثا.
الثالث : وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المباح، ولم يقصد بها التوسل إلى المفسدة، ولكنها تؤدي إليها غالبا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها، مثل : سب آلهة الكفار علناً إذا كان يفضي إلى سب الله جل وعلا.
الرابع : وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها، مثل النظر إلى المخطوبة، والمشهود عليها، والجهر بكلمة الحق عند سلطان جائر.
فالقسم الأول قد جاءت الشريعة بمنعه، إما على سبيل التحريم أو الكراهة، وذلك بحسب درجته في المفسدة ولا خلاف فيه.
والقسم الرابع قد جاءت الشريعة بمشروعيته إما على سبيل الوجوب أو الاستحباب؛ بحسب درجته في المصلحة، ولا خلاف فيه.
والقسمان الثاني والثالث هما موضع النزاع، هل جاءت الشريعة بمنعهما؟
ومذهب المالكية والحنابلة ومن وافقهم أن سد الذرائع دليل شرعي تبنى عليه الأحكام، فمتى أفضى الفعل إلى مفسدة راجحة أو كان الغالب فيه الإفضاء إلى المفسدة أو قصد به فاعله الإفضاء إلى المفسدة وجب منعه.
وذهب بعض العلماء من الشافعية والحنفية والظاهرية إلى عدم الاستدلال بهذا الدليل ولم يوجبوا سد الذرائع المؤدية إلى المفسدة، إلا أن يرد بمنعها نص أو إجماع أو قياس، ولكنهم لم يطردوا في فروعهم الفقهية بل قالوا في بعض الفروع بالمنع دون بعضها الآخر.
ومما يدل علىصحة العمل بقاعدة سد الذرائع ما يلي :
1 ـ قوله تعالى : { } [الأنعام108].
وجه الاستدلال : أن الله منع المسلمين من سب آلهة الكفار مع أنها تستحق السب والشتم، ولكن منع من سبها حتى لا يسبوا الله، وهذا ظاهر في سد الذريعة المؤدية إلى المفسدة.
2 ـ قوله تعالى : { } [البقرة104].
وجه الاستدلال : أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم راعنا؛ منعا لذريعة التشبه باليهود الذين كانوا يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم راعنا، من الرعونة وهي الحمق والسفه، والمسلمون يقصدون منها القصد الحسن أي : من المراعاة وهي الانتظار.
3 ـ منع الشارع القاضي من أخذ الهدية لئلا يكون ذريعة إلى أخذ الرشوة، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « هدايا العمال غلول » (أخرجه الإمام أحمد وغيره).
والأحكام التي قصد بها سد الذرائع المؤدية إلى المحرم أكثر من أن تحصى.
وإذا تقرر وجوب سد الذارئع المؤدية إلى المحرم تقرر وجوب فتح الذرائع الموصلة إلى الواجب؛ لأن الذريعة الموصلة إلى الواجب واجبة، لكن وجوبها قد يكون وجوبا معينا إذا كانت هي الوسيلة الوحيدة إلى الواجب، ولهذا جاءت قاعدة : « ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب »، وقد يكون وجوب وسيلة الواجب على التخيير إذا كانت هناك وسائل متعددة كلها تفضي إلى الواجب.
وباب سد الذرائع من أهم ما ينبغي للفقيه معرفته، ولهذا قال شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم (ت751) : « وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه (أي التكليف) أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني : وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان : أحدهما : ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني : ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين » ( ).
وإعطاء الوسيلة حكم المتوسل إليه دليل على حكمة الباري وعلمه بخصائص النفس البشرية؛ لأنه لو حرم الشيء وأباح الوسائل الموصلة إليه غالبا لوقع الناس في حرج عظيم.
الباب الثالث
دلالة الألفاظ
اهتم علماء الأصول بالألفاظ اهتماما كبيرا من حيث تقسيماتها وأنواعها، ومن حيث دلالتها على المعاني، وذلك لأن الأحكام الشرعية إنما تستفاد من الألفاظ إما بطريق الدلالة المباشرة، أو بطريق الإشارة والإيماء،وقد أحاط الأصوليون بما قرره علماء اللغة والنحو والتصريف، وزادوا عليهم تفصيلات لا يجدها الباحث عند غيرهم حتى من علماء اللغة الذين ألفوا فيها المؤلفات الكثيرة.
ومن الأصوليين من خاض في تقسيمات وتعريفات للألفاظ لا حاجة للفقيه بها، وإنما استدعاها حب الاستقصاء وغلبة النقل على مؤلفاتهم، والاستطراد الذي ينسي بعض المؤلفين الغرض من التأليف في علم أصول الفقه.
ولا يليق بهذا المختصر اتباع ذلك المنهج، لذا سأقتصر على المفيد من تلك الأقسام، وما له مدخل في معرفة دلالة ألفاظ الشرع. وهي :
الأمر والنهي.
العام والخاص.
المطلق والمقيد.
المنطوق والمفهوم.
النص والظاهر والمجمل والمبين.
الأمر والنهي
الأمر والنهي هما أساس التكليف، فلا تكليف إلا بأمر أو نهي صريحين أو ما يدل عليهما بنوع من أنواع الدلالة.
ولذا اهتم الأصوليون بالكلام عن الأمر والنهي ودلالة كل منهما، وجرى كثير منهم على تقديم الكلام عن الأوامر والنواهي في مؤلفاتهم لما لهما من الأهمية.
فمنذ أن خلق الله آدم وحواء أمرهما ونهاهما، فقال : { } [البقرة35].
ولشرف المأمور به قدم الأمر على النهي، واكتفى أكثرهم في النهي بالإشارة إلى أنه عكس الأمر في دلالته، قال الغزالي : « وكل مسألة في الأوامر لها وزان في النواهي ».
واكتفى في باب النهي بالكلام عن اقتضاء النهي الفساد تفصيلا، لما لهذه المسألة من أهمية وأثر في الفقه، ومثله فعل ابن قدامة.
الأمر
كلام الأصوليين في الأمر ينصب على جانبين :
1ـ لفظ الأمر، وهو الكلمة المكونة من : (أَ مَ رَ). وهذا يظهر من كلامهم عند تعريفه، وفي أن الأمر هل له صيغة تخصه؟
2ـ دلالة ما يصدق عليه لفظ الأمر من الألفاظ، مثل : صلوا، وصوموا، ونحوهما من الألفاظ الموضوعة للأمر، وسأتناول كلا من الجانبين، مع الاهتمام بالجانب الثاني؛ لأنه المقصود من دراسة هذا الباب.
تعريف الأمر :
كلمة الأمر عرفها بعض الأصوليين بأنها : طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء. فاشتمل التعريف على ثلاثة قيود هي :
أ ـ طلب الفعل، وهذا يخرج طلب الترك؛ فإنه يسمى نهيا لا أمرا.
ب ـ أن يكون بالقول لا بالفعل ولا بالإشارة والكتابة.
ج ـ أن يكون الطلب على جهة الاستعلاء، أي : يعرف من سياق الكلام أو من طريقة التكلم به أن الآمر يستعلي على المأمور، سواء أكان أعلى منه رتبة أم أدنى منه في واقع الأمر.
وبناء على هذا التعريف فإن العبد لو قال لسيده : افعل كذا، بنبرة توحي بأنه يستعلي عليه، سمي كلامه هذا أمرا، واستحق التأديب عليه لأنه يأمر سيده.
وأما إن قال : افعل كذا، على جهة التوسل والسؤال فلا يسمى أمرا، مع أن اللفظ واحد.
وقد اتفق الأصوليون على القيد الأول، وهو أن الأمر طلب فعل لا طلب ترك، واختلفوا في القيدين الأخيرين.
فالقيد الثاني خالف فيه جماعة من الأصوليين وقالوا : إن الأمر قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل كالإشارة والكتابة، والجمهور قالوا : لا يسمى الفعل أمرا إلا على سبيل المجاز المفتقر إلى القرينة.
ولهذا فإن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم المجردة لا تكون بمثابة الأمر إلا إذا دل الدليل على وجوب متابعته فيها.
وأما القيد الثالث فقد اختلفوا فيه، فمنهم من اشترط في مسمى الأمر الاستعلاء، وقد تقدم تفسيره.
ومنهم من اشترط العلو، وهو أن يكون الكلام صادرا ممن هو أعلى رتبة من المأمور في واقع الأمر.
ومنهم من اشترط الأمرين معا (العلو والاستعلاء).
ومنهم من لم يشترط أيّاً منهما.
والصواب : أن الأمر الذي يصلح مصدرا للتشريع لا يكون إلا ممن هو أعلى رتبة، أي : من الله عز وجل أو من رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا فاشتراط العلو هو الأقرب.
والفرق بين الاستعلاء والعلو : أن الاستعلاء صفة في الأمر نفسه، أي : في نبرة الصوت، أو في طريقة إلقائه، أو في القرائن المصاحبة، وأما العلو فهو صفة في الآمر أي : أن الآمر أعلى رتبة من المأمور في واقع الأمر.
اشتراط الإرادة في الأمر :
اتفق العلماء على أن الأمر يشترط فيه إرادة التكلم بالصيغة، فلو صدر اللفظ من نائم ونحوه لا يسمى أمرا في الاصطلاح وإن وجدت الصيغة، ولكنهم اختلفوا هل يشترط فيه إرادة الآمر إيقاع الفعل المأمور به؟
فذهب المعتزلة إلى أن ذلك شرط في تسميته أمرا، فإذا لم يرد المتكلم بالصيغة وقوع المأمور به لا يسمى أمرا.
وذهب الأشعرية إلى أنه ليس بشرط، فيسمى أمرا سواء أراد الآمر وقوع الفعل أم لا.
استدل المعتزلة بأن الله لا يأمر بما لا يريد وقوعه، وإلا لكان ظالما وهو سبحانه منزه عن الظلم. وبقوله تعالى : { } [النحل90]، وليس من العدل والإحسان أن يأمرنا بشيء لا يريد منا إيقاعه.
واحتج الأشعرية ومن تبعهم بأن الله يأمر الكافر بالإيمان وربما لم يؤمن، ولو أراد الله منه الإيمان لوقع؛ لأن الله وصف نفسه بأنه : { } [البروج16].
وهذا الخلاف لم يرد علىمحل واحد، والفريقان أخطآ معا؛ حيث لم ينتبهوا إلى أن الإرادة نوعان :
إرادة كونية قدرية : وهذه هي التي لا بد من وقوع متعلقها فيصح أن يقال: ما أراده الله لا بد أن يقع، بمعنى ما أراد الله وقوعه إرادة كونية قدرية، أي ما قدر وقوعه وقع، والأشعرية نظروا إلى هذا النوع من الإرادة فوجدوا أن الله يأمر بأشياء ثم لا تقع فقالوا إذاً هو لم يرد وقوعها بمعنى لم يقدر في الأزل وقوعها.
والنوع الثاني : الإرادة الشرعية : وهي بمعنى المحبة، وهذه تكون مع الأمر لا تفارقه، فما أمر الله به عباده فهو يحب أن يقع، ولكنه قد يقع فعلا أولا يقع تبعا لتقدير الله وإرادته الكونية، وهذه هي التي نظر إليها المعتزلة فقالوا من شرط الأمر الإرادة.
وتبين من هذا أن خطأ الفريقين جاء من جهة ظنهم أن إرادة الله واحدة لا تنقسم إلى هذين القسمين.
ويمكننا أن نصحح ما قاله الأشعرية من أن الأمر ليس من شرطه إرادة الآمر؛ أما الإرادة الكونية فواضح عدم التلازم بينها وبين الأمر، وأما الإرادة الشرعية فهي تابعة للأمر، فالأمر يستلزم الإرادة الشرعية ويدل عليها، فلا تكون شرطا في تسميته أمرا؛ لأن الشرط ينبغي أن يعلم تقدمه على المشروط، ولأن الشرط في اللغة العلامة، والإرادة خفية لا نعرفها إلا بالأمر فلا يصح جعلها شرطا في صحة الأمر.
والجميع متفقون على أن السيد لو أمر عبده بذبح الشاة للضيف مثلا، وهو لا يريد منه أن يفعل ذلك أنه يعد آمرا له عند جميع العقلاء العارفين باللغة، فلا لوم على العبد لو فعل، بل يلام على الترك، كما أنهم متفقون على أن ما قام الدليل على عدم دخوله في الأمر لا يدخل ولا يكون مأمورا به ولو شمله لفظ الأمر لغة، فقوله تعالى : { } [النحل90] فالعدل مأمور به ولكن يخرج منه ما لا يستطيعه الإنسان كالعدل بين الزوجات أو الأولاد أو الخصوم في الحب القلبي.
وقد تبع ابن قدامة وكثير من الأصوليين الغزالي في عدم اشتراط الإرادة في الأمر من غير أن يقيدوا الإرادة بالكونية القدرية، وخطأوا المعتزلة في اشتراط الإرادة من غير تفصيل، وكان الواجب أن يقولوا بالتفصيل الذي ذكرته آنفا. والله أعلم.
صيغ الأمر :
يرى جمهور الأصوليين وأهل اللغة أن الأمر له صيغ تدل عليه حقيقة، من غير حاجة إلى قرينة، وهذه الصيغ هي :
1ـ فعل الأمر، مثل : « صلوا كما رأيتموني أصلي ».
2ـ المضارع المقرون بلام الأمر، مثل : { } [الطلاق7].
3ـ المصدر النائب عن فعل الأمر، مثل : { } [محمد4] أي : فاضربوا الرقاب.
4ـ اسم فعل الأمر، مثل : صه، بمعنى : اسكت.
وهناك أساليب أخرى يستفاد منها الأمر لم يشتغل الأصوليون بحصرها لصعوبة ضبطها، غير أنهم قالوا: إن الخبر قد يأتي بمعنى الأمر، ومن أمثلته قوله تعالى : { } [البقرة228]، { } [الطلاق4].
فهذان الخبران يقصد بهما الأمر، فكأنه قال : المطلقات مأمورات بالانتظار ثلاثة قروء قبل زواجهن، وأولات الأحمال مأمورات بالانتظار حتى يضعن حملهن.
ويرى علماء المعاني من البلاغيين أن الأمر الوارد بصيغة الخبر أبلغ من الأمر الوارد بصيغته المعتادة.
وذهب بعض الأشاعرة إلى أن الأمر ليس له صيغة تخصه، وإنما يعرف كون اللفظ أمرا بالقرينة، وزعموا أن هذا مذهب أبي الحسن الأشعري ـ رحمه الله ـ.
واستشكل ابن عقيل في الواضح قولهم : للأمر صيغة، وقال : هذه الترجمة لا تصح؛ لأن الأمر هو الصيغة، فكيف نقول : هل للأمر صيغة؟.
والذي يظهر لي أن الإشكال لا يرد؛ لأنهم عنوا بالأمر هنا المعنى دون اللفظ، أي : هل للمعنى الذي يقوم بالذهن وهو طلب الفعل صيغة تدل عليه وضعا؟
وعبروا بلفظ الصيغة دون اللفظ لأن الخلاف ليس في وجود ألفاظ تدل على طلب الفعل طلبا جازما، وإنما في وجود صيغة محددة إذا جاء اللفظ عليها عد أمرا، وهي صيغة (افعل) أو (لتفعل) ونحوهما.
وإنكار بعض الأشعرية وجود صيغة تدل على طلب الفعل طلبا جازما مبني على رأيهم في الكلام، وأنه اسم لما في النفس لا للفظ المسموع.
مقتضى الأمر :
ينبغي أن نعرف أن مرادهم بالأمر هنا : صيغة افعل وما جرى مجراها، كلفظ : أمرتكم أو أنتم مأمورون أو إن الله يأمركم.
ومقتضى الأمر يشمل :
1ـ دلالة الأمر على الوجوب.
2ـ دلالته على الفور.
3ـ دلالته على التكرار.
4ـ دلالته على الإجزاء بفعل المأمور به.
دلالة الأمر على الوجوب
اختلف العلماء في الأمر المجرد عن القرائن علام يحمل؟ مع أنه لا يكاد يوجد أمر إلا ومعه قرائن تدل على المراد منه، ولكن لما كانت القرائن قد يتنازع فيها أراد الأصوليون أن يبينوا الأصل في الأمر ما هو؟
فذهب أكثر الأصوليين إلى أن الأصل حمله على الوجوب، واستدلوا بعدة أدلة منها :
1ـ قوله تعالى : { } [النور63] وجه الدلالة على الوجوب : أن الله توعد من يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتنة والعذاب الأليم، ولا يكون هذا إلا على ترك واجب، فدل على أن امتثال الأمر واجب.
2 ـ قوله تعالى ـ على لسان موسى مخاطبا أخاه هارون ـ: { } [طه93]، مع قوله تعالى : { } [النساء14].
وجه الاستدلال : أن الآية الأولى جعلت مخالفة الأمر معصية، والآية الثانية جعلت المعصية سببا لدخول جهنم.
فهاتان الآيتان تدلان بمجموعهما على أن الأمر للوجوب.
3 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة » متفق عليه.
وجه الاستدلال أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن سبب عدم الأمر بالسواك هو خوفه المشقة على الأمة، ولا مشقة إلا في ترك الواجب؛ لأنه هو الذي فيه عقوبة.
والحديث يدل على بطلان القول بأن الأمر للندب، حيث نفى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون أمر أمته بالسواك مع أنه ندبهم إليه بلا خلاف، فهذا يدل على أن الأمر لما هو أعلى من الندب والأعلى من الندب هو الوجوب.
4 ـ ما روي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبي بن كعب وهو يصلي فلم يجبه فلما قضى صلاته جاء، فقال : لم يمنعني من إجابتك إلا أني كنت أصلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « ألم تسمع قول الله تعالى : { } [الأنفال24]» (أخرجه البخاري).
فهذا الحديث يدل على أن الأمر يفيد الوجوب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لام أبي بن كعب على عدم فهمه الوجوب من الآية.
5 ـ إجماع الصحابة على الاستدلال بالأمر على الوجوب، ويدل على ذلك رجوعهم إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من غير بحث عن قرينة، كما رجعوا إلى حديث : « إذا دخل الطاعون في بلد وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن حدث في بلد فلا تدخلوها ».
القول الثاني : أنه موضوع للقدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو مطلق الطلب، وذهب إلى هذا كثير من الأصوليين كالرازي وشراح كلامه، وهو مذهب أبي هاشم الجبائي، ونسب إلى أبي منصور الماتريدي ومشايخ سمرقند ( ).
واستدلوا بأن ألفاظ الأمر الواردة في الكتاب والسنة منها ما حمل على الوجوب ومنها ما حمل على الندب، مما يدل على أن الأمر صالح لكلا المعنيين.
واستدلوا بقوله تعالى : { } [النحل90]، وهذه المأمورات منها ما هو واجب ومنها ما هو مندوب.
وهذا القول في حقيقته يؤول إلى القول الثالث؛ لأن المتيقن عندهم هو الندب ولا يحمل على ما زاد عليه إلا بدليل.
القول الثالث : أنه موضوع للندب ونسبه السمعاني لبعض الفقهاء( )، ونسب للشافعي وأحمد ( )، ونسب لأبي هاشم الجبائي وعامة المعتزلة ( ).
واستدلوا بأن الأمر طلب الفعل، وهذا يتحقق بحمله على الندب فلا نزيد عليه.
وهناك قول بأن مدلول الأمر الإباحة، ونسب لبعض المالكية ( )، والمشهور عنهم خلاف ذلك.
وهناك أقوال أخر أعرضت عن ذكرها؛ لأنها ليست عليها حجة تستحق المناقشة.
والراجح : هو القول الأول، واستدلال المخالفين بأن أوامر الكتاب والسنة، بعضها محمول على الندب وبعضها محمول على الوجوب، يجاب بأن المحمول على الندب منها وجدت قرائن تصرفه عن الوجوب، وكلامنا فيما لم توجد معه قرينة صارفة.
وقولهم : الأمر طلب، والندب هو المتيقن فيحمل عليه، يجاب بأن الأمر طلب الفعل من الأعلى رتبة، وأدلة الشرع السابقة دلت على حمله على الوجوب، والاحتياط يقتضي ذلك؛ إذ إن حمله على الندب ربما دفع المكلف إلى الترك وهو مراد به الوجوب فيأثم، وإذا حمله على الوجوب فعله وسلم من الإثم.
ولما كانت الأوامر في الكتاب والسنة لا تخلو ـ غالبا ـ عن قرائن حالية أو مقالية، متقدمة أو متأخرة أو مصاحبة، وجدنا كلام العلماء في حمل الأوامر على الندب أو الوجوب لا يقف عند ذكر الأصل في معنى الأمر، وإنما يؤيد كل منهم رأيه في المسألة الخاصة الوارد الأمر بها بأدلة وقرائن أخرى.
والمتتبع لكلام الفقهاء يجدهم يحملون الأمر على الوجوب، إلا إذا وجدت قرينة صارفة أو عارض الأمر دليل آخر.
دلالة الأمر على الفورية
اتفق العلماء على أن الأمر إذا صحبته قرينة تدل على الفور يحمل على ذلك، وإذا صحبته قرينة تدل على جواز التراخي حمل على ذلك، وإذا حدد له وقت معين حمل على ذلك.
واختلفوا في الأمر الذي لم تصحبه قرينة تدل على فور ولا على تراخ، ولم يوقت بوقت معين علام يحمل؟
فذهب أكثر الحنابلة والمالكية وبعض الحنفية والشافعية( ) إلى أنه يدل على الفور، واستدلوا بما يلي :
1ـ قول الله تعالى : { } [آل عمران133]، حيث أمر بالمسارعة إلى المغفرة، والمقصود أسباب المغفرة، وامتثال أمر الله من أسباب المغفرة ولا شك، والمسارعة تعني : المبادرة في أول أوقات الإمكان.
2ـ قوله تعالى : { } [المائدة48]، حيث أمر بالاستباق إلى الخيرات، والمأمور به خير فيدخل فيما أمرنا بالاستباق إليه، والأمر للوجوب فيكون الاستباق إلى فعله واجبا.
3ـ قوله تعالى ـ لإبليس ـ : { } [الأعراف12]، حيث ذمه على ترك السجود عند سماع الأمر.
وأجيب بأن الأمر هنا مقيد بوقت؛ لقوله تعالى : { } [ص 72]، وإذا تفيد الظرفية، والفاء في قوله : فقعوا، للتعقيب.
4ـ أن الأمر لو لم يكن للفور لجاز تأخيره، والتأخير إما أن يكون إلى أمد محدد أو غير محدد بوقت، فإن قلتم يؤخر إلى زمن محدد كان التحديد تحكما لا دليل عليه، وإن قلتم يؤخر من غير تحديد بزمن معين أدى ذلك إلى ترك الفعل، وهو ممنوع، فلم يبق إلا أن نقول إن وقته هو أول أوقات التمكن من الفعل.
فإن قيل يجوز له أن يؤخر بشرط سلامة العاقبة أي : بشرط أن يفعل قبل موته، قلنا : وما يدريه متى يموت؟ فإذا كان التأخير جائزا فلا يصح أن يعاقب من أخر الفعل إلى وقت يجوز تأخيره إليه ثم مات، كالمصلي لو أخر الصلاة عن أول وقتها ثم مات لا يأثم إذا كان عازما على الفعل في آخر الوقت.
القول الثاني : أنه للقدر المشترك بين الفور والتراخي ولا تعرض فيه لوقت الفعل.
وهو اختيار الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي، مع اختلافهم في التعبير عنه. ونسب هذا القول للإمام الشافعي.
وقد يعبر بعض الأصوليين عن هذا القول بعبارة فيها نظر، فيقول : قال بعض العلماء : « إن الأمر المطلق للتراخي » ( )، وهذا التعبير إذا أخذ على ظاهره لا يصح وإنما هو من باب التسامح في العبارة؛ إذ لم يقل أحد إن الأمر المطلق يجب التريث فيه وعدم المبادرة إلى امتثاله، وإنما خلافهم في أنه هل يجوز التراخي فيه؟ أما المبادرة فلا يختلفون في جوازها وفضلها، ولهذا فلا يصح التفريق بين قول الرازي ومن تبعه إن الأمر للقدر المشترك بين الفور والتراخي، وقول من قال : إن الأمر المطلق يحمل على التراخي، كابن السمعاني والإسفراييني وابن برهان ( )، ولهذا قال ابن السمعاني : « واعلم أن قولنا : إنه على التراخي، ليس معناه أنه يؤخر عن أول أوقات الفعل، لكن معناه أنه ليس على التعجيل » ( ).
أدلة هذا القول :
1ـ أن الزمان كالمكان، فكلاهما ظرف للفعل المأمور به، فكما أن الأمر لا دلالة فيه على مكان الفعل باتفاق، فكذلك ينبغي أن يقال لا دلالة فيه على زمانه.
2ـ أن الأمر يرد للفور حينا ولجواز التراخي حينا آخر، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك وإلا لزم المجاز أو الاشتراك، وكلاهما خلاف الأصل.
ولو أردنا إيضاح هذا الدليل أكثر لقلنا : إن الأمر يرد مرادا به الفور كما في الأمر بإنقاذ الغريق فإنه لا يحتمل التأخير، ويرد مرادا به جواز التراخي كما في الأمر بجهاد الطلب، ولو قلنا إنه للفور لزم أن يكون استعماله في غيره مجازا أو من باب الاشتراك اللفظي، والمجاز والاشتراك كلاهما خلاف الأصل ولا يلجأ إلى حمل الكلام عليهما إلا عند عدم إمكان حمله على الحقيقة، وهنا يمكن أن يحمل على الحقيقة فنقول : الأمر لمجرد طلب الفعل من غير التفات إلى وقته، فيكون المكلف مطالبا بإيجاده في أي وقت، ويكون تحديد الوقت من دليل آخر.
والراجح ـ والله أعلم ـ أن الأمر المطلق يحمل على الفور.
وقول المخالف : إن الزمان كالمكان مردود؛ فإن الزمان الأول تتعلق به فوائد ربما لا تحصل في الزمان الثاني، فالمبادرة إلى الفعل يحصل بها براءة الذمة والخروج من العهدة، والتأخير ربما ترتب عليه تفويت الفعل؛ لما قلناه من أنه لا دليل على تحديد حد معين للتأخير، وما ذكروه من تحديد لا يصح.
وأما قولهم : إن الأمر يرد للفور حينا ولجواز التراخي حينا الخ. فيجاب بأن الخلاف في الخالي من القرينة الدالة على التوقيت، وقد أقمنا الدلالة على وجوب المبادرة إليه.
وقد اعترض الرازي على أدلة القائلين بالفور باعتراض كرره في كتابه وقال :إنه يرد على أكثر أدلتهم وهو أنها تنتقض بما لو قال الآمر : افعل في أي وقت شئت.
وقد تأملت هذا الاعتراض فوجدته ضعيفا؛ حيث لم يوجد في نصوص الشرع مثال له وإنما هو افتراض محض، ولكنه قد يقع من السيد لعبده، والسيد ليس مبرأ من التناقض ولا من الظلم والاعتداء، فقد يعاقب عبده من غير أن يستحق العقوبة، ثم إن حصول هذا الأمر من السيد لعبده لا يخلو عن قرينة تبين الحد الأقصى للتأخير، كما أن العبد متمكن من سؤال سيده عن ذلك، وهذا بخلاف ما نحن فيه من الكلام عن أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ثمرة الخلاف :
ينبني على هذا الخلاف خلاف في مسائل كثيرة، ومن الفقهاء من اطرد قوله فيها مع قوله في القاعدة، ومنهم من لم يطرد قوله لأدلة أخرى أو قرائن ظهرت له، ومن تلك المسائل :
1ـ إخراج الزكاة ودفعها إلى مستحقيها، هل يجوز التأخر فيها عن رأس السنة؟ من قال : إن الأمر على الفور قال يحرم التأخير عن رأس الحول، ومن قال: لا يفيد الفور لم يؤثم المؤخر إذا فعل ولو بعد حين.
2ـ الكفارات والنذور غير المؤقتة بوقت، هل يجوز تأخيرها عن أول أوقات الإمكان؟ من قال: بالفور، يقول : لا يجوز بل يأثم بالتأخير، ومن لم يقل به أجاز التأخير.
3ـ الحج مع الاستطاعة هل يجوز تأخيره؟ ومن الواضح أن كثيرا من الأصوليين تكلم في المسألة الأصولية وهو يراعي مذهب إمامه في الحج هل يجب على الفور؟ فقرر الراجح في المسألة بناء على ما عرفه من مذهب إمامه في الحج أهو على الفور أم لا؟.
والخلاف في ذلك مشهور في كتب الفقه لا نطيل بذكره هنا، وله أدلة خاصة فيها تصريح بالمبادرة إليه.
4ـ قضاء الفوائت هل يجوز تأخيرها؟
5ـ أداء النفقات التي لا تسقط بفوات وقتها كنفقة الزوجة هل يأثم بتأخيرها إذا أداها في وقت متأخر؟.
دلالة الأمر على التكرار
محل النزاع :
اختلف العلماء في الأمر المطلق هل يدل على تكرار الفعل المأمور به بحسب الإمكان؟ بمعنى أن المكلف مأمور بتكرار ما أمر به على وجه لا يستحيل عقلا ولا شرعا، فأما التكرار المؤدي إلى منعه من الاشتغال بما تقوم به حياته، أو إلى الجمع بين الضدين فهو ممنوع عقلا، وأما التكرار المؤدي إلى إسقاط أوامر الله الأخرى وترك امتثالها فهو ممتنع شرعا.
فهذان النوعان من التكرار غير داخلين في محل النزاع؛ إذ لا يقول أحد بوجوب تكرار الفعل المأمور به في جميع الأوقات؛ لأنه ممتنع عقلا وشرعا.
ومحل النزاع هو في التكرار الذي لا يؤدي إلى مستحيل عقلا أو شرعا، وفي الأمر الذي ليس مقيدا بمرة ولا بتكرار ولا معلقا على شرط ولا صفة، وفيه قولان مشهوران :
القول الأول : أن الأمر المطلق يقتضي التكرار بحسب الإمكان، وهو منسوب للإمام أحمد وأكثر أصحابه، وحكاه ابن القصار عن مالك، وحكاه الغزالي عن أبي حنيفة، والمشهور عند الحنفية خلافه، فقد نص عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار ( ) على أنه لا يقتضي التكرار.
وجه القول بالتكرار ما يلي :
1ـ أن الأمر بالإيمان والتقوى لا يكفي فيه مرة واحدة، ولو لم يكن الأمر للتكرار لكفى الإنسان أن يؤمن ساعة ويتقي الله ساعة، ولا خلاف في أنه لا يكفيه ذلك، وأنه لا بد من الاستمرار في ذلك.
2ـ أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وموجب النهي ترك المنهي عنه في جميع الأوقات، فينبغي أن يكون موجب الأمر فعل المأمور به في جميع الأوقات إلا ما دل العقل أو الشرع على استثنائه.
3ـ أن الأمر يقتضي وجوب الفعل ووجوب الاعتقاد والعزم، ثم إنه في جانب الاعتقاد والعزم يفيد الاستمرار والاستدامة فينبغي أن يكون كذلك في الفعل.
القول الثاني : أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار، وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين، ورواية عن أحمد اختارها أبو الخطاب وابن قدامة.
وجه هذا القول ما يلي :
1ـ أن صيغة الأمر لا تعرض فيها لعدد مرات الفعل، وإنما وجبت المرة الواحدة ضرورة دخول الفعل في الوجود؛ إذ لا يمكن وجوده إلا بفعله مرة واحدة.
2ـ قياس الأمر المطلق على اليمين والنذر والوكالة والخبر، فلو حلف أن يصوم أو نذر أن يصوم بر بصيام يوم واحد، ولو قال لوكيله : طلق زوجتي، لم يكن له أكثر من طلقة واحدة، ولو أخبر عن صيامه فقال : صمت، صدق بصيام يوم واحد.
3ـ قياس استيعاب الأزمنة على استيعاب الأمكنة، فكما لا يجب أن يفعل في كل مكان لا يجب أن يفعل في كل زمان.
4ـ أن القول بان الأمر يقتضي التكرار يؤدي حتما إلى تعارض الأوامر بحيث يبطل بعضها بعضا وهو ممنوع شرعا.
وهذا القول هو الراجح، ويجاب عن أدلة القول الأول بما يلي :
قولهم : لو لم يجب التكرار لكفى المرء أن يؤمن ساعة، الخ... يجاب بأن الإيمان يضاد الكفر، فإذا تخلى عن الإيمان لحظة وقع في الكفر، والكفر منهي عنه على الدوام، وأما إذا ذهل عن الإيمان ولم يقع في قلبه ضده فلا شيء عليه ويبقى حكم الإيمان مستصحبا، ولهذا فإن النائم يسمى مؤمنا، ولا يسوى بين الأمر بالإيمان والتقوى والأمر بالفعل.
دليلهم الثاني : قياس الأمر على النهي، وهو قياس في اللغة فلا يصح، ثم إن الأمر ضد النهي فكيف يقاس الشيء على ضده؟!.
دليلهم الثالث : التسوية بين الاعتقاد والعزم والفعل لا يصح؛ لأن الفعل يحول بينه وبين أفعال أخرى مأمور بها، أو يحتاج إليها بمقتضى العادة والطبيعة، وأما الاعتقاد فلا يصرفه عن فعل مأمور به ولا عن فعل يحتاجه بمقتضى العادة والطبيعة.
ومن وجه آخر فإن الأفعال القلبية كالاعتقاد والعزم، استمرارها يتحقق بعدم وجود ما يضادها، بخلاف أفعال الجوارح فلا تتحقق بانتفاء الضد، بل لا بد من جهد زائد على ذلك.
أثر الخلاف :
من الفروع التي بنوها على هذا الأصل ما يلي :
1 ـ لو قال لوكيله : طلق زوجتي، فهل يملك طلقة واحدة أو ثلاثا؟ من قال : إن الأمر يفيد التكرار، فقياس مذهبه أنه يملك ثلاثا، ومن قال : لا يفيد التكرار، فمقتضى قوله أن لا يملك إلا واحدة.
2 ـ الأمر بالعمرة، هل يفيد التكرار؟ وهذا الفرع وجدت فيه أدلة أخرى كالقياس على الحج، وقوله صلى الله عليه وسلم : «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
3 ـ تكرار غسل النجاسة مما لم يرد في تكراره نص.
4ـ تكرار الفاتحة إذا فرغ المأموم من قراءتها في الصلاة السرية ولم يركع الإمام.
الأمر المعلق على شرط هل يقتضي التكرار؟ :
اختلفوا في الأمر المعلق على شرط هل يفيد التكرار بتكرر الشرط؟ ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين » (متفق عليه).
فالأمر بصلاة الركعتين معلق على شرط دخول المسجد، فإذا خرج ثم دخل فهل يؤمر بتكرار الصلاة.
ومن قال : إن الأمر المطلق يقتضي التكرار فلا شك أنه يقول كذلك في الأمر المعلق على شرط من باب أولى.
وأما الذين قالوا إن الأمرالمطلق لا يقتضي التكرار فقد قال أكثرهم كذلك في الأمر المعلق على شرط.
واستدلوا بما ذكرته سابقا من أن الأمر ليس فيه تعرض لعدد مرات الفعل فلا يدل عل تكرار ولا غيره، وأن ثبوت الفعل مرة واحدة إنما هو لضرورة إدخاله في الوجود.
وقال بعضهم : إن الأمر المعلق على شرط يقتضي التكرار بخلاف الأمر المطلق.
واستدلوا بأن تعليق الأمر على الشرط كتعليقه على العلة، والتعليق على العلة يوجب التكرار.
والراجح ـ والله أعلم ـ أن الأمر المعلق على شرط يتكرر بتكرر الشرط؛ لما ذكرته سابقا من أن تعليق الفعل على شرط دليل على كون هذا الشرط علة للفعل، وإذا تكررت العلة تكرر الحكم المعلق عليها.
ولكن قد تتداخل الأحكام تخفيفا على المكلفين. وقد تقدم أن الشروط اللغوية أسباب، والأسباب يتكرر الحكم بتكررها ما لم تتداخل.
ومما ينبني على هذه القاعدة :
1ـ إذا سمع الأذان أكثر من مرة فهل يستحب له تكرار القول كما يقول المؤذن، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن » الحديث.
2ـ إذا كرر السلام، فهل يلزم تكرار رده، عملا بقوله تعالى : { } [النساء86].
3ـ إذا تكرر دخوله للمسجد فهل يكرر صلاة تحية المسجد، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ».
4ـ إذا تكرر ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فهل يكرر الصلاة عليه، عملا بالأحاديث الواردة في ذلك.
هذه المسائل اختلف الفقهاء فيها، فذهب بعضهم إلى وجوب التكرار إذا تكرر الشرط، وذهب بعضهم إلى عدم التكرار، إما لأجل أنه لا يرى أن الأمر المعلق على شرط يقتضي التكرار بتكرر الشرط، وإما لأنه يرى التداخل مع قرب الزمن، ولهذا قال بعضهم ـ في الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ـ تكرر إذا اختلف المجلس، وقال بعضهم : تكرر مع طول الفاصل.
سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته
هذه المسألة يعنون لها في كتب الأصول بعنوانين :
أحدهما : هذا العنوان الذي ذكرته، ولكنهم اعتادوا أن يكتبوه بصيغة الاستفهام.
والعنوان الثاني : أيثبت القضاء بالأمر الأول أم يحتاج لأمر جديد؟.
فالقائلون بسقوط القضاء بفوات الوقت هم القائلون إن القضاء لا يثبت إلا بأمر جديد، والقائلون بعدم سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته هم القائلون بأن القضاء يثبت بالأمر الأول ولا يحتاج إلى أمر جديد.
وينبغي أن نعلم أن القول : بسقوط الأمر المؤقت بفوات وقته ليس معناه سقوط الإثم بل معناه سقوط المطالبة بالقضاء، وأما الإثم فقد استحقه إن لم يعف الله عنه.
صورة المسألة : إذا أمر الله بفعل وحدد له وقتاً معيناً ثم لم يفعله المكلف في ذلك الوقت ولم يأت أمر آخر بقضائه فهل يبقى مأموراً بفعله بعد فوات وقته؟.
والخلاف يشمل ما فات وقته بعذر أو بغير عذر، ويشمل ما كان الأمر به أمر إيجاب أو أمر ندب عند الأكثر. وهناك من قصر المسألة على المأمور به أمر إيجاب.
ويخرج عن محل النزاع ما ورد فيه أمر آخر يدل على قضائه بعد فوات وقته كالأمر بقضاء الصلاة المفروضة على من أخرها لنوم أو نسيان الثابت بقوله صلى الله عليه وسلم: « من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ».
ومثال محل النزاع: الأمر بالصلاة، فإنه أمر مؤقت، فإذا تركها المسلم عمدا فهل يؤمر بقضائها بعد فوات الوقت؟.
الأقوال :
اختلف العلماء في المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول: أن الأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته بل يجب قضاؤه بالأمر الأول ولا يحتاج إلى أمر خاص بالقضاء. وهذا القول ذهب إليه أكثر الحنابلة ومنهم ابن قدامة وبعض الحنفية ومنهم السرخسي.
واستدل عليه بإدلة أهمها :
1ـ أن الأمر بالمركب أمر بكل جزء من أجزائه، والمؤقت بوقت مركب من شيئين هما، الفعل ذاته، والزمن المحدد له. فإذا فات أحد الجزأين فيبقى الآخر مأمورا به، فيجب قضاؤه إن كان واجباً من غير بحث عن دليل جديد يدل على القضاء.
2ـ أن الواجب إذا شغلت به ذمة المكلف فلا تبرأ إلا بأداء أو إبراء، وانتهاء الوقت المحدد ليس بأداء ولا إبراء، فتبقى الذمة مشغولة به.
3ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « فدين الله أحق بالقضاء »، ووجه الدلالة من الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى الواجبات الشرعية ديناً، وشبهها بديون الآدميين فقال في صدر الحديث : « أرأيت لو كان على أبيك دين؟» ولا خلاف في أن دين الآدمي لا يسقط بفوات وقته، فكذلك دين الله، وهو شرائعه الواجبة.
ولا يخفى أن الدليلين الثاني والثالث لا يشملان المأمور به أمر ندب.
القول الثاني : أن الأمر المؤقت يسقط بفوات وقته، ولا يقضى إلا إذا قام دليل خاص على مشروعية قضائه. وهذا القول هو نفسه قول من قال : القضاء لا يثبت إلا بأمر جديد وهذا هو قول أكثر الأصوليين.
ويستدل له بما يلي :
1ـ أن تحديد الوقت المعين للعبادة دليل على أن هذا الوقت فيه مصلحة أوجبت تخصيصه دون سواه من الأوقات، فإذا فات الوقت فاتت المصلحة، فلم يعد لإيجاب القضاء فائدة.
2ـ أن الواجبات الشرعية منها ما يجب قضاؤه ومنها ما لا يجب قضاؤه باتفاق، فالصلوات الخمس يجب قضاؤها على النائم والناسي، والجمعة والجهاد لا يجب قضاؤهما، ولو كان القضاء يثبت بالأمر الأول ولا يحتاج لأمر جديد لاستوت الواجبات في ذلك.
3ـ أن الأمر بالفعل لا تعرض فيه للقضاء، فإيجاب القضاء لا دليل عليه.
4ـ قياس الزمان على المكان، فالفعل المخصص بمكان إذا لم يفعل فيه لا يؤمر الإنسان بفعله في مكان آخر.
وقد حاول أبو زيد الدبوسي أن يجمع بين القولين، فقال : إن القضاء واجب على كل حال في جميع الأفعال المأمور بها إذا فات وقتها، ولكن لا يجب بالأمر الأول بل بالقياس علىديون الآدميين وعلى ما اتفق العلماء على قضائه كالصلوات المفروضة بالنسبة للنائم والناسي.
وهذا في الواقع اختيار للقول الثاني من القولين، ولكنه زعم أن الأمر الجديد قد وجد فلا حاجة للبحث عن دليل خاص لكل فعل، بل يكتفى بدليل يصلح لكل الواجبات، فهو من حيث التقعيد موافق لأصحاب القول الثاني ولكنه في الفروع قد يختلف معهم وقد يتفق.
والراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الأول وهو وجوب القضاء بالأمر الأول وعدم الحاجة لأمر جديد والأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته.
وقول أصحاب القول الثاني : إن التخصيص بوقت محدد لابد أن يكون لمصلحة.
يجاب عنه بالتسليم ولكن نقول الفعل المؤقت فيه مصلحتان، إحداهما في الفعل نفسه والأخرى في التوقيت فإذا فاتت مصلحة التوقيت، فلا ينبغي أن نفوت مصلحة الفعل نفسه مع التمكن من استدراكه، ولا شك أن مصلحة الفعل هي العظمى.
وقولهم : إن الواجبات الشرعية المؤقتة بعضها يجب قضاؤه وبعضها لا يجب قضاؤه.
يجاب بأن ما لا يقضى من الواجبات امتنع قضاؤه لعدم التمكن منه كالجمعة، أو لأن المصلحة من الفعل لا تحصل إلا بالاجتماع عليه كالجهاد. أو يقال : إن ما لا يقضى قد قام الدليل على عدم قضائه وهو الإجماع من العصر الأول.
وقولهم : إن الأمر لا تعرض فيه للقضاء.
يجاب بأننا لا نزعم أن الأمر يدل على وجوب القضاء بالوضع اللغوي، وإنما وجب القضاء بالعرف الشرعي.
وقولهم: «إن الزمان كالمكان» لا يصح؛ لأن الأزمنة متصل بعضها ببعض، فما وجب في الأول ينسحب إلى الثاني بخلاف الأمكنة فإنها منفصلة، ولأن الأزمنة تذهب وتتلاشى فلا يبقى الزمان الأول مع الثاني بخلاف الأمكنة فهي باقية.
ثم إن الواجبات المقيدة بمكان لا تخرج عن أعمال الحج والعمرة من الإحرام والطواف والوقوف بعرفة ونحو ذلك وهي أعمال تعبدية غير معروفة العلة في الغالب.
سبب الخلاف :
الخلاف يرجع إلى قاعدتين :
الأولى : أن الأمر بالمركب أمر بكل واحد من أجزائه.
الثانية : أن تخصيص الفعل بوقت معين لا يكون إلا لمصلحة في ذلك الوقت.
فمن راعى القاعدة الأولى أوجب القضاء بالأمر الأول، ولم يقل بسقوط الأمر المؤقت بفوات وقته. ومن راعى القاعدة الثانية لم يوجب القضاء إلا بأمر جديد وقال بسقوط الأمر المؤقت بفوات وقته.
وما رجحته يمكن أن يتفق مع القاعدتين لكن مع عدم إهمال المصلحة المقصودة من ذات الفعل، فقولهم إن تخصيص الفعل بوقت لا يكون إلا لمصلحة لا ينافي أن يكون في الفعل المؤقت مصلحتان إحداهما في الفعل نفسه والأخرى في التوقيت.
ثمرة الخلاف :
ينبني على الخلاف في هذه القاعدة خلاف في مسائل فقهية كثيرة منها:
1- قضاء الصلوات المتروكة عمدا تهاونا لا جحدا للوجوب : اختلف العلماء في وجوب قضاء الصلاة على من تركها تهاوناً فذهب بعضهم إلى وجوب قضائها وبعضهم إلى عدم وجوبه.
فالقائلون بوجوب القضاء أكثرهم فرعوه على عدم سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته، وعدم حاجة القضاء إلى أمر جديد وبعضهم قال : إن الدليل على وجوب قضاء الصلاة الفائتة القياس على النائم و الناسي وقد ورد النص بوجوب القضاء عليهما في قوله صلى الله عليه وسلم : « من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها » (رواه النسائي والترمذي وصححه، ومعناه في صحيح مسلم).
ومنهم من أسقط القضاء إذا طالت المدة التي ترك الصلاة فيها، حتى لا يحولوا بينه وبين التوبة.
والقائلون بعدم وجوب القضاء على من ترك الصلاة عمدا فرعوه على القول بسقوط الأمر المؤقت بفوات وقته، وحاجة القضاء لأمر جديد، ولا يوجد أمر بقضاء الصلاة المتروكة عمداً، ولم يروا صحة قياس المتعمد على الناسي والنائم.
وقولهم بعدم وجوب القضاء ليس تيسيرا على التارك وإنما هو تشديد في العقوبة؛ إذ معناه استقرار الإثم عليه وعدم قبول القضاء منه.
2- زكاة الفطر : وهي صدقة مؤقتة بوقت محدد، فإذا فات الوقت فهل يجب أن يؤديها بعده؟ اختلفوا في ذلك ويمكن تخريج اختلافهم على القاعدة فمن قال : إن الأمر يسقط بفوات وقته قال : لا تقضى بعد فوات الوقت.
ومن قال : إن الأمر لا يسقط بفوات وقته قال : يجب عليه أداؤها ولو فات وقتها.
وهذا التخريج كله بناء على أن زكاة الفطر من الواجبات المؤقتة.
3- فرع بعض العلماء على هذه القاعدة أن من وكل غيره في دفع زكاة الفطر ثم لم يدفعها في وقتها فهل له أن يدفعها بعده؟ وهذا التفريع من باب بناء النظير على النظير؛ لأن التوكيل ليس أمرا حتى نقول إنه يسقط بفوات الوقت أولا؟
4- فرع بعض العلماء على القاعدة قضاء السنن الرواتب إذا فات وقتها، مع أن بعض تلك السنن قد ورد فيه دليل يخصه، فلا يمكن تفريعه، وما لم يرد فيه نص فمنهم من فرعه على القاعدة، ومنهم من قاسه على ما ورد في قضائه نص.
5- التسبيح المؤقت بما بعد الفراغ من الفريضة هل يمكن أن يؤدى بعد أداء النافلة؟
الذي يظهر لي أن هذه المسألة ينبغي أن تفرع على القاعدة ومن العلماء من فرق بين الواجبات والمندوبات فجعل القاعدة خاصة بالواجبات دون المندوبات وقد يفهم هذا التخصيص من قول بعض العلماء « سنة فات محلها فلا تقضى » ويعنون بالمحل الوقت أو الترتيب، وقد ذكر علماء الحنابلة هذه القاعدة في الرمل في طواف القدوم.
والظاهر أن الرمل لم يستحب قضاؤه؛ لأنه غير ممكن فهو مشروع في الأشواط الثلاثة الأولى، ولا يمكن أن ننقل المشروعية إلى الثلاثة الأخيرة، فالقضاء ممتنع، لأن الرمل صفة في فعل وقد انتهى الفعل فلا يمكن نقل الصفة إلى فعل آخر فتأمل هذا وستجده صحيحاً إن شاء الله.
اقتضاء الأمر الإ جزاء بفعل المأمور به
هذه المسألة من المسائل التي لم تحرر في كتب أصول الفقه تحريراً يكشف الغطاء عن حقيقتها، وأرجو أن أوفق إلى ذلك فأقول :
عنون الغزالي وابن قدامة للمسألة بقولهما : « الأمر هل يقتضي الإجزاء بفعل المأمور به؟» وعنون أبو الخطاب والرازي والآمدي بقولهم: « إتيان المأمور به هل يقتضي الإجزاء؟» فجعلوا المقتضي للإجزاء هو إتيان المأمور به، وبين العنوانين فرق لا يخفى على اللبيب.
وقبل الكلام في حكاية الخلاف نقول : ما المراد بالإجزاء؟
والجواب : أن الإجزاء يطلق على معنيين :
1ـ موافقة أمر الشارع وامتثاله.
2ـ سقوط القضاء.
وقد ذهب بعض المعتزلة إلى المعنى الأول، وأكثر الفقهاء إلى الثاني كما تقدم في باب الحكم الوضعي.
وفعل المأمور به على الوجه المطلوب من الشارع لا خلاف في أنه يقتضي الإجزاء بالمعنى الأول وهو موافقة أمر الشارع وامتثاله، وإنما الخلاف في أنه هل يقتضي الإجزاء بمعناه الثاني الذي هو سقوط القضاء.
وقد ذكرت كتب الأصول خلافاً في المسألة على قولين :
القول الأول : أن فعل المأمور به يقتضي الإجزاء بمعنى سقوط القضاء، فإذا فعل المكلف الفعل المأمور به لا يمكن أن يؤمر بقضائه.
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1ـ أن المكلف قد أتى بما طلب منه، فوجب أن يخرج عن العهدة بذلك الفعل، وسقوط القضاء يعني الخروج عن العهدة.
2ـ لو كان فعل المأمور به على الصفة المطلوبة لا يسقط القضاء للزم أن يكون الأمر يوجب فعل المأمور به مرة بعد مرة. وهذا قد أبطلناه في مسألة اقتضاء الأمر التكرار.
3ـ ما ورد في الحديث أن امرأة سنان بن مسلمة الجهني أمرت أن يُسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزئ أن تحج عنها؟ فقال : « نعم » (أخرجه النسائي وابن ماجه).
ووجه الدلالة : أن المرأة فهمت الإجزاء من فعل المأمور به وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وقد ورد حديث آخر أصح ليس فيه لفظ (يجزئ) ولكن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الواجبات بالدين وقال : « فدين الله أحق بالوفاء »، والدين إذا وفّى به المدين أجزأة وبرئت ذمته باتفاق، فدين الله كذلك.
القول الثاني : أن فعل المأمور به لا يقتضي الإجزاء بمعنى سقوط القضاء واستدلوا على ذلك بما يلي :
1ـ أن من أفسد حجه يؤمر بالمضي فيه وإتمامه، ويجب عليه القضاء، ولو كان فعل المأمور به يسقط القضاء لما وجب القضاء على من أفسد حجه.
2ـ من صلى يظن أنه متطهر، ثم تبين له أنه صلى بلا طهارة، فإنه يجب عليه القضاء باتفاق، ولو كان فعل المأمور به يوجب سقوط القضاء لسقط القضاء عنه.
3ـ أن القضاء يجب بأمر جديد ولا يمتنع أن يأتي أمر آخر بوجوب القضاء مع فعل المأمور به.
4ـ أن الأمر يقتضي وجوب الفعل، وأما سقوط القضاء فهو شيء آخر لم يتعرض له الأمر، ولم يدل عليه.
والراجح : أن إتيان المكلف بالمأمور به على الوجه المطلوب يقتضي الإجزاء أي : سقوط القضاء ولا نقول : إن الأمر يقتضي الإجزاء، لأن الذي اقتضى ذلك العقل والشرع وليس المعنى الوضعي للأمر
والجواب عن أدلة المخالف على النحو التالي :
قولهم : من أفسد حجه وجب عليه المضي فيه والقضاء، يجاب بجوابين :
الأول : أن من أفسد حجه لم يأت بالمأمور به على الوجه المطلوب، وإنما أتى به مع شيء من الخلل، ولهذا وجب عليه القضاء
الثاني : أن المفسد لحجه توجه إليه أمران : أحدهما : الأمر بالحج : { } [آل عمران97]. والثاني : الأمر بالإتمام المفهوم من قوله تعالى : { } [البقرة196]. ومن قول عمر، وإجماع الصحابة على ذلك.
فالمضي في الحج الفاسد هو امتثال للأمر الثاني، وإذا أتمه اقتضى ذلك الإجزاء وأما الأمر الأول فلم يأت به على الوجه المطلوب، ولذا وجب قضاؤه.
وأما استدلالهم بوجوب القضاء على من صلى يظن أنه متطهر، فيجاب عنه بجوابين:
1ـ المنع من وجوب القضاء. وذكره الآمدي وجها للشافعية.
2ـ أن القضاء وجب لتدارك المصلحة الفائتة، فالمصلي فاته الإتيان بصلاة مستكملة الشروط، وأمكنه استدراكها بالقضاء، فأوجبناه عليه.
وأما الدليل الثالث فقد تقدم الجواب عنه في مسألة سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته وبينا هناك أن القضاء لا يحتاج لأمر جديد وإنما يثبت بالأمر الأول.
ولا نمنع أن يؤمر بمثل الفعل الأول ولكن لا نسميه قضاء.
وأما الدليل الرابع فإنما يرد على من ظن أن الأمر يدل على الإجزاء بطريق الوضع، وهذا لا يقوله عالم، وإن فهم من ظاهر كلام بعض العلماء أنه يريد ذلك فلابد من تأويله وحمله على محمل صحيح؛ إحسانا للظن في العلماء.
وأما من قال : إن إتيان المامور به على الوجه المطلوب يسقط القضاء ويقتضي الإجزاء فلا يرد عليه هذا الدليل.
ثمرة الخلاف :
قال الآمدي : إن الخلاف بين الفريقين لفظي، وإن بعض من تكلم في المسألة لم يعرف موطن النزاع، فأطال الكلام وشعَّبه.
ووجه هذا القول أن الجمهور القائلين بسقوط القضاء بفعل المأمور به، لا يمنعون أن يرد أمر جديد للمكلف بفعل مثل ما أمر به أولاً، ولكنهم لا يسمونه قضاء إلا حيث يكون فيه استدراك لمصلحة فاتت في الفعل الأول، كالمثالين المذكورين في استدلال الخصم.
والمعتزلة يقولون : فعل المأمور به لا يسقط القضاء الواجب بأمر جديد غير الأمر الأول، والأمر الأول لا يوجب عليه الفعل مرة ثانية.
قلت : والجزم بلفظيه الخلاف فيها نظر، لأن في كتب الفروع مسائل يمكن أن تخرَّج عليه، ولكن لما كان المشتغل بالتخريج ليس من أهل الاجتهاد، والقاعدة لم يتضح فيها رأي الأئمة المجتهدين اضطر فقهاء الفروع إلى تخريج تلك المسائل على قواعد أخرى كقاعدة اليقين لا يزول بالشك ونحوها.
ومن تلك المسائل التي يمكن تخريجها على القاعدة :
1ـ فاقد الطهورين : قال بعض الفقهاء يصلي على حاله ثم يقضي إذا وجد الماء أو التراب. ومقتضى قول الجمهور في القاعدة أنه لا قضاء عليه؛ لأنه لا يطلب منه ما لا يطيق، فإذا أتى به فكيف يؤمر بالقضاء؟ وقال بعض الفقهاء : يلزم القضاء. وهو يتخرج على مذهب المعتزلة في القاعدة.
2ـ الجنب إذا لم يجد الماء يتيمم. وهل يجب عليه أن يغتسل إذا وجده؟ قال أكثرهم : نعم، ومقتضى قاعدة الجمهور أن لا يؤمر بذلك أمر إيجاب إلا بدليل خاص.
3ـ من ضل فلا يعرف جهة القبلة يصلي إلى أي جهة. وهل يلزمه القضاء إذا عرف جهة القبلة؟
اختلف العلماء في ذلك؛ فقال بعضهم : يلزمه القضاء. وهو يتخرج على قاعدة المعتزلة، لا على قاعدة الجمهور إذ لا يوجد دليل جديد على وجوب القضاء.
4ـ المحبوس في محل نجس : يصلي فيه. واختلفوا في وجوب الإعادة عليه أو القضاء، والقول بوجوب الإعادة أو القضاء يتخرج على مذهب المعتزلة في القاعدة.
والخلاف في هذه القاعدة له صلة بالخلاف في تعريف الصحيح بين الفقهاء والمتكلمين، فالفقهاء يعرفونه بأنه : ما أسقط القضاء، والمتكلمون يعرفونه بأنه ما وافق أمر الشارع في اعتقاد المكلف.
وهذا الكلام قد مر معنا في الحكم الوضعي، ويظهر من الخلاف في هذه القاعدة أن الخلاف في تعريف الصحيح مبني عليها؛ فمن قال : إن فعل المأمور به لا يقتضي سقوط القضاء، يقول: إذا وافق الفعل أمر الشارع في ظن المكلف ينبغي أن نسميه صحيحاً ولا نرتب عليه سقوط القضاء، إذ يمكن أن يأتي بالفعل ويطلب منه قضاؤه، وإذا وصفنا فعله السابق بالصحة امتنع تعريف الصحيح بما ذكره الفقهاء من قولهم : الصحيح : ما أسقط القضاء، ويتعين أن نعرفه بأنه ما وافق أمر الشارع في ظن المكلف، ولهذا فهم يقولون : صلاة من ظن أنه متطهر إذا تبين أنه على غير طهارة صحيحة ويلزمه القضاء.
وأما من قال : إن فعل المأمور به يقتضي سقوط القضاء، فيلتزم بأن صلاة من ظن أنه متطهر تبين أنها فاسدة وليست صحيحة.
ويشكل على هذا أنه يلزمهم أن لا يقولوا : إن المصلى يثاب على تلك الصلاة؛ لأن الفاسد لا ثواب عليه، والجزم بعدم الثواب على تلك الصلاة غير صحيح، ولكن يمكنهم أن يقولوا يثاب على قصده وعلى قراءته للقرآن وعلى غيره من الذكر الوارد في الصلاة.
وقد نقل الآمدي وجها عن الشافعية أن لا قضاء عليه، ومن قال بهذا الوجه اطردت له القاعدة ولم يرد عليه اعتراض المتكلمين، والله أعلم.
الأمر بالأمر بالشيء
المراد بالمسألة : أن الأمر إذا كان مضمونه أمراً لشخص ثالث مثلا فهل يعد الشخص الثالث مامورا من قبل الآمر الأول؟
وبعبارة أخرى إذا أمر المكلف بأن يأمر غيره بشيء فهل يكون ذلك أمراً من الشارع لذلك الغير بفعل الشيء المذكور في الأمر؟
مثاله : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها لعشر » (أخرجه أبو داود وصححه الحاكم) فهل يقال إن الصبيان مأمورون بالصلاة من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم؟
تحرير محل النزاع :
أخرج بعضهم عن محل النزاع إذا قال الآمر الأول : قل لفلان إني آمرك بكذا أو قل له أن يفعل كذا لأن المأمور بالأمر حينئذ يكون مبلِّغا فحسب.
وأخرج بعضهم عن محل النزاع أمر الله رسوله أن يأمر الناس فإنه يعد أمراً من الله للناس.
ووضع بعضهم للصورة الخارجة عن محل النزاع ضابطا، فقال: إذا كان الآمر الأول تجب طاعته على المأمور الأول والثاني فيكون الأمر بالأمر بالشيء أمرا بذلك الشيء في حق المأمور.
والصحيح عدم خروج هذه الصورة عن محل النزاع، إذ لو خرجت لم يبق للنزاع فائدة، فإن بحث الأصوليين إنما هو في أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وطاعتهما واجبة على الكل.
وبهذا نستطيع أن نقول : ظاهر كلام الأصوليين أن النزاع في كل أمر تعلق بأمر الغير بشيء هل يعد أمراً لذلك الغير من الآمر الأول؟ ولكن خروج الصورة الأولى ـ التي يكون فيها المأمور الأول مبلغا ـ له وجه؛ لتصريح الآمر الأول بأنه يأمر المأمور الثاني (قل لفلان إني آمره بكذا).
الأقوال في المسألة :
القول الأول : أن الأمر بالشيء ليس أمراً بذلك الشيء في حق الطرف الثالث.
وهذا القول هو مذهب جمهور الأصوليين ولا يكاد يوجد في كتب الأصول المشهورة من يختار خلافه.
واستدلوا له بما يلي :
1ـ قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « مروا أبناءكم بالصلاة لسبع » الحديث (أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الحاكم).
ووجه الدلالة من الحديث لا تتضح إلا بضم الإجماع إلى هذا الدليل، فيقال في تقريره : لو كان الأمر بالأمر أمراً لكان قول الرسول صلى الله عليه وسلم « مروا ابناءكم بالصلاة لسبع » أمرا من الرسول صلى الله عليه وسلم للصبيان، وإلإجماع قائم على أن الصبيان غير مأمورين بالصلاة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم المذكور.
ويمكن أن يقرر الاستدلال بالحديث بضم حديث آخر إليه فيقال : لو كان الأمر بالأمر أمرا لكان قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « مروا أبناءكم بالصلاة لسبع » أمرا للصبيان وتكليفا لهم، ولكن الصبيان غير مكلفين بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة » وذكر منهم : « الصبي حتى يحتلم » (رواه أحمد وأصحاب السنن).
2 ـ لو كان الأمر بالأمر أمرا، لكان الرجل إذا قال لمالك العبد : مُرْ عبدك أن يفعل كذا، متعديا على حق المخاطب بأمر عبده دون إذنه، وليس كذلك عند أهل اللغة فعرفنا أن الأمر بالأمر ليس أمراً.
3 ـ أنه يجوز أن يأمر أحد عبيده بأن يأمر عبده الآخر بشيء ثم يقول للأخر لا تطعه ولا يعد ذلك تناقضا، ولو كان الأمر بالأمر أمرا لكان تناقضا من السيد( ).
القول الثاني : أن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء.
وهذا القول نسب لبعض الشافعية وقيل إنه اختيار العبدري وابن الحاج في شرحيهما للمستصفى ( ).
واستدل لهذا القول بأدلة أهمها :
ما ورد أن ابن عمر طلق زوجته وهي حائض فأخبر عمر ـ ـ الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال : « مره فليراجعها ». الحديث، وروي بلفظ : « أن ابن عمر طلق زوجته وهي حائض فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها » والقصة واحدة ( ).
وجه الدلالة : أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر أن يأمر ابنه بالمراجعة عد أمراً لابن عمر بالمراجعة؛ لذا روي الحديث بلفظ : أمر رسول الله ابن عمر أن يراجع زوجته. لأن القصة واحدة، ولولا أن الأمر بالأمر أمر لما عد ذلك أمرا لابن عمر من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما صحت رواية من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بالمراجعة.
والراجح هو القول الأول، مع استثناء ما لو قال الأول : قل لفلان : إني آمره بكذا. لما تقدم في تحرير محل النزاع.
ودليل المخالف يجاب عنه بأجوبة وهي :
1ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر عمر بأن يأمر ابنه، ثم لما لقيه ابن عمر أمره بالمراجعة، فصحت رواية كل من اللفظين.
2ـ أن هذا استدلال بمحل النزاع فلا يصح؛ لأنا نقول : لا يجب على ابن عمر أن يراجع زوجته بمقتضى هذا النص.
3ـ أن عمر جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مستفتياً فأفتاه وأمره بنقل الفتوى إلى ابنه.
وأقواها الوجه الأول.
ثمرة الخلاف :
خرّج بعض العلماء على هذه القاعدة مسائل فرعية منها :
1- مراجعة الزوجة المطلقة في أثناء الحيض. ذهب بعض العلماء إلى وجوب مراجعتها، إما بناء على أن الأمر بالأمر أمر، وإما بناء على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر مباشرة أو أفتى فنقل عمر الفتوى لابنه وذهب بعض العلماء إلى أن مراجعة المطلقة في الحيض لا تجب بناء على أن الأمر بالأمر ليس أمرا، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم باشر ابن عمر بالأمر.
2- قوله صلى الله عليه وسلم ـ في شأن أبي إسرائيل ـ : « مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه » (أخرجه أبو داود وابن ماجه، ومعناه في البخاري). فهل يعد ذلك أمر إيجاب موجهاً لأبي إسرائيل أن يترك الوفاء ببعض ما نذر لعدم مشروعيته؟.
3 ـ قوله صلى الله عليه وسلم ـ حين مرض ـ : « مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس » (أخرجه البخاري). هل يعدُّ أمراً لأبي بكر؟.
دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده
الضدان : هما اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان، كالوجوب والتحريم.
والنقيضان : اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، كالوجود والعدم.
والخلافان : اللذان قد يجتمعان وقد يرتفعان، كالطول والحمرة.
ويعلم من ذلك أن التلبس بفعل معين يمنع من التلبس بضده أو نقيضه في الوقت نفسه، ولا يمنع من التلبس بهما في وقت آخر، وأما الخلاف فلا يمنع التلبس به التلبس بخلافه.
إذا تقرر هذا فإن بعض الأصوليين قد تجوز في إطلاق الضد في هذه المسألة فأطلقه على المخالف.
تحرير محل النزاع : اختلف العلماء في الأمر بشيء هل يعد نهيا عن فعل ضده أو أضداده من حيث المعنى؟
أما من حيث الصياغة واللفظ فلا يختلفون في أن الأمر بالشيء ليس عين النهي عن الضد.
الأقوال :
القول الأول : ذهب جمهور العلماء إلى أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده أو أضداده إن كان له أضداد كثيرة.
ونقل عن بعض الأشعرية قولهم إن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده. وهذا مبني على أن الكلام اسم للمعنى القائم بالنفس، لا للفظ المسموع. وهو باطل كما عرف في موضعه.
الأدلة :
استدل الجمهور بما يلي :
1- أنه لا يمكن الإتيان بالمأمور به إلا بترك ضده، وما لا يتم فعل الواجب إلا بتركه فهو حرام والحرام منهي عنه.
2- لو لم يكن الأمر بالشيء نهيا عن ضده لكان تارك الأمر يعاقب على ما لم يفعله. وهذا الدليل ذكره الجصاص والمراد به : أن العقوبة لا تكون إلا على فعل من المكلف، فإذا قلنا : الأمر بالشيء نهي عن ضده من حيث المعنى صح أن نقول إن عقوبة تارك الواجب هي على تلبسه بضده فتكون العقوبة على فعل.
وإن قلنا إن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، فإذا ترك الواجب لا يعد فاعلا لضده فعقوبته تكون على ما لم يفعله، وعدالة الخالق تقتضي أن لا يعاقب الإنسان على ما لم يفعل.
وقد يجاب عن هذا بأن الترك فعل فيعاقب على فعله.
3- أن الأمر يقتضي الفورية، ومن ضرورة اقتضائه الفورية أن يقتضي النهي عن التلبس بضده؛ لأن التلبس بالضد يحول دون المبادرة بالفعل المأمور به.
القول الثاني : أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده ولا يقتضيه، وهو قول بعض المعتزلة واختاره الجويني والغزالي.
الأدلة :
1ـ أن الضد مسكوت عنه فلم يرد له ذكر في الأمر، فلا يدل عليه.
2ـ أن الآمر قد يأمر بالشيء وهو غافل عن ضده، فكيف يكون ناهيا عما لم يخطر على باله؟.
القول الثالث: أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده وهو اختيار السرخسي والبزدوي من الحنفية.
دليله : أن الأمر من حيث الدلالة اللفظية لا دلالة فيه على النهي عن الضد، ولكنه يدل على النهي بطريق الاقتضاء، ودلالة الاقتضاء أضعف من دلالة النص، فيكون الثابت بها أضعف من الثابت بدلالة النهي المنصوص عليه بصيغته، فيثبت بدلالة الاقتضاء الكراهة.
الترجيح :
الراجح ـ والله أعلم ـ هو أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، أو يستلزم النهي عن ضده إذا كان المأمور معينا وقد ضاق الوقت عن غيره.
ولا يقال هو عين النهي عن ضده كما قال بعض الأشعرية؛ لأنه من حيث الصيغة لا يمكن القول باتحادهما، وكذا من حيث المعنى الموضوع له اللفظ أصلا.
ولا يقال إنه يقتضي النهي عن ضده مطلقا، بل إذا كان المأمور معينا وضاق الوقت عن الفعل وما يضاده، اقتضى النهي عن الضد، وإلا فلا.
والدليل على رجحان هذا التفصيل : أن أدلة القول الأول لا تدل على أن الأمر المخير والموسع دالان على النهي عن الضد، فقولهم : لا يمكن الإتيان بالمأمور به إلا بترك ضده لا يصح إلا إذا حملناه على الأمر المعين الواجب فعله على الفور.
أما الواجب المخير كخصال الكفارة فيصح فعله مع غيره، وكذا الواجب الموسع لا يحرم على المكلف التلبس بضده قبل فعله إلا حين يضيق الوقت فلا يتسع إلا له وحده.
وأما دليلهم الثاني فيجاب عنه بان الترك فعل فيكون عقاب مرتكب النهي على فعله.
ومما يدل على أن الترك فعل، قوله تعالى : { } [المائدة79].
وأما الثالث فهو يؤيد ما ذكرته، وهو أن الأمر بالشيء على الفور هو الذي يقتضي النهي عن الضد، والفورية لا تتحقق في الواجب الموسع قبل ضيق الوقت.
وأما أدلة المانعين مطلقا فيجاب عنها بما يلي :
قولهم : الضد مسكوت عنه. يجاب بأن دلالة الأمر على النهي عن الضد هي دلالة اقتضاء، وليست دلالة وضع، والمقتضى مسكوت عنه، ولكن دل عليه دليل من العقل أو الشرع أو العرف.
وقولهم : إن الآمر قد يكون غافلا عن الضد. يجاب بأن هذا قد يقال في حق الآمر من البشر، ولا يقال إذا كان الآمر هو الله، وأما إذا كان الآمر من البشر فيجاب بأن الأمر عندنا ليس من شرطه إرادة الآمر. فدلالته تحصل وتفهم سواء أرادها الآمر من البشر أم لا.
وأما قول السرخسي والبزدوي : إنه يدل على كراهة الضد؛ فإن كان المقصود بالكراهة كراهة التحريم فمسلم؛ لأننا لا نقول إنه يدل على التحريم قطعاً. وإن كان مرادهم الكراهة التنزيهية فممنوع.
وقولهم : إن دلالة الاقتضاء أضعف من دلالة النص، لا يدل على أن مدلولها لا يصل إلى درجة التحريم، فإن التحريم درجات من حيث طريق ثبوته.
ثمرة الخلاف :
ذكر الأصوليون بعض الفروع التي تنبني على هذه القاعدة، ومنها :
1ـ إذا قال الزوج : إن خالفت نهيي فأنت طالق، ثم أمرها بشيء ففعلت ضده فهل تطلق؟ على القول بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده تطلق، وعلى القول الثاني لا تطلق، وعلى المختار تطلق إلا إذا كان الأمر مخيراً أو موسعاً.
2 ـ المأمور بالقيام في الصلاة، إذا جلس ثم قام، فهل يحرم عليه ذلك؟ على القول الأول نعم وعلى القول الثاني لا يحرم عليه ذلك وعلى قول السرخسي والبزدوي يكره ذلك. ولا بد أن يستثنى من هذا جلسة الاستراحة عند من يرى استحبابها، فإنها عنده مندوب إليها.
3 ـ المصلي مأمور بالسجود على محل طاهر، فإن سجد على محل نجس ثم على طاهر فهل تبطل صلاته؟
قال السرخسي إن المسألة مبنية على أن الأمر بالشيء هل يقتضي نهياً عن ضده. فمن قال يقتضي النهي عن ضده أبطلها ومن لا فلا.
4ـ المصلي مأمور بالإنصات لقراءة الإمام لقوله تعالى : { } [الأعراف204]، والآية نازلة في الإنصات لقراءة الإمام. فلو قرأ المأموم في أثناء قراءة الإمام فهل يأثم؟ من قال : إن الأمر بالشيء نهى عن ضده يؤثمه، ومن لا فلا.
وإذا ترجح عنده تخصيص عموم الآية بحديث : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب »، فلا يمكن الجزم بتأثيمه، وإن قلنا : إن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد، وإنما يؤثمه من يقول الآية نزلت في قراءة الإمام في الصلاة وصورة السبب لا يمكن خروجها بالتخصيص. وقد نقل عن الإمام أحمد قوله إن الآيه في قراءة الإمام في الصلاة ونقل الاتفاق على ذلك.
سبب الخلاف :
الخلاف في قاعدة الأمر بالشيء هل يقضي النهي عن ضده يرجع إلى ثلاثة أسباب:
1ـ قولهم : لا تكليف إلا بفعل. فإذا سلموا هذه القاعدة وقالوا الترك ليس فعلا، فلا بد أن يقولوا الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد، حتى تكون العقوبة على فعل الضد لا على مجرد الترك.
2ـ اشتراط الإرادة في الأمر والنهي وعدم اشتراطها، فمن اشترطها لم يقل إن الأمر بالشيء نهي عن ضده؛ لاحتمال غفلة الآمر عن الضد، ومن لم يشترطها قال : الأمر بالشيء نهي عن ضده، أو يستلزم النهي عن ضده.
3ـ اقتضاء الأمر الفورية أو عدمه، فالقول بأن الأمر المطلق يقتضي الفورية، يناسبه أن يقول : الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، بخلاف القول بعدم الفورية، فإنه يناسب القول بأن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن الضد.
الأمر بعد الحظر
اشتهر عند الفقهاء قولهم : الأمر بعد الحظر للإباحة، والأصوليون اختلفوا في ذلك.
وصورة المسألة : أن يرد حظر من الشارع لفعل ما، سواء فهم هذا الحظر من نهي صريح، أم من غيره، ثم يرد أمر بذلك الفعل.
مثال الأمر بعد الحظر الصريح : قوله : « كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فكلوا منها وادخروا» (أخرجه أحمد والترمذي ومعناه في الصحيحين) فالنهي عن الادخار جاء الخبر عنه صريحاً ثم أعقبه أمر بالادخار.
ومثال النهي غير الصريح : ما جاء في حديث الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، إني اكتتبت في غزاة كذا وكذا، وإن امرأتي ذهبت للحج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « انطلق وحج مع امرأتك » (أخرجه البخاري ومسلم).
ففي هذا الحديث لم يرد نهي عن ذهاب ذلك الرجل مع امرأته، ولكنه فهم من اكتتاب اسمه في إحدى الغزوات فيكون منهياً عن التخلف عن الغزوة، ثم جاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالانطلاق مع امرأته للحج.
وقد مثل ابن اللحام بهذا المثال، وقد ينازع فيه.
ومحل النزاع في هذه المسألة حيث لم توجد قرينة قوية تدل على حمل الأمر على الوجوب أو الإباحة أو الندب. أما حيث وجدت قرينة فيعمل بمقتضاها.
والأصوليون يقررون في كثير من مسائل الخلاف أن محله حين تعدم القرينة، مع أنه من النادر أن تعدم القرينة، ولكنهم يقررون المبدأ العام، أو الأصل الذي يبنى عليه الحكم عند الاختلاف في القرائن ودلالتها؛ لأن القرائن كثيرا ما يجري الخلاف فيها وكثيراً ما يدعي كل فريق أنها تشهد لقوله.
الأقوال :
القول الأول : أن الأمر بعد الحظر للإباحة. وهو قول الشافعي، كما حكاه عنه ابن القطان، وابن السمعاني، والآمدي، والأسنوي، وغيرهم.
وقال القاضي عبدالوهاب، وابن خويز منداد : إنه قول مالك. ونقله ابن برهان عن أكثر الفقهاء. واختاره ابن قدامه.
ويقرب من هذا القول في التطبيق قول ابن تيمية إن الأمر بعد الحظر يرفع التحريم، ويعود الحكم إلى ما كان عليه قبل الحظر، فقد يكون مباحاً، وقد يكون مندوباً، وقد يكون واجباً ( ).
الأدلة:
1ـ العرف الشرعي في استعمال الأمر بعد الحظر هو استعماله للإباحة، ومن ذلك :
ـ قوله تعالى : { } [المائدة2].
ـ وقوله تعالى : { } [الجمعة10]، وليس البيع والشراء واجبا بعد الجمعة باتفاق.
ـ وقوله تعالى : { } [البقرة222] وليس إتيان النساء بعد الطهر واجباً بل مباحاً .
ـ ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم »، وفي رواية : « فكلوا وادخروا » (أخرجه مسلم).
ـ وقوله صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها » (أخرجه مسلم)، ولم يقل أحد بوجوب زيارة القبور، وإنما قالوا باستحبابها للرجال؛ لقوله في آخر الحديث : « فإنها تذكركم الآخرة ».
2 ـ العرف اللغوي :
فإن أهل اللغة متفقون على أن السيد لو قال لعبده : لا تأكل هذا الطعام، ثم قال له : كل، لم يكن هذا إيجاباً يستحق على تركه العقوبة، وكذلك إذا قال لمن طرق الباب : ادخل، فإنه ليس إيجاباً للدخول، وإنما هو إذن فيه.
القول الثاني : إن الأمر لا تختلف دلالته بعد الحظر عن دلالته لو لم يسبق بحظر، وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين ( ). ولكن الفقهاء يقولون : يبقى على الوجوب، وكثير من المتكلمين يقولون يبقى على الاستحباب؛ بناء على قولهم في أصل دلالة الأمر المطلق.
دليل هذا القول :
1ـ أن الأمر الواقع بعد الحظر يكون ناسخاً له، وقد ينسخ التحريم بالإيجاب أو الإباحة أو الندب وإذا احتمل المعاني الثلاثة فالأصل حمله على معناه الأصلي وهو الوجوب عند الجمهور.
2ـ قياس الأمر بعد الحظر على النهي بعد الأمر فكما أن النهي إذا جاء بعد الأمر يحمل على التحريم الذي هو معناه قبل سبقه بالأمر فكذلك الأمر بعد الحظر، يحمل على الوجوب.
3ـ عموم الأدلة الدالة على أنه للوجوب.
واعترض القائلون بالوجوب على القائلين بالإباحة وقالوا : لا يوجد عرف شرعي مستقر، بدليل أن بعض الآيات جاء فيها الأمر بعد الحظر، وحملت على الوجوب باتفاق. ومن ذلك قوله تعالى : { } [التوبة5].
القول الثالث : إذا ورد الأمر بصيغة : (افعل) ونحوها، فهو للإباحة، وإن ورد مصرحاً فيه بلفظ الأمر كقوله : أنتم مأمورون، أو إني آمركم، فيحمل على الوجوب. وهذا التفصيل اختيار ابن حزم الظاهري، والمجد ابن تيمية.
دليله : أن العرف الشرعي جرى في الأمر بصيغة (افعل) ونحوها، وأما لفظ الأمر المصرح فيه بمادة (أمر) فلا عرف فيه فيبقى على الوجوب.
وهذا الرأي مبني على أن صيغة (افعل) أو (لتفعل) ونحوهما، من الظاهر، وصيغة : أنتم مأمورون ونحوها، من النص الصريح.
الترجيح :
الراجح هو القول الأول، وهو حمل الأمر بعد الحظر على الإباحة إلا أن يقوم دليل على خلاف ذلك.
وماذكره أصحاب هذا الرأي من الاستدلال بالعرف الشرعي والعرف اللغوي كاف في الدلالة على المطلوب.
وأما اعتراض أصحاب القول بالوجوب بآية : { } [التوبة5]، فيجاب عنه بأن هذه الآية لا تدل على وجوب قتل المشركين، وإنما يستفاد الوجوب من غيرها. ولو لم يرد في قتال المشركين إلا هذه لما كانت دالة على الوجوب.
وأما قياس الأمر على النهي فهو ضعيف؛ للفرق بينهما من جهة أن النهي يقتضي الاستمرار في ترك المنهى عنه، والأمر لا يقتضى التكرار كما تقدم. وأيضاً فإن هذا قياس في اللغة وهو ممنوع عند الأكثر.
ثم إن عرف الاستعمال الشرعي واللغوي صرفه عن مقتضاه في أصل الوضع.
وبمثل هذا يجاب عن تمسكهم بعموم الأدلة الدالة على أن الأمر المطلق للوجوب.
وأما قول ابن حزم والمجد ابن تيمية فمردود بعدم الفرق بين الإخبار عن أمر الله أو رسوله، والأمر من الله أو رسوله بصيغه المعروفة. فإذا سلم جريان العرف في الثاني فالأول مثله.
وأما قول شيخ الإسلام ابن تيمية : إن الأمر بعد الحظر يعيد الفعل إلى ما كان عليه قبل ورود الحظر، فقد نسب للمزني، واختاره بعض المتأخرين، وقد يفسر به قول بعض المتقدمين كالقفال الشاشي، وهو قريب من حيث التطبيق من القول الأول، وفيه جمع بين الآيات التي جاء فيها الأمر بعد الحظر وحملت على الإباحة، مثل : { } [الجمعة10]، والآيات التي جاء فيها الأمر بعد الحظر وحملت على الوجوب، نحو : { } [التوبة5].
ثمرة الخلاف :
تظهر ثمرة الخلاف في مسائل منها :
1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « انطلق فحج مع امرأتك » هل يمكن أن يستدل به على الوجوب؟ فيقال : يجب على الرجل مرافقة زوجته في حج الفريضة؟ قيل: نعم؛ عملاً بظاهر اللفظ، والأكثر لم يوجبوا عليه ذلك؛ لكونه أمراً بعد حظر فلا يفيد الوجوب، بل الإباحة. والندب مستفاد من كونه من الإحسان للزوجة.
2 ـ قوله تعالى : { } [النور33]، هل يمكن أن يستدل به على وجوب مكاتبة العبد إذا علم السيد فيه خيراً؟.
قيل : نعم؛ أخذا بظاهر الأمر، والجمهور قالوا : لا يجب؛ لأنه أمر بعد حظر، فلا يفيد الوجوب. والحظر هنا غير منصوص عليه ولكنه مفهوم مما عرف عن الشارع؛ لأنه لا يوجب على المالك أن يبيع شيئاً من ماله مؤجلا. فثبوت ملك السيد لعبده بمثابة المانع من المكاتبة.
وقال الزركشي : إنه على خلاف القياس، فكان كالممنوع منه؛ إذ من حقه التحريم لولا ورود السمع ( ).
3 ـ قوله تعالى : { } [البقرة222] بعد قوله : { }، فالأمر باعتزال النساء في المحيض نهي عن الجماع والأمر بإتيانهن أمر بالجماع جاء بعد الحظر، فهل يمكن أن يستدل بقوله تعالى : { } على وجوب الوطء؟
الأكثر قالوا : لا يجوز؛ لأنه أمر جاء بعد حظر فكان إذناً وإباحة.
وقال بعضهم : نعم يصلح دليلاً؛ عملاً بالظاهر.
وقال ابن تيمية : الأمر رفع الحظر وعاد الحكم على ما كان عليه قبل ذلك، والوطء واجب على الرجل مع القدرة بقوله تعالى : { } [النساء19] ونحوها من الأدلة.
سبب الخلاف :
الخلاف راجع إلى أن تقدَّم الحظر على الأمر هل يصلح قرينة توجب صرفه عن ظاهره إلى الإباحة؟ فمن قال : تقدم الحظر قرينة، صرفه عن الوجوب إلى الإباحة، أو أبطل الوجوب، وقال : يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر.
ومن قال : لا يعد قرينة صارفة، حمله على الوجوب إن كان ممن يقول إن الأمر المطلق للوجوب، أو على الندب إن كان ممن يقول إنه للندب.
الأمر في الواجبات الكفائية
أختلف العلماء في الأمر في الواجبات الكفائية، مثل الجهاد ونحوه، أيتوجه إلى الكل ويسقط بفعل البعض؟ أم يتوجه إلى بعض مبهم؟.
وقد ذهب الأكثر إلى أن الأمر في الواجبات الكفائية موجه لكل واحد من الأمة ويسقط بفعل من يكفي.
واستدلوا بأن الأمر لا يخلو إما أن يكون موجهاً إلى جميع الأمة، أو إلى بعض مبهم، والاحتمال الثاني باطل، لأنه لو وجه الخطاب إلى بعض مبهم، لأدى ذلك إلى ترك الواجب؛ إذ كل واحد سوف يقول : لست من ذلك البعض المبهم، فلا يقوم أحد بالفعل المأمور به، ولأن المكلف لابد أن يعلم أنه مكلف، وإذا كانت دلالة الخطاب على مبهم فإن المكلف لا يعلم أنه مخاطب، فيكون معذوراً.
وذهب بعض العلماء إلى أن المأمور في الواجبات الكفائية بعض مبهم.
واستدلوا بأن الأمر لو توجه إلى الجميع لما سقط بفعل البعض؛ لأن الفرض لا يسقط إلا بأداء أو نسخ.
وأيضاً فإن الإبهام في المكلف به جائز، فكذلك الإبهام في المكلفين.
وقد يستدلون بقوله تعالى : { } [آل عمران104].
ووجه الدلالة : أن الدعوة إلى الخير من الواجبات الكفائية، ومع ذلك وجَّه اللهُ الأمر بها إلى البعض، لا إلى الجميع حيث قال : { } و (مِن) تفيد التبعيض.
والراجح : أن الأمر في الواجبات الكفائية، الأصل فيه أن يتوجه إلى المجموع، أي إلى الأمة مجتمعة، لا إلى الجميع أي لا لكل فرد بخصوصه ولا إلى بعض مبهم وتوجيه الخطاب إلى مجموع الأمة يجعل كل واحد منها عرضة للعقوبة إذا لم يتم الفعل المأمور به.
وهذا القول قريب من القول الأول من حيث النتيجة ولكنه يسلم من الاعتراض الذي أورد عليه من أصحاب القول الثاني.
فلا يرد عليه قولهم : لو كان الخطاب موجهاً للجميع لكان كفروض الأعيان لا يسقط إلا بفعله أو نسخه.
ويتحقق به المقصود الذي أراده أصحاب القول الأول من كون الخطاب المبهم يؤدي إلى ترك الفعل المأمور به.
تعلق الأمر بالمعدوم
هذه المسألة من المسائل الكلامية التي لا أثر لها في الفقه. ولكني رأيت كثيراً من الدارسين لا يعرف حقيقتها، ولا الباعث عليها، فأردت إيضاحها، فأقول:
هذه المسألة من المسائل التي أثارها المعتزلة ضد خصومهم من الأشعرية القائلين إن كلام الله قديم أزلي، فأوردوا عليهم سؤالاً مضمونه : لو كان كلام الله أزلياً لتعلق الأمر بالمأمورين قبل وجودهم، لأن كلام الله في الأزل عندهم أمر ونهي، ولا يمكن أن يكون أمر بلا مأمور.
فلما أورد المعتزلة عليهم هذا السؤال اضطروا إلى الالتزام بما يترتب على قولهم من لوازم فاسدة فقالوا : يتوجه الأمر للمعدوم.فلما شنّع عليهم العقلاء هذا القول قالوا: إن الأمر هنا ليس ناجزاً بل معلقاً على شرط الوجود.
قال إمام الحرمين : « وهذه المسألة إنما رسمت لسؤال المعتزلة، إذ قالوا : لو كان الكلام أزلياً لكان أمراً، ولو كان أمراً لتعلق بالمخاطب في عدمه، فإذا بينا أنه لا يمتنع ثبوت الأمر من غير ارتباط بمخاطب فقد اندفع السؤال، فآل الأمر إلى أن المعدوم مأمور على شرط الوجود، وهذا منتهى مذهب الشيخ . فأقول: إن ظن ظان أن المعدوم مأمور، فقد خرج عن حد المعقول وقول القائل: إنه مأمور على تقدير الوجود تلبيس، فإنه إذا وجد ليس معدوماً، ولا شك أن الوجود شرط في كون المأمور مأموراً » ( ).
وإمام الحرمين قد انتهى به الأمر إلى تأجيل النظر في حل هذا المعضل فقال: «فهذا مما نستخير الله تعالى فيه وإن ساعف الزمان أملينا مجموعاً من الكلام فيه شفاء الغليل إن شاء الله » ( ).
وهذا السؤال الذي حير إمام الحرمين، وتخبط في الجواب عنه شيخه الباقلاني، لا يرِد على من اتبع مذهب السلف في كلام الله، الذي خلاصته أن كلام الله متجدد، وأنه تعالى يتكلم بما يشاء متى شاء، وأن كلام الله قبل تعلقه بالمخلوقين لا يسمى أمراً ولا نهياً بالمعنى المعروف للأمر والنهي، فلا يسمى المعدوم مأموراً ولا منهياً قبل وجوده، ولا يوجد أمر بلا مأمور بل لا يسمى كلام الله أمراً إلا إذا توجه إلى المأمورين، ولا يلزم من ذلك عدم دخول المعدومين حين نزول القرآن في الخطاب إذا وُجدوا؛ لأن كلام الله حكم عام مستمر، وكل من وجد وتوافرت فيه شروط التكليف دخل تحته من غير حاجة إلى قياس. وعند قوم يدخل من يوجد بعد عصر نزول الوحي بطريق القياس الجلي، لأنه قياس بنفي الفارق.
والخلاف بين الفريقين عديم الفائدة في الفروع الفقهية، والإجماع قائم على دخولنا في هذا العصر تحت الأوامر والنواهي العامة، وبهذا يتبين أن المسألة كلامية، وإنما ذكرتها لإيضاح ما فيها من غموض.
النهي
تعريف النهي :
النهي في اللغة : المنع، ومنه سمي العقل نُهيـة، وجمعه : نُهىً؛ لأن العقل يمنع صاحبه من الخطأ غالباً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «ليلني منكم أولو الأحلام والنّهي» (أخرجه مسلم).
ومنه سمي الغدير : نِهياً؛ لأن الماء يجتمع فيه، فيمنعه من الجريان حتى يمتليء.
وفي الاصطلاح : هو طلب الترك بالقول ممن هو أعلى. أو هو : القول الطالب للترك على سبيل الاستعلاء.
والمعنى : أن النهي هو القول الذي يدل على طلب الترك، ولا بد أن يكون ممن هو أعلى رتبة؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان سؤالاً أو التماساً، فإن كان من الأدنى إلى من فوقه فهو سؤال، كقولنا في الدعاء : ربنا لا تؤاخذنا، وإن كان من الند للند سمي التماساً، كقولك لصديقك : لا تفعل كذا.
وقد اختلفوا في زيادة قيد العلو أو الاستعلاء كما سبق في الأمر، وحيث إن كلام الأصوليين والفقهاء في نواهي الشرع فينبغي أن يقيد النهي بما كان طلب الترك فيه صادراً من الأعلى إلى من دونه؛ لأن هذا حال النواهي الشرعية.
صيغة النهي
للنهي صيغة واحدة متفق على كونها تفيد النهي، وهي صيغة : (لا تفعل) كقوله تعالى : { } [الأنعام151].
وخالف بعض الأشعرية في إفادة هذه الصيغة للنهي، وزعم أنها مترددة بين عدة معان، فلا تحمل على أحدها إلا بقرينة. وعامة الأصوليين من الأشعرية وغيرهم يقرون بأن صيغة (لا تفعل) تفيد النهي عن الفعل، وإن كان بعضهم قد يخالف في إفادتها التحريم.
وزاد بعضهم صيغتي : (انته) و (اكفف)، ونحوهما من الأوامر الدالة على الترك ( ).
وهناك أساليب كثيرة يعرف بها تحريم الفعل ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
1ـ لعن الله أو رسوله للفاعل، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » فهذا دليل على النهي عن اتخاذ القبور مساجد.
وقوله صلى الله عليه وسلم : « لعن الله النامصة والمتنمصة » الحديث (أخرجه أبو داود).
2ـ الخبر، مثل قوله تعالى : { } [الممتحنة9].
3ـ توعد الفاعل بالعقاب كقوله تعالى : { } [الفرقان68].
4ـ إيجاب الحد على الفاعل، مثل قوله تعالى : } [النور2].
5 ـ وصف العمل بأنه من صفات المنافقين أو من صفات الكفار نحو قوله تعالى ـ عن المنافقين ـ : { } [النساء142].
اقتضاء النهي التحريم
النهي الذي صحبته قرينة تدل على التحريم يحمل على التحريم باتفاق، كقوله تعالى : { }[الإسراء32]، فوصفه بأنه فاحشة وأنه طريق بلغ الغاية في السوء، دليل على تحريمه.
والنهي الذي صحبته قرينة تدل على أنه للكراهة يحمل على الكراهة مثل : النهي عن المشي بنعل واحدة، والنهي عن السآمة من كتابة الدين كما في قوله تعالى : { } [البقرة282] فالنهي عن المشي بنعل واحدة حمل على التنزيه والكراهة لأنه إرشاد وتوجيه إلى الأفضل والأكمل، وللمحافظة على سلامة الشخص من السقوط، والنهي عن ترك كتابة الدين والسآمة منه للكراهة لكونه نهي إرشاد.
وكذلك النهي عن البول قائما، مع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال واقفاً.
وقد تصرف القرينة صيغة (لا تفعل) إلى الدعاء، والالتماس، ونحوهما من المعاني، فتخرج عن كونها نهياً.
واختلفوا في النهي الذي لم تصحبه قرينة تدل على أنه للكراهة أو التحريم علام يحمل؟:
فذهب جماهير العلماء إلى أنه يحمل على التحريم، واستدلوا بما يلي :
1ـ قوله تعالى : { } [الحشر7].
ووجه الدلالة : أن الله أمر بالانتهاء عما نهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمر يقتضي الإيجاب كما سبق.
2ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا» (أخرجه ابن ماجه والبيهقي وصححه ابن خزيمة، ومعناه في الصحيحين)، فهذا الحديث فيه الأمر بالانتهاء عما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير استثناء، والأمر للوجوب.
3ـ أن صيغة (لا تفعل) تقتضي ترك الفعل والامتناع عنه، والامتناع أبداً لا يحصل إلا بالتحريم؛ إذ الكراهة لا تمنع العباد من الفعل دائماً.
4ـ أن أهل اللغة لا يفهمون من الصيغة عند الإطلاق إلا المنع الجازم، ولهذا إذا قال السيد لعبده : لا تفعل كذا ثم فعله، استحق العقوبة، والقرآن والسنة جاءا بلغة العرب.
5ـ أن الصحابة فهموا من النهي المطلق التحريم، فإذا روي لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شيء عدوه محرماً سواء أصحبته قرينة تدل على التحريم أم لا.
اقتضاء النهي الفورية والاستمرار
النهي يقتضي الكف عن المنهي عنه فوراً على الدوام ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك.
والدليل على ذلك أن المنهي عنه مفسدة، والمفسدة يجب الابتعاد عنها فوراً على الدوام.
وأيضاً : فإن مقتضى النهي عدم إدخال المنهي عنه في الوجود، فلو امتنع عنه المكلف يوماً، أو شهراً، أو سنة ثم فعله، لم يصدق عليه أنه لم يفعله. فلهذا اتفقوا على أنه للاستمرار والدوام إلا من شذَّ.
النهي عن الشيء أمر بضد من أضداده
سبق أن بينا أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن جميع أضداده إذا كان المأمور به معيناً وضاق وقته عن فعل غيره معه. فهل يقال في النهي مثل ذلك فيكون النهي عن الشيء أمراً بالاشتغال بضده؟.
والجواب : أن النهي إذا كان له ضدٌّ واحد فالنهي يستلزم الأمر بذلك الضد كالصوم في العيدين ضده الفطر، فالنهي عن الصوم في العيدين يقتضي الأمر بالفطر فيهما.
وإن كان له أضداد كثيرة فهو يستلزم الأمر بضد واحد من أضداده؛ لأنه لا يتأتى ترك المنهي عنه الإ بالتلبس بضد من أضداده وخالف في ذلك من خالف في الأمر بحجة أن الضد قد يكون الناهي ذاهلاً عنه، والغفلة لا تتحقق في شأن نواهي الله جلا وعلا. ولكنهم يقولون : المسألة لغوية، فينطبق على نصوص الوحي ما ينطبق على كلام العرب.
والصحيح أن النهي عن الشيء الذي له أضداد يستلزم الأمر بضد واحد من تلك الأضداد غير معين، كما هو الحال في الواجب المخير؛ وذلك لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فهو واجب، ووجوبه من باب وجوب الوسائل لا من باب وجوب المقاصد، وأما كون الثواب على الترك أو على التلبس بذلك الضد فهو أمر غيبي لا ينبغي الاشتغال به ولا يتعلق به غرض الفقيه.
النهي بعد الأمر
سبق الكلام في مسألة الأمر بعد الحظر وبيّنا أنه للإباحة على الأرجح، فهل نقول إن النهي بعد الأمر للإباحة أيضاً؟
ذهب جمهور العلماء إلا من شذ منهم إلى أن النهي بعد الأمر يحمل على التحريم كما هو لو ورد ابتداءً غير مسبوق بأمر. وقد حكى الغزالي الاتفاق عليه.
وذهب بعضهم إلى التسوية بينه وبين الأمر بعد الحظر، وتوقف بعضهم.
والصحيح الأول.
ومما يدل على الفرق بينهما :
ـ أن الإباحة من محامل الأمر وليست من محامل النهي.
ـ وأيضاً فإن ورود صيغة (افعل) في الكتاب والسنة لغير الوجوب كثير، بخلاف صيغة (لا تفعل) فإنه يندر وجودها لغير التحريم.
ـ وأيضاً: فإن الأمر لتحصيل المصالح، والنهى لدفع المفاسد، واعتناء الشرع بدفع المفاسد أكثر من اعتنائه بتحصيل المصالح، ولذا قيل : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ـ ولأن ورود صيغة (افعل) بعد الحظر فيه عرف شرعي ولغوي يحمله على الإباحة، بخلاف النهي الوارد بعد الأمر أو بعد الإباحة فلم يقم فيه عرفٌ شرعي ولا لغوي فيبقى على معناه الأصلي.
اقتضاء النهي الفساد
هذه المسألة من المسائل الكبيرة في أصول الفقه، وقد اعتنى بها العلماء عناية كبيرة حتى إن بعضهم لا يذكر في باب النهي إلا هذه المسألة.
وقد أفردها العلائي بمؤلف مستقل سماه: « تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد » وهو مطبوع محقق.
وقبل أن نشرع في المسألة نذكّر القارئ الكريم بما سبق من الخلاف في البطلان عند الحنفية والجمهور، وأن الحنفية قد يسمون الفعل أو العقد فاسداً، ولكنهم لا يعدونه باطلا من كل وجه، وإنما يرتبون عليه آثاره أو بعضها؛ لأنهم يفرقون بين الفساد والبطلان.
وأما الجمهور فحيث أطلقوا الفساد في هذه المسألة فإنهم يريدون البطلان، وعدم ترتب آثار الفعل عليه سواء أكان عبادة كالصوم والصلاة، أم عقدا كالبيع والإجارة، أم إيقاعاً كالطلاق والعتاق.
محل النزاع في المسألة :
أطلق بعض العلماء محل النزاع وأدخل فيه كل نهي سواء حمل على التحريم أم على الكراهة. وقيده بعضهم بأن يكون النهي للتحريم.
وأخرج بعض العلماء النهي عن العبادات وزعم الاتفاق على أن النهي عنها يقتضي بطلانها. وليس الأمر كذلك كما ستعرف.
وقسم بعضهم النهي ثلاثة أقسام :
أ ـ النهي عن الشيء لعينه، وهذا لا يختلفون في أنه يقتضي فساد المنهي عنه، ومثلوه بالنهي عن بيع الكلب. والنهي عن بيع النجاسات.
ب ـ النهي عن الشيء لوصف ملازم له، وهذا فيه الخلاف بين الحنفية والجمهور، كالنهي عن البيوع الربوية وبيوع الغرر.
ج ـ النهي عن الشيء لأمر خارج، مثل النهي عن الغصب هل يقتضي فساد الصلاة في الدار المغصوبة؟ وهل يقتضي بطلان صلاة المتوضئ بالمغصوب؟ وبعضهم يمثله بالنهي عن البيع بعد نداء الجمعة الثاني وقالوا : إن الخلاف في القسم الثاني. دون الأول والثالث.
والظاهر أن الخلاف جارٍ في القسمين الأخيرين، وأما القسم الأول فقد اتفقوا على أنه يقتضي البطلان. ولكن الإشكال يحصل في حد المنهي عنه لعينه، فإنهم لم يذكروا له حداً يتميز به، ولهذ فإنهم يختلفون عند التطبيق، فقد يقول قائل إن الربا منهي عنه لعينه، وينازعه الآخر ويقول، بل هو منهي عنه لوصفه.
وهذه المسألة ذات صلة وثيقة بمسألة أخرى من مسائل الأمر وهي أن الأمر هل يتناول المكروه؟ وقد يعبّر عنها بعضهم بقوله : هل المكروه مأمور به؟ فيحدث هذا التعبير إشكالاً عظيماً عند الدارسين؛ إذ يقول أحدهم : إذا كان المباح ليس مأموراً به فكيف يكون المكروه مأموراً به؟
وحقيقة الأمر أن مرادهم بذلك : أن المكلف إذا فعل المأمور به على صفة فيها كراهة، فهل يقبل منه ويجزئه، حتى نقول فَعَلَ المأمور به؟ ويعنون بالكراهة هنا ما يشمل كراهة التحريم وكراهة التنزيه كما تدل عليه أمثلتهم، فإنهم يمثلونها بالطواف منكساً، وبالصلاة مع رفع البصر، والصلاة في الأماكن المنهي عن الصلاة فيها كالمقبرة ونحو ذلك.
وفي تقديري أنه ينبغي التفريق بين المسألتين : مسألة اقتضاء النهي الفساد، ومسألة تناول الأمر للمكروه.
ففي المسألة الأولى يجب أن نقتصر على أن النهي عن الشيء هل يقتضي فساده؟ وحينئذ تنحصر في الأشياء التي ورد النهي عنها كالصلاة في الأماكن السبعة، والبيع على بيع أخيه، وصيام يومي العيدين. ونحو ذلك؛ لورود النهي عن هذه الأشياء.
وأما الثانية فيجب حصرها على عبادة ورد الأمر بها وورد النهي عن شيء ذا صلة بها ولكنه ليس خاصا بها، مثل : الصلاة مأمور بها بإطلاق، والغصب منهي عنه بإطلاق، فإذا صلى في الدار المغصوبة يكون قد أتى بالمأمور به على صفة فيها كراهة، ولم يرد نص في النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة. وكذلك الصلاة بوضوء مغصوب أو في ثوب حرير ونحو ذلك، فهذه كلها لم يرد فيها بخصوصها نهي فيما أعلم، فإذا لم يرد نهي عن الصلاة على تلك الصفة، فتدخل تحت مسألة الأمر هل يتناول المكروه أو المنهي عنه من وجه آخر؟.
وحيث إن الأكثرين جعلوا مسألة اقتضاء النهي الفساد شاملة للمسألتين السابقتين فالواجب أن نفصل فيها على النحو التالي :
1ـ النهي عن الشيء لذاته: لا خلاف في أنه يقتضي البطلان، وقد يمثله الحنفية بالنهي عن بيع حبل الحبلة، وبيع الكلب، والخنزير، والنجاسات.
2ـ النهي عن الشيء لوصف ملازم: كالنهي عن صوم يوم العيد، وعن بيوع الربا. وهذا يقتضي الفساد عند جمهور العلماء.
وذهب بعض علماء الحنفية إلى أنه في هذا القسم يفرق بين العبادات وغيرها؛ ففي العبادات يقتضي الفساد، فصيام يوم النحر باطل باتفاق.
وأما المعاملات كبيع درهم بدرهمين، فهو عندهم بيع فاسد، ولكن يثبت به الملك مع التقابض.
فهم وإن سموه فاسداً لكنه عندهم ليس بباطل كما هو عند الشافعية والحنابلة؛ وذلك لأن الفساد عرض له لأجل الزيادة فلو ردت الزيادة لصح البيع.
والمالكية وافقوا الجمهور في القاعدة، ولكنهم في البيوع الربوية يرون ثبوت الملك بها في بعض الحالات كهلاك السلعة، وانتقال الملك وتغير الأسواق ( ).
ومن علماء الحنفية من قال : إن هذا القسم لا يقتضي الفساد، لا في العبادات، ولا في المعاملات؛ بدليل أن نذر صيام يوم النحر ينعقد عند علماء المذهب، ولكن ليس له أن يصومه بل عليه أن يصوم يوماً مكانه، فلو صامه عصى وانحلّ نذره، ولا قضاء عليه عند أبي حنيفة خلافا للصاحبين ( ).
3ـ وأما القسم الثالث، وهو النهي المتعلق بأمر خارج عن المأمور به ذا صلة به من حيث كونه متعلقاً بشرط من شروطه الشرعية أو العقلية أو العادية، فهذا لا يقتضي الفساد عند أكثر العلماء، ويقتضيه عند الإمام أحمد في رواية، وعند الظاهرية.
وقولهم : المنهى عنه لأمر خارجي : عبارة لا تصح إلا بشيء من التسامح؛ لأن النهي لم يتجه للمأمور به بل لما له تعلق به. ومثاله : الصلاة في الدار المغصوبة، والوضوء بماء مغصوب، والذبح بسكين مغصوبة، وتلقي الركبان لشراء ما معهم، فإن النهي في هذه المسائل انصب على الغصب، وعلى تلقي الركبان، وليس على الصلاة والوضوء والذبح والبيع.
والراجح فيما كان النهي فيه راجعاً إلى أمر خارجي أنه لا يقتضي فساد المأمور به، وإن كان متصلاً بشرط من شروطه كالصلاة في الدار المغصوبة، وفي الثوب الحرير للرجل، وفي الثوب المغصوب فالنهي عن الغصب في الأولى تعلق بشرط عادي، وهو أن العادة تقتضي بأنه لا بد للصلاة من مكان، فالمكان شرط عادي للصلاة، وقد تعلق به النهي، وفي الثانية والثالثة تعلق النهي بشرط شرعي، وهو ستر العورة.
الأدلة على أن النهي يقتضي الفساد في القسمين الأولين : (المنهي عنه لذاته، أو لوصف ملازم):
1ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » (أخرجه مسلم).
ومعناه : أن كل عمل ليس من أمر الإسلام ولا من شرعه فهو مردود على صاحبه والمنهي عنه ليس عليه أمر الإسلام، فيكون مردودا.
2 ـ إجماع الصحابة والتابعين على بطلان البيوع الربوية للنهي عنها.
3 ـ حديث فضالة بن عبيد في بيع القلادة التي فيها خرز وذهب بذهب وفيه الأمر بردها (أخرجه مسلم).
4 ـ أن المنهي عنه مفسدة، والقول بصحته مع النهي عنه يدفع المكلفين إلى عصيان النهي، ومعلوم أن من عادة الشارع إذا حرم شيئا أنه يضيق الطرق الموصلة إليه، وفي تصحيح المنهي عنه فتح لذريعة المحرم، وهذا ينافي عادة الشرع.
5 ـ أن الصحة تضاد النهي؛ لأن الصحيح مأذون فيه، والمنهي ليس مأذونا فيه، فلا يمكن أن يكون منهياً عنه وصحيحاً في آن واحد.
أدلة من قال إن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه :
1ـ أن النهي لا تعرّض فيه للصحة ولا للفساد، وإنما معناه تحريم الفعل وتحريم الفعل لا يمنع ترتيب آثاره عليه إذا فعل.
2ـ أن المنهي عنه لابد أن يكون متصور الوقوع؛ لأن الشارع لا ينهى عن المستحيل عقلاً أو شرعاً أو عادة. فثبت أنه ممكن الوقوع، والواقع هو المعنى الشرعي، فثبت أن النهي عن الشيء دليل على صحته لو وقع.
3ـ أن الشرع نهى عن الطلاق في الحيض، وقال أكثر العلماء بوقوعه، ولو أن النهي يقتضي الفساد لما وقع.
والصحيح القول الأول، ويجاب عن أدلة القول الثاني بما يلي:
1ـ قولهم : إن النهي لا تعرض فيه للصحة والفساد، هو محل النزاع، فلا يصح الاستدلال به، وإذا كان المقصود أنه من حيث اللغة لا تعرض فيه لذلك فإننا نقول : دلالته على الفساد من قبيل العرف الشرعي.
2 ـ قولهم : إن المنهي عنه لابد أن يكون متصور الوقوع. يجاب بأنه يتصور وقوع صورته في الوجود وأما حقيقته الشرعية فلا تقع مع النهي عنه.
3 ـ قولهم : إن الطلاق في الحيض منهي عنه ومع ذلك يقع. عنه جوابان :
الأول : جواب من لا يرى وقوع الطلاق في الحيض ويطرد القاعدة في هذه المسألة وغيرها، وهؤلاء منعوا وقوع الطلاق في الحيض.
الثاني : جواب من يرى وقوع الطلاق في الحيض، وهؤلاء قالوا : إن آثار الفعل إن كانت مما يضر بالفاعل فتقع عقوبة له، وأما إن كانت مما ينفعه فلا تقع والطلاق في الحيض قلنا بوقوعة نكاية بالفاعل.
وأما النهي الذي لم يتجه إلى الفعل وإنما توجه لأمر خارجي له علاقة بالفعل كشرطه أو محله فالظاهر أنه لا يقتضي فساد الفعل المأمور به أو المأذون فيه كما تقدم.
ومثاله : الصلاة في الدار المغصوبة؛ فإنه لم يرد نهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، وإنما ورد النهي عن الغصب والأمر بالصلاة، فإذا صلى في الدار المغصوبة صحت صلاته، وعليه إثم الغصب. وكذلك حج المرأة بلا محرم يصح، وتسقط به الفريضة، وتأثم على خروجها بلا محرم.
وكذلك يقال في البيع مع تلقي الركبان، والبيع مع النجش، فإنهما ينعقدان مع الإثم.
والدليل على ذلك أن الأمر والنهي في هذه الصور لم يردا على محل واحد، بل على محلين فيمكن أن يصح الفعل المأمور به أو المأذون فيه، ويترتب الإثم على مخالفة النهي، فالمصلي في الدار المغصوبة يثاب على صلاته ويأثم على غصبه، والبيع مع النجش يصح، ويثبت به الملك، ويأثم الناجش، ويثبت الخيار للمشترى إذا غبن.
ومما يدل على ذلك أيضا أن الفعل في هذه الصورة مستكمل الشروط والأركان فيجب الحكم بصحته.
وأدلة القائلين إن النهي لا يقتضي الفساد مطلقاً تحمل على هذه الصورة دون غيرها. والله أعلم.
العام والخاص
تعريف العام والخاص:
العام : اسم فاعل من العموم، بمعنى : الشمول والإحاطة. ومنه سميت العمامة لأنها تحيط بالرأس. والعم والعمومة: اسم بعض القرابات، سموا بذلك لأنهم يحيطون بالإنسان عند احتياجه للمساعدة عادة.
والعام في الاصطلاح : « اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد ».
هذا تعريفه عند جمهور الأصوليين، وهو لفظ الرازي في المحصول، وقد تبعه عليه أكثر من جاء بعده، وهو قد أخذه عن أبي الحسين البصري وزاد فيه بعض القيود.
وعند المتقدمين من الأصوليين يعرف بأنه : ما عم شيئين فصاعداً.
فلا يذكرون فيه تقييده باللفظ فيكون شاملاً للفظ والمعنى بناء على أن المعنى يعم كما سيأتي.
ولا يقيدونه بالاستغراق، بل يكتفون بأن يكون فيه شمول ما. ولهذا فإنهم قد يطلقون اسم العام على المطلق وبالعكس.
وبعد استقرار الاصطلاح يجب أن يحتوي التعريف على ما يميز العام عن المطلق. وقد اجتهدوا في اختيار العبارة المناسبة لتعريفه.
ومن أفضل العبارات عبارة الرازي المتقدمة.
« اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد ».
شرح التعريف :
قوله : (المستغرق)، من الاستغراق وهو التناول مع الاستيعاب، يقال : استغرق العمل ليلة، أي : استوعبها كلها.
وقوله : (لجميع ما يصلح له)، أي : لجميع ما يدخل تحت اللفظ لغة أو عرفاً. فالصلاحية من حيث اللغة أو العرف.
وقوله : (بحسب وضع واحد)، قيد يخرج المشترك اللفظي الذي يدل على معنيين بوضعين مختلفين، مثل القرء الدال على الطهر والحيض، فإنه يدل على هذين المعنيين بوضعين مختلفين؛ لأن العرب استعملوه مرة في الطهر، ومرة في الحيض، أو استعمله بعضهم في الطهر واستعمله بعضهم في الحيض ثم اشتهر المعنيان فصار مشتركاً.
فدلالة القرء على هذين المعنيين ليست من دلالة العام على أفراده، بل من دلالة المشترك الذي يحتاج في فهم المراد منه إلى قرينة.
والمشترك عند كثير من الأصوليين ليس عاماً في أفراده ولا يمكن حمله على العموم بإطلاق واحد.
وسيأتي مزيد إيضاح لذلك عند الكلام عن المجمل.
وهذا القيد لا يخرج المشترك الذي يكون عاماً في أحد معنييه أو معانيه؛ فلفظ القروء إذا قامت قرينة على أن المراد بها الأطهار يكون عاماً فيها؛ لأنه جاء بصيغة عموم.
ولفظ (العيون) في قولنا : جفت عيون الوادي الفلاني، تحمل على عموم العيون الجارية في ذلك الوادي، ولا يقال إنه مشترك فيتوقف فيه بعد قيام القرينة، وهي الجفاف الذي يناسب العيون الجارية دون غيرها من معاني العين.
فصار هذا القيد يخرج المشترك باعتبار معنييه أو معانيه، ويدخله إذا كان عمومه باعتبار معنى واحد من معانيه.
والخاص : اسم فاعل من الخصوص ضد العموم.
وفي الاصطلاح : ما دل على معين محصور.
والعموم والخصوص وصفان نسبيان يطلقان على اللفظ أو الدليل بالنسبة، فقد يكون اللفظ عاما بالنسبة إلى ما تحته من الأفراد، وخاصا بالنسبة إلى ما فوقه.
مثاله في الألفاظ : الإنسان : عام بالنسبة للرجل والمرأة، خاص بالنسبة للحيوان.
ومثاله من أدلة الشرع : قوله صلى الله عليه وسلم : « من قتل قتيلا فله سلبه » (متفق عليه) فالسلَب خاص بالنسبة للغنيمة، وهو عام في لباس المحارب، فيشمل قليله وكثيره.
الفرق بين العام والمطلق :
العام والمطلق بينهما وجه شبه من حيث إن كلا منهما له عموم في الجملة. ولذا كان بعض المتقدمين لا يفرقون بينهما. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية « لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وإسحاق سواء » ( ).
وإطلاق لفظ العام على المطلق وبالعكس قد جاء في كلام بعض الأصوليين على الرغم من تفريقهم بين المصطلحين، فالقاضي أبو يعلى الحنبلي ذكر احتجاج الحنفية على عدم التفريق بين الماء وغيره من المائعات بقوله تعالى : وثيابك فطهر، ثم قال في الجواب « إن الآية عامة » ( )، ومعلوم أن الأمر بالتطهير ليس عاماً فيما يطهر به بل هو مطلق.
وكذلك فعل الغزالي في مواضع من المستصفى ( ).
والمتخصص في أصول الفقه لا ينبغي له أن يخلط بين المصطلحات، ولذا فإن بين العام والمطلق فروقاً أجملها فيها يلي :
1ـ من حيث التعريف فتعريف العام كما تقدم. والمطلق هو : « اللفظ الدال على الحقيقة من حيث هي من غير قيد » أو يقال هو : « اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه » ( )، مثل لفظ رقبة في قوله تعالى: { } [النساء92].
2ـ من حيث الحكم، فإن المطلق إذا ورد الأمر به لا يتناول جميع الأفراد التي تصلح للدخول تحت اللفظ، بل تحصل براءة الذمة بواحد منها.
أما العام فيشمل جميع الأفراد التي تصلح للدخول تحته، ولا تبرأ الذمة إلا بفعل الجميع.
ولهذا فقوله تعالى : { } مطلق؛ لأن المأمور بالعتق لم يطلب منه تحرير كل رقبة، بل رقبة واحدة يختارها من بين الرقاب. ولو جاء اللفظ عاماً لوجب تحرير جميع الرقاب.
أقسام العام :
يُقسم العام عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة :
التقسيم الأول باعتبار طريق معرفة عمومه :
ينقسم العام بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام :
1ـ العام لغة : وهو ما عرف عمومه بالوضع اللغوي. وهو المراد بالعام عند الإطلاق. ويشمل العموم الذي دلت عليه صيغ العام الآتي ذكرها ومنها كل، وجميع، والجمع المحلى بأل.
2ـ العام عقلاً : وهو ما عرف عمومه بطريق العقل كالعموم المستفاد بطريق التعليل مثل فهم العموم من قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » فإن النص هنا خاص بمنع القاضي من القضاء حال الغضب. ويلحق به كل ما يشوش الذهن من جوع أو عطش أو حزن. وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ». يفهم منه أنه إذا نقص عن القلتين فإنه يحمل الخبث أي ينجس بالنجاسة ولو لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه.
والناقص عن القلتين قد يكون في إناء صغير، أو في بركة صغيرة، والنجاسة الواقعة فيه قد تغير لونه أو طعمه أو ريحه أو لا تغيرها.
فيحمل مفهوم الحديث على العموم، ويحكم بنجاسة الماء الناقص عن القلتين سواء تغير أم لم يتغير.
وهذا العموم ليس من منطوق اللفظ بل من مفهومه الذي أدركه العقل.
3ـ العام عرفاً : وهو ما عرف عمومه بعرف الشرع أو بعرف أهل اللغة.
مثال الأول : عموم الخطاب الوارد بصيغة جمع الذكور للإناث، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « المسلمون تتكافأ دماؤهم » (متفق عليه)، فلفظ (المسلمون) جمع مذكر سالم، ولكنه يشمل النساء عرفا؛ حيث عرف من عادة الشارع تغليب الذكور على الإناث عند الاجتماع.
ومثال الثاني : قوله تعالى : { } [الإسراء23] فهذا اللفظ يدل بالوضع على تحريم التأفف من الوالدين، ومن حيث العرف اللغوي هو عام في كل ما فيه أذى لهما.
العموم المعنوي
من العلماء من يقسم العموم من حيث طريق معرفة عمومه إلى لفظي ومعنوي.
فاللفظي هو المستفاد من الصيغ الآتي ذكرها، والمعنوي هو المستفاد من المعنى.
ومصطلح العموم المعنوي ليس شائعا في كتب الأصول، ولكنه ورد في مؤلفات بعض المحققين منهم، كابن تيمية والزركشي والشاطبي، وأما أنواع العموم المعنوي فلا يخلو منها كتاب من كتب الأصول وإن لم يسمها بهذا الاسم.
ويمكن أن نعرف العموم المعنوي بأنه : « العموم المستفاد من طريق المعنى مع خصوص اللفظ الدال عليه من حيث الوضع ».
أنواع العموم المعنوي :
1 ـ العموم المستفاد بطريق الاستقراء :
ونعني به : القواعد الشرعية الثابتة باستقراء فروع الشريعة، مثاله : (الضرر لا يزال بمثله) (الضرورات تبيح المحظورات) (الضرورة تقدر بقدرها) (الميسور لا يسقط بالمعسور).
فهذه القواعد عرف عمومها بالاستقراء، مع أن النصوص الواردة في كل واحدة منها ليست عامة، لو أخذ كل نص منها على انفراد، ولكن لما استقرينا موارد الشرع وجدنا فروعا كثيرة تدل على صحة القاعدة وعمومها، فصيغت بلفظ عام ليسهل فهم أحكام الفروع منها.
2 ـ العموم المستفاد من اللفظ الموجه لواحد من الصحابة :
الخطاب الموجه لواحد من الصحابة إن اقترن به ما يدل على الخصوصية فهو خاص بمن وجه إليه بلا خلاف، كقوله لأبي بردة : « اذبحها ولا تجزي عن أحد بعدك » (متفق عليه)، وإن لم يقترن به ما يدل على الخصوصية، فتذكر كتب الأصول خلافا في عمومه.
مثاله : قوله صلى الله عليه وسلم لعمر حين أردا أن يشتري الفرس الذي وهبه : « لا تفعل »، وقوله صلى الله عليه وسلم في رجل وقصته دابته وهو محرم : « لا تقربوه طيبا ولا تخمروا رأسه ».
والظاهر أنهم لا يختلفون في عموم حكم الخطاب لجميع المكلفين الذين حالهم كحال ذلك الصحابي ولا يختلفون عنه في صفة ذات تأثير في الحكم.
ولكن الخلاف بينهم في أن عمومه بطريق النقل العرفي أو بطريق القياس.
فالذين قالوا إنه عام، أرادوا أن عمومه عرف بطريق العرف الشرعي، فالأصل في التشريع العموم، ولا يخصص به فرد إلا بدليل قوي يدل على الخصوصية.
ويدل على ثبوت العرف الشرعي آيات كثيرة، منها : قوله تعالى : { } [سبأ28] { } [الأنبياء107] { } [الأعراف158] ويؤيد ذلك الإجماع على الاستدلال بكثير من الأحاديث التي وجه الخطاب فيها لواحد من الصحابة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذين أنكروا عموم الخطاب الموجه لواحد من الأمة، قالوا : إن اللفظ من حيث الوضع خاص، فلا يصح دعوى العموم فيه، ولكنهم قالوا : يلحق به غيره من المكلفين ممن حاله كحاله بطريق القياس. ومع ذلك فإن القول بالعموم أولى؛ لأن القائل به لا يحتاج إلى البحث عن علة الحكم وتحققها في بقية المكلفين، بخلاف القول بالقياس، فإنه يحتاج إلى ذلك، وقال إمام الحرمين: «لا ينبغي أن يكون في هذه المسألة خلاف؛ إذ لا شك أن الخطاب خاص لغة بذلك الواحد، ولا خلاف أنه عام بحسب العرف الشرعي ».
وقال بعضهم : إن الخلاف معنوي؛ لأن القائلين بالعموم يجعلون الأصل العموم إلا أن يقوم دليل على الخصوص، والقائلين بالخصوص يقولون الأصل تخصيص الخطاب بمن وجه إليه إلا أن يقوم دليل العموم.
وقد بنى بعضهم على هذا الخلاف اختلافهم في بعض الفروع الفقهية، ومنها : حكم المحرم إذا مات، قال أكثر العلماء : إن الخبر الوارد في كيفية تكفينه يحمل على العموم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا، وكفنوه في ثوبيه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا » (أخرجاه في الصحيحين).
وقال بعض العلماء : إن الخبر خاص بذلك الصحابي دون غيره. وهو منقول عن الشافعي.
3 ـ عموم الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم للأمة :
الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم إن قام دليل على خصوصيته به فهو خاص لا يشمل الأمة، كقوله تعالى : { } [الأحزاب50] وكالخطاب بالزواج بأكثر من أربع : { } [الأحزاب50] فإن الإجماع قائم على اختصاصه بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما ثبت أنه أمر غيلان حين أسلم وتحته عشر نسوة، أن يمسك منهن أربعا ويفارق سائرهن.
وإن اقترنت به قرينة تدل على العموم فهو للعموم، كقوله تعالى : { } [الطلاق1] فصيغة الجمع في قوله : { } تدل على عموم الخطاب للأمة، وإن ابتدأ بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا في الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم يقم دليل على اختصاصه به، ولا عمومه، هل يشمل الأمة كلها؟.
مثاله : قوله تعالى : { } [الأحزاب1] وقوله : { } [الأحزاب48] ونحو ذلك.
فهذا الخطاب وأمثاله مما لم ترد معه قرينة تدل على الخصوصية ولا على التعميم، قال بعض العلماء : إنه خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقوم دليل على العموم من قياس وغيره.
وقال آخرون : إنه عام حتى يقوم دليل على الخصوصية.
والذين قالوا إنه عام يحتجون بأن من عادة العرب توجيه الخطاب لكبير القوم والمراد جميعهم، والقرآن جاء بلغة العرب.
ويستدلون بالآيات الدالة علىوجوب الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه، كقوله تعالى : { } [الأعراف158] وكقوله : { } [الحشر7] وما في معناهما من الأحاديث، وإن هذه الأدلة أوجدت عرفا شرعيا يجب أن تحمل عليه خطابات الشارع.
والقائلون بالتخصيص بالرسول صلى الله عليه وسلم يقولون : إن اللفظ خاص من حيث الوضع اللغوي، فيبقى على خصوصه حتى تقوم دلالة على صرفه عن خصوصه من قياس أو غير ذلك.
وبهذا يتبين أن أثر الخلاف يظهر حين يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فعلا على خلاف ما نهى عنه الصحابة، هل يكون فعله مخصصا للعموم أو ناسخا له؟ وذلك كما ثبت عنه من النهي عن استقبال القبلة واستدبارها في البنيان عند قضاء الحاجة، مع ما ثبت أنه استقبل القبلة.
فعلى القول بأن الأصل في الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم دخول الأمة، لا تردد في أن فعله يخصص العموم؛ لأنه لا يفعل إلا ما يجوز له فعله، وينسخ العموم إن جاء بعد العمل.
وعلى القول الآخر لا يعد فعله تخصيصا ولا نسخا حتى نعلم أنه فعل امتثالا لخطاب عام.
ومن الأصوليين من لم يتنبه إلى اللازم من الخلاف، فظن أن الخلاف لفظي، أو مال إلى ترجيح القول بالخصوصية دون أن يلتزم بما يلزم منه مما ذكرته آنفا.
4 ـ عموم المفهوم :
وهو قسمان :
أ ـ مفهوم الموافقة : مثاله : قوله تعالى : { } [النساء10] فالآية من حيث اللفظ حذرت من أكل مال اليتيم، ومن حيث المفهوم هي عامة في كل تصرف يفوِّت على اليتيم ماله، سواء أكان أكلا أم لبسا أم صدقة.
ب ـ مفهوم المخالفة: مثاله : قوله صلى الله عليه وسلم : «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث».
فمنطوقه خاص بما بلغ القلتين، ولا تعرض فيه لما نقص عن القلتين بالذكر، ولكن مفهومه يدل على أن كل ماء نقص عن القلتين يحمل الخبث، أي : يتنجس بملاقاة النجاسات وإن لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، سواء أكان هذا الماء راكدا أم جاريا، وسواء أكان في إناء أم في بئر ونحوها.
وما ذكر من خلاف في عموم مفهوم المخالفة فهو خلاف لفظي عند القائلين بحجية المفهوم، نص على ذلك الآمدي وغيره.
5 ـ عموم العلة المنصوصة أو المومأ إليها :
إذا نص الشارع على تعليل حكم بعلة متعدية توجد في المنصوص عليه وفي غيره، فإن هذه العلة تفيد عموم الحكم المعلق عليها لجميع الصور المشابهة للمنصوص عليها إذا وجدت فيها العلة. وكذلك إذا أومأ الشارع إلى العلة كأن يكون الوصف الذي رتب عليه الحكم لو لم يكن علة للحكم لكان ذكره عديم الفائدة.
مثال العلة المنصوصة : قوله صلى الله عليه وسلم : « إنما جعل الاستئذان من أجل البصر » فالرسول صلى الله عليه وسلم علل الاستئذان على الناس في بيوتهم من أجل تحريم النظر إلى عورات الناس وما لا يودون الاطلاع عليه داخل بيوتهم.
فهذه العلة عامة في تحريم الاطلاع على عورات الناس، وما لا يحبون أن يطلع عليه الغرباء سواء أكان داخل البيت أم في أي حرز آخر، فلا يجوز لمن أذن له بالدخول في المجلس أن ينظر إلى ما في داخل غرف النوم، ولا يجوز له أن يطلع على ما خبأه صاحب البيت في صندوق أو محفظة ونحو ذلك بغير إذنه.
ومثال العلة المومأ إليها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين سئل عن بيع الرطب بالتمر: « أينقص الرطب إذا جف؟ » قالوا : نعم، قال : « فلا إذن ». فالحديث أومأ إلى أن علة التحريم نقص الرطب عن التمر في الكيل، فأخذوا من ذلك تحريم بيع كل مطعوم بجنسه، مع التفاوت في الكيل، مع أن الحديث في الرطب، لكنه يمكن أن ينطبق على بيع الزبيب بالعنب، ونحو ذلك من الحبوب والثمار التي تؤكل رطبة وجافة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » يشمل كل ما يمنع التروي في الحكم من جوع أو غضب أو غيرهما، كما سبق بيانه.
التقسيم الثاني : باعتبار استعماله في عمومه أو عدمه :
وينقسم إلى :
1ـ عام أريد به العموم قطعاً ولا يدخله التخصيص، كقوله تعالى : { } [هود6]، وقوله تعالى : { } [النساء176].
2ـ عام يراد به العموم ويدخله التخصيص، وهو المسمى بالعام المطلق أي الذي لم يقترن به ما يدل على تخصيصه ولا ما يدل على أنه غير قابل للتخصيص.
3ـ عام أريد به الخصوص، وهو الذي لفظه عام من حيث الوضع ولكن اقترن به دليل يدل على أنه مراد به بعض مدلوله اللغوي مثل قوله تعالى : { } [آل عمران173]، فلفظ الناس عام ولكنه لم يرد به عموم الناس بدليل قوله : { } فدل على وجود أناس جمعوا، وأناس مجموع لهم، وأناس نقلوا الخبر للمجموع لهم. فلفظ الناس تكرر مرتين والمراد في الأولى نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس، والمراد في الثانية أبو سفيان ومن معه من الأحزاب.
الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص :
اهتم بعض الأصوليين بهذه المسألة وألف فيها رسالة مستقلة ( )، وأهم الفروق التي ذكروها ما يلي :
1ـ العام المخصوص حقيقة في الباقي عند كثير من العلماء، والعام الذي أريد به الخصوص مجاز.
2ـ العام المخصوص ما كان مخصصه لفظيا، والمراد به الخصوص ما كان مخصصه عقلياً.
3ـ العام المخصوص ما كان مخصصه منفصلاً، والعام المراد به الخصوص ما كان مخصصه متصلاً.
4ـ العام المخصوص ما كان الباقي تحته بعد التخصيص أكثر، والمراد به الخصوص ماكان المخرج منه أكثر.
وهذا التفريق وان اهتم به بعض الأصوليين فإنه لا يترتب عليه عمل لأنهم كالمتفقين على أن العام المخصوص لم يرد به جميع أفراده منذ أن تكلم الله به كالعام المراد به الخصوص.
صيغ العموم المشتهرة
الألفاظ الموضوعة للعموم كثيرة جدا فقد أوصلها القرافي في العقد } المنظوم} إلى مائتين وخمسين صيغة ولكننا سنكتفي في هذا المختصر بذكر الصيغ المشتهرة منها مع التمثيل لكل صيغة بآية أو حديث نبوي ما أمكن.
وقد اختلفت أساليب العلماء في تقسيم صيغ العموم؛ فمنهم من قسمها إلى قسمين ثم ذكر تحت كل قسم ما يتفرع عنه، ومنهم من قسمها إلى خمسة أقسام، ومنهم سردها سرداً من غير تقسيم.
وقد رأيت أن اقسم صيغ العموم المشتهرة إلى مجموعات متجانسة كما يلي :
1 ـ كل وجميع :
وما يلحق بهما من الألفاظ المستعملة في تأكيد الشمول كأجمعين، وأكتعين... وعامة، وقاطبة.
فصيغة كل تكثر إضافتها :
ـ فإن أضيفت إلى نكرة مفردة فهي لشمول جزئياتها كقوله تعالى : { } [آل عمران185].
ـ وإن أضيفت إلى معرفة فالغالب أن يكون جمعاً أو مافي معناه، وتكون لاستغراق جزئياته أيضاً كقوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (متفق عليه).
ـ وإن أضيفت إلى مفرد معرفة كانت لاستغراق أجزائه كقولك كل الطريق آمنة.
ـ وقد يحذف المضاف إليه فتنوَّن كما في قوله تعالى : { } [النور41].
ولفظ كل يفيد العموم ابتداء وتبعاً، فمثال الأول ما سبق، ومثال الثاني قوله تعالى : { } [الحجر30].
وأما لفظ جميع فلا يضاف إلا إلى معرفة، كقولك : « جميع علماء البلد حاضرون » ويكثر فيها حذف المضاف إليه فتُنَوَّن كقوله تعالى : { } [يس53].
وإذا جاءت مؤكدة فانها تنصب على الحال غالباً، وذلك كقوله تعالى : { } [هود55].
وأما أجمع وأجمعون وأكتعون وأبصعون وما جرى مجراها، فلا تأتي إلا تابعة مؤكدة لما قبلها ولا تضاف لما بعدها.
ويشترط لعموم (كل) و (جميع) عدم تقدم النفي عليهما.
2ـ الجمع المحلى بأل والمضاف :
أما الجمع المحلى بـ (أل) فقد قال بعمومه أكثر العلماء. ويشترط أن تكون أل المقترنة به للجنس لا للعهد، فإن كانت للعهد فلا يكون مدخولها مستغرقاً لما يصلح له في اللغة ولكنه يشمل المعهودين قلوا أو كثروا.
ولا فرق في إفادة العموم بين الجمع المذكر والمؤنث، وجمع السلامة وجمع التكسير، وجمع القلة وجمع الكثرة، على الصحيح، بل الجميع يفيد العموم.
وقد خالف بعض العلماء في جمع القلة وأنكر وضعه للعموم.
مثال الجمع المحلى بأل الجنسية قوله تعالى: { ...} [الأحزاب35].
ويلحق بالجمع اسم الجمع المحلى بأل الجنسية، ومنه قوله تعالى: { } [الناس1].
أما الجمع المضاف إلى معرفة، فهو أيضاً يفيد العموم ومثاله قوله تعالى : { } [النساء11]، فلفظ أولاد جمع مضاف إلى معرفة وهو ضمير المخاطبين.
ومثال اسم الجمع المضاف قوله تعالى : { } [هود40]، فلفظ أهل اسم جمع مضاف إلى معرفة فاقتضى العموم.
وقد اختلفوا في الجمع المحلى بأل هل يعم الأفراد أو الجموع؟، والصحيح : الأول؛ لئلا يتعذر الاستدلال به على المفرد، لأنه لو كان عاما في الجموع لما أمكن الاستدلال به على المفرد.
3 ـ اسم الجنس المحلى بأل والمضاف إلى معرفة :
أما المحلى بأل الجنسية فقد قال بعمومه كثير من العلماء وخالف فيه بعضهم، وهو قد يكون مفرداً كالرجل والمرأة، وقد يكون مما يستوي فيه القليل والكثير وهو المسمى باسم الجنس الإفرادي، كالذهب والفضة والتراب، وقد يكون مما لا واحد له من لفظه كالرهط والناس ويسمى اسم الجنس الجمعي.
وقد فصل الغزالي في الاسم المحلى بأل الجنسية تفصيلاً حسناً فقسمه إلى ما يتميز واحده عن الجمع بالتاء كالتمر والتمرة، وما لا يتميز واحده بالتاء كالرجل.
فالأول إن خلا عن التاء فهو عام كقوله صلى الله عليه وسلم : « والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء » (رواه البخاري)، فهو عام في القليل والكثير وأما ما اقترن منه بالتاء فليس بعام.
وأما الثاني ـ وهو ما لا يتميز واحده بالتاء ـ فإما أن يتشخص له واحد أولا، فإن لم يتشخص له واحد كالذهب والفضة فيعم كقوله صلى الله عليه وسلم : « الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ». وأما ما تشخص واحده كالرجل فقد يعم، كقوله صلى الله عليه وسلم : « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه » (متفق عليه). وقد يفارق العموم كقولنا : الرجل خير من المرأة. فإن المراد الحقيقة بقطع النظر عن الأفراد ( ).
وأما اسم الجنس المضاف إلى معرفة فقد أهمله بعض العلماء كالغزالي وغيره، واطلق بعضهم القول بعمومه، وللقرافي تفصيل حسن فيه، وهو أن اسم الجنس المضاف إن كان مما يصدق على القليل والكثير كالذهب والفضة والأرض فيعم كقوله تعالى : { ...} [الأحزاب27].
وإن كان مما لا يصدق على القليل والكثير ففيه نظر؛ فإنه يأتي عاما وغير عام ( )، مثال العام قوله تعالى : { } [البقرة187]، وقوله صلى الله عليه وسلم : « منعت العراق درهمها وقفيزها » الحديث (أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا).
4 ـ أسماء الشرط :
وأسماء الشرط يختلف بعضها عن بعض في الأفراد التي يعمها كل منها فـ (من) تعم العقلاء كقوله تعالى : { } [الزلزلة7] و (ما) تعم غير العقلاء، ومثالها قوله تعالى: { } [البقرة197]، وقيل بل تصلح للعقلاء وغيرهم.
و (إذا) و (متى) تفيدان العموم في الزمان مثال الأولى قوله تعالى : { } [الأنفال24]، ومثال الثانية قولك : متى تحضر أحضرْ معك.
و (حيث) و (أين) و (أنى) وهي تفيد عموم المكان، وكثيرا ما تزاد بعدها (ما)، ومثال (حيث) قوله تعالى : { } [البقرة150]، ومثال (أين) قوله تعالى : { } [النساء78]، ومثال أني قولك : أنى تذهب أذهب معك.
و (أي) وهي بحسب ما تضاف إليه، فقد يكون عمومها في الأشخاص، وقد يكون في الأزمان، وقد يكون في الأمكنة، ونحو ذلك. ومثالها قوله تعالى : { } [الإسراء110].
5 ـ الأسماء الموصولة :
وقد أطلق ابن الحاجب وغيره القول بعموم الأسماء الموصولة لكن التحقيق أن العام بعضها لا كلها. والعام من الأسماء الموصولة :
أ- (من) الموصولة، وهي للعقلاء، كقوله تعالى : { } [البقرة184]، وقد تأتي لغير العقلاء كقوله تعالى : { } [النور45]، وقد تقع (مَن) للخصوص كقوله تعالى : { } [محمد16].
ب – (ما) الموصولة، وهي لغير العاقل غالباً، كقوله تعالى : { } [البقرة29] وقد تعم العاقل وغيره كقوله تعالى: { } [الفرقان365].
ج – (الذي) و (التي) وفروعهما وهذه الموصولات لا تكون عامة إلا إذا كانت جنسية لا عهدية، فإن كانت للعهد لا تعم.
ومثال العام منها قوله تعالى: { } [الزمر33].
فقد روي عن ابن عباس أنها عامة في كل من دعا إلى توحيد الله تعالى، ويدل على عمومها قوله بعد ذلك : { } وقراءة ابن مسعود: « والذين جاؤوا بالصدق وصدقوا به ».
ومثال التثنية قوله تعالى : { } [النساء16].
ومثال الجمع قوله تعالى: { } [فصلت30].
ومثال المفرد والمؤنث قول الرجل لزوجاته : التي تدخل الدار فهي طالق. ومثال المثنى قول الرجل لإمائه : اللتان تختصمان فسأبيعهما.
ومثال الجمع المؤنث قوله تعالى : { } [النساء15].
ومثال ما جاء لغير العموم قوله تعالى : { } [غافر28]. وقوله تعالى : { } [البقرة29].
وكذا كل ما ورد في صفات الباري جل وعلا فهو ليس للعموم، ونظراً لكثرة وقوعها للعهد لم يعدها بعضهم من صيغ العموم
د- (أي) الموصولة : وقد أنكر عمومها جماعة من الأصوليين، ومثال ما جاء عاماً منها قوله تعالى : { } [مريم69].
6 ـ أسماء الاستفهــام :
لقد أطلق بعض العلماء القول بعموم أسماء الاستفهام، ولم يعدها إمام الحرمين والغزالي من صيغ العموم.
وحجة من منع عمومها أنها بمعنى أحد الشيئين أو الأشياء، وهي بهذا تشبه المطلق في أن كلا منهما عمومه بدلي لا شمولي.
وقد أجاب العلائي عن هذه الحجة بأن أسماء الاستفهام وإن كان فيها تردد بين شيئين أو أشياء، لكنها تفارق المطلق في أنها تدل على الأفراد بعينها، والمطلق إنما يدل على الماهية الذهنية من حيث هي، ولا دلالة له على الأفراد.
والمشهور من أسماء الاستفهام التي تعمُّ ما يلي :
أ ـ (من) : ويستفهم بها عن العقلاء، ومثالها قوله تعالى: { } [الإسراء51].
ب ـ (ما) : ويستفهم بها عن غير العقلاء غالباً، كقوله تعالى : { } [الأنبياء52].
ج ـ (أين)، و (أنى) : ويستفهم بها عن المكان، ومثال الأولى قوله تعالى : { } [التكوير26]، ومثال الثانية قوله تعالى : { } [آل عمران37].
د ـ (متى)، و (أيان) : ويستفهم بهما عن الزمان، ومثال الأولى قوله تعالى : { } [الإسراء51]، ومثال الثانية قوله تعالى : { } [الأعراف187].
هـ ـ (أي) الاستفهامية : ومثالها قوله تعالى : { } [الأنعام19].
و ـ (كم) الاستفهامية: ومثالها قوله تعالى: { } [الكهف19].
7 ـ النكرة في سياق النفي ومافي معناه:
اتفق أرباب العموم على أن النكرة في سياق النفي من صيغ العموم في الجملة، وإنما وقع الخلاف بينهم في بعض صورها وفي طريقة عمومها.
ولقد عدها كثير من الأصوليين من أقوى صيغ العموم كما سيأتي بيان ذلك.
ويشترط لإفادة النكرة العموم أن لا يكون النفي لسلب الحكم عن المجموع، كقولنا : ما كل عدد زوجاً. فإن هذا لا يفيد عموم السلب بل يفيد سلب العموم.
ومثال النكرة المنفية قوله تعالى: { } [البقرة255].
وقد تصحبها (مِن) فتقوي دلالتها، حتى إن بعضهم قال إنها نص في العموم إذا صحبتها (مِن) ومثالها قوله تعالى : { } [ص 65].
والمراد بـ (ما في معنى النفي) : النهي، والشرط، والاستفهام الإنكاري، مثال المسبوقة بنهي قوله تعالى: { } [الجن18] ومثال المسبوقة بشرط قوله تعالى : { } [التوبة6]. ومثال المسبوقة باستفهام إنكاري قوله تعالى : { } [مريم65].
وقد اختلفوا في الفعل إذا وقع في سياق النفي أو النهي أو الاستفهام الإنكاري أو الشرط هل يعم؟
فقال المالكية والشافعية والحنابلة: إنه للعموم؛ لأنه ينحل إلى مصدر وزمان فإذا قال : والله لا أتكلم، فكأنه قال : لا يحدث مني كلام في المستقبل، فيكون عاماً. قالوا : ومنه قوله تعالى : { } [الأعلى13] وقوله : { } [فاطر36].
وقال جمهور الحنفية : إنه لا يعم؛ لأن الفعل لا أفراد له، والتعميم باعتبار المصدر قياس في اللغة، وهو غير جائز.
وثمرة الخلاف تتضح في التخصيص بالنية، فالجمهور أجازوا في مثل قوله: والله لا أبيع ولا أشتري، أن يستثني بيع وشراء طعامه وشرابه فلا يحنث بذلك، بل يحنث بالمتاجرة لنيل الكسب.
والحنفية قالوا : لا يصح أن تكون النية هنا مخصصة؛ لأنه لا عموم للفعل فيحنث بكل ما يسمى بيعاً أو شراء لغة.
واختلفوا في مفعول الفعل المتعدي إذا حذف هل يكون عاماً؟ فقال الشافعية والمالكية والحنابلة وأبو يوسف من الحنفية إنه يكون عاماً في مفعولاته، وخالف أبو حنيفة رحمه الله ووافقه الفخر الرازي وغيره.
وفائدة الخلاف أيضاً تظهر في التخصيص بالنية، فعند الجمهور لو قال : والله لا آكل، ونوى مأكولا معيناً صح، ولا يحنث بأكل غيره.
وعند أبي حنيفة لا يصح التخصيص بالنية؛ لعدم العموم، والتخصيص فرع العموم فيحنث بأكل أي شيء.
8 ـ الظروف الدالة على الاستمرار :
وذلك مثل (أبدا) و (سرمدا) و (دائماً) و (أبد الآبدين) و (دهر الداهرين) ونحو ذلك، فإنها تفيد عموم الأزمنة.
ومن أمثلتهم قوله تعالى : { } [البينة8]، وقوله تعالى : { } [القصص71].
وقوله صلى الله عليه وسلم : « ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر » (متفق عليه).
الخلاف في وضع صيغة للعموم :
ذهب جمهور العلماء إلى أن للعموم ألفاظاً وضعت للدلالة عليه، إذا وردت في الكتاب والسنة أو كلام العرب حملت عليه من غير حاجة إلى قرينة، وهي الصيغ التي سبق ذكرها.
وخالف في ذلك طائفتان :
الأولى : طائفة الواقفية، وفي مقدمتهم القاضي الباقلاني، ونقل عن أبي الحسن الأشعري، الذين زعموا أن تلك الصيغ مشتركة مجملة.
الثانية : أرباب الخصوص، وهم القائلون بحملها على أخص الخصوص.
ونظراً لأن هذين المذهبين ليس لهما أثر واضح في الفروع الفقهية، فلا أطيل بذكر أدلتهم، لكني سأكتفي بإيراد دليلين لكل منهما ثم أبين بطلان كل منهما، وأذكر أدلة الجمهور.
أولاً : الواقفية :
استدلوا بأدلة أهمها :
1 ـ أن هذه الصيغ التي يرى الجمهور وضعها للعموم وردت في نصوص الشرع للعموم تارة وللخصوص تارة، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فتكون مشتركة بين المعنيين، والمشترك يجب التوقف فيه حتى ترد القرينة.
2 ـ أن وضع هذه الصيغ للعموم إما أن يُعرف بنقل أو عقل، أما العقل فلا مدخل له في اللغات، وأما النقل فإما أن يكون تواتراً أو آحاداً، فالتواتر معدوم، وإلا لما خالفناكم، والآحاد لا يكفي في هذه المسألة؛ لكونها من مسائل الأصول التي لا يكفي فيها الظن.
والجواب عن الأول : أن استعمال تلك الصيغ في الخصوص لا يكون إلا بقرينة تصرفه عن العموم. وما هذا حاله يكون الأصل حمله على العموم ما لم توجد قرينة، فيكون موضوعاً للعموم. وجميع ما يوردونه من العمومات المحمولة على الخصوص باتفاق نستطيع أن نوضح لهم فيه القرينة الصارفة.
وأما الدليل الثاني : فهو في الواقع ليس بدليل وإنما هو مطالبة بالدليل وسأبينه.
وقولهم : العقل لا مدخل له في اللغات.. الخ يجاب عنه بأن الدليل على وضع تلك الصيغ للعموم هو النقل الموافق للعقل.
وزعمهم أن النقل آحاد لا يبطله، فالآحاد حجة عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم، مع أن الأدلة بمجموعها تصل إلى درجة التواتر المعنوي، وإن كان كل دليل بمفرده آحاداً.
ثانياً : أرباب الخصوص :
وهم طائفة من الواقفية ولكنهم لم يتوقفوا في مدلول تلك الصيغ مطلقاً وإنما حملوها على أخص الخصوص أي على أقل ما يطلق عليه اللفظ، وتوقفوا فيما زاد على ذلك وقد نسب هذا القول إلى محمد بن شجاع الثلجي ( ) وابن المنتاب( ) واختاره الآمدي ( ).
وقد استدلوا بما يلي :
1 ـ أن هذه الصيغ استعملت في العموم وفي الخصوص، واستعمالها في الخصوص أكثر، فتكون للخصوص ما لم تقم قرينة تدل على التعميم.
2 ـ أن دلالة تلك الصيغ على أخص الخصوص متعينة، ودلالتها على ما زاد عن ذلك مشكوك فيها، فإذا عريت عن القرينة حملت على اليقين ووجب التوقف فيما زاد عن ذلك.
والجواب عن الأول : أن نمنع قولهم : إن استعمالها في الخصوص أكثر.
وما شاع على لسان المتفقهة ونسبوه لابن عباس من قوله « ما من عام إلا وقد خص » لا يصح رواية ولا دراية، وقد أنكره ابن تيمية أشد الإنكار، وأوضح أن عمومات القرآن أكثرها محفوظة باقية على أصلها( ).
وأما قولهم : إن أخص الخصوص متعين، فهو صحيح، ولكن قولهم إن الزائد مشكوك فيه باطل. بل نقول دلالتها على أخص الخصوص قطعية، وعلى ما زاد ظنية، والظن كاف في إثبات الحكم الشرعي.
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على وضع تلك الصيغ للعموم بأدلة نكتفي منها بما يلي :
1 ـ قوله تعالى : { * } [هود45].
وجه الدلالة : أن الله حكى عن نوح ـ عليه السلام ـ تمسكه بالعموم في قوله تعالى: { } [العنكبوت33] فاستدل نوح بعموم لفظ (أهلك) وأقره الله عز وجل على ذلك، وأجابه بما يدل على أن ابنه ليس من أهله. لأن المراد بالأهل في الآية الذين آمنوا به واتبعوه.
2 ـ قوله تعالى : { * } [العنكبوت31-32].
وجه الاستدلال : أن الله حكى عن إبراهيم عليه السلام تمسكه بالعموم المستفاد من لفظ (أهل) المضاف إلى المعرفة، ولم ينكر عليه ذلك، بل بين أن لوطاً مخصوص من العموم.
3- قوله تعالى : { } [الأنعام91].
وجه الاستدلال : أن الله لقن رسوله صلى الله عليه وسلم الجواب عن زعم اليهود ومن وافقهم أن الله ما أنزل على بشر من شيء، وكان الجواب بنقض دعواهم العامة، حيث قال : { } فلو لا أن دعواهم عامة في النفي ما كان ذلك نقضاً لها، ولا جواباً مفحماً لهم. فثبت أن لفظ (بشر) تكون في سياق النفي عامة، فيعم كل بشر، ولفظ شيء نكرة في سياق النفي أيضاً فيعم كل شيء.
ولهذا نقض الله دعواهم بأن الله أنزل على موسى التوراة وموسى من البشر والتوراة شيء أي كتاب منزل.
4 ـ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة، لأبي بن كعب : « ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ أليس الله عز وجل يقول : { }؟[الأنفال24] » فقال : أُبَي : يا رسول الله، لا تدْعُني إلا أجيبك وإن كنت مصليا. (رواه أحمد والترمذي) وروى البخاري نحوه عن أبي سعيد بن المعلى، وأن القصة وقعت معه أيضاً.
ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من الآية العموم وأرشد أبياً إلى ذلك الفهم والعمل به.
5 ـ قوله صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية : « ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : { * } [الزلزلة7-8]». متفق عليه.
وجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم العموم من لفظ (من) وهو القدوة وإليه المرجع في فهم كلام الله جلا وعلا.
6 ـ الإجماع من الصحابة والتابعين على وجوب حمل تلك الألفاظ على عمومها ما لم يصرفها عنه صارف. ومما يدل على ذلك وقائع كثيرة منها:
ـ لما اختلفوا فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم استدل أبو بكر بحديث « الأئمة من قريش » على أن الإمامة لا تخرج عنهم فرضي الجميع بذلك.
ـ ولما اختلفوا في قتال مانعي الزكاة : استدل عمر بقوله صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ». فرد أبو بكر استدلاله بأن الزكاة داخلة في الاستثناء الوارد في الحديث فإنها حق المال.
ـ وقول عثمان وعلي ـ رضي الله عنهما ـ في وطء الأختين بملك اليمين فقالا أحلتهما آية وحرمتهما آية، فالآية التي دلت على الحل قوله تعالى : { } [المؤمنون6]، والآية الدالة على التحريم قوله تعالى : { } [النساء23].
قوة دلالة العام
اختلف العلماء الذين قالوا للعموم صيغة في دلالة العام على ثبوت الحكم لكل فرد من أفراده أهي قطعية أم ظنية؟ واستثني من محل النزاع أمران :
أ ـ دلالة العام الوارد على سبب خاص على صورة السبب؛ فقد ذهب أكثر العلماء إلى أنها دلالة قطعية، وأن صورة السبب لا يمكن تخصيصها من العموم.
ب ـ دلالة العام على أخص الخصوص أي على أقل ما يطلق عليه اللفظ فقد نص كثير من الأصوليين على أنها قطعية. ومرادهم أن العام لابد أن يدل على هذا القدر قطعاً، ولكن هذا القدر ليس معيناً بل شائعاً في أفراد العام.
الخلاف في قوة دلالة العام بين الحنفية والجمهور :
1ـ الحنفية :
ذهبوا إلى أن العام قبل التخصيص قطعي الدلالة على كل فرد من أفراده.
دليلهم :
1- أن الألفاظ تدل على معانيها في اللغة قطعاً، وألفاظ العموم موضوعة للعموم فتكون قطعية الدلالة على كل فرد من أفراده حتى يرد ما يصرفها عن ذلك.
2- لو جاز أن يرد العام ويراد به بعض أفراده من غير قرينة تدل على ذلك، للزم الإيهام والتلبيس، وارتفع الأمان عن اللغة والشرع، ولزم التكليف بما لا يطاق؛ لأن السامع لا يمكنه معرفة المراد منه، فإذا كلف مراعاة هذا الاحتمال كان ذلك تكليفا بما لا يطاق؛ لأن إرادة المتكلم خفية لا تعلم إلا بدلالة منه. ونصوص الشريعة أكثرها ورد بصيغة العموم فلو جوزنا أن يكون المراد بها البعض من غير قرينة لرجعنا إلى مذهب الواقفية الذي أبطلناه.
2ـ الجمهور :
ذهب جمهور العلماء إلى أن دلالة العام على كل فرد من أفراده دلالة ظنية.
واستدلوا بما يلي :
1 ـ أن احتمال التخصيص قائم، ومع الاحتمال لا يمكن القطع.
2 ـ أن أكثر آيات الأحكام العامة مخصوصة، وكثرة التخصيص تورث شبهة واحتمالا في دخول كل فرد تحت مسمى العام، فلا يمكن القطع بذلك.
3 ـ لو كانت دلالة العام قطعية لا متنع تخصيص القرآن بالقياس وخبر الواحد، لكن التخصيص بهذين الدليلين واقع عند الصحابة والتابعين وأكثر الأئمة فعلم أن دلالته ظنية.
وأجابوا عن أدلة الحنفية بما يلي :
قولهم : إن هذه الصيغ موضوعة للعموم، واللفظ يدل على معناه الموضوع له قطعاً. يجاب بجوابين هما :
1 ـ لا نسلم أن دلالة اللفظ على ما وضع له قطعية، بل اللفظ ظاهر فيما وضع له، وليس نصاً إلا حين ينقطع الاحتمال.
2 ـ أن يجاب بالفرق بين العام وغيره من الألفاظ الخاصة، فالعام ظني لما ذكرناه من احتمال التخصيص بخلاف غيره من الألفاظ، وهذا الجواب أقوى من الذي قبله.
قولهم : لو جاز أن يرد العام مراداً به الخصوص بلا قرينة لارتفع الأمان... الخ. يجاب عنه بجوابين هما :
1 ـ المنع من الملازمة، فلا يلزم من قولنا المذكور التلبيس ولا ارتفاع الأمان ولا التكليف بالمحال.
أما عدم لزوم التلبيس وارتفاع الأمان عن اللغة، فلأن الكلام فيما إذا لم تظهر لنا قرينة صارفة ولم نقطع بانتفائها، والتلبيس إنما يلزم لو قطعنا بعدم القرينة الصارفة ومع ذلك لم يرد باللفظ عمومه.
وأما عدم لزوم التكليف بالمحال، فلأن المكلف لم يطلب منه معرفة مراد الشارع في واقع الأمر، وإنما المطلوب منه الامتثال لما يظهر أنه مراد الله ورسوله، وهذا ليس محالاً؛ إذ العام ظاهر في دخول كل فرد من أفراده، فيجب العمل به في عمومه إذا لم يظهر ما يصرفه عن ذلك.
2 ـ أن اللفظ الخاص يحمل على حقيقته مع احتماله المجاز ما لم تقم قرينة على صرفه عن حقيقته إلى مجازه، وهذا باتفاق بيننا وبينكم، ولم تقولوا إنه يفضي إلى التلبيس وارتفاع الأمان، فكذلك العام يحمل على عمومه مع احتماله الخصوص، ولا يلزم من ذلك التلبيس وارتفاع الأمان عن اللغة.
والراجح في هذه المسألة مذهب الجمهور، وهو أن دلالة العام ظنية.
وقد ترتب على الخلاف في هذه المسألة خلاف في مسائل أصولية وفرعية منها :
تخصيص عموم القرآن والسنة المتواترة بالآحاد :
فقد ذهب الحنفية إلى أن العام في القرآن والسنة المتواترة إذا لم يسبق تخصيصه بقطعي لا يجوز تخصيصه ابتداء بخبر الآحاد، وذهب الجمهور إلى جواز ذلك.
ومن الفروع المبنية على هذا الأصل :
أ ـ أن الحنفية يوجبون الزكاة في الخارج من الأرض ولو لم يكن مما يكال ويدخر، فيوجبون الزكاة في الفواكه والخضروات.
ب ـ أنهم لا يشترطون النصاب في الخارج من الأرض، فيوجبون الزكاة في القليل والكثير، وذلك كله عملاً بعموم قوله تعالى : { } [البقرة267] وقوله صلى الله عليه وسلم : « فيما سقت السماء والعيون العشر » (أخرجه البخاري).
والجمهور يخصصون عموم الآية بحديث : « ليس فيما دون خمسه أوسق صدقة » (متفق عليه) فإنه يدل على أن الزكاة إنما تجب فيما يكال ويدخر. وتدل على أن المكيل لا زكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق.
العام بعد التخصيص :
وأما العام بعد التخصيص فهو حجة فيما بقي، ولكنه حجة ظنية، اتفق على ذلك رأي الأصوليين والفقهاء من المذاهب الأربعة.
وما نقل في كتب أصول الفقه من الخلاف في حجية العام بعد التخصيص لم ينقل عن أحد من الفقهاء الذين نقل إلينا فقههم، وإنما نقل عن بعض المتكلمين أو عن فقهاء لم يصل إلينا إلا النزر اليسير من آرائهم الفقهية، كأبي ثور وعيسى بن أبان، وفي صحة النقل عنهما نظر.
ولهذا فلا أرى جدوى من سرد الأقوال والاستدلال لكل قول، وسأكتفي بدليل القول الراجح وهو مذهب الجمهور.
وأهم ما يحتج به للجمهور : الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في العصور الثلاثة المفضلة، فإنهم ما كانوا يتوقفون في العمل بالعام المخصوص في بقية أفراده، ومن ذلك احتجاج علي وعثمان رضي الله عنهما على تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين بقوله تعالى : { } [النساء23]، وعلى إباحته بقوله تعالى : { } [المؤمنون6]، فقالا: أحلتهما آية وحرمتهما آية، مع أن كلا من الآيتين مخصوصة بإجماع؛ إذ ليس كل جمع بين الأختين محرما، وإنما يحرم الجمع بينهما في الوطء والنكاح، وأما ملك الأختين الرقيقتين فلا يحرم.
وكذلك دل العقل والإجماع على تخصيص قوله تعالى : { }، فليس كل ما ملكت اليمين يجوز وطؤه.
أما كون العام بعد التخصيص ظنيا فهو مذهب جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
فأما المذاهب الثلاثة الأخيرة فإن العام عندهم ظني الدلالة خصص أو لم يخصص، ولكن العام المحفوظ عندهم أقوى من العام المخصوص، وكثرة المخصصات تضعف دلالة العام، ولذا فإن العام المحفوظ يقدم عند التعارض على العام المخصوص، بل يقدم المختلف في تخصيصه على المتفق على تخصيصه.
وفي هذا المعنى يقول إمام الحرمين: «ويقدم أحد العمومين بكون التخصيص فيه على النزاع على ما خص بالاتفاق كقوله سبحانه : { }، خص منه تحريم الأختين بالرضاع اتفاقا، وهل في قوله تعالى: { } تخصيص؟ على الخلاف، فكان هذا أولى لأنه أبعد عن الاحتمال» ( ).
ويقول محمد الأمين الشنقيطي : « وقد تقرر في الأصول أن الأقل تخصيصا مقدم على الأكثر تخصيصا، كما أن ما لم يدخله التخصيص أصلا مقدم على ما دخله... وخالف فيه السبكي والصفي الهندي »( ).
وأما الحنفية فقد سبق أنهم يعدون العام المحفوظ قطعي الدلالة، وأما العام المخصوص فهو ظني الدلالة؛ لما فيه من احتمال كون هذا الفرد أو ذاك داخلا في الدليل المخصص بقياس أو نحوه.
ولعل للخلاف في حجية العام المخصوص أثرا في قولهم إنه حجة ظنية، فإن الخلاف وإن كان ضعيفا قد يورث شبهة.
التخصيص
تعريفه :
التخصيص في اللغة : الإفراد والتمييز، يقال : خصه بكذا، أي : ميزه عن غيره.
وفي الاصطلاح : بيان أن المراد بالعام بعض أفراده.
وقيل : بيان ما لم يرد بلفظ العام.
وقيل : قصر العام على بعض مسمياته.
وقيل : إخراج بعض ما يتناوله الخطاب.
وأصحها الأول؛ فإنه يشمل التخصيص ببيان خروج بعض الأفراد، والتخصيص بقصر العام على بعض الأفراد، وكلاهما تخصيص.
كما أنه يدل على أن الأفراد الخارجة عن العام لم تكن مرادة للشارع عند إطلاق اللفظ العام.
وهذا هو أهم الفروق بين التخصيص ونسخ الحكم عن بعض أفراد العام، فإذا كان الجميع داخلين وبعد العمل بالعام في عمومه أخرج بعض الأفراد عد الحكم في حقهم منسوخا، ولو كان الإخراج قبل العمل بالعام عد تخصيصا، وبينهما فرق؛ فإن التخصيص بيان والنسخ إلغاء وإزالة.
أركان التخصيص :
1ـ المخصِّص.
2ـ المخصَّص.
فالمخصِّص : هو الدليل الأخص الدال على خروج بعض أفراد العام عن حكمه، أو على أن العام لم يرد به جميع مسمياته.
وقد يطلق المخصِّص على المجتهد الذي رأى تخصيص دليل بدليل.
والمخصَّص أو المخصوص هو العام الذي قام الدليل على أنه لم يرد به جميع مسمياته، فيقال: لفظ الناس مخصص في قوله تعالى: { } [آل عمران97].
وقد يطلق على المسميات المخرجة عن حكم العام، فيقال : الصبي مخصوص من عموم قوله تعالى : { }..
فتبين بهذا أنهم يطلقون لفظ المخصوص والمخصص على العام الذي دخله التخصيص، وعلى المخرج بالدليل الخاص.
الفرق بين النسخ والتخصيص :
يفرق بعض العلماء بينهما بفروق، أهمها ما يلي :
1ـ أن التخصيص بيان عدم دخول بعض أفراد العام في حكمه، والنسخ رفع الحكم بعد ثبوته في بعض الأزمان.
2ـ التخصيص لا يكون إلا لبعض الأفراد، وأما النسخ فإنه قد يشمل جميع الأفراد فيرفع الحكم عن الجميع، وقد يرفع الحكم عن بعضهم دون بعض.
3ـ التخصيص يدخل الأخبار، والنسخ لا يدخلها؛ لأن الخبر لا يمكن تبديله ورفعه.
4ـ التخصيص قد يكون مقارنا، والنسخ لا يكون إلا متأخرا.
5ـ تخصيص المقطوع بالمظنون جائز، بخلاف نسخ المقطوع بالمظنون.
شروط التخصيص :
اشترط أكثر الحنفية شرطين للتخصيص، هما :
1 ـ أن يكون المخصص مقارنا للعام المخصوص، فلو تقدم لكان منسوخا بالعام، ولو تأخر لكان ناسخا لما يقابله من أفراد العام.
والجمهور لا يشترطون ذلك، بل يقولون المخصص يمكن أن يتقدم أو يقارن أو يتأخر.
2 ـ أن يكون مستقلا في إفادته، فلا يرون التخصيص بالمتصل، والجمهور يقسمون المخصصات إلى متصلة ومنفصلة.
المخصصات
مخصصات العموم عند الجمهور قسمان : متصلة، ومنفصلة.
فالمتصلة هي :
1ـ الاستثناء :
وهو إخراج بعض الجملة عنها بصيغ خاصة.
وأهم صيغه : إلا، وسوى، وغير، وخلا، وعدا، وحاشا، ولكن.
ومثاله قوله تعالى : { * * } [الفرقان68-70].
فلفظ : (من يفعل ذلك) عام؛ لأن (من) الشرطية من صيغ العموم.
وقوله : (إلا من تاب) أخرج من عموم الآية التائبين.
2 ـ الشرط :
ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم : « تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا » (أخرجه البخاري).
فقوله: « خيارهم في الجاهلية » عام؛ لأنه مفرد مضاف إلى معرفة يشمل كل من كان خيارا في الجاهلية.
وقوله : « إذا فقهوا » أخرج من لم يتفقه في الدين، فإنه لا يكون خيارا بعد الإسلام، وإن كان خيارا في الجاهلية.
3ـ الصفة :
ويقصد بها كل معنى يميز بعض المسميات، فيشمل ما يسميه النحويون نعتا أو حالا أو ظرفا أو جارا ومجرورا، أو غير ذلك.
مثال التخصيص بالصفة : قوله تعالى : { } [النساء25]. فقوله : (من فتياتكم) عام؛ لأنه جمع مضاف إلى معرفة فيشمل كل الإماء. وقوله : (المؤمنات)، صفة خصصت من يجوز نكاحهن من الإماء بالمؤمنات.
4 ـ الغاية :
وهي نهاية الشيء ومنقَطَعُه. ولها لفظان : حتى، إلى.
ومثال التخصيص بالغاية : قوله تعالى : { } [البقرة222].
فقوله : (لا تقربوهن) نهي، فيمكن أن يؤخذ منه العموم؛ لأن النهي يقتضي الدوام والاستمرار كما سبق، فيكون المعنى : لا يكن منكم قربان لهن، فتكون الصيغة هي النكرة في سياق النهي.
وقوله : (حتى يطهرن)، تخصيص للعموم المستفاد من النهي، فيخرج من عمومه ما بعد الطهر.
وفي قوله: { } [البقرة222]، مثال للتخصيص بالشرط؛ فإن الآية تدل على أن الوطء لا يباح إلا بعد الغسل؛ إذ هو المراد بالتطهر. وهذا تخصيص للمخصص الأول وهو الغاية، فإن الغاية دلت على أنه بعد الطهر يجوز الوطء، والشرط دل على أن الوطء لا يجوز إلا بعد الطهر والتطهر الذي هو الاغتسال، وقد خالف في هذا الأخير الحنفية، فأجازوا الوطء بعد الطهر وإن لم تغتسل.
5ـ البدل :
ومثال التخصيص به : قوله تعالى : { } [آل عمران97]، فقوله: (على الناس)، عام يشمل كل الناس، وقوله : من استطاع بدل وهو مخصص لعموم الناس فلا يجب الحج إلا على المستطيع.
وقد خالف الحنفية والشاطبي في عد الأنواع السابقة من المخصصات، وقالوا : إن الكلام لا يفهم معناه إلا بعد تمامه، والكلام لا يتم إلا بعد ذكر المستثنى والشرط والصفة والغاية والبدل؛ لأن هذه الأنواع لا تستقل بالإفادة، فلو قطعت عما قبلها لم تفد شيئا، فوجب أن لا ننظر إلى أول الكلام دون آخره، وإنما ننظر له دفعة واحدة.
وهذا الكلام حق، ولكن الجمهور نظروا إلى معنى اللفظ المفرد فإذا وجدوه عاما وضعا ثم جاء في الكلام بعده ما يدل على تخصيصه عدوه مخصوصا، فهو عام بالنظر إلى وضعه في اللغة للعموم، ولكن في الاستعمال مخصوص.
والحنفية لا يخالفون الجمهور في أن التقييد بالشرط والصفة وما ذكر معهما يجعل المنطوق مقتصرا على ما توافر فيه الشرط والصفة، فلا دلالة فيه على سوى ذلك.
ولكنهم يختلفون معهم في تسمية العام مخصوصا بهذه الأنواع.
ولذلك فإنهم يقولون : العام المقيد بشرط أو صفة ونحوهما باق على عمومه، وهو عندهم قطعي الدلالة، بخلاف المخصوص بالمخصصات المنفصلة.
كما يختلفون مع الجمهور في المفهوم المخالف المستفاد من الشرط والصفة والغاية ونحوها، هل يعمل به؟
فالحنفية لا يرون العمل بهذه المفاهيم كما سيأتي في باب المفهوم، ويقولون ما لم يتوافر فيه الشرط أو الصفة اللذين قيد بهما العام لا يدخل في العموم بمنطوق هذا اللفظ ولا يحكم له بضد حكم العام، ولكنه مسكوت عنه يطلب حكمه مما سواه.
فقوله تعالى : { } [النساء25] يقولون : إن الآية دلت على جواز نكاح الفتيات (الإماء) المؤمنات، وأما الكافرات فالآية سكتت عنهن، فيطلب حكم نكاحهن من أدلة أخرى.
القواعد المتعلقة بالمخصصات المتصلة
شروط الاستثناء.
يشترط في الاستثناء شروط منها ما هو محل وفاق ومنها ما هو محل خلاف، وفيما يلي بيانها:
الشرط الأول : الاتصال :
والمراد به اتصال الاستثناء بالمستثنى منه لفظا أو حكما.
والاتصال لفظا يكون بعدم الفصل بينهما، والاتصال حكما يكون بوجود فاصل يسير لا يدل على انقطاع الكلام واستيفائه، كالفصل بسبب انقطاع نفس أو بلع ريق أو سعال ونحوه.
وقد اشترط هذا جماهير العلماء، واستدلوا على ذلك بأن تأخر النطق بالاستثناء دليل على أنه لم يكن مرادا عند التكلم باللفظ السابق، والإرادة الطارئة لا تصلح مخصصة لما قصد عمومه.
وأيضا فإنه لو جاز الاستثناء المتأخر لما حصل الوثوق بعهد ولا عقد، ولا حنث حالف قط، لأنه سوف يستثني من كلامه السابق ما شاء متى شاء.
ومن أدلتهم النقلية قوله صلى الله عليه وسلم : « من حلف على يمين ورآى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير » (رواه مسلم).
وجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الحالف إذا رأى الخير في مخالفة ما حلف عليه أن يكفر عن يمينه ويأتي ما حلف عنه، ولو كان الاستثناء المتأخر صحيحا لأرشده إليه، ولم يرشده إلى التكفير؛ لأن الاستثناء أيسر على المكلفين، والرسول صلى الله عليه وسلم ناصح أمين لأمته.
واستدل بعضهم على اشتراط الاتصال بأن الله أرشد أيوب عليه السلام إلى ضرب امرأته بعثكال النخلة بعد تجريده من التمر، فقال : { } [ص44] ولو كان الاستثناء المتأخر جائزا لأرشده إليه، وروى الزركشي عن أبي إسحاق الشيرازي قصة تتعلق بهذا الاستدلال ( ).
ونقل عن ابن عباس جواز الاستثناء المتأخر.
واختلف النقل عنه فقيل : يجيز تأخر الاستثناء شهرا أو شهرين، وقيل إلى سنة، وقيل مطلقا. وتأوله القاضي أبو بكر بما إذا نوى الاستثناء عند كلامه الأول، ولكنه لم ينطق به إلا متأخرا. وخصه بعضهم بكلام الله جل وعلا.
والنقل عن ابن عباس ثابت كما في المستدرك وغيره عن ابن عباس قال : إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة. وإنما نزلت هذه الآية : { }[الكهف24]، قال : إذا ذكر استثنى. وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين.
وقد ذكر الزركشي في المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر إسناد ذلك عن ابن عباس.
دليل هذا القول :
1ـ ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا، إن شاء الله » (أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان، وقال ابن حجر : رجح الأئمة إرساله)، ففصل بين القَسَم الأول والاستثناء بقَسَمٍ ثان وثالث.
ويجاب عنه بأن القَسَمَين الثاني والثالث تأكيد للأول، فلا يعدان فصلا حقيقيا.
2ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثنى من كلام قاله بعد شهر من التكلم به، لما نزل عليه قوله تعالى : { } [الكهف24]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن شاء الله ».
وهذا الأثر رواه ابن جرير في تفسيره من طريق محمد بن إسحاق عن شيخ من أهل مصر فهو ضعيف لا تقوم به حجة، وقد اجتهد الآمدي في تأويله.
وذهب بعض العلماء إلى جواز تأخير الاستثناء ما دام في المجلس، وهو منقول عن عطاء والحسن البصري.
ووجهه أن الكلام في المجلس الواحد يكون له حكم الاتصال، وإن تخلله سكوت أو كلام في أمر آخر، وذلك لأن الشارع جعل البيعين بالخيار ما لم يتفرقا، أي : ما داما في المجلس، فجعل عقد البيع قابلا للنقض والإبطال ما دام العاقدان في المجلس.
ويجاب بأن المجلس قد يطول، وبأن خيار المجلس ثبت بنص خاص على خلاف القياس فلا يقاس عليه. وبأن المسألة لغوية فلا يجري فيها القياس.
أثر الخلاف :
لم يذكر الفقهاء والأصوليون أثرا للمسألة في غير الأيمان وما في معناها، مما يدل على أن المنقول عن ابن عباس في اليمين، ولم يختلفوا أنه إذا كانت اليمين لدفع الدعوى لا يجوز فيها الاستثناء المتأخر، فلو حلف : ليس له عندي شيء، ثم قال بعد مدة إلا كذا لئلا يحنث، فإن يمينه فاجرة ولا يفيده هذا الاستثناء.
ويظهر أثر الخلاف فيما لو قال: نسائي طوالق، وسكت، ثم قال بعد زمنٍ : إلا فلانة.
الشرط الثاني : عدم الاستغراق :
وقد حكى الآمدي والزركشي وغيرهما الاتفاق على بطلان الاستثناء المستغرق.
والمراد بالاستثناء المستغرق : إخراج جميع أفراد المستثنى منه بإلا أو إحدى أخواتها، كأن يقول : نسائي طوالق إلا ثلاثا، وليس له إلا ثلاث زوجات.
والدليل على بطلانه : أنه ليس من كلام العرب ولا يعرفونه، وإنما هو نوع من العبث فلا يحمل عليه كلام العقلاء.
وأيضا فإنه إبطال للكلام السابق وقد يكون إقرارا بحق، فلا يقبل منه إبطاله بما ليس من كلام العقلاء.
وعلى ذلك لو استثنى الكل فالاستثناء باطل والإقرار الأول ثابت، فلو قال : نسائي طوالق إلا أربع، طلقن جميعا.
ولو قال : له عليّ ألف ريال إلا ألف ريال، بطل الاستثناء وصح الإقرار بالألف.
وقصر بعضهم الخلاف في هذه المسألة على الاستثناء من الأعداد، كالمثالين السابقين.
وأما إذا كان الاستثناء من الصفة فيجوز وإن استغرق، ومثاله: إذا قال : أعط من في البيت إلا الأغنياء، فإذا تبين أن من في البيت كلهم أغنياء لا يبطل الاستثناء، وإذا قال : عبيدي أحرار إلا من لم يصل الفجر معنا، فتبين أن عبيده كلهم لم يصلوا الفجر معه، فلا يبطل الاستثناء ولا يعتقون، وهذا لا ينافي كلام العرب.
الشرط الثالث : أن يكون الباقي بعد الاستثناء أكثر من المخرج به :
وقد اختلف العلماء في هذا الشرط، فذهب بعض العلماء إلى اشتراطه، فأبطلوا الاستثناء إذا كان المستثنى مساويا للباقي أو أكثر منه، وحصر بعضهم الخلاف فيما إذا كان الاستثناء من العدد بالعدد، وأما الاستثناء من الوصف أو بالوصف فيجوز وإن أدى إلى زيادة المستثنى.
واحتجوا بأن أهل اللغة لا يجيزون ذلك، فقال الزجاج : لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير، وقال ابن جني : لو قال قائل : مائة إلا تسعة وتسعين ما كان متكلما بالعربية، وإذا كان أهل اللغة لا يعدونه من كلام العرب فلا يحمل عليه كلام المتكلم بهذه اللغة.
والراجح جوازه، والدليل على ذلك :
1ـ أنه قد جاء في القرآن استثناء الأكثر حينما يكون الاستثناء بالصفة لا بالعدد، ومن ذلك قوله تعالى : { * } [ص82-83]، وقال : { } [الحجر42]. فاستثنى في الأولى المخلصين من الغاوين، وفي الثانية استثنى الغاوين ممن لم يتمكن إبليس من إغوائهم، فلا بد أن يكون أحدهما أكثر فيثبت استثناء الأكثر.
2ـ أن المتكلم لا يعاقب على تكلمه بغير الفصيح في معاشه وتصرفاته الخاصة، ولو أبطلنا استثناءه الأكثر لكان ذلك عقوبة له.
ثم إن المتكلمين باللغة العربية يجهلون هذه الأحكام ولا يعرفون أنها ليست فصيحة، فلا يلغى كلامهم لأجل جهلهم بالعربية.
وبناء على ذلك نقول: لو قال : له علي ألف إلا تسعمائة، يكون مقرا بمائة ولا يطالب بغيرها.
ولو قال : زوجاتي طوالق إلا اثنتين، وعنده ثلاث زوجات لا تطلق إلا واحدة.
الشرط الرابع : أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه :
وقد اختلف في صحة الاستثناء من غير الجنس، ومحل الخلاف أنه هل يسمى استثناء حقيقة؟ وهل يصح في الأقارير والتصرفات؟
ذهب بعض العلماء إلى منعه، وحملوا ما جاء منه في القرآن والسنة على أنه مجاز، وأن (إلا) حينئذ تكون بمعنى (لكن)، فقوله تعالى : { * } [الواقعة25-26]، وقوله تعالى: { } [النساء29]، ونحوهما من الآيات تفسر (إلا) فيها على أنها بمعنى (لكن)، فتكون بمثابة استئناف كلام جديد ليس راجعا إلى ما قبله.
وفي الأقارير والتصرفات جعلوه باطلا لا يفيد شيئا.
وذهب بعضهم إلى جوازه، وقليل منهم قال : إنه حقيقة، والأكثر على أنه مجاز، ولكنهم صححوه في الأقارير والتصرفات. ولهذا نقل عن الشافعي أنه لو قال : له علي مائة درهم إلا ثوبا جاز الاستثناء ويكون قد أقر بمائة إلا قيمة ثوب، فتقدر قيمة الثوب وتخرج عن الإقرار. ونقل عن الإمام أحمد جواز استثناء الدراهم من الدنانير، فيقول : له علي عشرة دنانير إلا خمسة دراهم، فيقبل الاستثناء.
وبذلك يتبين أن محل الخلاف الأصولي المثمر هو في قبول الاستثناء من غير الجنس في الأقارير والأيمان ونحوها من التصرفات.
وأما تسميته استثناء حقيقة أو مجازا فلا يتعلق به غرض الأصولي والفقيه.
فالذين منعوا قبوله حجتهم أنه مخالف للغة ولا يحمل عليه كلام العقلاء، وما وجد في القرآن من ذلك ليس استثناء وإنما هو استئناف كلام جديد جاء بلفظ (إلا) وهي صالحة للأمرين.
والذين أجازوه قالوا : لا نعاقب من خالف الفصيح في اللغة بإلغاء كلامه، وإنما نجعل العبرة بالمعنى المراد للمتكلم وإن كان كلامه ليس بفصيح.
الشرط الخامس : أن ينوي الاستثناء حين النطق بالمستثنى منه :
والمراد أن لا يكون قصد الاستثناء طارئا بعد النطق بالمستثنى منه، فإن جاء طارئا بعد التكلم بالمستثنى منه فلا يصح.
وهذا الشرط محل خلاف :
1ـ ذهب أكثر العلماء إلى اشتراطه، وحجتهم : أنه لو لم ينوه قبل النطق بالمستثنى منه لكان الاستثناء إلغاء لبعض مراد المتكلم، والاستثناء عند أهل اللغة ليس إلغاء، وإنما هو بيان أن الجملة ليست مرادة بكاملها منذ إنشاء الكلام.
2ـ وذهب بعض العلماء إلى جواز الاستثناء وإن لم ينوه من أول الكلام، إذا اتصل بالكلام.
مثاله : إذا قال : نسائي طوالق، فقال له صديقه : إلا فلانة، فقال : إلا فلانة، فإنها لا تطلق بناء على هذا القول.
ودليله : أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما حرم مكة وقال : « لا يعضد شوكها ولا يختلى خلاها » قال العباس : إلا الإذخر، يا رسول الله، فإنه لقيننا وبيوتنا، فقال : «إلا الإذخر» (متفق عليه). ووجه الدلالة : أنه استثنى بعد سؤال العباس.
وأجيب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سيبين لهم أن الإذخر مستثنى إما بصيغة الاستثناء أو بدليل مستقل، ولكن العباس خشي أن يحرم مع حاجتهم إليه فقال في أثناء الكلام : إلا الإذخر.
والراجح : الأول، والحديث الذي استدل به أصحاب القول الثاني محتمل فلا تقوم به دلالة على الدعوى.
والحالف والموقع للطلاق يديَّنان فيما بينهم وبين الله، فإن قال : كنت أنوي الاستثناء قُبل، وإن كان قد لُقِّن الاستثناء من بعض الحاضرين.
وإذا كان الاستثناء متصلا لا يسأل عن نيته؛ لأن الظاهر أنه نواه. والله أعلم.
الاستثناء المتعقب للجمل
إذا جاء الاستثناء بعد جمل عطف بعضها على بعض هل يعود للجميع؟
مثاله : قوله تعالى : { * * } [الفرقان68-70].
وهي من المسائل الكبيرة في الاستثناء، وهي محل خلاف.
تحرير محل النزاع :
1 ـ لا خلاف في أن الاستثناء المتعقب جملا إذا قامت قرينة تدل على أنه يعود إلى الجميع أو يعود إلى الأخيرة أو غيرها يعمل فيه بالقرينة، وإنما الخلاف فيما خلا عن قرينة تبين عود الاستثناء.
2 ـ هل يقتصر الخلاف على ما كان العطف فيه بالواو؟ قال بعض العلماء ما يفيد ذلك، والصواب : أن الخلاف يشمل الجمل المتعاطفة بالواو وغيرها من حروف العطف التي تدل على التشريك، سواء أفادت مع ذلك الترتيب أو التعقيب أم لم تفده، فيدخل المعطوف بالواو والفاء وثم.
وأما حروف العطف الدالة على الإضراب أو الاستدراك مثل : (بل) و (لكن) فلا تدخل في الخلاف.
3 ـ هل المراد بالجمل هنا : الجمل النحوية التامة المكونة من اسمين أو اسم وفعل؟
الظاهر من صنيعهم أنهم لا يريدون ذلك فحسب، بل كل ما فيه عطف ما يمكن دخول الاستثناء فيه على مثله، ولهذا نجدهم يمثلون أحيانا بقولهم : أكرم بني تميم وبني زيد وبني عمرو إلا الجهال. وهذا من عطف المفردات لا من عطف الجمل.
وبذلك يتضح أن محل الخلاف يشمل الاستثناء الوارد بعد جمل أو بعد مفردات يمكن الاستثناء منها، ولا فرق بين أن يكون العطف بالواو أو غيرها مما يفيد التشريك في الحكم، بخلاف ما لا يفيد ذلك. كما أن الخلاف مقتصر على ما لم تقم قرينة تبين عود الاستثناء فيه.
ومثال ما قامت عليه قرينة قوله تعالى : { } [النساء92]. فالاستثناء عائد إلى الجملة الأخيرة، أي : إلى الدية، فهي التي تسقط بعفو الأهل، وذلك لأن الكفارة حق لله فلا تسقط بعفو الآدميين.
وقوله تعالى : { } [البقرة249]. فالاستثناء راجع إلى الجملة الأولى بدلالة السياق؛ لأن الذي اغترف غرفة ليس بعض من لم يطعم بل هو بعض من شرب.
الأقوال :
القول الأول : أن الاستثناء يعود إلى الكل، وهو مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة ( ).
دليله :
1ـ أن الشرط كالاستثناء في تعلقه بما قبله، ولهذا سمي التعليق بشرط مشيئة الله استثناء، والشرط إذا تعقب جملا متعاطفة عاد إلى الكل باتفاق، فيكون الاستثناء كذلك.
2ـ أن تكرار الاستثناء عقب كل جملة عِيٌّ ولكنة باتفاق أهل اللغة، فلم يبق طريق لإعادة الاستثناء إلى الكل إلا على القول بأنه يعود إليها من غير حاجة إلى تكراره.
3ـ أن العطف يوجب نوعاً من الاتحاد بين المعطوف والمعطوف عليه فتصير الجملتان كالجملة الواحدة، ولهذا لا يكرر العامل بل يكتفى بالعطف عنه، فيلزم اتحاد المعطوفات في الحكم اللاحق للأخيرة منها.
القول الثاني : أنه يرجع إلى الجملة الأخيرة وحدها، وهو المشهور عن الحنفية، واستدلوا بما يلي :
1ـ أن العموم يثبت في كل صورة بيقين، وعود الاستثناء إلى جميعها مشكوك فيه، والمتيقن لا يرفع بالشك.
2ـ أن الاستثناء وجب رده إلى ما قبله ضرورة عدم استقلاله، والضرورة تقدر بقدرها، وهي تندفع بإعادته إلى الجملة الأخيرة فليقتصر على ذلك.
3ـ أن الجملة الأولى مفصول بينها وبين الاستثناء بالجملة التي بعدها، ولا يصح الفصل بين المستثنى والاستثناء.
القول الثالث : التوقف حتى تدل قرينة على عود الاستثناء، وهو اختيار الغزالي.
والصواب : الأول.
ويجاب عن أدلة الحنفية بما يلي :
قولهم : العموم متيقن، ممنوع، بل هو عندنا مظنون، وعود الاستثناء إلى الكل مظنون وليس مستوي الطرفين.
ثم إن ذلك يرد على الشرط، وهم لا يقولون فيه كذلك.
وقولهم : رد الاستثناء إلى ما قبله ضرورة، ممنوع، لأنه تعلق بما قبله لصلاحيته لذلك.
وقولهم : يلزم الفصل بين الاستثناء والمستثنى منه، يجاب بأن الفصل ليس بكلام أجنبي، وبأن المعطوف حكمه حكم المعطوف عليه.
انبنى على الخلاف في المسألة خلاف في فروع فقهية، منها :
1 ـ القاذف المجلود إذا تاب هل تقبل شهادته؟:
ذهب الحنفية إلى رد شهادته، والجمهور إلى قبولها، وبني ذلك على الخلاف في قوله تعالى : { * } [النور4-5]، هل يعود الاستثناء إلى وصفهم بالفسق ورد شهادتهم؟
قال الجمهور : نعم؛ لأن الاستثناء المتعقب للجمل يعود للجميع، ولم يقولوا: إنه يعود أيضا إلى الأمر بالجلد؛ لأن الجلد حق لآدمي فلا يسقط بالتوبة.
والحنفية قالوا : يرجع إلى الجملة الأخيرة وهي قوله: { }، فأما الجلد ورد الشهادة فلا استثناء منهما.
2 ـ قوله تعالى : { * } [المائدة33-34]، فالاستثناء في قوله : { } هل يرجع إلى كل الجمل السابقة؟
على القول بعوده إلى الكل فإن من تاب من المحاربين قبل التمكن منه فلا حد عليه ولا إثم يوم القيامة ولا يؤاخذ بشيء.
وعلى القول بعوده إلى الجملة الأخيرة تكون التوبة مانعة من عذاب الآخرة، وأما الحد في الدنيا فيقام عليه.
وهذا القول ليس له قائل من العلماء المشهورين، وإنما اتفقوا على أنهم إذا تابوا قبل أن يؤخذوا سقط عنهم الحد، وبقي حق العباد في المال والقصاص، وهو مذهب أحمد، وقال المقدسي في العدة : لا نعلم فيه خلافا. وقال ابن كثير: لا خلاف في سقوط القتل وقطع الرجل وأما قطع اليد ففيه خلاف.
ولعل من رآى أن من أخذ المال من المحاربين تقطع يده قاسه على السارق قياس الأولى.
واختلفوا فيما أتلفه المحاربون من المال هل يؤاخذون عليه فيلزمهم ضمانه؟
وبهذا يتبين أن الحنفية لم يطردوا قاعدتهم في عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، ولعلهم يقولون هذا مما قامت الدلائل علىعوده إلى الكل.
3 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يؤُمَّنَّ الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه » (أخرجه مسلم).
قال الإمام أحمد : الاستثناء يعود إلى الكل، فإذا أذن رب البيت في الجلوس في المكان المخصص له فلا بأس، وإذا أذن السلطان لغيره في الإمامة مع حضوره وقدرته جاز.
وهذا مذهب الجمهور.
وخالف بعضهم في عود الاستثناء إلى الجملة الأولى ومنع أن يؤم أحد بحضرة السلطان أو الإمام إذا كان قادرا على الإمامة.
4 ـ إذا قال الرجل في وصيته : وقفت على بني زيد داري، وحبست على أقاربي ضيعتي إلا من فسق. فهل يعود الاستثناء إلى الكل؟
إن قلنا نعم، فالفاسق من بني زيد لا يستحق شيئا، والفاسق من أقاربه كذلك، وإن قلنا يعود إلى الجملة الأخيرة فالفاسق من بني زيد يعطى ومن أقاربه لا شيء له.
ولهذا أمثلة كثيرة لا تنحصر في كلام الواقفين والموصين والحالفين وغيرهم.
الاستثناء من النفي
حكى بعض العلماء الاتفاق على أن الاستثناء من الإثبات نفي، وأن الخلاف إنما هو في الاستثناء من النفي هل يكون إثباتا؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين مشهورين :
1ـ مذهب الحنفية : أن الاستثناء من النفي ليس إثباتا، واحتجوا بما يلي :
أنه لو كان الاستثناء من النفي إثباتا لكان قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل الله صلاة بغير طهور » (رواه مسلم من حديث أبي مسعود مرفوعا) يثبت الصلاة بثبوت الطهور، وليس كذلك باتفاق؛ إذ يمكن وجود الطهور مع عدم وجود الصلاة. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار » (رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه) ونحوه من الأحاديث.
2ـ مذهب الجمهور : أن الاستثناء من النفي إثبات، واستدلوا بالإجماع على أن من قال : لا إله إلا الله، فقد آمن، وأثبت الألوهية لله وحده، ولو لم يكن الاستثناء من النفي إثباتا لما كان الناطق بهذه الكلمة مؤمنا.
كما استدلوا بعرف الناس وما يتبادر إلى الذهن عند سماع الاستثناء من النفي.
ومذهب الجمهور هو الراجح بلا تردد.
وقد أجيب عن استدلال الحنفية بحديث: « لا يقبل الله صلاة بغير طهور »، ونحوه من الأحاديث، بأن القاعدة لا تناقض المعنى الذي حمل عليه هذا الحديث؛ لأن الحديث يدل على أن الصلاة لا تكون مقبولة إلا بطهور؛ لأن الطهور شرط الصلاة ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط.
واختار القرافي أن القاعدة ينبغي أن يستثنى منها الشروط، فيقال : الاستثناء من النفي إثبات إلا في الشروط.
والذي يظهر : أنه لا حاجة إلى هذا الاستثناء؛ لأن النفي في أول الحديث يدل على أن الصلاة لا تكون مقبولة بغير طهور، والاستثناء يثبت نقيضه وهو أن الصلاة تقبل بالطهور، أي : أن الطهور لا يمنع قبولها، ولا يلزم منه ضرورة حصولها مقبولة إذا وجدت الطهارة، بل يحتمل عدم قبولها باختلال شرط آخر أو غير ذلك.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار » يفيد أن الصلاة بغير خمار غير مقبولة، وبالخمار لا يمتنع قبولها لأجل الخمار، ولا يمتنع أن تفسد أو ترد بسبب آخر.
وقد يشكل فهم مذهب الحنفية على بعض الدارسين، ويستبعد أن يذهب إليه ذاهب، فيحتاج إلى زيادة إيضاح.
وخلاصة مذهبهم : أن المستثنى مسكوت عن حكمه، وعلى المجتهد أن يطلبه من دليل آخر، وهو عندهم من باب مفهوم المخالفة، كمفهوم الشرط والصفة، فلو قال : ليس له علي إلا مائة. لا يدل على أنه أقر بالمائة، وإنما معنى كلامه نفي ما زاد على المائة، وأما المائة فإنه لا يثبتها ولا ينفيها، وقد يكون ناسيا أو شاكا في بقائها في ذمته، فلا نوجب عليه شيئا بالشك.
وأما الشهادة فقد قالوا : إنه يدخل بها في الإسلام؛ لأنه لا يوجد من تُدعى ألوهيته إلا الله أو غيره، فإذا نفى ألوهية غير الله ثبتت ألوهية الله جل وعلا.
ثمرة الخلاف :
ينبني على هذا الخلاف اختلاف في كثير من مسائل الإقرار والوصايا والأيمان والنذور.
ـ ومنها : إذا قال : ليس له علي إلا مائة، فإن الحنفية يقولون لا يكون مقرا بالمائة وإنما هو ناف ما عداها، فيسأل عن المائة ليقرها أو ينكرها.
والجمهور يقولون هذا إقرار بالمائة فلا ينفعه إنكارها بعد ذلك.
ـ ومنها : إذا قال : لم أعتق من عبيدي إلا غانما، لا يكفي لعتقه على القول الأول، ويكفي على القول الثاني.
ـ ومنها : إذا قال : لم أطلق إلا فلانة، لا يعد إقرارا بالطلاق على الأول، ويعد إقرارا بالطلاق على القول الثاني.
سبب الخلاف :
يرجع سبب الخلاف إلى أن الجمهور يرون أن جملة الاستثناء عبارة عن جملتين : إحداهما مثبتة والأخرى منفية، والحنفية يرون أنها جملة واحدة وأن المستثنى مسكوت عنه، وإثبات حكم له مخالف لحكم المستثنى منه من باب المفهوم وهو ليس حجة عندهم.
والجمهور منهم من يجعله من باب المفهوم، ومنهم من يقول إنه من باب المنطوق، وعند الفريقين هو ثابت.
الشرط الذي يحصل التخصيص به :
قال بعض المحققين : إن الشرط الذي هو أحد المخصصات هو الشرط اللغوي، أي : ما كان فيه التعليق بأحد أدوات الشرط مثل : إن، ما، من، إذا.
وقال بعضهم : يحصل التخصيص بالشرط العقلي والشرعي.
والصواب أن مقصودهم بالشرط في باب التخصيص الشرط اللغوي، وأما الشرط العقلي والشرعي فإنهما من المخصصات المنفصلة، فالأول تخصيص بالعقل، والثاني تخصيص بنص أو قياس ونحوهما، مما ثبت به كون الشيء شرطا شرعيا، فإن ثبت بنص قيل إن المخصص للعموم النص، وإن ثبت بقياس قيل المخصص القياس.
الشروط اللغوية أسباب :
هذه القاعدة حررها القرافي في أكثر كتبه، ومعناها: أن الشروط أربعة أنواع:
1 ـ شروط شرعية، مثل : الطهارة وستر العورة للصلاة.
2 ـ شروط عقلية، مثل: الحياة للعلم، فلا يمكن عقلا أن يكون عالما إلا من كان حيا.
3 ـ شروط عادية، مثل : وجود السلّم لصعود السطح.
4 ـ شروط لغوية ، وهي تعليق الحكم على وصف بإن أو ما جرى مجراها من الصيغ، مثل قوله تعالى : { } [الزلزلة7] { } [النساء130].
فالقرافي يقول : إن الشروط اللغوية من حيث معناها وترتيب الحكم عليها أسباب؛ لأن السبب : ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته، والشروط اللغوية ينطبق عليها هذا التعريف، فإذا قلت : إن تأتني أكرمك، فقد جعلت الإتيان إليك سببا في الإكرام، يحصل الإكرام بحصوله وينعدم بعدمه.
وإذا قال الزوج : إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، يكون قد جعل الخروج بغير إذنه سببا لوقوع الطلاق عليها، فإن وجد الخروج المذكور وجد الطلاق وإن عدم عدم الطلاق.
وبهذا يتبين أن الشروط اللغوية تنزل من حيث المعنى والحكم منزلة الأسباب.
والأمر كما قال القرافي، ولا يقال : قد يوجد الطلاق ولو لم يوجد الخروج بلا إذن، لأن المقصود وقوع الطلاق بسبب الخروج، وأما وقوعه بسبب آخر فلا يمتنع، وهذا جار في الأسباب الأخرى فإنهم يقولون ـ مثلا ـ : الردة سبب للقتل، مع أن القتل قد يكون لأجل الزنى مع الإحصان.
وقد زاد المحققون في تعريف السبب قولهم : لذاته، أي : بالنظر إلى هذا السبب دون غيره من الأسباب، حتى لا يرد مثل هذا الاعتراض على قولهم : السبب يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم.
الشرط المتعقب جملا :
إذا وقع الشرط بعد جمل متعاطفة فالجمهور على أنه يعود إلى الكل، وقيل يعود إلى الجملة الأخيرة كالاستثناء.
والصواب الأول، والفرق بينه وبين الاستثناء عند من فرق، أن الشرط منزلته التقدم على المشروط، فإذا تأخر في اللفظ كان كالمتقدم من حيث المعنى، ولا خلاف أنه إذا تقدم لحق الجميع مما يذكر بعده من الجمل المتعاطفة.
ومثال الشرط المتأخر قوله تعالى : { } [المائدة89]، ولا يختلفون في أن المراد فمن لم يجد جميع ما تقدم.
ما بعد الغاية هل يدخل في حكم ما قبلها؟ :
اختلف العلماء في دخول ما بعد حرف الغاية فيما قبله على أقوال :
الأول : أنه داخل فيه.
الثاني : عدم دخوله، وهو مذهب الجمهور.
الثالث : إن كان ما بعد حرف الغاية من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه وإلا فلا.
مثال : إذا قال : بعتك هذا الشجر إلى تلك الشجرة فهل تدخل الشجرة التي جعلها غاية للبيع في المبيع؟
على القول الأول تدخل، وعلى الثاني لا تدخل، وعلى الثالث إن كانت الشجرة من جنس الشجر المبيع فهي داخلة وإن كانت نوعا آخر من الشجر فلا تدخل، فلو كان المبيع نخلا والتي جعلت غاية رمانة فلا تدخل، وإن كانت نخلة دخلت.
وهذا القول أصح الأقوال؛ لأن القول الأول يشكل عليه قوله تعالى : { } [البقرة187]، والليل غير داخل في الصيام باتفاق، والقول الثاني يشكل عليه قوله تعالى : { } [المائدة6]، والمرافق داخلة فيما يجب غسله.
والقول الثالث لا يرد عليه شيء مما ذكر؛ لأن الليل ليس من جنس النهار الواجب صيامه فلا يدخل، والمرافق من جنس اليد فتدخل.
المخصصات المنفصلة
وهي كل دليل يستقل بنفسه، ولا يحتاج في ثبوته إلى ذكر لفظ العام معه.
أنواع المخصصات المنفصلة :
1ـ الحس :
مثال التخصيص به قوله تعالى : { } [الذاريات42]، فالعموم في قوله : { } مخصوص؛ إذ لم تجعل الجبال كالرميم، والذي دل على ذلك الحس.
2ـ العقل :
مثال التخصيص به قوله تعالى : { } [الزمر62]، فالعقل دل على أن الله لا يخلق نفسه.
وقد اختلف في عد العقل من المخصصات، فقال بعض العلماء إنه ليس مخصصا؛ لأن ما دل العقل على عدم دخوله تحت اللفظ لا يكون اللفظ موضوعا له أصلا، فالله جل وعلا غير داخل في لفظ (شيء) المذكور في الآية فلا حاجة إلى القول بتخصيصه ( ).
وقال أكثرهم : إنه من المخصصات؛ لأن لفظ (كل شيء) موضوع في اللغة للعموم، وفي هذه الآية لا يمكن حمل اللفظ على عمومه لدلالة العقل على خروج الله جل وعلا وصفاته من هذا العموم.
ويظهر أثر الخلاف عند من يقول : إن العام قبل التخصيص قطعي وبعده ظني، فإنه إذا عد العقل مخصصا عد العام المخصوص به ظنيا، وقد رأيت بعض علماء الحنفية الذين ذهبوا إلى التفريق بين العام المخصوص والعام المحفوظ قد جعل المخصوص بالعقل باقيا على قطعيته ما لم يخصص بدليل آخر.
وأما الجمهور فإنهم إذا عدوا العقل مخصصا فإن العام غير المخصوص عندهم أقوى من المخصوص بالعقل أو بغيره من الأدلة.
3ـ النص :
والتخصيص بالنص له صور :
أ ـ تخصيص القرآن بالقرآن :
مثاله : تخصيص قوله تعالى : { } [البقرة228]، بقوله تعالى: { } [الطلاق4]، فالآية الأولى تفيد أن كل مطلقة عدتها ثلاث حيض، وإذا قيل إنها مخصوصة بالآية الثانية فتخرج الحوامل من العموم، وكذلك خص من عموم المطلقات غير المدخول بها، بقوله تعالى: { } [الأحزاب49].
ب ـ تخصيص القرآن بالسنة :
مثاله : تخصيص قوله تعالى : { } [النساء11]، بقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس للقاتل شيء » (أخرجه مالك في الموطأ من حديث عمر مرفوعا، وأخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة بسند ضعيف، وله طرق يتقوى بها) فأخرج القاتل، وبقوله صلى الله عليه وسلم : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » (أخرجه أحمد في المسند، ومعناه في الصحيحين من حديث أبي بكر) فأخرج أبناء الأنبياء، وتخصيص قوله تعالى : { } [النور2]، بما ثبت أنه رجم الزاني المحصن، فيكون مخصوصا من العموم، وهو تخصيص بالفعل.
ومثله تخصيص قوله تعالى : { } [البقرة222]، بما روته عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرها أن تتزر فيباشرها وهي حائض (متفق عليه).
ففعل الرسول صلى الله عليه وسلم معها خصص العموم المستفاد من قوله: { }، أي : لا يكن منكم قربان لهن حتى يطهرن.
والتخصيص بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم مثاله : تخصيص عموم قوله تعالى : { } [البقرة267]، بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة بعدم إخراج الزكاة من الخضروات.
وقد اختلفوا في تخصيص القرآن بالسنة الآحادية، فذهب الجمهور إلى أنه جائز وواقع، وهذا منقول عن الأئمة الأربعة.
واحتجوا على هذا بأدلة، أهمها :
ـ الإجماع من الصحابة على العمل بأخبار الآحاد الخاصة مع معارضتها في الظاهر لعموم القرآن، وهذا يدل على أنهم خصصوا القرآن بخبر الآحاد، ويدل على ذلك وقائع كثيرة منها :
1ـ أن فاطمة طلبت ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين لها أبو بكر أنها لا تستحق شيئا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا نورث ما تركنا صدقة » (متفق عليه) وهذا مخصص لعموم قوله تعالى: { } [النساء11].
2 ـ تخصيص آيات المواريث بقوله صلى الله عليه وسلم : «لا يرث المسلم الكافر» (متفق عليه).
3 ـ تخصيص قوله تعالى : { } [البقرة275]، بما روي عن أبي سعيد الخدري وغيره أن النبي ÷ قال : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل... » (متفق عليه).
4 ـ تخصيص قوله تعالى : { } [التوبة5]، بقوله صلى الله عليه وسلم ـ في المجوس ـ : « سنوا بهم سنة أهل الكتاب » (أخرجه مالك في الموطأ من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعاً).
فهذه المواضع متفق على جريان التخصيص فيها، مع أن المخصصات أخبار آحاد.
وذهب بعض علماء الحنفية إلى عدم جواز تخصيص القرآن بأخبار الآحاد إلا إذا سبق تخصيصه بقطعي.
وأنكر بعض المتكلمين تخصيص القرآن بأخبار الآحاد مطلقا.
واستدل هؤلاء وأولئك بما ثبت عن عمر أنه رد خبر فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة حين طلقت، وقال : « لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت » (أخرجه مسلم)، وهو يعني تقديم قوله تعالى : { } [الطلاق6].
والراجح قول الجمهور، ومما يؤيده أن القول بتخصيص القرآن بأخبار الآحاد فيه عمل بكل من الدليلين العام والخاص، والعمل بالدليلين ولو من وجه أولى من إهمالهما أو إهمال أحدهما.
والجواب عن قول عمر بأنه رد الحديث لشكه في صحته، لا لكونه من رواية واحد معارضة لعموم القرآن.
ثمرة الخلاف :
انبنى على هذا الخلاف اختلاف في كثير من الفروع، منها :
1 ـ تخصيص قوله تعالى : { } [المزمل20]، بحديث: « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » [متفق عليه] فعند الحنفية لا يخصص عموم الآية بالحديث فلا يجعل خصوص الفاتحة هو ركن الصلاة، بل ركنها قراءة القرآن، وعند الجمهور يخصص عموم القرآن بالحديث فيكون المراد بما تيسر الفاتحة فتكون هي الركن.
2 ـ تخصيص آية : { } [الأنفال41]، بقوله صلى الله عليه وسلم : « من قتل قتيلا فله سلبه » [متفق عليه]، فالحنفية يقولون إن عموم الآية لم يسبق تخصيصه بقطعي فلا يمكن تخصيصه بالآحاد، فالسلب عندهم حكمه حكم الغنيمة فيخمس، وعند الجمهور الآية تخصص بالحديث، فالسلب للقاتل، على خلاف بينهم في شروط إعطاء السلب للقاتل.
3 ـ تخصيص آية : { } [الأنعام121]، بحديث : « سموا أنتم وكلوه » [رواه البخاري] فالحنفية قالوا لا نخصص عموم النهي المذكور في الآية بخبر الآحاد؛ لأنه لم يسبق تخصيصه بقطعي، ولذا لم يجيزوا الأكل من متروك التسمية، والجمهور خصصوا الآية بالحديث فأجازوا أكل متروك التسمية بشروط وقيود اختلفوا فيها.
ج ـ تخصيص السنة بالسنة :
مثاله : تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم : « فيما سقت السماء والعيون العشر » (أخرجه البخاري) بقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة » (متفق عليه)، فإن الحديث الأول عام في القليل والكثير، والثاني دل على إخراج القليل الذي لا يبلغ خمسة أوسق عن أن تجب فيه زكاة.
د ـ تخصيص السنة بالقرآن :
ونقل عن الشافعي إنكاره، والصواب جوازه ووقوعه، ومثاله : تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» بقوله تعالى : { } [التوبة29] فالحديث دل على مقاتلة جميع الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. والآية خصصت أهل الكتاب فإنهم لا يقاتلون إذا أعطوا الجزية.
4 ـ القياس :
وقد اختلف في تخصيص عموم القرآن والسنة بالقياس، على أقوال أهمها أربعة :
1ـ الجواز مطلقا.
2ـ المنع مطلقا.
3ـ جواز التخصيص بالقياس الجلي دون الخفي.
4 ـ جواز التخصيص بالقياس إذا كان العام قد سبق تخصيصه.
والصواب : جواز تخصيص القرآن والسنة بالقياس الجلي دون الخفي، ونعني بالجلي ما كان بنفي الفارق بين الأصل والفرع، أو منصوصا على علته.
ومثال التخصيص بالقياس الجلي : تخصيص عموم قوله تعالى : { } [النور2]، بقياس العبد على الأمة والاكتفاء بجلده خمسين جلدة، وذلك أن الأمة ورد النص بأن حدها على النصف من حد الحرة، قال تعالى : { } [النساء25]، فيقاس العبد على الأمة لعدم الفارق بينهما، فيكون حده خمسين جلدة.
والدليل على جواز التخصيص بالقياس الجلي أن الصحابة قد اتفقوا على إلحاق العبد بالأمة في تنصيف الحد، وهو تخصيص بالقياس، وأيضا فإن القياس الجلي بمنزلة النص ولا ينكره إلا مكابر.
ثمرة الخلاف :
من المسائل المتفرعة على هذا الخلاف ما يلي :
1ـ حكم الجاني إذا لجأ للحرم، قال تعالى : { } [آل عمران97]، فهذه الآية تدل بعمومها على أن كل من دخل الحرم كان آمنا على نفسه، سواء أكان جانيا قبل دخوله أم لم يكن كذلك.
والعلماء اختلفوا فيمن جنى خارج الحرم ثم لجأ إليه، هل يقتص منه في النفس؟ فذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى أنه لا يقتص منه داخل الحرم حتى يخرج، وعلى سكان الحرم أن يضيقوا عليه فلا يبايع ولا يؤاكل ولا يجالس؛ ليضطر إلى الخروج من الحرم فيقتص منه، أما الجناية فيما دون النفس فيقتص منه داخل الحرم.
وذهب مالك والشافعي إلى أنه يقتص منه في النفس وفيما دونها، واستدلوا بالقياس على من جنى داخل الحرم، فإن الأئمة متفقون على أنه يقتص منه.
والمسألة مبنية على الخلاف في تخصيص القرآن بالقياس، فالحنفية أنكروا تخصيص القرآن بالقياس؛ لأن هذا العموم محفوظ لم يسبق تخصيصه بقطعي فلا يمكن تخصيصه بالقياس.
والجمهور يرون التخصيص بالقياس إما مطلقا وإما إذا كان جليا، ولكن الإمام أحمد في هذا الفرع وافق أبا حنيفة في عدم الاقتصاص من الجاني إذا لجأ إلى الحرم بعد الجناية، مع أنه في الأصل يوافق الجمهور على جواز تخصيص القرآن بالقياس، وذلك لأنه وجد القياس الذي استدل به مالك والشافعي معارضا لأقوال عدد من الصحابة، كعمر وابنه وابن عباس، فقدم أقوال الصحابة الموافقة للعموم من القرآن. وقد تكون مخالفته لأن القياس عنده لا يصح للفرق بين من جنى داخل الحرم ومن جنى خارجه ولجأ إليه؛ فإن الأول منتهك لحرمة الحرم والثاني معظم له.
2ـ تضمين السارق المال المسروق إذا استهلكه أو هلك في يده، قال تعالى : { } [المائدة38].
اتفق العلماء على أن المال المسروق إذا وجد بعينه عند السارق وجب عليه رده لصاحبه، واختلفوا فيما إذا تلف المال عند السارق هل يضمنه؟
فذهب أبو حنيفة في المشهور عنه إلى أنه لا ضمان عليه، وذهب الشافعي وأحمد إلى وجوب الضمان، وفصل مالك وفرق بين الموسر والمعسر، فإن كان موسرا ضمن وإلا فلا ضمان عليه.
وسبب الخلاف اختلافهم في تخصيص القرآن بالقياس.
فالحنفية قالوا لا يضمن ما أتلفه من المال المسروق؛ تمسكا بعموم الآية: { }، و (ما) عامة في كل ما كسبته يداه من سرقة وإتلاف، وهذا العموم محفوظ غير مخصص فلا يقوى القياس على تخصيصه.
والذين قالوا بتضمينه خصصوا عموم الآية بالقياس على المغصوب، وقالوا كل ما وجب رد عينه وجب ضمانه كالمغصوب.
وتفريق مالك بين الموسر والمعسر من قبيل الاستحسان.
5 ـ الإجماع :
ولا خلاف في جواز التخصيص به، ومثله بعضهم بالإجماع على تخصيص العبد من عموم آية { } [النور2]، فيكون حده خمسين جلدة.
وإذا صح الإجماع فالمثال صحيح، ولا يشكل عليه أنه تخصيص بالقياس؛ إذ يقال إن القياس دليل الإجماع، وبعد حصول الإجماع لا ينظر إلى دليله، ويمكن أن يمثل له بالإجماع علىجواز عقد الاستصناع فيكون ذلك الإجماع تخصيصا لعموم الأحاديث الدالة على المنع من بيع وشرط، أو بيعتين في بيعة، وتخصيص قوله تعالى : { } [النساء12]، بالإجماع على أن المراد الأخ لأم والأخت لأم، وتخصيص قوله : { } [الحج36]، بالإجماع على أن هدي جزاء الصيد لا يجوز أن يأكل منه.
6ـ المفهوم : وهو قسمان :
1ـ مفهوم الموافقة : وهو إثبات مثل حكم المنطوق للمسكوت عنه الأولى منه أو المساوي.
ومثال التخصيص به : تخصيص حديث : « مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته » بمفهوم الموافقة في قوله تعالى : { } [الإسراء23]، فإن مفهوم الموافقة من الآية أن الابن لا يجوز أن يؤذي أباه بالشكوى إلى القاضي ولا يحل له عرضه أو معاقبته إذا ماطله في حق له.
2ـ مفهوم المخالفة : والمقصود به : إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، ومثال التخصيص به : تخصيصهم حديث : « الماء طهور لا ينجسه شيء » (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ مختلفة، عن ابن عباس وأبي سعيد)، بمفهوم حديث : « إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث » (رواه أصحاب السنن عن ابن عمر ـ ـ وصححه ابن حبان والحاكم)، فمفهوم هذا الحديث: أن الماء إذا لم يبلغ القلتين يحمل الخبث، أي : يتنجس، ولو لم يتغير طعمه أو ريحه أو لونه.
العموم الوارد على سبب
أطال بعض الأصوليين في تحرير محل النزاع في المسألة بتقسيم العموم الوارد جوابا، إلى مستقل وغير مستقل، ومثّل غير المستقل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «نعم» جوابا لسؤال سائل، ولا أرى حاجة لذلك؛ لأن لفظ « نعم » ليس من صيغ العموم، والكلام ليس في عموم كل جواب وخصوصه، وإنما الكلام في الجواب العام بالوضع هل يقصر على سببه؟
والأولى أن يقال في تحرير محل النزاع: إن العلماء اتفقوا على دخول صورة السبب في الحكم العام الوارد على سبب خاص، وما عداها من الصور الداخلة تحت عموم اللفظ إما أن يكون عموم اللفظ لها جزءا من الجواب لا يتم الجواب إلا به، أو يكون اللفظ الذي تناولها لغة زائدا عن الجواب يمكن فهم الجواب بدونه.
ومثال القسمين : أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل : أنتوضأ بماء البحر، فقال : « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » (أخرجه مالك وأحمد وأصحاب السنن، وصححه الحاكم)، فهذا الجواب فيه عمومان :
الأول : واقع في جواب السؤال ولا يتم الجواب بدونه، وهو قوله: « هو الطهور ماؤه ».
والثاني : زائد عن جواب السؤال ولكنه مصاحب له، وهو قوله : « الحل ميتته »، فهذا العموم الأخير خارج عن محل النزاع؛ لأنه بيان لحكم لم يسأل عنه فهو كالحكم المبتدأ الذي لا يعرف سببه، فيكون عاما لكل ميتات البحر إلا ما قام الدليل على خصوصه.
والأول : وهو ما كان العموم فيه في موضع السؤال ولا يتم الجواب إلا به هو موضع النزاع.
ومن أمثلته :
أ ـ قوله تعالى : { } [المجادلة3]. فهذه الآية نزلت عندما ظاهر أوس بن الصامت من زوجته فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه حالها وحال أولادها، وهو جواب عام في موضع السؤال، وليس زائدا عن الجواب.
ب ـ قوله صلى الله عليه وسلم ـ حين سئل عن ماء بئر بضاعة ـ: « الماء طهور لا ينجسه شيء»، وهو جواب عام في موضع السؤال، وليس خارجاً عما يحتاج إليه في الجواب.
ج ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « الخراج بالضمان » (أخرجه أحمد وأصحاب السنن عن عائشة مرفوعا) حين سئل عمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد فيه عيبا فرده، هل يضمن أجرة استعماله؟ وهو كما سبق جواب عام في موضع السؤال.
فهذا العموم ونحوه اختلف فيه على قولين مشهورين :
القول الأول : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو مذهب جمهور العلماء، وعليه العمل عند أكثر الفقهاء من أتباع المذاهب وغيرهم.
دليله :
1ـ أن الصحابة والتابعين استدلوا بالآيات والأحاديث العامة الواردة على أسباب خاصة في عمومها، ولم يقصروها على أسبابها، وذلك كآيات اللعان والظهار والسرقة والمواريث.
2ـ أن الحكم إنما يؤخذ من نص الشارع، وهو نص عام فيجب حمله على عمومه.
3ـ أن عدول الشارع عن الجواب الخاص إلى العموم دليل على أنه أراد العموم.
4ـ ما ثبت في الصحيحين من استشهاد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { } [الكهف54]، على علي عند ما أيقظه النبي صلى الله عليه وسلم هو وفاطمة لصلاة الليل، فقال علي : إن أرواحنا بيد الله، إن شاء بعثنا، فولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب فخذه ويقول : { } (متفق عليه)، مع أن الآية نزلت في الكفار الذين يجادلون في القرآن.
القول الثاني : أنه يجب قصر العام على سببه، وإليه ذهب بعض الشافعية, ونسب إلى الإمام الشافعي، ونقل عن المزني وأبي ثور، وحكي عن أبي الفرج المالكي، ونقل أيضا عن أبي حنيفة.
دليله : أن اتفاق العلماء على نقل أسباب النزول والعناية بها يدل على أنها ذات أثر في فهم الآيات، ولا أثر إلا قصر الآيات العامة على أسبابها، ولولا ذلك لما كان لنقل الأسباب فائدة.
والراجح : الأول، ونقل العلماء لأسباب النزول لا يدل على قصر العام على سببه؛ لأن نقل الأسباب له غايات أخرى، منها : أن الأسباب تساعد في فهم النصوص الشرعية وتفسير ما يغمض منها، ومنها : أن نقل السبب يبين تاريخ نزول الآية أو ورود الحديث ليعرف المتقدم عليه والمتأخر عنه من النصوص الأخرى، فيعرف الناسخ من المنسوخ.
ثمرة الخلاف :
مما ترتب على الخلاف في المسألة : اختلافهم في حل متروك التسمية، فإن الحنفية والحنابلة استدلوا بعموم آية : { } [الأنعام121]، على تحريم كل ما لم يسم عليه عند ذبحه، واستثنى الحنابلة ما تركت التسمية عليه نسيانا للعذر، وذهب الشافعي إلى حل متروك التسمية عمدا، وقصر الآية على سبب نزولها فإنها نزلت فيما يذكر عليه اسم غير الله.
دخول المخاطِب في عموم خطابه
المخاطِب إذا تكلم بخطاب عام يشمله من حيث الوضع اللغوي، كلفظ الناس أو المسلمين ـ إذا كان مسلما ـ هل يدخل في عمومه؟
هكذا تصور المسألة في كتب الأصول، والقدر المفيد منها أن تخصص بالرسول صلى الله عليه وسلم فيقال : الرسول صلى الله عليه وسلم هل يدخل في عموم خطابه الذي خاطب به أصحابه.
والخلاف في المسألة على ثلاثة أقوال مشهورة :
1ـ أنه داخل في عموم خطابه مطلقا؛ لأن اللفظ يشمله لغة فوجب أن يشمله حكما.
2ـ أنه ليس داخلا؛ لأن خطابه لغيره قد يكون أمرا أو نهيا، ولا يمكن أن يأمر نفسه أو ينهى نفسه، إذ لا بد فيه من آمر ومأمور، وناه ومنهي.
3ـ التفريق بين الخبر والأمر والنهي، فإن كان خطابه بصيغة الخبر فهو داخل فيه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : « الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا » (أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة ـ ـ)، وكقوله صلى الله عليه وسلم: « المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم » (أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي).
وأما إذا كان بصيغة الأمر أو النهي فلا يدخل فيه؛ لامتناع أمر الإنسان نفسه أو نهيها.
والصحيح : أن الأصل في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بحكم شرعي دخوله في ذلك الخطاب، سواء أكان الخطاب يشمله لغة أم لا، ولا يخرج عن ذلك الحكم إلا بدليل.
وقد تقدم في العموم المعنوي دخول الرسول صلى الله عليه وسلم في خطاب الأمة، وإن كان لا يشمله لغة، فدخوله فيما يشمله لغة أولى.
ويظهر أثر الخلاف عند تعارض نهيه وفعله، كما تقدم في استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة.
وقد ذكرت هذه المسألة بعد مسألة العام الوارد على سبب؛ لأن بعض العلماء ظن أن ورود العام على لسان المخاطِب يكفي لتخصيصه من ذلك العموم وإخراجه عن حكمه، كما ظنوا أن ورود العام على سبب خاص يخصصه.
دخول العبيد والإماء والكفار في الخطاب العام
اختلف العلماء في الدليل العام من الكتاب والسنة هل يشمل العبيد والإماء والكفار؟
وخلافهم راجع إلى أن هذه الصفات (الرق، الكفر) هل تدل على تخصيص الخطاب العام؟
ذهب بعضهم إلى ذلك، والجمهور على دخولهم في العموم؛ لأن اللفظ عام، وصفة الرق والكفر ليستا من المخصصات.
ويظهر أثر الخلاف في أن الأصل في الأوامر والنواهي الواردة بصيغة العموم، ما هو؟
فالأولون قالوا : الأصل عدم دخول العبيد والإماء والكفار إلا بدليل خارجي.
والجمهور قالوا : الأصل دخولهم، ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل.
العمل بالعام قبل البحث عن المخصص
هذه المسألة من المسائل التي أطال فيها الأصوليون الكلام، وهي لا تحتمل الإطالة، ونقل بعضهم الإجماع على عدم جواز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص، وعارضه الآخر بالإجماع على العمل بالعام حتى يطلع على المخصص.
والذي يظهر لي أن الصواب التفريق بين العلماء المجتهدين ـ الذين أحاطوا بغالب نصوص الشريعة وحصلوا من العلم ما يمكنهم من معرفة مراد الشارع، وسبروا غور النصوص فعرفوا العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، وخبروا مواطن الإجماع والخلاف ـ والعوام ومن يلحق بهم من المنتسبين إلى الفقه الذين أخذوا من العلم ما لا يكفي للتربع على عرش الفتيا وسدة القضاء.
فالقسم الأول , وهم العلماء المجتهدون لا ينبغي الخلاف في أنهم إذا بلغتهم آية عامة أو حديث عام ولم يبلغهم المخصص على الرغم من تمرسهم بالعلم وسعة اطلاعهم على الأدلة أنهم يجب عليهم العمل بالعام، ولا يلزمهم التوقف إلى أن يبحثوا لاحتمال وجود المخصص.
وأما القسم الثاني، وهم العوام ومن في حكمهم فهؤلاء ليس لأحدهم أن يعمل بالعام إذا بلغه دون أن يسأل أهل العلم المجتهدين، ولو ابتلي أحد المتفقهة بمنصب قضاء أو فتيا فليس له أن يفتي أو يقضي قبل أن يراجع كتب العلم التي تتيسر له ويبذل جهده في درك حكم المسألة منها، ولو بلغه حديث عام ليس له أن يبادر إلى العمل أو الفتيا بعمومه قبل أن يراجع ما قاله أهل العلم فيه، ويبذل غاية جهده في ذلك.
والذي يظهر أن الذين نقل عنهم المنع من العمل بالعام قبل البحث عن المخصص إنما منعوا لأحد سببين :
الأول : أنهم لا يقصدون بالبحث عن المخصص استقصاء موارد الأدلة جميعها، وإنما يقصدون مجرد التروي واسترجاع المعلومات السابقة لعرض الدليل العام عليها، فإن وجدوا فيها ما يخصصه وإلا عملوا به في عمومه.
وهذا ظاهر من قول أبي زيد الدبوسي : « وأما الفقيه فيلزمه أن يحتاط لنفسه فيقف ساعة لاستكشاف هذا الاحتمال بالنظر في الأشباه، مع كونه حجة للعمل به إن عمل، لكن يقف احتياطا حتى لا يحتاج إلى نقض ما أمضاه بتبين الخلاف » ( ).
ولا يخفى أن مثل هذا التوقف لا ينبغي الخلاف فيه.
الثاني : أنهم منعوا ذلك خوفا من أن يقدم كل أحد على العمل بالعموم دون بحث وإن كان من غير أهل الاجتهاد، ولو أذن لغير المجتهدين في ذلك لعطلوا كثيرا من نصوص الشريعة الخاصة للجهل بها.
وهذا يظهر من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول ـ في ترجيح قول المانعين ـ : « وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره، فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه، فإذا غلب على الظن انتفاء ما يعارضه غلب على الظن مقتضاه، وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض » ( )، فقوله : لا تحصل للمتأخرين الخ، يدل على أنه رجح المنع لما يعرفه من حال المتأخرين أنهم ليس لهم إحاطة بالأدلة.
والذين نقل عنهم القول بالعمل بالعام قبل البحث عن المخصص من الأئمة كالشافعي وأحمد، يحمل ما ورد عنهم على أن المراد بذلك أهل الاجتهاد.
وأما الذين أجازوه لمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لمن سمعه منه مباشرة أو لمن سمعه على سبيل التعليم، فهم فيما عدا ذلك مع المانعين، وتفصيلهم لم يعد له أثر بعد عهد الصحابة.
وقد بنى الإسنوي على الخلاف مسائل، أظهرها :
1ـ الحكم للمدعي إذا قامت البينة دون الإعذار إلى المدعى عليه، جوزه الشافعي ومنعه أبو حنيفة. وهو من قبيل بناء النظير على نظيره لا من بناء الفرع على أصله.
2ـ إذا لاعن الرجل زوجته وانتفى الولد ثم استلحقه فقال له شخص : لست ابن فلان، فهل يعد قذفا يحد به؟ أو يسأل عن قصده؟
وهذا أيضا كالفرع الذي قبله ليس من بناء الفروع على الأصول.
وعلى القول بوجوب البحث قبل العمل فلا يلزم التوقف إلى القطع بانتفاء المخصص، بل يكفي غلبة الظن في أصح الأقوال. والله أعلم.
المطلق والمقيد
تعريفهما :
المطلق في اللغة : الخالي من القيد، يقال : أطلق البعير من قيده إذا خلاّه بلا قيد.
وفي الاصطلاح : الدال على الحقيقة من غير وصف زائد عليها.
وعرفه بعضهم بأنه ما دل على فرد شائع في جنسه.
ومثاله : النكرة في سياق الأمر، أي : المأمور بها، كما في قوله تعالى : { } [المجادلة3]، فالرقبة المأمور بها في الآية مطلقة لم توصف بقيد زائد على حقيقة جنس الرقبة.
والمقيد: ما تناول معينا أو موصوفا بوصف زائد على حقيقة جنسه.
فالمقيد إذاً نوعان :
الأول : المعين، كالعَلَم والمشار إليه.
الثاني : غير المعين الموصوف بوصف زائد على معنى حقيقته.
وهذا النوع الأخير مقيد باعتبار، ومطلق باعتبار، ومثاله : قوله تعالى : { } [النساء92]. فالرقبة المذكورة في الآية مقيدة بالإيمان، ولكنها مطلقة من حيث الذكورة والأنوثة، ومن حيث الكبر والصغر، فيكون اللفظ مطلقا باعتبار ومقيدا باعتبار، وهو يختلف عن المطلق الذي لا تقييد فيه.
حمل المطلق على المقيد :
الدليل الشرعي المطلق إذا لم يرد ما يقيده يجب حمله على إطلاقه، كما أن العام إذا لم يرد ما يخصصه يجب حمله على عمومه.
وإذا ورد ما يدل على تقييد المطلق وجب حمل المطلق على المقيد.
والمراد بهذا المصطلح (حمل المطلق على المقيد) أن المجتهد إذا نظر في الدليل فوجده من حيث وضعه اللغوي مطلقا، ولكنه وجد دليلا آخر في اللفظ أو في لفظ آخر مستقل يقيد إطلاق ذلك المطلق، وجب عليه أن يفهم المطلق على ما يقتضيه دليل التقييد.
فالحمل معناه : الفهم، وحمل المطلق على المقيد، معناه : فهم الدليل المطلق لفظا على ما يقتضيه الدليل المقيد له فيكون المعنى الشرعي المقصود من المطلق هو المعنى المقصود من المقيد.
اللفظ المطلق في موضع المقيد في موضع آخر:
إذا جاء اللفظ مطلقا في موضع مقيدا في موضع آخر، فهل يحمل المطلق على المقيد، ويجعل الحكم الثابت بهما مقيدا؟
للجواب عن هذا نقول :
ورود اللفظ مطلقا مرة ومقيدا مرة أخرى له أحوال، بعضها محل خلاف وبعضها محل وفاق على النحو التالي :
1 ـ أن يتحد الحكم والسبب في الموضعين :
مثاله : اعتاد كثير من الأصوليين تمثيله بقوله تعالى : { } [المائدة3] مع قوله في آية أخرى : { } [الأنعام145]، وقالوا : إن الدم أطلق في موضع، وقيد في موضع آخر بكونه مسفوحا.
وهذا المثال فيه نظر؛ وهو أن لفظ (الدم) اسم جنس محلى بأل، وهو من صيغ العموم فيكون عاما لا مطلقا.
ويمكن أن يجاب بأنه عام في الدم القليل والكثير، وأما من حيث صفات الدم الأخرى فهو مطلق، وجاء تقييده في الآية الأخرى. وفي هذه الصورة يحمل المطلق على المقيد باتفاق.
ومن أمثلته الظاهرة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر : « من لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين » (متفق عليه).
وقوله في حديث ابن عباس بعرفة : « فليلبس الخفين » (متفق عليه). وليس فيه ذكر للقطع.
فالقاعدة تقتضي أن يحمل المطلق على المقيد باتفاق؛ لاتحاد الحكم والسبب، فالحكم هو لبس الخف لمن لم يجد النعل، والسبب هو الإحرام، ولكن الخلاف وقع من جهة قاعدة أخرى وهي أن المطلق جاء متأخرا عن المقيد، فذهب بعض العلماء إلى أن المطلق إذا تأخر ينسخ المقيد المتقدم، وهذا مذهب الحنفية ورواية عن أحمد.
وذهب بعض العلماء إلى أن المطلق لا ينسخ المقيد سواء تقدم أو تأخر، ويكون المقيد مقدما على المطلق فيقيد به، ولهذا قال بعضهم بوجوب قطع الخفين لمن لم يجد النعلين من المحرمين الذكور. وقال آخرون بعدم وجوب القطع.
ثم حاول كل فريق أن يستدل على رأيه بأدلة أخرى تقوي جانبه، وليس هذا موضع بسطها.
2 ـ أن يختلف الحكم والسبب :
مثاله : لفظ الأيدي جاء مطلقا في قوله تعالى : { } [المائدة38] وجاء مقيدا في قوله : { } [المائدة6] والحكم في الأولى القطع، وفي الثانية الغسل، والسبب في الأولى السرقة وفي الثانية الحدث، ففي هذه الحالة لا يحمل المطلق على المقيد قولا واحدا.
3 ـ أن يتحد الحكم ويختلف السبب :
مثاله : لفظ الرقبة في قوله تعالى : { } [المجادلة3] وقوله : { } [النساء92].
فالحكم واحد وهو العتق، والسبب مختلف، وهو في الآية الأولى الظهار، وفي الآية الثانية القتل خطأ.
وهذه الصورة وما يشبهها وقع الخلاف فيها على ثلاثة أقوال :
أ ـ حمل المطلق على المقيد بطريق اللغة، أي : تقييد الحكم المطلق بما ذكر في الدليل المقيد، ذهب إلى ذلك بعض الشافعية وبعض الحنابلة.
ب ـ حمل المطلق على المقيد بطريق القياس إذا توافرت شروطه، وذهب إليه بعض علماء الحنابلة كأبي الخطاب وغيره.
ج ـ عدم حمل المطلق على المقيد، وبقاء كل من الحكمين على حاله، وهو مذهب الحنفية.
وأرجح الأقوال هو الثاني وهو حمل المطلق على المقيد بطريق القياس لا باللغة؛ فإن اللغة لا تقتضي ذلك.
ومن أمثلته: قوله تعالى : { } [البقرة282]، مع قوله في آية أخرى : { } [الطلاق2]، ولا خلاف في اشتراط العدالة في الشاهدين، ولكن بعض العلماء أخذ ذلك من حمل المطلق على المقيد، وبعضهم بدليل آخر كالقياس.
4ـ ان يتحد السبب ويختلف الحكم :
مثاله : قوله تعالى في الوضوء : { } [المائدة6]، وقوله تعالى في التيمم : { } [النساء43]، فالأولى ورد فيها لفظ أيديكم مقيدا بالمرافق، والثانية ورد فيها مطلقا، والحكم في الأولى الغسل، وفي الثانية المسح بالتراب، والسبب واحد وهو الحدث أو إرادة رفع الحدث.
فهذه الصورة ذهب بعض الشافعية إلى حمل المطلق على المقيد فيها فقالوا في التيمم يمسح يديه إلى المرفقين.
والجمهور على عدم تقييد التيمم بالقيد الوارد في الوضوء، وهو الصواب؛ لأنه لا يمكن دعوى دلالة اللغة على التقييد هنا، وأما القياس فيكون من باب قياس حكم على حكم مختلف عنه لأجل اتحاد سببهما.
وهذا لا يصح مع قولهم إن السبب علامة على ثبوت الحكم لا تأثير لها، وإنما يقبل لو ظهر أن السبب فيه مناسبة لتشريع الحكم يمكن أن يعقلها المجتهد. وفي المثال المذكور لا يعقل المجتهد مناسبة تدعوا المحدث إلى أن يغسل وجهه ويديه الخ، أو يمسح وجهه ويديه، وإنما هو محض تعبد فلا يمكن القياس.
شروط حمل المطلق على المقيد :
ظهر مما سبق أن الشافعية أكثر المذاهب عملا بحمل المطلق على المقيد، ومع ذلك فقد ذكروا شروطا لصحة ذلك الحمل أظهرها ما يلي:
1 ـ أن يكون القيد من باب الصفات، كالإيمان في الرقبة، ولا يصح أن يكون في إثبات زيادة لم ترد في المطلق، ولذلك لا يصح أن يقال: يجب أن يُيَمم الرجلين والرأس إذا أراد التيمم.
2 ـ أن لا يعارض القيد قيدٌ آخر، فإن عارضه قيد آخر لجأ المجتهد إلى الترجيح.
مثاله : حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب، ورد بلفظ : فليغسله سبعا إحداهن بالتراب، وورد بلفظ : أولاهن، وبلفظ أخراهن، وكلها صحيحة السند، فالأولى مطلقة، والثانية والثالثة مقيدتان بقيدين متضادين فلا يمكن حمل المطلق على المقيد هنا إلا بترجيح.
3 ـ أن يكون ورود المطلق في باب الأوامر والإثبات، أما في سياق النفي والنهي فلا يحمل المطلق على المقيد، فلو قال : لا تعتق مكاتبا، ثم قال : لا تعتق مكاتبا كافرا، فلا يحمل المطلق على المقيد؛ لأنه لو أعتق مكاتبا مؤمنا لأخل بعموم اللفظ الأول.
كذا قالوا، ولا يخفى أن النكرة في سياق النفي والنهي تكون للعموم فلا يكون تقييدها من تقييد المطلق بل من تخصيص العام، والعام لا يخصص بما يدل على ثبوت الحكم لبعض أفراده.
4 ـ أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد، فإن قام دليل يمنع منه لم يجز، مثاله : قوله تعالى : { } [البقرة234]، مع قوله تعالى : { } [الأحزاب49].
فالأولى في عدة المتوفى عنها زوجها وهي مطْلَقَة؛ لأن لفظ (أزواجا) مطلق في المدخول بها وغيرها، والثانية في عدم العدة للمطلقة غير المدخول بها، ولا يقال إن المتوفى عنها غير المدخول بها لا عدة لها، وذلك لأن المتوفى عنها تبقى لها أحكام الزوجية من ثبوت الإرث وجواز تغسيل الزوج الميت بخلاف البائن، فوجب التفريق بينهما فيمتنع التقييد.
هكذا مثل الزركشي، وفي المثال نظر؛ لأن الحمل ممتنع لاختلاف الحكم والسبب، فالحكم في الأولى وجوب العدة، والسبب الموت، وفي الثانية الحكم عدم وجوب العدة، والسبب الطلاق قبل الدخول.
وهذا يدل على أن تقييد المطلق عند من يشترط هذا الشرط من باب القياس، والقياس لا يصح في مقابلة النص.
المنطوق والمفهوم
جرى كثير من الأصوليين على تقسيم الدلالة إلى دلالة منطوق ودلالة مفهوم، وقد يقسمون المدلول نفسه إلى منطوق ومفهوم.
وجرى بعضهم على إدراج دلالة المفهوم تحت دلالة غير المنظوم.
والمنطوق : هو المعنى المستفاد من صريح اللفظ. وقد يقال : ما دل عليه اللفظ في محل النطق.
ومعنى قولهم : في محل النطق، أي : في العبارة المنطوق بها.
مثاله : المعنى المستفاد من قوله تعالى : { } [البقرة110]، وهو الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. والمعنى المستفاد من قوله تعالى : { } [121] وهو النهي عن الأكل من متروك التسمية.
والمفهوم : هو المعنى اللازم للفظ ولم يصرح به فيه.
وقد يقال : ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق. أي في مقدر خارج عن المنطوق به.
مثل دلالة قوله تعالى : { } [الإسراء23] على تحريم الضرب والشتم، ودلالة قوله تعالى : { } [النساء25] على أن الأمة غير المؤمنة لا يصح نكاحها لمن لم يجد مهر الحرة.
والذين عبروا بالمنظوم وغير المنظوم، جعلوا غير المنظوم منقسما إلى الاقتضاء والإيماء والتنبيه (مفهوم الموافقة) ودليل الخطاب (مفهوم المخالفة).
وأما الذين عبروا بالمنطوق والمفهوم، فمنهم من جعل هذه الدلالات الأربع المتقدمة داخلة تحت المفهوم، ومنهم من جعل الثلاث الأولى داخلة تحت المنطوق غير الصريح، والرابعة هي المسماة بالمفهوم.
وهذا الاختلاف لا يترتب عليه فائدة سوى معرفة الاصطلاح، وقد وقع فيه كثير من الخلط والوهم.
والأولى سلوك طريق مَن قسّم الدلالة إلى دلالة المنظوم ودلالة غير المنظوم.
فالأولى معروفة، وهي : كل دلالة يكون الدال فيها دل بالوضع اللغوي. وهي تشمل دلالة المطابقة ودلالة التضمن.
والثانية، هي : دلالة الالتزام. وهي دلالة اللفظ على معنى خارجي لازم للمنطوق به.
وقد يقال : ما دل عليه اللفظ لا بصريح صيغته ووضعه. ويشمل دلالة الاقتضاء، ودلالة الإشارة، ودلالة الإيماء، ودلالة المفهوم.
وإليك التعريف بكل منها مع أمثلته.
1ـ دلالة الاقتضاء :
هي دلالة اللفظ على معنى مسكوت عنه يجب تقديره لصدق الكلام أو لصحته شرعا أو عقلا.
والمعنى المدلول عليه بالاقتضاء يسمى المقتضى (اسم مفعول) وهو ثلاثة أنواع :
1 ـ ما يجب تقديره لصدق الكلام ومطابقته للواقع، مثل دلالة قوله صلى الله عليه وسلم : « لا وصية لوارث » (أخرجه البخاري) على المقدر المحذوف، وذلك أن الناس قد يوصون للورثة ولكن المنفي صحة تلك الوصية، والتقدير : (لا وصية صحيحة أو نافذة).
2 ـ ما يجب تقديره لصحة الكلام شرعا، مثل قوله تعالى : { } [البقرة184]، فههنا محذوف يجب تقديره حتى يصح الكلام شرعا، وهو عبارة (فأفطر)، للاتفاق على أن من كان مريضاً أو على سفر ولم يفطر فلا قضاء عليه. ولو لم نقدر العبارة السابقة لوجب القضاء على المريض والمسافر حتى لو صاما، ولم ينقل هذا إلا عن بعض الظاهرية.
3 ـ ما يجب تقديره لصحة الكلام عقلا، مثل : { } [يوسف82] فالعقل يقضي بأن القرية لا تسأل فلا بد من تقدير: (أهل القرية).
وهذه الأنواع قد تسمى عند بعضهم دلالة الإضمار، والمعنى المقدر يسمى المضمر أو المقتضَى.
وقد اختلفوا في عموم المقتضى أو المضمر، فذهب بعضهم إلى عمومه، وبعضهم إلى أنه لا يعم.
واحتج القائلون بعموم المقتضى بأنه إذا أمكن تقدير معنى عام لا يمكن أن نقدر الأخص منه إلا بدليل، فإذا عدم الدليل قدرنا العام.
ولهذا قالوا في حديث : « رفع عن أمتي الخطأ » نقدر الحكم ليكون اللفظ كأنه : رفع عن أمتي حكم الخطأ، فهذا يشمل المؤاخذة الدنيوية والأخروية إلا ما دل الدليل على استثنائه فيكون مستثنى ومخصصا مثل ضمان المتلفات خطأ.
والقائلون بأن المقتضى لا عموم له، احتجوا بأن التقدير خلاف الأصل فيكتفى منه بما يصحح الكلام من غير زيادة فلا يعم، وقالوا في الحديث المتقدم: نقدر : الإثم، ليكون كأنه قال: رفع عن أمتي إثم الخطأ.
وكذا في قوله تعالى : { } [المائدة3]. قال الأولون : نقدر الانتفاع حتى يكون أعم، وقال الآخرون نقدر الأكل.
والقول الحق في ذلك أن يقدر ما دل العرف عليه، وهذا يختلف باختلاف اللفظ المنطوق به، ففي : « رفع عن أمتي الخطأ » الصواب تقدير (الإثم)، وفي: { }، الصواب : تقدير (الأكل)، وأما سائر الانتفاعات فإنما تلحق بطريق القياس إذا أمكن.
وفي مثل: { } [النساء23] نقدر الوطء ودواعيه من عقد أو غيره، ولا نقدر النظر واللمس بلا شهوة.
2ـ الإشارة :
وهي المعنى اللازم من الكلام الذي لم يسق الكلام لبيانه، مثل فهم جواز أن يصبح المسلم جنبا في رمضان، من قوله تعالى : { } [البقرة187] فإذا جاز له الجماع طوال الليل إلى الفجر، جاز أن يطلع الفجر وهو جنب ولا يفسد صومه.
3ـ الإيماء :
وهو فهم التعليل من ترتيب الحكم على الوصف المناسب.
مثاله قوله تعالى : { } [المائدة38]، فهذا يدل على أن العلة السرقة؛ لأن الله رتب الحكم بالفاء على وصف مناسب وهو السرقة، وهذا يومئ إلى العلة وينبه عليها، ولذا سماه بعضهم الإيماء أو التنبيه إلى العلة.
4ـ المفهوم :
وهو نوعان :
الأول : مفهوم الموافقة :
وهو المعنى الثابت للمسكوت عنه الموافق لما ثبت للمنطوق؛ لكون المسكوت أولى بالحكم من المنطوق أو مساويا له.
ومثال المفهوم الأولى قوله تعالى : { } [الإسراء23]، فإنه يدل بطريق الأولى على تحريم الضرب والشتم.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « أربع لا تجزئ في الأضاحي » (أخرجه أحمد والأربعة من حديث البراء بن عازب مرفوعا) وذكر منها العوراء. فإن عدم إجزاء العوراء يدل على عدم إجزاء العمياء من باب أولى.
ومثال المفهوم المساوي : قوله تعالى : { } [النساء10]، فإنه يدل على تحريم الأكل بمنطوقه، وعلى تحريم كل ما فيه تفويت لمال اليتيم بمفهوم الموافقة المساوي، فلا يجوز التصدق بمال اليتيم ولا إنفاقه في الجهاد ونحوه.
ومفهوم الموافقة حجة عند جميع الأئمة، وخالف فيه الظاهرية ولا يلتفت إلى خلافهم.
وقد يظن البعض أن مفهوم الموافقة قطعي الدلالة، والصواب أنه قد يكون قطعيا كالمثالين السابقين، وقد يكون ظنيا، كقولهم : إذا ردت شهادة الفاسق فالكافر من باب أولى.
وإنما قلنا إنه ظني لأنه لا يبعد أن ترد شهادة الفاسق؛ لأنه متهم بالكذب ولا ترد شهادة الكافر لكونه يحترز عن الكذب، والراجح رد شهادة الكافر.
وقد يكون ضعيفا كقول الشافعية : تجب الكفارة في قتل العمد لوجوبها في قتل الخطأ من باب أولى، وذلك لأن الكفارة وجبت في قتل الخطأ لقلة الجرم، وأما القتل العمد فإن الكفارة لا تكفره لكونه جُرما عظيما لا يكفره إلا القود.
الثاني : مفهوم المخالفة (دليل الخطاب) :
وهو الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم المذكور في المنطوق عما عداه.
وسمي مفهوم مخالفة؛ لأن الحكم الذي يثبت للمسكوت نقيض للحكم المنطوق به مختلف عنه.
وهو أنواع :
1ـ مفهوم الصفة :
ويقصد بالصفة : ما هو أعم من النعت عند النحاة، فيشمل النعت، والحال، والجار والمجرور، والظرف، والتمييز.
مثاله : قوله صلى الله عليه وسلم : « في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة » (رواه مالك وأبو داود) فتخصيص السائمة بالذكر يدل على أن المعلوفة لا زكاة فيها.
2ـ مفهوم الشرط :
مثاله : حديث : « أعلى المرأة غسل ـ يا رسول الله ـ إذا هي احتلمت؟ قال : « نعم، إذا رأت الماء » (أخرجه البخاري من حديث أم سليم رضي الله عنها)، فيفهم من هذا أنها إذا لم تر الماء فلا غسل عليها.
3ـ مفهوم العدد :
وهو ما يفهم من تخصيص العدد بالذكر. أو ما يفهم من تعليق الحكم على عدد مخصوص.
مثاله : قوله تعالى : { } [النور4] دال بمنطوقه على الثمانين، وبمفهومه على عدم إجزاء ما نقص عنها، وعلى المنع من الزيادة عليها.
والذي يظهر أن هذا داخل في مفهوم الصفة؛ لأن المقدار أحد صفات الشيء.
4ـ مفهوم الغاية :
وهو ما يفهم من مد الحكم إلى غاية بإحدى أدوات الغاية وهي : (إلى، حتى، اللام).
مثاله : حديث : « لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ».
فمنطوقه دال على نفي الزكاة قبل الحول، ومفهومه دال على وجوبها عند تمام الحول.
وقوله تعالى : { } [البقرة187] منطوقه دال على وجوب استمرار الصيام من طلوع الفجر إلى الليل ومفهومه يدل على أن الليل لا يجوز صيامه فيبطل الوصال، كما لو قال : لا تصوموا الليل.
5ـ مفهوم التقسيم :
وهو ما يفهم من تقسيم المحكوم عليه قسمين فأكثر، وتخصيص كل منهما بحكم.
مثاله : قوله صلى الله عليه وسلم : « الثيب أحق بنفسها، والبكر تستأذن » (أخرجه مسلم). فمنطوقه واضح، ومفهومه أن كل قسم يختص بحكمه، ولا يشارك الآخر في حكمه، فالثيب أحق بنفسها فتكون البكر ليست أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن، يدل على أن الثيب لا تستأذن؛ لأن الإذن منها لا يكفي بل لا بد من التصريح.
والذي يظهر أن هذا النوع داخل في مفهوم الصفة.
6ـ مفهوم اللقب :
وهو ما يفهم من تخصيص الاسم المجرد بالحكم من نفي الحكم عما عداه.
وسواء أكان الاسم لإنسان أو حيوان، اسم علم أم اسم جنس.
مثاله قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل » (أخرجه مسلم) منطوقه ظاهر، ومفهوم اللقب أن ما ليس ذهبا يجوز بيعه بمثله أو غيره من غير مماثلة.
حجية مفهوم المخالفة
مفهوم المخالفة بأنواعه الخمسة الأولى حجة عند الجمهور، مع اختلافهم في قوة كل نوع من أنواعه.
واستدلوا على ذلك بأدلة منها :
1ـ قوله صلى الله عليه وسلم : « لأزيدن على السبعين » (أخرجه البخاري بنحو هذا اللفظ) بعد أن نزل قوله تعالى { } [التوبة80].
وجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من النص على السبعين أن ما زاد عنها قد يكون حكمه مختلفا عن المقتصر على هذا العدد، فوعد بالزيادة على السبعين، لكنه نهي نهيا صريحا عن الاستغفار للمنافقين والصلاة عليهم.
2ـ أن الصحابة رضي الله عنهم فهموا من تخصيص الوصف بالذكر انتفاء الحكم عما خلا عنه، ويدل على ذلك وقائع منها :
أ ـ ما روى يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب : ألم يقل الله تعالى : { } [النساء101] فقد أمن الناس؟ فقال : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته » رواه مسلم.
ب ـ لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقطع الصلاة الكلب الأسود، قال عبد الله بن الصامت لأبي ذر : ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال : « الكلب الأسود شيطان» (أخرجه مسلم).
فهؤلاء من فصحاء العرب الذين نزل القرآن بلغتهم وقد فهموا من تخصيص الحكم بوصف انتفاءه عما لم يوجد فيه ذلك الوصف.
3ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبس المحرم، فأجاب بذكر ما لا يلبسه المحرم، فقال: « لا يلبس القميص ولا السراويلات ولا البرانس » (متفق عليه).
وجه الدلالة : أنه لولا أن تخصيص الممنوع بالذكر يدل على إباحة ما عداه لما كان قول الرسول صلى الله عليه وسلم جوابا لسؤالهم؛ لأنهم سألوا عما يجوز لبسه أو يجب، فأجاب بذكر ما لا يجوز لبسه، فدل على أن ما عداه يجوز لبسه.
4ـ أن تخصيص الشيء بالذكر لا بد له من فائدة، فإذا لم نعلم فائدة غير انتفاء الحكم عما عداه جعلنا التخصيص دالا على ذلك.
وذهب أكثر الحنفية إلى عدم حجية مفهوم المخالفة مطلقا.
واستدلوا بأدلة، أهمها :
أن القرآن والسنة مليئان بالنصوص التي فيها تعليق الحكم على وصف أو عدد أو غاية، ولا يكون نفي الحكم عما سوى المذكور مرادا باتفاق الصحابة.
ومن ذلك :
أ ـ قوله تعالى : { } [النساء23] ولا خلاف في تحريم الربيبة وإن لم تكن في الحجر.
ب ـ قوله تعالى:{ } [النساء101] ولا خلاف في جواز القصر للمسافر وإن لم يكن خائفا.
ج ـ قوله تعالى : { } [النساء20] ولا خلاف في أنه لو رغب طلاق المرأة ولم يرد الزواج بغيرها أنه داخل في النهي عن أخذ شيء من المهر، ولو كان المفهوم حجة لما كان ذلك إلا لمن رغب الاستبدال بها.
د ـ قوله تعالى : { } [النساء23] ولم يدل هذا على خروج حليلة الابن من الرضاعة، مع أنها ليست من الصلب.
2ـ أن الله قد نص على المفهوم المخالف حين يريد نفي الحكم عنه في آيات كثيرة، ولو كان السكوت كافيا لما كانت هناك حاجة إلى النص عليه.
ـ ومن ذلك قوله تعالى : { } [النساء23].
ـ وقوله تعالى : { } [النساء11].
3ـ أن ما سوى المنطوق مسكوت عنه، والمسكوت عنه ليس له حكم يؤخذ من اللفظ فليطلب حكمه من دليل آخر.
والراجح ـ إن شاء الله ـ هو قول الجمهور، وهو أن مفهوم المخالفة حجة بأنواعه كلها سوى مفهوم اللقب.
وقول المنكرين : إن في القرآن والسنة كثيرا من مفاهيم المخالفة المتفق على عدم حجيتها، يجاب بأن تلك المواضع لم تتوافر فيها شروط الاحتجاج الآتي ذكرها.
قولهم : إن الله قد نص على المفهوم حيث أراده، يجاب: بأن ما نص فيه على المفهوم قصد تأكيده ولا يدل على أن غيره ليس حجة.
وأما مفهوم اللقب فليس بحجة على الصحيح عند جماهير العلماء؛ لأنه لو كان حجة لكان الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفه بالرسالة قدحا في بقية الرسل وإنكارا لرسالتهم.
ولأن الاسم لا يشعر بالتعليل، ولهذا لا يدل ذكره على نفي الحكم عن غيره.
ولأن الاحتكام في ذلك إلى لغة العرب، واللغة لا تدل على أن ذكر الاسم والنص على حكمه دليل على نفي الحكم عن غيره.
شروط العمل بالمفهوم :
يشترط للعمل بالمفهوم شروط، أهمها :
1 ـ أن لا يكون تخصيص المذكور بالذكر جرى مجرى الغالب، فإن كان كذلك فلا يحتج به، ومثاله : قوله تعالى : { } [النساء23] فوصف الربائب بكونهن في الحجور جرى مجرى الغالب؛ إذ الغالب أن تكون بنت بنت الزوجة معها عند زوجها الثاني.
وإنما اشترطوا ذلك لأن ما جرى مجرى الغالب يكون حاضرا في الذهن عند التكلم فيذكره في كلامه ولا يقصد نفي الحكم عما عداه.
2 ـ أن لا يكون حكم المذكور جاء لكونه مسؤولا عنه، أو بيانا لحكم واقعة، فإن سئل عنه فرتب الحكم عليه، أو كان أمرا واقعا جاء بيان حكمه على صفته التي هو عليها، لم يدل ذلك على نفي الحكم عما عداه. ومثلوه بقوله تعالى : { } [آل عمران130] فإنه لا يدل على جواز أكل الربا إذا كان قليلا؛ لأن الآية بيان لحكم أمر واقع.
3 ـ أن لا يكون المذكور في اللفظ قد سبق ذكره حتى يكون معهودا، فإن كان معهودا فلا يدل ذكره على قصر الحكم عما عداه، وهو أعم من الذي قبله؛ لأن المسؤول عنه معهود لسبق ذكره.
4 ـ أن لا يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المذكور، فإن كان كذلك فإنه يكون من مفهوم الموافقة ويثبت للمسكوت حكم المنطوق من باب أولى. مثله بعضهم بقوله تعالى : { } [النساء92] قالوا فإن قتله عمدا وجبت الكفارة من باب أولى. وهذا ليس صحيحا عند الأكثر؛ لأن الكفارة تطهير للمكلف، والقتل العمد لا تطهره الكفارة لأنه جرم عظيم لا يطهره إلا القود، ولذا لم تجب فيه كفارة.
وأظهر من هذا أن يمثل بقوله تعالى :{ } [الإسراء31]، فلا يفهم منه جواز قتلهم من دون خشية الفقر؛ لأنه إذا حرم قتلهم مع خوف الفقر والعجز عن نفقاتهم فتحريم قتلهم مع القدرة على نفقاتهم أولى بالتحريم.
وهذه الشروط التي ذكروها كلها ترجع إلى شرط واحد وهو أن لا يظهر لتخصيص المذكور بالذكر فائدة سوى اختصاصه بالحكم عما لم يشاركه في الصفة المذكورة.
أثر الخلاف :
ظهر أثر الخلاف في مسائل كثيرة منها ما هو أصول وقواعد، ومنها ما هو فروع فقهية، ومنها :
1ـ هل يجوز نكاح الأمة لمن يجد مهر الحرة؟
اختلف العلماء في ذلك، وخلافهم راجع إلى الاستدلال بمفهوم الشرط في قوله تعالى : { } [النساء25].
فالجمهور قالوا الآية تدل بمفهوم المخالفة في قوله : (ومن لم يستطع) على أن المستطيع لمهر الحرة القادر على نكاحها ليس له أن ينكح الأمة.
والحنفية قالوا الآية بينت حكم من لم يستطع مهر الحرة وسكتت عن المستطيع، فيطلب حكم نكاحه من دليل آخر، وقد وجدنا الدليل في عموم قوله تعالى : { } [النساء3] والأمَةُ من النساء.
2ـ هل يشترط لمن أراد نكاح الأمة أن تكون مؤمنة؟
اختلفوا في ذلك، وخلافهم مبني على الخلاف في حجية مفهوم الصفة الوارد في قوله تعالى : { } [النساء25]، فذهب الجمهور إلى اشتراط إيمان الأمة أخذا بمفهوم الصفة المتقدم، فقوله من فتياتكم المؤمنات، يدل بمفهوم المخالفة أن غير المؤمنة لا يجوز نكاحها.
وذهب الحنفية إلى جواز نكاح الأمة الكتابية، وقالوا : النص على المؤمنة لا يدل على نفي الحكم عما عداها، وإنما يدل على أن ما عداها يطلب حكمها من دليل آخر، وقد وجدنا الدليل يدل على التفريق بين الكتابيات وغيرهن من الكافرات في قوله تعالى : { } [النساء24]، فالكتابية يجوز نكاحها سواء أكانت حرة أم أمة بخلاف بقية الكفار.
منهج الحنفية في تقسيم كيفية الدلالة
عرفنا أن الجمهور يقسمون الدلالة إلى دلالة منطوق ودلالة مفهوم.
وأما الحنفية فإنهم يجعلون الدلالة أربعة أقسام :
1ـ دلالة العبارة (عبارة النص) :
وهي دلالة اللفظ على المعنى المتبادر فهمه من الصيغة.
مثالها قوله تعالى : { } [الأنعام121] فعبارة النص تدل على تحريم متروك التسمية. وهي تقابل دلالة المنطوق عند الجمهور.
2ـ دلالة الإشارة (إشارة النص) :
وهي دلالة اللفظ على معنى غير مقصود بسياق الكلام، ولكنه لازم للمعنى الذي سيق له الكلام.
مثالها قوله تعالى : { } [الحشر8]، قالوا : هذه الآية تدل بطريق الإشارة على أن الكفار إذا استولوا على أموال المسلمين يملكونها؛ لأن الله سماهم فقراء مع أن أموالهم تحت أيدي الكفار.
ومثلها الأمثلة السابقة في دلالة الإشارة عند الجمهور، فإن مصطلح الفريقين متقارب في هذه الدلالة.
3ـ دلالة الاقتضاء (اقتضاء النص) :
وهي : زيادة على المنصوص يشترط تقديرها ليصير المنظوم مفيدا أو موجبا للحكم، وبدونها لا يمكن إعمال المنظوم وتصحيحه.
ومثالها قوله تعالى : { } [المائدة3]، لا بد من تقدير محذوف وهو أكل الميتة، وقوله: { } [النساء 23] يقتضي تقدير محذوف وهو الوطء ودواعيه.
ومصطلحهم في هذه كمصطلح الجمهور، وإنما وقع الخلاف في عموم المقتضى أو المقدر.
4ـ دلالة النص :
وهي دلالة المنطوق على أن حكمه ثابت للمسكوت لكونه أولى منه. وهي التي يسميها الجمهور مفهوم الموافقة، وأمثلتها تقدمت.
وأما مفهوم المخالفة فيسميه الحنفية دلالة المخصوص بالذكر على نفي الحكم عما عداه، وهو عندهم ليس حجة كما تقدم.
دلالة اللفظ من حيث الظهور والخفاء
جرى جمهور الأصوليين على تقسيم اللفظ الدال من حيث ظهور دلالته وخفاؤها إلى ثلاثة أقسام :
النص، والظاهر، والمجمل.
أولا : النص :
وهو في اللغة : الكشف والظهور، يقال : نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته، ومنه منصة العروس، وهو الكرسي الذي تجلس عليه.
وفي الاصطلاح : يطلق النص في مقابلة الظاهر والمجمل، ويكون المقصود به : ما دل على معناه دلالة لا تحتمل التأويل.
مثل دلالة قوله تعالى : { } [النور4] على مقدار الجلد.
وقيل : ما دل على معناه ولم يحتمل غيره احتمالا ناشئا عن دليل.
وعلى هذا فالاحتمال الذي لا دليل عليه لا ينقض قوة الدلالة، ولا يجعل اللفظ ظاهرا بل يبقى في مرتبة النص.
ويطلق النص في مقابل الدليل العقلي أو الدليل من المعنى فيكون المقصود به النقل، سواء أكان نصا صريحا أم ظاهرا أم مجملا. وهذا كما يقول الفقهاء دليلنا النص والقياس، فإنهم لا يقصدون النص بمعناه المقابل للظاهر بل المقابل للقياس ونحوه.
ثانيا : الظاهر :
وهو في اللغة : خلاف الباطن، وهو الواضح، يقال : ظهر الأمر إذا انكشف.
وفي الاصطلاح : ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر.
وهذا يدل على أن الظاهر صفة للفظ؛ لأن اللفظ هو الذي احتمل معنيين، وقد يطلقون لفظ الظاهر على المعنى الراجح الذي دل عليه اللفظ مع احتمال غيره احتمالا مرجوحا، فيقولون : هو الاحتمال الراجح.
ومثاله : دلالة الأمر على الوجوب مع احتمال الندب، ودلالة النهي على التحريم مع احتمال الكراهة، كقوله صلى الله عليه وسلم : « صلوا كما رأيتموني أصلي » (متفق عليه) وقوله : « لا تبع ما ليس عندك » (أخرجه أحمد وأصحاب السنن)، وقوله : « لا تلقوا الجلب » (أخرجه مسلم).
وهكذا كل حقيقة احتملت المجاز ولم تقم قرينة قوية تدل على ذلك فهي ظاهرة في المعنى الحقيقي.
وقد يعرفون الظاهر بما كانت دلالته على المعنى دلالة ظنية لا قطعية؛ تفريقا بينه وبين النص، وقد وقع للشافعي تسمية الظاهر نصا كما نقل ذلك الإمام الجويني وغيره.
المؤول :
إذا ذكر الظاهر ذكر معه المؤول.
والمؤول في اللغة: اسم مفعول من التأويل، وفعله آل يؤول، بمعنى : رجع، فيكون المؤول بمعنى المرجوع به، والتأويل بمعنى الرجوع.
وفي الاصطلاح: المؤول : هو اللفظ المحمول على الاحتمال المرجوح بدليل، سمي بذلك لأن المؤوِّل يرجع معنى اللفظ إلى المعنى البعيد الذي لم يكن موضوعا له لدليل يذكره.
والتأويل : حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح بدليل.
وهذا التعريف يشمل التأويل الصحيح والتأويل الفاسد.
فالتأويل الصحيح : حمل اللفظ على الاحتمال غير المتبادر للذهن بدليل قوي يقتضي ذلك.
والتأويل الفاسد : حمل اللفظ على الاحتمال غير المتبادر للذهن بدليل ضعيف لا يقوى على صرف اللفظ عن ظاهره.
والمؤوَّل هو : اللفظ المصروف عن ظاهره بدليل، فإن كان الدليل قويا يقتضي رجحان الاحتمال الذي كان مرجوحا لولاه فهو تأويل صحيح وإلا كان باطلا.
مثال التأويل الصحيح : تخصيص العام بدليل خاص، مثل تخصيص قوله تعالى : { } [البقرة275] بالأحاديث الدالة على تحريم البيع على بيع أخيه، والبيع مع النجش، وبيع الحصاة ونحوه من بيوع الغرر.
فحينئذ نقول : هذه الآية مصروفة عن عمومها الذي كان هو المتبادر من اللفظ، والصارف لها الأدلة السابقة.
ومثله تأويل قوله تعالى : { } [النحل98]، على أن المراد : إذا أردت قراءة القرآن، وليس المراد إذا فرغت من قراءته كما يفيده ظاهر اللفظ من حيث الوضع.
ومثله قوله تعالى : { } [المائدة6]، فإنها مؤولة عن ظاهرها، والمقصود : إذا أردتم القيام للصلاة؛ لأن الوضوء يسبق القيام للصلاة.
ومثال التأويلات الباطلة : تأويل الحنفية حديث غيلان عندما أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « أمسك منهن أربعا وفارق سائرهن » (أخرجه مالك والدراقطني وابن حبان) على أن المراد : أمسك الأربع الأول منهن، أو على أن المراد ابتدئ نكاح أربع منهن.
ومما يبطل هذا التأويل أن الشبهة التي استندوا إليها لا تقوى على ترجيح ما ذكروه من احتمال بعيد؛ لأنهم قالوا : إن المتأخرات نكاحهن باطل فلا يجوز أن يختار منهن أحدا إلا بعقد جديد.
والجواب : عن هذا أن الرجل الذي جاء الحديث في شأنه حديث الإسلام ولا يعرف شروط النكاح وأركانه، ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم اشتراط أن تكون الأربع هن المتقدم نكاحهن لبين له ذلك، ولَمّا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان ذلك عرفنا أن الأمر متروك لاختيار الزوج.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر الكفار الذين أسلموا على أنكحتهم ولم يغيرها ولم يأمر بتجديدها مما يدل على أن الفرقة لم تحصل بمجرد الإسلام؛ إذ لو حصلت لم يخير.
وكذلك تأويلهم حديث : «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي)، بأن المراد بها الصغيرة أو الأمة أو المكاتبة، ولا يخفى بعد هذا الاحتمال.
شروط التأويل الصحيح :
لصحة التأويل شرطان :
1 ـ أن يكون اللفظ محتملا للمعنى الذي يراد صرفه إليه في لغة العرب، أو في عرف الاستعمال، وهذا يعرف بمعرفة وضع اللفظ في اللغة أو معرفة عرف الاستعمال عند أهل اللغة أو عرف الشرع وعادته.
2 ـ أن يقوم على التأويل دليل صحيح، إما من السياق الذي جاء فيه اللفظ أو من دليل آخر لا يمكن الجمع بينه وبين هذا الدليل إلا بتأويل أحدهما.
مثال ما استدل على تأويله بالسياق قوله تعالى : { } [آل عمران173]، فلفظ الناس الوارد أولا يجب تأويله عن ظاهره ليكون المراد به فئة قليلة من الناس، بدليل قوله بعد ذلك : { }، وبدليل قوله في صدر الآية : { }، فالسياق يدل على أن هناك قائلا ومقولا له، ومخبرا عنه بالإضافة إلى دلالة الحس، على أن أكثر الناس في أقطارهم لا علاقة لهم بالواقعة.
ومثله : حمل اللفظ على المجاز لقيام القرينة، كقولك : رأيت أسدا متقلدا سيفا.
ومثال ما كان دليل التأويل فيه مستقلا : التخصيص بالمخصصات المنفصلة، وحمل المطلق الوارد في موضع على المقيد في موضع آخر.
وقد تقدمت له أمثلة كثيرة.
تنبيه :
لفظ التأويل لم يرد في الشرع مرادا به حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح لدليل أقوى، كما هو في الاصطلاح، وإنما جاء لفظ التأويل في نصوص الشرع للمعاني التالية :
1 ـ ما يؤول إليه الأمر، مثل حقائق ما أخبر الله عنه من البعث والحساب ونصب الموازين ونحو ذلك، ومن ذلك قوله تعالى : { } [آل عمران7] بناء على الوقف عند لفظ الجلالة.
2 ـ التفسير، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس : « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » (أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم في المستدرك، وأصله في الصحيحين بغير اللفظة التي فيها الشاهد، وهي قوله: « وعلمه التأويل » كما في فتح الباري)، وقوله تعالى : { } [يوسف44] أي : بتفسيرها.
3 ـ صرف اللفظ عن معناه الصحيح إلى معنى فاسد غير مراد، ومن ذلك قوله تعالى : { } [آل عمران7] ويمكن أن يحمل لفظ التأويل هنا على المعنى الثاني وهو التفسير، ولكن لما عطف على المذموم وهو اتباع المتشابه ترجح أن يكون مذموما وناسب أن يكون معنى ثالثا.
وهذا الاستقراء لمعاني التأويل في الكتاب والسنة حمل بعض العلماء إلى النفرة من التأويل وذمه، مع أنه بالمعنى الاصطلاحي يشمل المحمود والمذموم، والمحمود لا يمكن أن يتجنبه أحد من علماء الشريعة؛ وذلك لأنهم يعدون التخصيص وحمل المطلق على المقيد، وحمل اللفظ على المجاز لقرينة، والجمع بين النصوص بأي طريق، من التأويل، وهل يمكن أن يستغني أحد من علماء الشريعة عن ذلك كله؟!.
ثالثا : المجمل :
وهو في اللغة : المبهم، اسم مفعول من الإجمال بمعنى الإبهام أو الضم، يقال : أجمل الأمر، أي : أبهمه، ويقال : أجملت الحساب إذا جمعته، وجمل الشحم إذا أذابه وجمعه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها » (متفق عليه من حديث عمر ).
وفي الاصطلاح : « ما دل على أحد معنيين لا مزية لأحدهما عن الآخر بالنسبة إليه ».
شرح التعريف :
قولهم : (ما دل) يخرج اللفظ المهمل الذي لا دلالة له ولا معنى يمكن أن يراد به.
وقولهم : (على أحد معنيين) أخرج النص، فإنه يدل على معنى واحد معين.
وقولهم : (لا مزية لأحدهما على الآخر) أخرج الظاهر، فإنه يدل على معنيين لكن أحدهما أرجح من الآخر.
قولهم : (بالنسبة إليه) أي : بالنظر إلى اللفظ المجمل وحده، وإن كان أحد المعنيين راجحا بالنسبة لدليل آخر بيَّن المجمل، وذلك لأن الإجمال لم يعد باقيا في شيء من نصوص الوحي التكليفية، فهي قد بينت ـ والحمد لله ـ أكمل بيان.
والنصوص المجملة الباقية على إجمالها لا يتعلق بها تكليف.
مثال المجمل الذي بيِّن : قوله تعالى : { } [الأنعام141] فقد قام الدليل على أن الحق الواجب في المال هو الزكاة ومقاديرها معلومة، وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالحق هنا: الصدقة المطلقة منه يوم الحصاد بما تجود به نفس المالك من غير تحديد.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم : « ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها » الحديث (أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة)، فإن الحق قد بين بالنصوص المبينة لمقادير الزكاة.
ومثال المجمل الباقي على إجماله لكونه لم يتعلق به تكليف : الحروف المقطعة في أوائل بعض السور، مثل : ألم، حم، ونحو ذلك.
وقد خص كثير من العلماء هذا النوع من المجمل باسم خاص فسماه المتشابه.
وعلى ذلك لا يكون هناك مجمل لم يبين، ولكن يوجد متشابه استأثر الله بعلمه أو علمه الراسخون في العلم دون غيرهم، كما قال تعالى : { } [آل عمران7].
وقد اختلف القراء في الوقف أين يكون؟
فمن وقف عند لفظ الجلالة : (إلا الله)، قال : إن المتشابه ما استأثر الله بعلمه، ومثل له بحقائق ما يقع يوم القيامة، من وزن الأعمال ونصب الصراط والعبور عليه ونحو ذلك، وبكيفيات صفات الله جل وعلا.
ومن وقف عند لفظ العلم، قال : إن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه، وفسر المتشابه بما غمض معناه حتى لا يعرفه إلا الراسخون في العلم.
ولكل من الفريقين حجج في ترجيح ما ذهب إليه، والآية محتملة للأمرين.
أسباب الإجمال :
للإجمال أسباب أهمها :
1ـ الاشتراك اللفظي :
وهو تردد اللفظ بين معنيين فأكثر، وذلك بأن يكون اللفظ الوارد في الدليل له معنيان متساويان عند العرب، ولا يوجد في النص ما يدل على المراد منهما صراحة، مثل لفظ : القروء، الوارد في قوله تعالى : { } [البقرة228] فإنه يحتمل الأطهار والحيض، ولا يوجد في السياق ما يدل صراحة على المراد منهما، وإن كان كل من المختلفين استظهر من النص ما يؤيد رأيه.
ومثله : لفظ الشفق في قول الراوي : صلى العشاء بعد غيبوبة الشفق (متفق عليه). فإنه يطلق على الحمرة وعلى البياض اللذين يعقبان غروب الشمس.
2ـ اشتهار المجاز وكثرة استعماله :
فاللفظ قد يكون حقيقة في معنى ثم يستعمل مجازا في معنى آخر ويشتهر حتى يصبح مساويا للحقيقة في الاستعمال، فإذا ورد في الدليل احتمل المعنيين على السواء، مثل لفظ العين، يطلق في اللغة على العين الباصرة حقيقة، ويطلق على الجاسوس مجازا، وقد اشتهر هذا الإطلاق حتى ساوى الحقيقة وأمكن أن يكون سببا للإجمال.
ومثله : لفظ النكاح، فإنه في أصل اللغة للوطء ثم أطلق على العقد مجازا واشتهر حتى ساوى الحقيقة، فإذا ورد لفظ النكاح في الأدلة الشرعية احتمل المعنيين فصار مجملا ما لم يصحبه بيان.
وذلك كقوله تعالى : { } [البقرة230]. فلفظ تنكح زوجا غيره، يحتمل الاكتفاء بالعقد، أو لزوم الوطء بعد العقد.
ولولا بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للمراد من ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: « حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » (متفق عليه من حديث عائشة) لكان مجملا.
3ـ الإطلاق أو التعميم في موضع لا يمكن العمل فيه بالمعنى الظاهر من اللفظ لافتقاره إلى التحديد :
ومثاله قوله تعالى : { } [الأنعام141]، فالحق مطلق غير محدود ولا معروف المقدار، وكذلك الأمر بالصلاة قبل بيان صفتها.
والفرق بين هذا السبب والسبب الأول : أن السبب الأول يكون للفظ فيه معنيان محددان أو معانٍ محددة نجزم بأن المراد أحدها، وأما في هذا السبب فإن المعنى المقصود غير معروف بعينه، ولا هو محصور في معان محددة بحيث يتردد بينها.
الفرق بين المجمل والمشترك :
يعقد كثير من الأصوليين فصلا أو بابا للمشترك وآخر للمجمل، مع أن القارئ لا يتبين له في الغالب الفرق بينهما.
وقد فرق بينهما بعض العلماء بأن الإجمال بالنسبة إلى الفهم، والاشتراك بالنسبة إلى وضع اللفظ واستعماله.
ولبيان ذلك أقول : كون الدليل مجملا أمر نسبي يختلف من عالم لآخر، فقد يكون الدليل مجملا عند عالم ومبينا عند غيره، وذلك بحسب ما يصل إليه اجتهاد كل منهما.
وأما الاشتراك فهو من حيث الوضع في اللغة، فاللفظ قد يكون مشتركا ولكنه يستعمل في أحد معانيه فلا يكون مجملا، وقد يغمض المراد منه فيكون مجملا.
وأيضا فإن الإجمال في الأدلة الشرعية قد بين، ولم يبق لفظ مجمل لا بيان له على الأرجح من قولي العلماء.
أما الاشتراك فلا أحد يدعي انتهاءه من اللغة العربية، ولهذا فإن الكلام في الاشتراك بحث لغوي صرف لا ينبغي أن يحشر في أصول الفقه، وأما الكلام في الإجمال فهو أصل يجب أن لا يخلو منه كتاب في أصول الفقه.
تقسيم الحنفية دلالة اللفظ من حيث الوضوح والخفاء
قسم علماء الحنفية اللفظ إلى واضح الدلالة وخفي الدلالة. وقسموا واضح الدلالة أربعة أقسام رتبوها من الأدنى وضوحا إلى الأعلى على النحو التالي.
1ـ الظاهر، 2ـ النص، 3ـ المفسر، 4ـ المحكم.
وقسموا خفي الدلالة أربعة أقسام رتبوها من الأقل خفاء إلى الأكثر على النحو التالي :
1ـ الخفي، 2ـ المشكل، 3ـ المجمل، 4ـ المتشابه.
وإليك تعريفا موجزا لكل من تلك الأقسام مع مثاله.
1ـ الظاهر :
وهو : ما ظهر المراد به للسامع بصيغته ( ).
مثاله : قوله تعالى : { } [البقرة275] فالآية ظاهرة في إباحة البيع الخالي من الربا، وتحريم الربا.
وعندهم أن الظاهر يقبل التأويل و التخصيص و النسخ.
2ـ النص :
وهو مازاد وضوحا على الظاهر بمعنى في المتكلم لا في نفس الصيغة ( ).
مثاله : قوله تعالى : { } [النساء3] فالآية نص في جواز نكاح الأربع فما دون.
وقد فرق بعض علماء الحنفية بين النص والظاهر، بأن النص هو : الدال على معنى سيق الكلام للدلالة عليه، والظاهر : ما دل على معنى لم يسق الكلام للدلالة عليه. و اعترض البخاري شارح أصول البزدوي على ذلك( ).
وعندهم أن النص يقبل التخصيص والنسخ، ولا يقبل التأويل.
3ـ المفسر :
وهو ما ازداد وضوحا على النص بمعنى في النص أو بغيره. أي : سواء كان وضوحه لأجل قرينة في النص أو لدليل خارجي أخرجه من الإجمال إلى الوضوح، أو من احتمال التأويل إلى عدم احتماله.
مثاله : { } [الحجر30] فهذا مفسر لكونه أكد فيه العموم على وجه يمنع احتمال التأويل والتخصيص.
والمفسر عند الحنفية لايقبل التأويل ولا التخصيص، ولكنه يحتمل النسخ في عهد الرسالة.
4ـ المحكم :
وهو ما ازداد قوة وأُحكِم المراد به عن احتمال النسخ والتبديل.
مثاله : قوله تعالى : { } [البقرة29] ونحوها من الآيات التي تقرر حكما كليا أساسا في الإسلام، ولا يمكن أن يتطرق إليه التأويل أو التخصيص أو النسخ.
أقسام خفي الدلالة :
1ـ الخفي :
وهو : اسم لما اشتبه معناه وخفي المراد منه بعارض في الصيغة يمنع نيل المراد بها إلا بالطلب ( ).
والمعنى : أن الخفي لم يظهر المراد منه، والسبب في خفائه راجع إلى عارض عرض للصيغة فجعلها ليست ظاهرة الدلالة عليه.
ومثاله قوله تعالى : { } [المائدة38]، في دلالته على النباش الذي ينبش القبور فيأخذ أكفان الموتى، فإن دلالة الآية على قطع النباش دلالة خفية، والسبب في خفائها أن النباش اختص باسم يخصه، فقد يكون إطلاق هذا الاسم عليه لا يخل بمعنى السرقة الذي علق عليه القطع، وإنما هو لبيان سبب السرقة، وقد يكون اختصاصه بهذا الاسم لبيان اختلاف حاله عن حال السارق، كما نقل عن أبي حنيفة أن السارق يأخذ المال خفية وهو يسارق عين مالكه أو حارسه، أما النباش فلا يسارق عين صاحب الكفن؛ لأنه ميت.
وأيضا فإن السارق أخذ مالا يستفيد منه صاحبه لو لم يسرق، وأما النباش فإنه أخذ مالا آيلا للتلف، ولهذا ذهب أكثر الحنفية إلى عدم قطع النباش ولم يأخذوا بالدلالة الخفية الموجودة في الآية.
والواجب على المجتهد زيادة الطلب حتى يتبين له المراد من اللفظ.
2ـ المشكل :
وهو اسم لما يشتبه المراد منه؛ بدخوله في أشكاله على وجه لا يعرف المراد إلا بدليل يتميز به من بين سائر الأشكال ( ). وهو عندهم ضد النص، وهو قريب من المجمل، ويختلف عنه بأنه يعرف المراد منه بزيادة التأمل.
مثاله : قوله تعالى : { } [البقرة223]، فيحتمل أنه يدل على إتيان المرأة في دبرها، ودلالته على المنع من ذلك دلالة خفية تتبين بالنظر إلى فائدة الحرث وهو الإنتاج، ومعلوم أن الوطء في الدبر لا ينتج الولد فيكون غير داخل في مقصود الشارع بالآية.
وحكمه : اعتقاد أنه حق، والتأمل فيه إلى أن يَبين المراد.
3ـ المجمل :
وهو اللفظ الذي لا يفهم المراد منه إلا باستفسار المجمِل وبيان من جهته يعرف به المراد ( ).
ومثاله : قوله تعالى : { } [البقرة275]؛ فإن الربا في اللغة : الزيادة، وليس ذلك المعنى مرادا؛ لأن البيع ما شرع إلا للاسترباح وطلب الزيادة، ولذا فإن لفظ الربا كان مجملا حتى جاء بيانه من قبل الشارع نفسه، ولا يمكن أن يعرف المراد منه في الآية إلا ببيان من جهة الشارع.
وهذا هو الفرق بين المجمل والمشكل، فإن المشكل قد يعرف المراد منه بالتأمل والنظر في القرائن المصاحبة ونحو ذلك، بخلاف المجمل فإنه لايمكن معرفة المراد منه إلا ببيان من المتكلم به.
وحكمه : اعتقاد أنه حق، والتوقف فيه إلى الوقوف على البيان من قبل الشارع.
4ـ المتشابه :
وهو اسم لما انقطع رجاء معرفة المراد منه لمن اشتبه فيه ( ).
مثاله : الحروف المقطعة في أوائل السور، وكيفيات صفات الله جل وعلا، فإنها من المتشابه مع أن أصل الصفات معلومة، وإنما التشابه في كيفياتها.
وحكم هذا القسم : اعتقاد أنه حق، والإيمان به على مراد الله جل وعلا ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومما تقدم يتبين أن الأقسام الثلاثة الأولى يدخلها الجمهور فيما يسمى بالمجمل عندهم، ولكن بينها تفاوت في درجة الإجمال، فبعضها يزول ما فيه من إجمال بالتأمل اليسير، وبعضها يحتاج إلى مزيد تأمل، وبعضها لا بد فيه من البحث في أدلة الشرع الأخرى لمعرفة المراد منه.
وأما القسم الرابع ـ وهو المتشابه ـ فهو الذي انقطع الأمل في بيانه، ويطلق عليه الجمهورُ الاسمَ نفسَه.
البيــان
تعريفه :
البيان في اللغة : الإيضاح والكشف. والمبيَّن : الموضح.
وفي الاصطلاح : يطلق البيان على الدليل الذي أوضح المقصود بالمجمل، وهو المبيِّن. ويطلق على الخطاب الواضح ابتداء، ويطلق على فعل المبيِّن.
ويطلق المبيَّن ـ بالفتح ـ على الدليل المحتاج إلى بيان، كالمجمل بعد ورود بيانه، كما يطلق على الخطاب الذي ظهر معناه ابتداء، ولهذا اختلفت عبارات الأصوليين في تعريفه.
فبعضهم عرفه بأنه : إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي.
وعرفه بعضهم بأنه : الدليل.
والخطب يسير، كما قال الغزالي؛ فإنه لا حاجة لعقد باب مستقل له، وإنما ينبغي أن يلحق بالمجمل.
مراتب البيان :
البيان واجب على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى : { } [النحل44].
والبيان يحصل بأمور، بعضها أقوى من بعض، وهي :
1 ـ القول :
وهو الكلام المسموع، وقد حصل غالب البيان للشريعة بهذا الطريق، فبينت أنصبة الزكاة، والقدر الواجب فيها بالقول، وبينت أكثر أحكام الصلاة والبيوع وسائر المعاملات بالقول.
2 ـ الفعل :
وهو أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين مجمل القرآن أو مجمل سنة سابقة، وذلك كبيان صفة الصلاة وعدد ركعاتها، وصفة الحج؛ فإن أكثر ذلك إنما بين بالفعل، مع قوله صلى الله عليه وسلم « خذوا عني مناسككم » (رواه مسلم) وقوله في الصلاة : «صلوا كما رأيتموني أصلي » (رواه البخاري).
3 ـ الكتاب :
وهو أن يكتب النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين بعض الفرائض، والغالب أن لا يكون البيان بالكتابة إلا للبعيد عن المدينة، وذلك مثل كتابه لأهل اليمن الذي فيه بيان زكاة بهيمة الأنعام، والديات.
4 ـ الإشارة :
وذلك بأن يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى المراد، بيده أو بغير ذلك، ومثاله : قوله : « الشهر هكذا وهكذا وهكذا » الحديث (متفق عليه)، وأشار مرة بأصابع يديه العشرة ثلاث مرات، وأشار مرة أخرى بأصابع يديه العشرة مرتين وعقد في الثالثة أحد أصابعه؛ إشارة إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما.
وكذلك إشارته بيده إلى وضع النصف من الدين في حديث كعب بن مالك وأبي حدرد حين تقاضى كعب دَينا له على أبي حدرد في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهما فنادى : « يا كعب » قال : لبيك يا رسول الله، فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دَينِك... الحديث (متفق عليه).
5 ـ التنبيه :
وذلك بالإيماء إلى المعنى الذي يعلق عليه الحكم حتى يكون علة له، يوجد الحكم بوجودها.
مثاله قوله صلى الله عليه وسلم : « أينقص الرطب إذا جف » (أخرجه مالك وأصحاب السنن) فإن في ذلك إشارة إلى أن العلة في التحريم عدم تساوي الرطب والتمر. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : « إنك لست ممن يجره خيلاء » (أخرجه البخاري) فإن فيه تنبيها إلى أن العلة في تحريم الإسبال الخيلاء، وإن كان بعض العلماء عمم التحريم عملا بالظاهر وأعرض عن دلالة هذا التنبيه.
6 ـ الترك :
والمقصود به أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم فعل الشيء مع قيام الداعي له، كما ترك الوضوء مما مسته النار مع أنه كان يتوضأ من الأكل مما مسته النار، (أخرجاه في الصحيحين) ففهم الصحابة من فعله نسخ الحكم السابق.
والترك إن كان مع وجود المقتضي الداعي للفعل دل على عدم المشروعية، فأما الترك المطلق فإنما يكون دليلا على عدم الوجوب لا غير.
ومثال الأول : ترك تجديد أنكحة من أسلم من الكفار، دليل على صحتها وعدم مشروعية تجديدها، وترك أخذ الزكاة من الخضروات كذلك.
فأما ترك صلاة التراويح جماعة بعد أن صلاها ليلتين فإنه لا يدل على عدم مشروعيتها؛ لأنه بين علة الترك وهي خشية أن تفرض عليهم.
ومثال الثاني : ترك قيام الليل ليلة جمعٍ (المزدلفة)، فإنه لا يدل على المنع، وترك مباشرة الأذان والإقامة لا يدل على كراهتها له ولا للأئمة بعده.
وقد توسع بعضهم في الاستدلال بالترك، وظن أن كل ترك يمكن أن يكون بيانا، وليس كذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يترك فعل الشيء لعدم وجود الداعي له، كما ترك جمع القرآن في مصحف واحد، ولم ير الصحابة أن ذلك دليل على المنع إذا توافرت الدواعي، ولذلك أجمعوا على جمعه فيما بعد حين خافوا ضياع شيء منه أو الاختلاف فيه.
وقد يجعل الترك داخلا في الفعل؛ لأن الأكثر يعدون الترك فعلا للضد مع قيام الداعي.
تأخير البيان
تأخير البيان إما أن يكون تأخيراً عن وقت الحاجة أو تأخيرا عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.
والمقصود بوقت الحاجة : الوقت الذي يحتاج فيه المكلف إلى البيان؛ ليتمكن من الامتثال؛ بحيث لو تأخر البيان عنه لم يتمكن من العمل الموافق لمراد الشارع.
والمقصود بوقت الخطاب : الوقت الذي يسمع فيه المكلف الخطاب، سواء أكان قرآنا أم سنة.
وقد نقل ابن السمعاني الاتفاق على امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة.
أما تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل فهو محل الخلاف.
والمراد أن الشارع هل يمكن أن يخاطب المكلفين بخطاب مجمل فيه تكليف مطلق أو مؤقت بوقت لم يأت بعد، ويؤخر بيانه إلى أن يأتي وقت العمل؟
الأقوال :
القول الأول: جواز تأخير البيان من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة مطلقا. وعليه أكثر العلماء من الشافعية والمالكية والحنابلة.
واستدلوا بما يلي :
أ ـ قوله تعالى: { * } [القيامة18-19].
وجه الاستدلال : أن الله عطف البيان على الأمر بالاتباع بحرف (ثم)، وهي للترتيب مع التراخي، فدل ذلك على جواز تأخير البيان عن المبيَّن إلى حضور وقت العمل.
ب ـ قوله تعالى : { } [العنكبوت33] مع قوله : { } [هود46].
وجه الاستدلال : أن لفظ (أهلك) يشمل الأبناء، ولهذا فهم نوح عليه السلام دخول ابنه في الناجين، فقال: { } [هود45] فبين الله جل وعلا بيانا متأخرا أن ابنه ليس من أهله الناجين؛ لكونه عملا غير صالح.
ج ـ قوله تعالى : { } [البقرة110] مع الأحاديث الكثيرة التي بينت صفة الصلاة وعدد ركعاتها، وبينت مقادير الزكاة والأنصباء.
ولا يمكن أن يزعم المطلع على السنة أن بيان الصلاة والزكاة كان مقارنا لنزول الآيات التي فيها الأمر بها.
القول الثاني : المنع من تأخير البيان مطلقا، سواء أكان بيانا لمجمل عام أم غير ذلك. وهو مذهب أكثر الحنفية والمعتزلة، وبعض الشافعية.
واستدلوا بما يلي :
أ ـ أن تأخير البيان عن الخطاب المحتاج إلى بيان فيه تجهيل للمكلف وإيقاع له في اعتقاد ما لم يرده الله جل وعلا، وهذا قبيح فيمتنع على الحكيم العليم.
ب ـ لو جاز تأخير البيان فإما أن يجوز إلى أجل معين أو من غير أجل، فإن حددتم أجلا معينا فلا دليل عليه، وإن لم تحددوا أجلا لزم الخطاب بما لا يفهم معناه، والتكليف بما لا يطاق.
ونوقش الدليل الأول بأن ما يحتاج إلى بيان موقوف اعتقاده والعمل به على ورود البيان، والمطلوب من المكلف اعتقاد أنه حق وصدق على مراد الله جل وعلا من غير جزم باحتمال معين من بين الاحتمالات، ولا يلزم منه تجهيل.
وأجاب الأشعرية ـ كعادتهم ـ بأن الله تعالى لا يقبح منه شيء، والعقل لا مدخل له في التحسين والتقبيح.
ونوقش الدليل الثاني بأن التأخير الجائز هو تأخير البيان إلى حضور وقت العمل، ولا يلزم من ذلك التكليف بما لا يطاق.
وأما لزوم الخطاب بما لا يفهم معناه فإن أرادوا به أن لا يكون له معنى مفهوم فممنوع؛ لأن المجمل له معنى ولكنه محتمل لأكثر من معنى، وإن أرادوا أن لا يكون له معنى متعين فيمكن التزامه ولا مفسدة فيه إذا لم يستمر الجهل بمعناه إلى وقت العمل.
القول الثالث : جواز تأخير بيان المجمل دون غيره. وهو منقول عن الصيرفي وأبي حامد المروزي، واختاره أبو الحسين البصري وبعض المعتزلة.
واستدل لهذا القول بما يلي :
أن المجمل ليس له ظاهر يمكن العمل به فلا يلزم من تأخير بيانه إيقاع المكلف في اعتقاد الخطأ، وأما العام الذي أريد به الخصوص، والمطلق الذي أريد به المقيد، فلو أخر البيان لأدى ذلك إلى اعتقاد ما ليس مرادا لله تعالى، ولذا جاز تأخير بيان المجمل دون غيره.
ويمكن أن يناقش هذا، بمثل ما نوقش به استدلال القول الثاني، وهو أن اعتقاد العموم في العام المخصوص أو الإطلاق في المطلق المراد به المقيد لا ينبغي أن يقع من المكلف؛ إذ الواجب أن يعتقد أنه عام محتمل للتخصيص، أو مطلق محتمل للتقييد، لا أن يجزم بكونهما على العموم أو الإطلاق.
وأما العمل فلو حضر وقته قبل التخصيص والتقييد علم أن العموم والإطلاق مرادان.
وبهذا يتبين رجحان القول الأول، وهو مذهب الجمهور.
التخريج على قاعدة تأخير البيان :
قاعدة تأخير البيان ذات شقين، كما أسلفنا :
الأول : عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
الثاني : جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
فأما الشق الأول فهو محل وفاق، وقد خرجوا عليه قواعد كثيرة، من أهمها:
1 ـ حجية تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لما فُعل أو قيل بحضرته أو في زمنه وعلم به، ولهذا عدوا من أقسام السنة السنة التقريرية، وهي باب واسع من أبواب الاستدلال بالسكوت، أو ترك التفصيل والبيان، ومبناه على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز له شرعا أن يسكت عن بيان الحق عند الحاجة إليه، والفروع التي استدلوا لها بسكوت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى.
2 ـ رتب الشافعي على ذلك قاعدة من قواعد العموم، ونصها :
ترك الاستفصال في مقام الإجمال ينزل منزلة العموم في المقال.
والمقصود بها أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن مسألة تحتمل أكثر من وجه فأفتى فيها من غير استفصال من السائل دل ذلك على أن حكم جميع الأوجه واحد.
3 ـ إجراء العام على عمومه، والمطلق على إطلاقه إذا حضر وقت العمل، ولم يبين الشرع للأمة تخصيص ذلك العام أو تقييد المطلق.
ويمكن أن يعبر عن هذا بأن الأصل إجراء العام على عمومه والمطلق على إطلاقه.
وقد خرجوا على ذلك ما لا يحصى من المسائل الأصولية والفرعية، والمتتبع لاستدلال الأصوليين والفقهاء يجد أنهم يعولون على هذه القاعدة كثيرا.
وأما الشق الثاني من القاعدة وهو المختلف فيه فقد انبنى على الخلاف فيه اختلاف في مسائل أصولية مهمة، ولكن الذين رتبوا تلك المسائل على هذا الخلاف قلة من الأصوليين، وأهم هذه المسائل هي :
الخاص المتأخر عن العام هل يعد مخصصا أو ناسخا لما يقابله من أفراد العام؟
فالحنفية منعوا تأخير البيان ورتبوا على ذلك أن الدليل الخاص المتأخر عن العام زمنا يمكن فيه العمل بالعام يعد ناسخا لا مخصصا، وعلى ذلك يشترط فيه ما يشترط في الناسخ. ومعلوم أن خبر الآحاد لا يصلح ناسخا للقرآن عند الأكثر، فلو كان الخاص خبر آحاد متأخرا لم يجز العمل به عندهم؛ لأنه لا يصلح مخصصا ولا ناسخا.
والجمهور أجازوا تأخير البيان إلى وقت الحاجة، و لهذا أجازوا أن يكون الخاص المتأخر مخصصا للعام المتقدم، ما لم يعمل بالعام في عمومه، فإن عمل بالعام في عمومه عد الخاص المتأخر ناسخا واشترط فيه ما يشترط في الناسخ.
وهذه المسألة يبحثها أكثر الأصوليين بحثا مستقلا، عند الكلام عن التخصيص وشروط المخصص، فيذكر أن الحنفية يشترطون في المخصص أن يكون مستقلا مقارنا، ومعنى قولهم : (مقارنا) أي : غير متأخر عن العام زمنا يكفي لإيقاع الفعل فيه.
الباب الرابع
التعارض وطرق دفعه
هذا الباب من أهم الأبواب وأنفعها للفقيه، وبه يتبيَّن جانبٌ من جوانب فوائد علم أصول الفقه في العصور المتأخِّرة؛ وذلك لأن المسائلَ الخلافيَّةَ الكبرى نالت حظَّها من البحث والاستدلال والمناقشة، وحظُّ الفقيه المعاصر من بحثها هو الموازنةُ بين أدلّة المختلفين، وترجيحُ ما يراه راجحاً.
وقد عنون بعضُ الأصوليين لهذا الباب بعنوان التعادل والترجيح، وبعضهم بعنوان التعارض والترجيح، وبعضهم سكت عن التعارض واكتفى بالترجيحات.
تعريف التعارض :
التعارُض في اللغة بمعنى : التقابُل، وهو تفاعُلٌ من العُرْض، بالضم، وهو الناحية.
وفي الاصطلاح : تقابُل الدليلين على سبيل الممانعة.
والمناسبة بين المعنيين (اللغوي، والاصطلاحي) : أن الدليلَ المعارضَ لدليلٍ آخَرَ كأنه يقفُ في الناحية المقابلة للناحية التي يقفُ فيها الدليلُ الآخَرُ. أو أن كلاًّ منهما يقفُ في عُرْض الآخَر.
والتعادُل في اللغة : التساوي، وعدل الشيء : مثيلُه من جنسه.
وفي الاصطلاح :
جعله بعضُ الأصوليين مساوياً للتعارُض.
والصواب : أن التعادُلَ يعني تساوي الدليلين من كلّ وجهٍ، بحيثُ لا يبقى لأحدهما مزيةٌ على الآخَر.
وإذا حصل التعادُلُ ينسدُّ بابُ الترجيح، ولم يبقَ إلاّ أنْ يذهبَ المجتهدُ إلى تساقط الدليلين، والبحثِ عن أدلّةٍ أخرى، أو يتوقَّفَ، أو يتخيَّرَ، أو يذهبَ إلى الأشدِّ، أو إلى الأخفِّ من الحكمين اللذين دلَّ عليهما الدليلان المتعادلان.
وهذه أقوال العلماء في المسألة، كما سيأتي بيانها.
وأما التعارُض فهو يعني تقابُلَ الدليلين في الظاهر، بحيث يبدو للناظر إليهما في أول الأمر أنهما متنافيان، ويُمكن بشيءٍ من النظر، والتفكُّر الوصولُ إلى الجمع بينهما أو ترجيحِ أحدهما.
شروط التعارض :
ذكر بعضُ الأصوليين شروطاً للتعارُض، استفادها مما يذكره المناطقة في شروط التناقُض. فاشترط لحصول التعارُض الشروطَ التاليةَ :
1 ـ التساوي في الثبوت، فلا تعارُضَ بين الكتاب وخبر الواحد، بل يقدم الكتاب.
2 ـ التساوي في القوَّة،فلا تعارُضَ بين النصّ والظاهر، بل يُقدَّمُ النصُّ.
3 ـ اتّحادُ الوقت، فلو اختلف الوقتُ، فالمتأخِّرُ مقدَّمٌ.
4 ـ اتّحادُ المحلّ، فلو اختلف المحلُّ فلا تعارُضَ.
5 ـ اتّحادُ الجهة، فلو اختلفت جهةُ تعلُّق الحكم بالمحكوم عليه، فلا تعارُضَ، مثل النهي عن البيع بعدَ نداء الجمعة الثاني، مع الإذن فيه في غير هذا الوقت.
6 ـ اختلافُ الحكم الثابت بكلِّ من الدليلين، فلا تعارُضَ مع اتّحاد الحكم.
وقد وقع في بعض الكتب اشتراطُ اتّحاد الحكم ( ).
وهو لا يصحُّ؛ لأنه مع اتّحاد الحكم لا يوجدُ تعارُضٌ، وقد يُحملَ ذلك على اتّحاد محلّ الحكم. ولكنه جعل اتّحادَ محلّ الحكم شرطاً مستقلاًّ! فلْيُتنبّه لذلك.
وهذه الشروط التي يذكرها بعضُ الأصوليين لو تحقّقت لانسدَّ بابُ الترجيح، وامتنع الجمعُ بين الدليلين، وامتنع القولُ بالنسخ؛ لأن الدليلين إذا تساويا في الثبوت والقوَّة لا يُمكنُ الترجيحُ بينهما، وإذا اتّحدا في المحلّ والزمان والجهة لا يُمكنُ الجمعُ بينهما، ولا القولُ بنسخ أحدهما بالآخَر.
ولهذا فلا بدَّ أنْ نعرفَ أن اصطلاحَ الأصوليين والفقهاء في التعارُض يصدُقُ على التعارُض في الظاهر للمجتهد ولو لم تتحقق فيه تلك الشروط، غير أنه لا بد لحصول التعارض من تقابل دليلين ظنيين، وتقاربهما في القوة عند المجتهد، ولذا قالوا قد يكونُ الدليلان متعارضين في الظاهر ثم يجتهدُ الفقيهُ في الجمع بينهما، أو في تقديم أحدهما على الآخَر، إما لقوَّته أو لكونه ناسخاً له.
ويُؤيّدُ ذلك قولُهم : « لا يكونُ الترجيحُ إلاّ مع وجودِ التعارُض، فحيثُ انتفى التعارُضُ انتفى الترجيحُ » ( ).
كما يؤيده قول الجمهور : إن التعارُضَ بين الأدلّة إنما هو في الظاهر، أما في واقع الأمر فلا تعارُضَ.
ومنع بعضُ العلماء من استمرار التعارُض الظاهري إلى الأبد، وقال : لا يُوجدُ له مثالٌ.
وإذا تحقّقت الشروطُ السابقةُ في الدليلين المتعارضين، فما موقفُ المجتهد؟
اختلف العلماءُ في ذلك :
فذهب بعضهم إلى التخيير، بأنْ يكونَ المكلَّفُ مخيَّراً بين العمل بهذا الدليل أو ذاك، ونُسب للشافعي، واختاره القاضي الباقلانيّ والغزاليّ.
وهذا يُناسبُ القائلين: إن كلَّ مجتهدٍ في الظنيات مصيبٌ، وأن الحقَّ عند الله يُمكنُ أنْ يتعدّدَ. ولا يُناسبَ المُخطِّئةَ.
وذهب بعضُهم إلى التوقُّف، وهو يُناسبُ القولَ بتخطئة بعض المجتهدين، وأن المصيبَ واحدٌ.
وذهب بعضهم إلى أن على المجتهد أنْ يأخذَ بالأشدِّ؛ لأن الحقَّ شديدٌ.
وذهب آخرون إلى أن عليه أنْ يأخذَ بالأيسر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « يَسِّروا، ولا تُعَسِّروا » (متفق عليه عن أنس وأبي موسى).
والراجح - إن شاء الله تعالى – أنْ يُقال : هذا قد يكونُ في حقّ بعض المجتهدين دون بعضٍ؛ ولذا فإن المجتهدَ إذا لم يتّضحْ له رجحانُ أحد المتعارضَينِ يلزمُه أنْ يتوقّفَ ويبحثَ عن دليلٍ آخَرَ، يُؤيِّدُ هذا الدليلَ أو ذاك، فإنْ حضر وقتُ العمل ولم يترجّحْ له شيءٌ عمل بالأحوط منهما، أو قلَّد الأعلمَ منه.
وأما الذين يستفتونه فليس له أنْ يُفتيَهم، بل عليه أنْ يدلََّهم على غيره من المجتهدين، ويُخبرهم أنه لم يترجّحْ عنده شيءٌ.
وأما المقلّدُ الذي لا قدرةَ له على فهم الأدلّة والموازنة بينها ففرضُه سؤالُ مَن يثقُ في علمه ودينه من العلماء؛ لقوله تعالى : { } [النحل43].
وأما طالبُ العلم القادر على التمييز بين الراجح والمرجوح : فإن تبيّن له رجحانُ أحد القولين أخذ به وإلاّ قلَّد عالماً.
طرقُ دفعِ التعارُض الظاهريّ :
لدفع التعارُض الظاهري ّ بين الأدلّة ثلاثُ طرقٍ، هي :
1ـ الجمع بين الدليلين.
2ـ الحكم بنسخ أحد الدليلين بالآخَر.
3ـ الترجيح.
وقد اختلف العلماءُ فيما يجبُ المصيرُ إليه أوّلاً :
فذهب الحنفية إلى أن المرتبةَ الأولى مرتبةُ النسخ، فإذا أمكنَ نسخُ أحد الدليلين بالآخَر وجب المصيرُ إليه؛ لأنه يُبيِّن أن الدليلين لم يتواردا على زمانٍ واحدٍ.
فإن لم يُمكنْ معرفةُ التأريخِ فيلجأُ المجتهدُ إلى الجمع بينهما بتأويلهما أو تأويل أحدهما.
فإن لم يُمكنْ ذلك لجأ إلى الترجيح.
وعند الجمهور المقدَّمُ هو الجمعُ بين الدليلين إذا أمكنَ بحمل العامّ على الخاصّ أو المطلّقِ على المقيَّد، أو حملِ كلٍّ منهما على حالةٍ غير التي يُحمل عليها الآخَرُ.
فإن لم يُمكنْ نظر في التأريخ، فإنْ أمكن معرفتُه عددنا المتأخِّرَ ناسخاً للمتقدِّم.
فإن لم يُعرف التأريخُ لجأنا إلى الترجيح.
وإليك بيانُ كلٍّ من هذه الطرق وأمثلتها.
أولاً : الجمع :
ويُمكنُ تعريفُه بأنه : إظهارُ عدمِ التضادِّ بين الدليلين المتضادَّينِ في الظاهر بتأويل كلٍّ منهما أو بتأويل أحدِهما.
شرح التعريف :
طرقُ دفعِ التعارُضِ تشتركُ في أنها تُبيِّنُ عدمَ التضادِّ بين الدليلين المتعارضينِ في الظاهر، وينفصلُ الجمعُ عن الآخَرين بأنْ يكونَ بالتأويل. والتأويل – كما تقدَّم – صرفُ اللّفظ عن ظاهره لدليلٍ.
والتأويلُ للجمع بين الدليلين قد يكونُ تأويلا لهما معاً، بأنْ يُحملَ كلٌّ منهما على حالةٍ.
مثاله : الجمع بين حديث : « ألا أُخبِرُكم بخير الشُّهداء؟ الذي يأتي بالشهادةِ قبلَ أنْ يُسأَلَها» (أخرجه مسلم عن زيد بن خالد)، وحديث : « إن بعدَكم قوماً يخونون ولا يُؤتَمنونَ، ويَشهدون ولا يُستشهدون » (متفق عليه عن عمران بن حصين).
وذلك أن الحديثَ الأولَ يدلُّ على مدحِ مَن يأتي بالشهادةِ قبلَ أنْ يُسألَها، والثاني يدلُّ على ذمِّه. فيُجمَعُ بينهما بحمل الأول على مَن لديه شهادةٌ لصاحب حقٍّ لا يعلمُ بها صاحب الحق، والثاني على مَن لديه شهادةٌ بحقٍّ وصاحبُه يعلمُ بذلك، ولم يطلبْ منه أنْ يشهدَ.
وقد يكون بـتأويل أحدِهما دون الآخَر، مثل حمل العامِّ على الخاصِّ، والمطلَقِ على المقيَّدِ.
مثاله : الجمع بين حديث : « فيما سقت السماءُ... العشرُ » (أخرجه البخاري عن ابن عمر مرفوعا)، وحديث : «ليس فيما دون خمسة أوسُقٍ صدقةٌ» (أخرجه مسلم عن جابر مرفوعا).
وذلك بحمل الأول على ما بلغ خمسةَ أوسُقٍ، بحيثُ يكونُ معناه : فيما سقت السماءُ العشرُ إذا بلغ خمسةَ أوسًقٍ مما يُكال ويًدَّخرُ.
وأمثلةُ هذا النوع أكثرُ من أنْ تُحصى.
ثانياً : النسخ :
تعريفه : هو في اللُّغة : بمعنى الإزالة.
وفي الاصطلاح : رفعُ الحكمِ الثابتِ بخطابٍ متقدِّمٍ بخطابٍ متأخِّرٍ عنه.
شرح التعريف :
« رفعُ الحكمِ الثابتِ بخطابٍ » أي : بيانُ انتهاءِ العمل بالحكم الذي ثبت بدليلٍ شرعيٍّ من كتابٍ أو سنةٍ.
وقولهم : « الثابت بخطاب متقدم » يخرج ما كان ثبوته بمقتضى البراءة الأصلية، فإن رفعه لا يسمى نسخا.
وقولهم : « بخطابٍ متأخِّرٍ عنه » يعني : أن النسخَ لا يكونُ إلاّ بدليلٍ شرعيٍّ من كتابٍ أو سنّةٍ متأخِّرٍ عن الدليلِ المنسوخِ في نزوله إلينا إن كان كتاباً، أو في تكلُّمِ النبي صلى الله عليه وسلم به أو فعلِه أو إقرارِه إنْ كان سنّةً.
وباب النسخٍ شغل حيِّزاً كبيراً من كتب أصول الفقه، وأطالوا فيه الكلامَ بما لا طائلَ تحته.
والمفيد منه : أنْ يعرفَ الفقيهُ أنه أحدُ الطرقِ الشرعيةِ لدفعِ التعارُضِ الظاهريّ بين الأدلّةِ، وأنْ يعرفَ شروطَ الناسخِ، وطرقَ معرفةِ النسخِ. وما عدا ذلك مما يذكرونه في باب النسخ قليلُ الفائدة.
فأما كون النسخ طريقاً لدفعِ التعارُض الظاهري فلا خلافَ فيه بين الأئمة.
وقد وردت أدلةُ ذلك في الكتاب والسنة، كقوله تعالى : { } [البقرة106].
وقول عائشة رضي الله عنها : كان فيما أُنزلَ من القرآن عشرُ رَضَعَاتٍ معلوماتٍ يُحرِّمْن، فنُسخن بخمس رَضَعَاتٍ. (أخرجه مسلم).
فالآيةُ تدلُّ على أن الآيةَ تُنسخُ ويأت الله بخيرٍِ منها. والحديث دلَّ على وقوع النسخ.
ولا يختلفُ العلماءُ في ذلك، والحمد لله. وما يذكر من خلاف في بعض كتب الأصول فلا اعتداد به.
وأما اختلافُهم في حقيقة النسخ : أهو بيانٌ أو رفعٌ وإزالةٌ؟ فهو خلافٌ لفظيٌّ لا ثمرةَ له، كما نصَّ على ذلك إمامُ الحرمين وغيره من المحققين.
شروط الناسخ :
يُشتَرَطُ في الناسخ شروطٌ، هي :
1ـ أن يكونَ نصّاً من قرآنٍ أو سنّةٍ، فلا يصحُّ النسخُ بالقياس، ولا بالإجماع، عند جماهير العلماء.
2ـ أن يكونَ النصُّ الناسخُ متأخِّراً عن المنسوخ، وهذا لا اختلافَ فيه؛ لأنه لا يُمكنُ أنْ يكونَ المتقدِّمُ رافعاً للمتأخِّر.
3ـ أن يكونَ الناسخُ في قوَّة المنسوخ أو أقوى منه، فالقرآنُ يُنسخُ بالقرآن، والسنَّةُ تُنسخُ بالسنَّة بالاتّفاق، والقرآن لا يُنسخُ إلاّ بقرآنٍ مثلِه؛ لأن السنّةَ لا يُمكنُ أنْ تكونَ مثلَ القرآن ولا خيرا منه، والله تعالى يقول : { }.
وهذا هو مذهب الشافعي، واختاره بعض أصحابه.
وذهب أكثر الأئمة إلى أن القرآن يمكن أن ينسخ بالسنة المتواترة أو المشهورة، واستدلوا على ذلك بأنه ممكن عقلا وواقع شرعا.
فإما إمكانه عقلا فإن العقل لا يمنع أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بنسخ حكم نزلت في إثباته آية.
وأما الوقوع فمثلوه بآية الوصية للوالدين : { } [البقرة180] نسخت بحديث : « لا وصية لوارث » (رواه الخمسة إلا النسائي عن أبي أمامة ـ ـ). واستدلوا بقوله تعالى : { } [الحشر7].
وأجابوا عن استدلال الشافعي بالآية السابقة، بأن قوله : { } [البقرة106] لا يلزم منه أن يكون الناسخ قرآنا، وإنما المراد الخيرية للمكلفين، أي : نأت بحكم هو خير من الحكم المذكور في الآية للمكلفين.
وعلى الرغم من أن ظاهر الآية يؤيد ما ذهب إليه الشافعي، إلا أن الأكثر تأولوها.
والذي يظهر عدم الوقوع وإن كان ممكنا عقلا، والشافعي إنما قصد امتناعه في الوقوع لا في العقل.
وما ذكروه من أمثلة محتمل؛ لأن آية الوصية للوالدين منسوخة بآيات المواريث، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نسخها بآيات المواريث فقال : « إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث » (رواه الخمسة إلا النسائي).
أما نسخُ القرآن بالسنة الآحادية فالجمهور على منعه، وقد نقل إمامُ الحرمين الإجماعَ على ذلك، فقال : « أجمع العلماء على أن الثابتَ قطعاً لا ينسخُه مظنونٌ؛ فالقرآنُ لا ينسخُه الخبرُ المنقولُ آحاداً، والسنة المتواترة لا ينسخها ما نقله غير مقطوع به» ( ).
والذين أجازوه استدلُّوا بقياس النسخ على التخصيص، وبالوقوع. ومثّلوه بنسخ آية الوصية للوالدينِ بحديث : « لا وصيَّةَ لوارثٍ ».
ونسخ آية : { } [الأنعام145] بالنهي عن كلّ ذي نابٍ من السباع وكلّ ذي مخلبٍ من الطير.
وأُجيبَ عن الاستدلال بالقياس بأنه قياسٌ مع الفارق، فالنسخ رفعٌ وإزالةٌ، والتخصيصُ بيان أن المُخرَجَ غيرُ مرادٍ أصلاً.
وأُجيب عن أدلّة الوقوع بما يلي :
1- أن آية الوصية للوالدين نُسخت بآيات المواريث، كما سبق إيضاحُ ذلك.
2 ـ أن آية المحرَّمات ليست منسوخةً؛ إذْ ليس فيها أنه لا يُمكنُ أنْ يُحرِّمَ عليهم غيرَ ما ذُكر، وإنما فيها أن الذي حُرّم إلى نزول الآية هي الأربع المذكورة فيها , وهذا لا يمنع الزيادةَ عليها بعد ذلك.
نسخُ القياس والنسخُ به :
القياسُ لا يكون ناسخاً للكتاب والسنة؛ لأنه لا يُعتدُّ به إذاعارضهما، والنسخُ لا يكون إلاّ مع التعارُض بين الناسخ والمنسوخ.
وقال بعضهم : إذا كانت علتُه منصوصةً فيجوزُ النسخُ به.
وهل يُمكنُ نسخُ القياس؟ أما نسخُه تبعاً لأصله فجائزٌ. وأما نسخُه مع بقاء أصله فلم يجزْه الجمهور، ولكن الظاهرَ من صنيعهم أنهم منعوا تسميةَ ذلك نسخاً، مع أنهم لا يمنعون بقاءَ حكمِ الأصل، والمنعُ من القياسِ عليه لدليلٍِ يمنعُ ذلك؛ إذْ لا قياسَ مع النصّ.
وأما القياسُ على الأصلِ الذي نُسخ حكمُه فقد منعه الأكثرُ، ونُقل عن أبي حنيفةَ جوازُ القياس على الأصل المنسوخ؛ لأنه قاسَ صيامَ الفرض بنيّةٍ من النهار على صيام عاشوراء الذي كان واجباً ونسخ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يطعم أن يتم صوم ذلك اليوم، مع أنه لم ينو الصيام من أول اليوم كما روت الربيع بنت معوذ قالت : أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار : «من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائما فليصم» (متفق عليه).
نسخ المفهوم والنسخ به :
لا يجوز النسخ بمفهوم المخالفة؛ لأنه أضعف من المنطوق، وأما نسخه فجائز.
ومثال نسخ المفهوم المخالف بدون نسخ أصله : نسخ مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : «الماء من الماء» (أخرجه مسلم عن أبي سعيد) بحديث : « إذا مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغُسل » (أخرجه مسلم عن عائشة)، فالحديث الأول منطوقُه باقٍ وهو وجوب الغُسل من الإنزال، ومفهومه أنه إذا لم يُنزلْ فلا يجبُ الغُسلُ. وهذا المفهوم نُسخ بالحديث المتقدّم عن عائشة.
وأما مفهومُ الموافقة فالجمهور على جواز النسخ به؛ لأنه كالمنطوق أو أقوى.
وأما نسخه مع بقاء أصله فالأكثر على منعه. ومنهم من جوزه مطلقاً، ومنهم مَن جوَّزه إذا كان المفهومُ أولى بالحكم من المنطوق. ولم يشتهرْ له أمثلةٌ في كلام الأصوليين.
طرق معرفة النسخ :
يُعرف النسخُ بعدّة طرقٍ، أهمها :
1ـ النص على النسخ :
كما في قوله صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها » (أخرجه مسلم عن بريدة).
فالحديث فيه بيانٌ للنسخ لا يتطرّق إليه شكٌّ.
وكذلك قوله تعالى : { } [الأنفال66] نسخ قوله تعالى : { } [الأنفال65].
2- تأخُّر أحدِ النصين المتعارِضَين عن الآخر :
فإذا تعارض النصَّان وتعذر الجمعُ بينهما وعرفنا المتأخرَ منهما عرفنا أنه ناسخٌ للمتقدم إذا كان في قوته.
وقد يُعرف التأخر بنص الصحابي، أو بغير ذلك.
3- اتفاق الصحابة على نسخ أحد النصين بالآخر :
كما ورد في صحيح مسلم من نسخ مفهوم حديث : « الماء من الماء » (أخرجه مسلم عن أبي سعيد) بحديث : « إذا جلس بين شُعبها لأربع ثم جهدها فقد وجب الغُسلُ » (متفق عليه عن أبي هريرة).
4- تركُ الصحابة والتابعين العمل بالحديث من غير نصٍّ على النسخ :
مثاله: تركُ العمل بحديث أخذِ الشطْر من مال مانع الزكاة، فقد جاء في سنن أبي داود من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ـ فيمن غل صدقته ـ : «إنّا آخذوها وشطْرَ ماله»، وكذلك حديث: قتل السارق في المرة الرابعة (أخرجه الخمسة عن معاوية). ولم يعمل به الصحابة فدل ذلك على نسخه.
ثالثاً : الترجيح :
الترجيح في اللُّغة: مصدر رجّح، مأخوذٌ من رُجحان الميزان، وهو مَيَلاَنُ إحدى كفَّتيه.
وفي الاصطلاح : تقويةُ إحدى الأَمارتين على الأخرى.
وقيل : بيانُ اختصاص الدليل بمزيد قوَّةٍ عن مُقابِلِه.
والفرق بين التعريفين : أن الأولَ عبَّر بالأَمارة، والثاني عبَّر بالدليل، وهو أقربُ إلى اصطلاح الفقهاء الذين يُطلقون الدليلَ على القطعيّ والظنِّيّ.
شروط الترجيح :
يشترط في الترجيح ما يلي :
1 ـ أنْ يكونَ بين الأدلّة لا بين البيِّنات أو الدعاوى، فلا ترجيحَ بين بيِّنة المدَّعِي وبينة المدَّعى عليه؛ لأن البيّنةَ على المدعي واليمين على مَن أنكر.
هكذا قالوا، وفيه نظرٌ، أشار إليه ابنُ القيِّم في إعلام الموقَّعين.
2 ـ تحقُّقُ التعارُضِ في الظاهر بين الدليلين المرجَّحِ أحدهما، فلا ترجيحَ بين دليلين متَّفقين في المدلول.
3 ـ تعذُّرُ الجمعِ بين الدليلين، فإنْ أمكنَ الجمعُ بينهما والعملُ بهما معاً لم يَنتقل المجتهدُ إلى الترجيح؛ لأن الترجيحَ يُفضي إلى ترك الدليل المرجوح، والجمع فيه عملٌ بكلا الدليلين في الجملة، والعملُ بالدليلين – ولو من وجهٍ – أولى من إهمالهما أو إهمال أحدِهما.
4 ـ عدم معرفة تاريخ كلٍّ من الدليلين، فإنْ عُرفَ التاريخُ فالمتأخِّرُ ناسخٌ للمتقدِّم.
واشترط بعضُهم أنْ يكونَ الترجيحُ بصيغةٍٍ في الدليل، لا بدليلٍ مستقلٍّ.
والصواب : عدمُ اشتراط ذلك؛ لأنه يمكنُ أنْ يتساوى الدليلان ويترجَّحُ أحدُهما بموافقة دليلٍ آخَرَ. وستأتي أمثلةُ ذلك.
حكم الترجيح :
يجب على المجتهد إذا تعارض عنده دليلان في الظاهر، ولم يتمكنْ من الجمع بينهما، ولا القولِ بالنسخ أنْ يبحثَ عمّا يُرجِّحُ أحدَهما؛ ليعملَ بالراجح. وقد حَكى الإجماعَ على العمل بالراجح من الدليلين عند تعارضهما غيرُ واحدٍ.
ونُقل الخلافُ في ذلك عن أبي عبد الله البصري، الملقَّب بـ(جُعل)، وكذلك نُقل عن القاضي الباقلانيّ، ولم يلتفت الفقهاءُ إلى خلافهما.
والدليل على وجوب العمل بالراجح من وجوهٍ، أهمُّها :
1 ـ قوله تعالى : { } [الزمر55]، وقوله تعالى : { } [الزمر18].
والآيتان دليلٌ على اتّباع الدليل الراجح؛ لأنه أحسنَ من المرجوح.
2 ـ أن الدليلين إذا تعذّر الجمعُ بينهما، فإما أنْ يُتركا معاً، أو يُتركَ الراجحُ منهما، أو يُتركُ المرجوحُ.
فالأول باطلٌ؛ لما فيه من الإعراض عن الدليلين، والتسويةِ بين الراجح والمرجوح، وهما لا يستويان عند العقلاء.
والثاني باطلٌ؛ لما فيه من تقديم الضعيف على القويّ، وهو خلافُ مقتضى الشرع والعقل.
فلم يبقَ إلاّ الثالثُ، وهو المطلوبُ إثباتُه.
3 ـ إجماعُ الصحابة والتابعين على العمل بالراجح من الدليلين عند تعارُضهما، قال الطُّوفي في المختصر بعد أنْ نقل قولَ الباقلاني : « وليس بشيءٍ؛ إذ العملُ بالأرجح متعيِّن، وقد عمل الصحابة بالترجيح». وأوضح في الشرح أن العملَ بالترجيح متعيِّنٌ عقلاً وشرعاً، ونقل إجماعَ الصحابة عليه ( ).
وجوه الترجيح :
الترجيحُ له طرقٌ متعدِّدةٌ، لا يُمكنُ حصرُها وقد قال الزركشيُّ : « واعلمْ أن التراجيحَ كثيرةٌ، ومناطُها : ما كان إفادتُه للظنّ أكثرَ فهو الأرجحُ، وقد تتعارض هذه المرجِّحاتُ - كما في كثرة الرُّواة، وقوَّة العدالة، وغيره – فيعتمدُ المجتهدُ في ذلك على ما غلب على ظنّه » ( ).
وقد جرت عادةُ الأصوليين أنْ يفصلوا الترجيحَ بين الأدلّة النقلية عن الترجيح بين الأدلّة العقليّة.
فلْنأخذ كلَّ نوعٍ على حِدةٍ، فنقول :
طرقُ الترجيح بين الأدلّة النقليّة :
وله ثلاثة أوجه :
1ـ الترجيح من جهة السند.
2ـ الترجيح من جهة المتن.
3ـ الترجيح لأمرِ خارجيّ.
أولاً : الترجيح من جهة السند :
وله طرقٌ، أهمُّها :
1ـ كثرةُ الرُّواة :
فيُرجَّحُ الخبرُ الذي رُواتُه أكثرُ على الخبر الذي رُواته أقلُّ.
مثاله: رواية رفع اليدين عند الركوع الواردةِ من حديث جماعةٍ من الصحابة، منهم : علي بن أبي طالبٍ، وابن عمرَ، ومالك بن الحويرث، وأبو حميد الساعديّ، ووائل بن حجر. وغيرهم، تُرَجح على رواية البراء بن عازب: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يرفعُ يديه عند تكبيرة الإحرام، ثم لا يعودُ (أخرجه أبو داود والدارقطني) بأن الخبرَ الأولَ أكثرُ رواةً.
وقد خالف الحنفيةُ في الترجيح بالكثرة، وقاسوا الأخبار على البيِّنات كالشهادات، فكما أن الحقَّ لو شهد به شاهدان ثبت، ولا يزيدُ ثبوتُه بشهادة ثلاثة أو أربعةٍ، أو بمعارضتهم، فكذلك لا يُرجَّحُ بالكثرة في الرواية.
والراجح : صحَّةُ الترجيح بالكثرة في الأخبار؛ لأن الأخبارَ تختلف عن الشهادة في هذا، فالشهادةُ لها نِصابٌ، إذا وُجد تمّتْ وقضى بها القاضي، وأما الرواية فليس لها نِصابٌ محدَّدٌ، ولهذا قد تصلُ الروايةُ إلى التواتر أو الاستفاضة، وقد تقفُ عند درجة الآحاد.
وأيضاً فإن الشهادةَ فيها شائبةُ التعبُّد، بدليل أنها لا تُقبَلُ بلفظ الخبر، ولا تُقبَلُ شهادةُ النساء منفردات، بخلاف الخبر.
وذهب القاضي الباقلاني والغزالي إلى أن العبرةَ بظن المجتهد، فإن غلب على ظنِّه صدقُ الواحد أخذ بحديثه وترك حديثَ الاثنين أو الثلاثة. وهو قريبُ من قول الحنفية.
2ـ فقه الراوي :
فتُقذَّمُ روايةُ الفقيه على غيره مطلقاً، أي : سواء أكانت الروايةُ باللّفظ أو المعنى، وتُقدَّمُ روايةُ الأفقه على رواية الأقلِّ فقهاً. وقيل: بل تُقدَّم روايةُ الفقيه إذا كانت الروايةُ بالمعنى دون اللّفظ.
والأول هو الراجح؛ لأن الفقيهَ أقدرُ على نقل اللّفظ والمعنى من غيره، ولأن الفصلَ بين ما رُويَ باللّفظ وما رُويَ بالمعنى ليس بالأمر الهين.
مثالُه : تقديمُ رواية عمر وابنه وابن مسعود وابن عباس على رواية معقِل بن سنان، ونحوه، ممن قلّت مخالطتُهم للرسول صلى الله عليه وسلم والتفقُّه عليه، وكذلك الأمرُ فيمَن بعد الصحابة من الرُّواة، فتُقدَّمُ روايةُ إبراهيم النخعيّ عن علقمةَ عن ابن مسعود، على رواية الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود؛ فالأعمش وأبو وائل أقلُّ فقهاً من النخعيّ وعلقمةَ.
3ـ كونُ أحدِ الراويين صاحبَ الواقعة أو له صلةٌ قويّةٌ بما رواه :
مثال تقديم رواية صاحب الواقعة : تقديم روايةِ ميمونة رضي الله عنها : تزوجني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان (رواه أبو داود)، على رواية ابن عباسٍ رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكحها وهو محرمٌ (متفق عليه).
ومثال تقديم خبر مَن له صلةٌ قويّةٌ تقديمهم لخبر عائشةَ رضي الله عنها : أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يُصبِح جنباً من غير احتلامٍ، ويصوم (متفق عليه)، على خبر أبي هريرة : « مَن أصبحَ جنباً فلا صومَ له » (متفق عليه).
4ـ كونُ أحدِ الراويين ممن تأخَّر إسلامُه :
والحجّةُ في تقديم المتأخِّر إسلاماً أن تأخُّرَ إسلامِه دليلٌ على تأخُّرِ حديثه، فيكونُ ناسخاً لما يُعارضه.
ومثّلوه بتقديم رواية أبي هريرة في نقض الوضوء بمسِّ الذكر (أخرجه أحمد)، على رواية طلْق في عدم نقضه (أخرجه الخمسة).
ونازع في ذلك الآمديُّ، وصحّح العكس. واشترط بعضُهم أنْ يكونَ إسلامُ المتأخِّر بعدَ موت المتقدِّم؛ لنجزمَ بتأخُّر سماعِ المتأخِّر من الرسول صلى الله عليه وسلم.
5ـ قوَّةُ الحفظ والضبطِ :
فيُقدَّمُ الأقوى في الحفظ والضبط على مَن دونه، وهذا يُعرفُ بالتجربة والتتبُّعِ لمرويّاته وسيرته. ومثّله إمامُ الحرمين بتقديم رواية عبيد الله بن عمر بن عبد العزيز على رواية أخيه عبد الله؛ لأن الشافعـيَّ قال : « بينهما فضلُ ما بين الدرهم والدينار ».
6ـ يُقدَّمُ المسنَدُ على المرسَلِ؛ للخلاف في حجّية المرسَل :
وقال بعضهم : المُرسَلُ إذا كان عن ثقةٍ لا يُرسلُ إلاّ عن ثقات مثل المسنَد أو أولى منه؛ لما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال : « إذا قلتُ لكم : قال ابن مسعود فقد سمعته من كثيرٍ من أصحابه، وإذا قلت: حدّثني فلانٌ فهو الذي حدّثني » (أخرجه الدارقطني في سننه).
ثانياً : الترجيح من جهة المتن :
وله طرقٌ، أهمها :
1- ترجيحُ الخاصِّ على العامِّ، والأخصُّ من العامَّين على الأعم منهما:
وهذا مذهب جمهور الأصوليين من المذاهب الثلاثة. وعند الحنفية : أنهما سواءٌ، وهو روايةٌ عن الإمام أحمدَ.
وعلى ذلك : فإذا عُرف المتأخِّرُ فهو ناسخٌ للمتقدِّم في القدر الذي اشتركا فيه، وإنْ جُهل التاريخُ توقَّف العملُ على عمل الصحابة بأيِّهما كان.
وعلى الأول يكونُ الخاصُّ مخصِّصاً للعامِّ مطلَقاً، ومقدَّماً عليه. وقد تقدّم تمثيلُه في العموم والخصوص.
وكذا يكونُ الأخصُّ من العامَّين مقدَماً على الأعمّ منهما. كما يقدَّمُ حديثُ : « مَن قَتل قتيلاً فله سلَبُه » على عموم قوله تعالى : { } [الأنفال41]. مع أن الحديثَ فيه عمومٌ من جهة المستحِقّ للسلَب، ومن جهة السلَب نفسِه، فإنه يشملُ الثيابَ والسلاحَ، ولكنه أخصُّ من الآية فإنها عامّة في جماعة المسلمين، وعامّةٌ من جهة الغنيمة (ما غنمتم). وعند الحنفية أن السلَبَ يُخمَّسُ كسائر الغنيمة، ولا يرون تخصيص الآية بالحديث المذكور.
2 ـ ترجيح العامِّ المحفوظ على العامِّ المخصوص :
لأن التخصيصَ يُضعفُ دلالةَ العامِّ، عند المحقّقين من الأصوليين، كإمام الحرمين، وسُليم الرازيّ، والفخر الرازيّ، وابن تيمية، وغيرهم، مثاله : تقديمُ حديث : « إذا دخل أحدُكم المسجدَ فلا يجلسْ حتّى يُصلِّيَ ركعتين » (متفق عليه عن أبي قتادة) على حديث النهي عن الصلاة في الأوقات الخمسة. فالثاني مخصوصٌ بحديث : « مَن نام عن صلاةٍ أو نسيَها، فلْيُصلِّها إذا ذكرها » (متفق عليه عن أنس)، والأول لا يُعرفُ له مخصِّصٌ، فيُقدَّمُ.
3 ـ ترجيحُ ما قلّت مخصِّصاتُه على ما كثرت مخصِّصاتُه :
مثالُه : تقديمُ آية : { } [المائدة5] على آية : { } [الأنعام121] في الدلالة على حِلّ ما تركوا التسميةَ عليه من ذبائحهم؛ لأن الآيةَ الأولى مخصِّصاتُها أقلُّ، كما بيّن ذلك الإمامُ الشنقيطيّ في : «دفع إيهام الاضطراب»( ).
4 ـ ترجيحُ العامِّ المطلَق على العامِّ الوارد على سببٍ في غير صورة السبب:
وذلك لأن العامَّ الواردَ على سببٍ قال بعضُ العلماء بقصره على سببه، بخلاف العامِّ المطلَق.
مثاله : تقديمُ حديث : « مَن بدَّلَ دينَه فاقتلوه » (البخاري عن ابن عباس) على حديث : النهي عن قتل النساء والصِبيان (متفق عليه عن ابن عمر)؛ فإنه واردٌ على سببٍ، وهو الحربُ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يُوصي الجيشَ بذلك.
5 ـ ترجيحُ الخبر الدالّ على المراد من وجهين على الخبر الدالّ عليه من جهةٍ واحدةٍ :
مثل : تقديم حديث : « إنما الشفعةُ فيما لم يُقسمْ، فإذا وقعت الحدودُ وصُرِّفت الطرقُ فلا شُفعةَ » (متفق عليه عن جابر) على حديث : « الجارُ أحقُّ بصَقَبِه » (البخاري عن أبي رافع).
6 ـ ترجيحُ ما فيه إيماءٌ إلى العلة على ما ليس كذلك :
مثل حديث : « مَن بدَّلَ دينَه فاقتلوه » (البخاري عن ابن عباس) على حديث النهي عن قتل النساء (متفق عليه عن ابن عمر)؛ فإن الأولَ فيه تنبيهٌ على العلّة، وهي الردّةُ، والثاني مطلَقٌ عن التعليل.
7- ترجيحُ ما سِيقَ لبيان الحكم على الدالّ على الحكم بلفظه من غير أنْ يُساقَ لبيانه:
مثل : ترجيحُ الحنفية أحاديثَ النهي عن بيع الملامسة والمنابذة على عموم قوله تعالى : { } [البقرة275]؛ فإن الآيةَ لم تُسقْ لبيان حكم البيع بجميع صوره، وإنما سيقت لبيان الفرق بين البيع والربا، وأما الأحاديث فقد سيقت لتحريم تلك البيوع بأعيانها.
وإنما نصصتُ على الحنفية مع موافقة الجمهور لهم؛ لأن الجمهورَ يُعلِّلون تقديمَ الأحاديث بكونها خاصّةً والآيةً عامّةً، والخاصُّ عندهم مقدَّمٌ على العامِّ مطلَقاً.
8- ترجيحُ الناقل عن حكم الأصل على الموافق لحكم الأصل:
وهو البراءةُ الأصليةُ.
وهذا مذهب الجمهور.
مثاله : ترجيحُ أحاديثِ تحريمِ الحُمُرِ الأهليةِ على الأحاديث التي فيها إباحتُها؛ لأن التحريمَ ناقلٌ عن حكم الأصل.
9- ترجيحُ ما يقتضي الحظر على ما يقتضي الإباحة :
لأنه أحوطُ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « دعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَريبُك» (أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان عن الحسن بن علي رضي الله عنهما).
ويُمكن تمثيلُه بالمثال السابق في أحاديث الحُمُر الأهلية، وترجيح المحرِّم لها على المبيح.
وكذلك الأحاديث الدالّة على تحريم المتعة على الأحاديث الدالّة على الإباحة، إنْ نازع الخصمُ في النسخ.
10- ترجيحُ المثبِت على النافي :
لأن مع المثبت زيادةَ علمٍ خفِيت على النافي.
مثاله : ترجيحُ حديث بلالٍ في صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم داخلَ الكعبة (متفق عليه) على حديث أسامةَ : أنه لم يُصلِّ (أخرجه مسلم).
وخَصَّ ذلك بعضُ الأصوليين بما إذا لم يذكر النافي سبباً واضحاً للنفي، فإنْ ذكر سبباً لجزمه بالنفي غيرَ عدم العلم فلا يُعدُّ حديثُ المثبِتِ مقدَّماً، بل هما سواءٌ، وإن استند إلى عدم العلم فحسب، قُدِّمَ حديثُ المثبِتِ.
وهو تفصيلٌ حسنٌٌ.
11- ترجيحُ النصِّ على الظاهر، والحقيقةِ على المجاز:
مثاله : ترجيحُ الجمهور الخاصّ على العامِّ؛ لكون العامِّ ظاهراً والخاصِّ نصّاً. وأمثلتُه معروفةٌ.
12- ترجيحُ المنطوقِ على المفهومِ المخالِفِ :
مثل : ترجيح منطوق حديث : « الماءُ طهورٌ لا يُنجِّسْه شيءٌ » (الخمسة إلا ابن ماجه) على مفهوم حديث القُلَّتين؛ فإنه يُؤخذُ منه - بطريق مفهوم المخالَفة – أن ما نقص عن القُلَّتين يتنجّسُ بملاقاة النجاسة، وإنْ لم يتغيّرْ، ومنطوقُ الأول يدلُّ على عدم تنجُّسِه إذا لم يتغيّر لونُه أو طعمُه أو ريحُه.
ثالثاً : الترجيحُ لأمرِ خارجيٍّ :
وله طرقٌ، منها :
1ـ اعتضادُ أحدِ الخبرين بموافقة ظاهر القرآن :
مثاله : ترجيحُ خبر التغليس بالفجر على خبر الإسفار؛ لموافقته لظاهر قوله تعالى : { } [آل عمران133].
ونُقل عن الشافعيّ قولُه : « ما وافق ظاهرَ القرآن كانت النفوسُ أميلَ إليه »( ).
2ـ ترجيحُ القول على الفعل المجرَّد :
لأن الفعلَ إذا لم يصحبْه أمرٌ احتمل الخصوصيةَ للرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف القول.
مثاله : ترجيحُ حديث : النهي عن استقبالِ القبلةٍ واستدبارِها عند قضاء الحاجة، على حديثِ ابنِ عمرَ : رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقضي حاجتَه مستقبلاً بيتَ المقدِس، مستدبراً الكعبةَ. (متفق عليه).
3ـ ترجيحُ ما كان عليه عملُ أكثر السلف على ما ليس كذلك:
لأن احتمالَ إصابة الأكثر أغلبُ.
مثاله : ترجيحُ حديثِ تكبيرات العيد، وأنها سبعٌ في الأولى وستٌّ في الثانية على رواية مَن روى أنها خمسٌ في الأولى وأربعٌ في الثانية.
وهو يرجعُ إلى الترجيح بالكثرة، وقد سبق.
4ـ موافقةُ أحدِ الخبرين للقياس، فيُقدَّمُ على ما خالف القياسَ :
مثاله : ترجيح حديث : « إنما هو بَضعة منك » (رواه أحمد والنسائي) على حديث : « من مس ذكره فليتوضأ » (رواه مالك وأحمد والترمذي والنسائي) لأن الأول موافق للقياس دون الثاني.
5ـ ترجيحُ الخبر المقترن بتفسير راويه له بقولٍ أو فعلٍ، دون الآخَر :
فيُقدَّمُ ما فسَّره راويه؛ لكون الظنِّ بصحَّته أوثقَ، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في خيار المجلس، فقد فسّره ابن عمر بالتفرُّق بالأبدان.
الترجيح بين محامل اللّفظ الواحد :
من المعلوم أن لفظَ الدليل قد يتّفقُ العلماءُ على صحَّته، ويختلفون في المعنى الذي يُحمَلُ عليه، واختلافهم يحتاج من الناظر فيه إلى معرفة قواعد الترجيح بين معاني اللّفظ التي يحمله عليها المختلفون.
وهذه أهمُّ تلك القواعد :
1ـ تقديمُ الحقيقة على المجاز :
وهذا محلُّ وِفاقٍ إذا لم تكن الحقيقةُ مهجورةً، أو كان المجازُ غالباً.
مثاله : ترجيحُ قول مَن حمل حديث : « الجارُ أحقُّ بشفعة جاره » (الخمسة عن جابر) على المجاوِر لا على الشريك؛ لأن إطلاقَ الجار على الشريك مجازٌ.
وترجيح مذهب أهل السنة في حمل صفات الله تعالى على الحقيقة دون المجاز، كما في صفة اليدين مثلاً، فهناك من حملها على النعمة، وهو مجازٌ.
وترجيحُ قولِ مَن حمل لفظَ الأرض في قوله صلى الله عليه وسلم : « جُعلتْ ليَ الأرضُ مسجداً وطهورا » (متفق عليه عن جابر) على التراب، دون الجِير والإسمنت؛ فإنه لا يُسمى أرضاً إلاّ مجازاً، من جهة كونه مصنوعاً منها.
وأما إذا كانت الحقيقةُ مهجورةً فإن المجازَ يُصبحُ حقيقةً عرفيةً، فتُقدَّمُ على الحقيقة اللُّغوية المهجورة، كمَن حلف لا يأكلُ من هذه النخلة، فيُحمَلُ على الأكل من ثمرها لا من خشبها.
وإذا كان المجازُ غالباً على الحقيقة مع بقاء استعمال اللفظ في حقيقته، ففيه خلافٌ، ليس هذا موضع بسطه.
2ـ ترجيحُ الحقيقةِ الشرعية على الحقيقة اللُّغوية :
مثاله : حملُ لفظ الصلاة في قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تقبل صلاة بغير طَهورٍ » (مسلم عن ابن عمر) على الصلاة الشرعية، ذاتِ القيام والركوع والسجود، دون الدعاءِ الذي هو معنى الصلاة في اللُّغة.
وحملُ لفظ الزكاة على المعنى الشرعيّ المعروف، دون المعنى اللُّغويّ، الذي هو النماءُ والزيادةُ، في مثل قوله تعالى : { } [البقرة110].
3ـ تقديمُ الحمل على المجاز على الحمل على الاشتراك :
لأن المجازَ يُمكنُ العملُ به، بخلاف المشترَك فيجبُ التوقُّفُ فيه على البيان، ولأن المجازَ أكثرُ وقوعاً في اللُّغة من الاشتراك.
مثاله : لفظ النكاح في مثل قوله تعالى : { } [النساء22].
فإنه يحتمل أن يكون مشتركاً بين الوطء والعقد، ويحتمل أن يكون مجازاً في العقد. فمن جعله مشتركا إما أن يجعله عاما فيهما كالشافعي لعدم التنافر بين المعنيين، وإما أن يتوقف فيه ويطلب البيان من غيره. ومن حمله على العقد مجازا جعل عقد الأب على المرأة يحرّمها، دون الوطء بالزنا. والقاعدة تؤيده؛ لأن المجاز أولى من الاشتراك.
ومثّل القرافي باحتجاج المالكي على بيع الغائب بقوله تعالى : { } [البقرة275].
فيعترض بكونه مشتركاً بين المحرمة والمباحة، ويجاب بأن إطلاقه على المحرّمة مجاز، والحمل على المجاز أولى من الحمل على الاشتراك.
4ـ تقديمُ المعنى الذي لا يحتاج إلى إضمارٍ على المعنى الذي يحتاج إلى إضمارٍ:
مثاله : تقديمُ ابنِ حزمٍ تركَ الإضمار في قوله تعالى : { } [البقرة184]، ولم يضمرْ (فأفطر)، كما أضمرَ الجمهور، فالقاعدة تؤيِّدُه، لولا ما نقلوه من النصّ والإجماع على صحّة صوم المسافر إذا صام.
ومن الأمثلة الصحيحة : أن الجمهورَ حملوا حديث : «ذكاةُ الجنين ذكاةُ أمه» (رواه الخمسة إلا النسائي عن أبي سعيد) على أن ذكاةَ أمه تكفي عن ذكاته. والحنفية قالوا لا بدَّ أنْ نُضمر(مثل)؛ ليكونَ المعنى : مثل ذكاة أمه، وترك الإضمار أولى من الإضمار.
5ـ تقديمُ التأسيس على التأكيد:
والمرادُ بالتأسيس : حملُ الزيادة في اللّفظ على زيادة المعنى.
والتأكيدُ : حملُ الزيادة على تأكيد المعنى السابق.
مثاله : إذا قال الرجلُ لزوجته : أنتِ طالقٌ طالقٌ. فهل يُحمَلُ على التأكيد فلا تقعُ إلاّ واحدةً، أو على التأسيس فتقعُ طلقتان.والقاعدة تُؤيِّدُ الاحتمالَ الثاني عندمن لا يعتبر النية.
الترجيحُ بين المعقولين :
الترجيحُ بين المعقولين يُقابلُ الترجيحَ بين المنقولين.
والمراد بالمعقولين : الأقيسةُ وطرقُ الفقه الأُخرى، التي ليست بنقلٍ ولا قياسٍ، ويُسميها بعضُهم الاستدلالَ، ويَدخل فيها الاستصحابُ بأنواعه، والاستصلاحُ، والاستقراءُ عند مَن يرى حجيته.
ولكن المقصودَ هنا هو الترجيحُ بين الأقيسة، وأما الترجيحُ بين أنواع الاستصحاب فيُعرف عندَ الكلام عنه، وكذلك الاستصلاحُ، والاستقراءُ.
وقد ذكر الأصوليون كثيراً من طرق الترجيح بين الأقيسة، بعضُها يرجع إلى ترجيح حكمِ الأصل في أحد القياسَين على حكم الأصل الآخَر، أو ترجيحِ دليلِ حكم الأصل على دليل حكم الأصل الآخَر.
ويذكرون فيه طرقَ الترجيح بين الأدلة المنقولة التي تقدَّم ذكرُ أهمِّها، ثم يزيدون عليها طرقَ الترجيح بين العلل.
ويُعَدُّ الآمديُّ من أكثر الأصوليين توسُّعاً في عدِّ طرق الترجيح بين الأقيسة، فقد ذكر في الترجيح العائد إلى حكم الأصل ستةَ عشرَ طريقاً، وفي الترجيح العائد إلى العلة خمسة وثلاثين طريقاً، وفي الترجيحات العائدة إلى الفرع أربعةَ طرقٍ. والذين جاءوا بعدَه أخذوا عنه.
ومع كثرة ما ذكره من طرق الترجيح لم يُمثّلْ لها، وكذلك غيرُه من الأُصوليين لم يُعنوا بالتمثيل لطرق الترجيح.
والمتأمِّل لتلك الطرق يجدُ أنها لم تستوعبُ جميعَ الاحتمالات الممكنة في التعارُض؛ لأن بعضَ الأقيسة قد تكونُ فيه صفةٌ تُميِّزه، والآخَرُ فيه صفةٌ أخرى تُميِّزه. وقد تكون في أحد الأقيسة صفتان، وفي الآخَر صفتان أو ثلاث.
ولا يُمكنُ الترجيحُ بين الأقيسة حتى نُبيِّنَ ما الذي يجبُ النظرُ فيه أولاً من أركان القياس؟
فهل ننظرُ أولاً في حكمِ الأصل ودليلِ ثبوته، بحيثُ إذا ترجّحَ دليلُ الثبوت في أحد القياسَين يكونُ هو الراجحُ؟
وهل يُمكنُ أنْ نجعلَ النظرَ أولاً في العلَّة، فإذا ترجّحتْ ترجّحَ القياسُ المبنيُّ عليها؟
وحتى لو سلَّمنا أحدَ هذين الاحتمالين فإن للترجيح بين الأصلين وبين العلّتين طرقاً كثيرةً. فنحتاجُ إلى معرفة ما يُقدَّمُ منها على الآخَر.
وهذا الإشكالُ لا سبيلَ إلى حلِّه إلاّ بأنْ نجعلَ الأمرَ متروكاً للمجتهد، فينظرَ في مجمَل هذا القياس؛ بأصلِه، وعلَّتِه، وفرعِه، فيُقوِّمه، ثم ينظر في القياس الآخَر؛ بأصلِه، وعلَّتِه، وفرعِه، فيُقوِّمه، ثم يُقدِّم ما يراه راجحاً، مستفيداً مما يذكره الأصوليون من طرق الترجيح في الجملة.
ولعلَّ ورودَ هذا الإشكال في أذهان الأصوليين المتقدِّمين هو الذي حال بينهم وبين التمثيل لما يذكرونه من طرق الترجيح؛ لأن مَن أراد أنْ يُمثِّلَ لتقديم القياس الذي أصلُه ثبت بدليلٍ قطعيٍّ على القياس الذي ثبتَ أصلُه بدليلٍ ظنّيٍّ، يصعُبُ عليه أنْ يراعيَ ترجيحَ العلَّةِ في القياس الأول على العلّة في القياس الثاني، فقد يكونُ القياسُ ثبت أصلُه بدليلٍ قطعيٍّ، ولكن علّتَه شبَهيةُ وليستْ مُناسِبةً. وقد تكون علّتُه اسماً لا وصفاً، وقد تكونُ مركَّبةً من أوصافٍ لا مفرَدةً.
وهكذا لا يستطيعُ أنْ يُمثِّلَ برجحان هذا القياس على ذاك؛ لرُجحان أصله وحده، أو دليل أصله وحده، أو علّته وحدها. ولكن الترجيحَ لجملة قياسٍ على قياسٍ.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن كثيراً من طرق الترجيح مختلَفٌ فيها، تأيَّدَ ما ذكرناه من أن الترجيحَ يرجعُ إلى قوَّة الظنّ لدى المجتهد من أيّ طريقٍ حصلت.
وأن ما يُذكَرُ من طرقٍ إنما هو لمساعدة المجتهد على استذكار طرق المفاضلة بين الأقيسة. قال الزركشيُّ : « واعلم أن التراجيحَ كثيرةٌ، ومناطُها ما كان إفادتُه للظن أكثرَ فهو الراجحُ » ( ).
وحيثُ إن العلةَ هي أهمُّ أركانِ القياس فإن أكثرَ طرق الترجيحِ ترجِعُ إلى ترجيح علةٍ على علةٍ أخرى، وقد قصر بعضُ الأصوليين كلامَه في هذا الموطن على الترجيح بين العلل.
وفيما يلي أهم طرق الترجيح بين الأقيسة :
1- تقديمُ القياس في معنى الأصل على قياس العلّة وقياس الشَّبَه :
مثل : تقديم قياس العبد على الأمة في تنصيف الحدّ، على قياسه على الحر الذكر بجامع الذُّكورة؛ لأن القياسَ الأولَ قياسٌ في معنى الأصل، لعدم الفارق المؤثِّر بين العبد والأمة.
2- تقديمُ قياس العلة على قياس الشَّبَه وقياس الطَّرْد :
مثل : تقديمُ قياس (البيرة) المُسكِرة على الخمر بعلّة الإسكار على قياسها على عصير التفاح؛ للتشابُه بينهما في الصورة والشكل.
3- تقديمُ القياس الذي علّتُه مطَّرِدةٌ منعكِسةٌ على القياس الذي علّتُه ليست كذلك:
مثاله : تقديمُ تعليل الشافعيّ الربا في الأصناف الأربعة المذكورة في الخبر (البرُّ، والتمرُ، والشعيرُ، والملحُ) بالطُّعم، على تعليل مَن علّله بالكيل كالحنفية وأحمدَ في روايةٍ؛ لأن تعليلَ الشافعيّ يشملُ القليلَ والكثيرَ، والتعليلُ بالكيل لا يَشملُ الشيءَ اليسيرَ الذي لا يُكالُ.
وكذلك تقديمُ التعليل بالطُّعم على التعليل بالاقتيات؛ لأن من الأصناف الأربعة ما ليس قوتاً، وهو الملح.
وينبني على ذلك تقديم القياس الذي ترجح علته.
4- تقديمُ القياس الذي علَّتُه منصوصة أو مومأ إليها على غير المنصوصة وغير المومأ إليها:
مثاله : تقديمُ قياس الشافعية التين على البرّ في تحريم التفاضُل بجامع الطُّعم على قياس غيرهم التين على القَصَب بجامع عدم الكيل.
فعلّة الطَّعم منصوصٌ عليها أو مومأٌ إليها، كما يقول الشافعيةُ في قوله صلى الله عليه وسلم: « لا تبيعوا الطعامَ بالطعام إلاّ مثلاً بمثلٍ ».
5- تقديمُ القياس الذي علّتُه مُثبتةٌ على الذي علَّتُه نافية:
ويصلُح المثالُ السابقُ له؛ لأن علّةَ الطُّعم مُثبِتةٌ، وعلّةَ عدمِ الكيل نافية.
6- تقديمُ القياس الذي ثبت حكمُ أصله بالنصّ على الذي ثبت حكم أصله بالظاهر:
مثاله : تقديمُ قياس المذي على البول في النجاسة على قياس المذي على المنيّ؛ لأن نجاسةَ البول ثبتتْ بالنصّ، كقوله صلى الله عليه وسلم : « تنزَّهوا من البول؛ فإن عامَّةَ عذاب القبر منه » (الدارقطني عن أنسٍ)، وحديث : « إنهما ليُعذَبان، وما يُعذَبان في كبيرٍ، أما أحدُهما فكان لا يستنزه من البول » (متفق عليه عن ابن عباس).
وكذلك الإجماع قائمٌ على نجاسة بول الآدميّ.
وأما المنيُّ فطهارتُه ثابتةٌ بالظاهر؛ حيث كانت عائشةُ رضيَ الله عنها تحُتُّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، وتغسلُه إذا كان رطباً (رواه مسلم، وأصله متفق عليه).
وهذا لا يرتقي إلى درجة النصّ الصريح.
7- تقديمُ القياس الموافق للأصول الثابتة في الشرع على ما ليس له إلاّ أصلٌ واحدٌ:
مثاله : ترجيحُ قياس الجنايةٍ على العبد على سائر الإتلافات التي تحدث من الإنسان؛ على قياسها على دية الخطأ في كون ديته على العاقلة؛ لأن جعْلَ ديةِ الخطأ على العاقلة أصلٌ واحدٌ لا نظيرَ له في الشرع، وجعْلُ الإتلافات المالية على الفاعل تشهدُ له أصولٌ كثيرةٌ في الشرع، فكان القياسُ عليها أولى.
8- تقديمُ القياس الموافقِ لظاهر قرآن أو سنةٍ أو قول صحابيٍّ على ما ليس كذلك:
مثل : ترجيح قياس جراح العبد على الإتلافات المالية المذكورة في المثال السابق على قياسه على دية الخطأ؛ لكون الأول متأيِّدا بظاهر قوله تعالى : { } [فاطر18].
ومثل : تقديم قياس الاستصناع على البيع والإجارة على قياسه على بيع المجهول؛ لأن الأولَ متأيِّدٌ بعمل الصحابة.
وكذا قياسُ الأجير المشترَكِ على المشتري أو المستعير في ضمان ما تلف عنده بجامع القبض لمصلحته، على قياسه على المؤتمن في عدم الضمان، والأول متأيِّدٌ بفعل علي ، وسكوتِ مَن حضر من الصحابة رضيَ الله عنهم.
الباب الخامس
الاجتهـــاد
تعريفه :
الاجتهاد في اللغة : بذل الجهد، والجهد هو الوسع والطاقة.
وفي الاصطلاح هو : بذل الوُسع في إدراك حكمٍ شرعيٍّ بطريق الاستنباط ممن هو أهلٌ له.
وإنما قُيِّد بكونه (بطريق الاستنباط)؛ ليخرجَ بذلُ الوُسع لإدراك الحكم الشرعيِّ بحفظ متون الفقه، أو بحفظ النصوص الشرعية الدالّة صراحةً على الحكم.
فهذا العملُ – وإنْ كان اجتهاداً في اللُّغة – لكنه ليس اجتهاداً في الاصطلاح.
والمتقدِّمون قد يُطلقون اسمَ الاجتهاد على القياس الشرعيّ، وقد يُطلقونه على ما يغلبُ على الظنّ عن طريق الخبرة والتجرِبة، كالاجتهاد في جهة القبلة، ومقدارِ النفقة الواجبة للزوجة مثلاً.
أركانُ الاجتهاد :
للاجتهاد ثلاثةُ أركانٍ، هي :
1- المجتهِد : وهو الفقيه المستوفي للشروط الآتي ذكرُها.
2- المجتهَد فيه : وهو الواقعةُ المطلوبُ حكمُها بالنظر والاستنباط، لعدم ظهور حكمها في النصوص، أو لتعارض الأدلّة فيها ظاهراً.
3- النظرُ وبذلُ الجهد : وهو فعلُ المجتهد الذي يتوصَّلُ به إلى الحكم.
الاجتهادُ في عصر الصحابة والتابعين وكبار الأئمة:
في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو المرجع في الفتوى، ومع ذلك لم يكنْ بابُ الاجتهاد موصَداً أمام الصحابة رضوانُ الله عليهم، بل كانوا يجتهدون في غيابهم عنه، فإذا جاءوه عرضوا عليه اجتهادَهم، كما فعلوا عندما بعثهم إلى بني قُريظةَ، وقال : « لا يُصلّينَّ أحدٌ العصرَ إلاّ في بني قُريظةَ » (أخرجه البخاري ومسلم، وهذا لفظ البخاري)، فجاءهم وقتُ العصر، فقال بعضُهم : لم يُردْ منّا أنْ نُؤخِّرَ الصلاةَ، وإنما أرادَ استعجالَنا.
وقال آخرون : بل نأخذُ بظاهر النصِّ، ولا نُصلِّي حتى نصل بني قُريظةَ، ولو غربت الشمس، فعمل كل فريق باجتهاده، ولم يعنف الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا منهم.
وأما بعدَ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد اشتهر اجتهادُ الصحابة، ونُقل إلينا أكثرُه.
ومن ذلك : أن ابن عباس رضي الله عنه كان لا يرى العولَ في الفرائض، خلافاً لأكثر الصحابة الذين قاسوه على ضيق التركة عن سداد الدَّين وتوزيعها على الغُرماء، كلٌّ بحسب دَينه، بحيثُ ينقُصُ ما يأخذُه كل منهم بمثل نقص التركة عن مجموع الدَّين.
وفي عهد التابعين ازدادت الحاجةُ إلى الاجتهاد؛ لكثرة الوقائع، واختلاطِ المسلمين بأُمم أُخرى.
ولقد تأثّرَ اجتهادُ التابعين باجتهاد مَن تفقَّهوا عليه من الصحابة، فكان أهلُ العراق أكثرَ أخذاً عن ابن مسعودٍ وعلي، رضي الله عنهما. وأهلُ المدينة أكثر تأثُّراً بابن عمر.
ونشأ على إثر ذلك ما عُرف بمدرسة أهل المدينة، أو أهل الحديث، ومدرسة أهل العراق أو أهل الرأي.
وفي عهد كبار الأئمة كأبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيّ وأحمدَ أخذت المذاهبُ الفقهيةُ يتميّزُ بعضُها عن بعضٍ، فلم تَعُدْ مدرسةُ الرأي على مذهبٍ واحدٍ، ولا أهلُ الحديث على مذهبٍ واحدٍ، ولم يكنْ أهلُ الرأي معزولين عن الحديث، ولا أهلُ الحديث رافضين للرأي بالكلّيّة.
شروط الاجتهاد
لقد أكثر الأصوليون الكلامَ في شروط الاجتهاد، فمنهم المتشدِّدُ في الشروط، ومنهم المتساهلُ، ومنهم المتوسِّطُ.
وسأقتصر على ذكر الشروط التي قام الدليلُ على اشتراطها، وهي :
1- الإسلام :
فغيرُ المسلم مهما بلغ من العلم بعلوم الشريعة – لا يُقبلُ اجتهادُه؛ لقوله تعالى : { } [آل عمران100].
2- العقل :
لأن المجنونَ لا يُقبلُ قولُه على نفسه، فكيف يُقبَلُ في الفتوى والاجتهاد؟!
3- البلوعُ :
لقوله صلى الله عليه وسلم : « رُفع القلمُ عن ثلاثةٍ » وذكر منهم « الصبي حتى يحتلم » (أخرجه أبو داود والنسائي عن عائشة وصححه الحاكم).
وإذا أمن العقوبةَ لم يُؤمنْ عليه الكذبُ والتساهلُ.
4- معرفةُ الآيات والأحاديث الدالة على الأحكام بطريق النصّ أو الظاهر، ومعرفة ما يصِحُّ من تلك الأحاديث وما لا يصِحُّ.
أما الآياتُ والأحاديثُ الدالّةُ بطريق الإشارة أو مفهومِ المخالفة، ونحوِهما من طرق الدلالة الخفيّة، فلا يُشترَطُ معرفتُها، كما لا يلزمُ معرفةُ أكثر من دليلٍ واحدٍ على الحكم، إذا لم تكنْ في الدليل الآخَر زيادةُ حكمٍ تتعلَّقُ بشروطه أو قيوده، ونحو ذلك.
والدليلُ على اشتراط هذا القدر : أن مَن اجتهد قبلَ تحصيله فقد يُخالفُ المنصوصَ عليه في القرآن أو السنة، فيكونُ اجتهادُه باطلاً.
وأما الدليلُ على عدم اشتراط ما زاد على ذلك فهو: أن الصحابةَ كانوا يجتهدون مع غفلتهم عن بعض ما دلّ عليه القرآن بطريق الإشارة أو الالتزام، ولم يكن اجتهادُهم واقعاً ممن ليس أهلاً.
ولما عُرفَ عنهم من أنهم يعذرون المخطئَ إذا لم يكن الدليلُ ظاهراً قوياّ، ولعلَّ هذا مأخذَ الذين حدّدوا آياتِ الأحكام بخمسمائة آيةٍ.
قال ابن دقيق العيد : « ولعلَّهم قصدوا بذلك الآياتِ الدالةَ على الأحكام دلالةً أوّليّةً بالذات، لا بطريق التضمُّن والالتزام » ( ).
ومما يُؤيِّدُ ما ذكرته أن الإحاطةَ بكلِّ ما في القرآن من المعاني ليس ممكناً، فلو اشترطنا ذلك لما تمكن أحدٌ من الاجتهاد.
5- معرفة الناسخ والمنسوخ من الأحكام الواردة في القرآن والسنة :
لأنه لو لم يًعرف ذلك لأفتى بالحكم المنسوخ وعمل به، وهو لازمُ باطلٌ ، فيبطُل ملزومُه، الذي هو عدمُ اشتراط ذلك، ويكفي أنْ يعرفَ أن الدليلَ الذي استدلّ به ليس منسوخاً.
6- معرفةُ مواطن الإجماع حتى لا يخالفَها :
لأن مخالفةَ الإجماع محرَّمةٌ. ويكفي أن يعرفَ أن المسألةَ التي ينظر فيها ليست من مسائل الإجماع ولا ينبني حكمُها على مسألةٍ مجمَعٍ عليها.
7- أنْ يعرفَ بقيّةَ الطرق الموصلة إلى الفقه وكيفية الاستدلال بها :
فيعرفُ القياسَ، والاستصحابَ، والاستصلاحَ، والأعرافَ والعوائدَ في الأحكام المبنيّةَ عليها؛ وذلك لأن النصوصَ والإجماعَ لا يُمكنُ أنْ تُحيطَ بكلّ الوقائع، فوجبَ أنْ يعرفَ طرقَ الفقه فيما لا نصَّ فيه ولا إجماع.
ولمّا كانت بعضُ الأحكام مردُّها إلى العادات والأعراف وجب معرفتُها لمن رام الاجتهادَ فيها.
8- أنْ يكونَ عارفاً بدلالات الألفاظ، خبيراً بما يصحُّ من الأساليب وما لا يصِحُّ :
لأن القرآن نزل بلغة العرب، ومَن لا يعرفُ لغةَ العرب لا يُمكنُ أنْ يفهمَ ما في الكتاب والسنة على الوجه الصحيح.
9- أنْ يكونَ عارفاً بمراتبِ الأدلّة، وطرقِ الجمعِ بينها، وطرقِ الترجيحِ عندَ التعارُض :
وذلك لأن مواضعَ الاجتهادِ – غالباً – تتعارضُ فيها الأدلّةُ في أنظار النُّظّار، فإن لم يكنْ له درايةٌ بطرق الجمع والترجيح لم يستطع الاجتهاد، بل سيحتارُ ويتوقّف.
وقد اكتفى بعضُهم عن هذا الشرط واللذين قبلَه باشتراط معرفة أصول الفقه. ولكن لما كان مصطلحُ أصول الفقه يشملُ أموراً أخرى غيرَ هذا لم أرتض الاكتفاءَ به.
10- العدالةُ :
وهي شرطٌ لقَبول الاجتهاد والاعتدادِ به، فمن ليس عدلاً مقبولَ الرواية لا يُقبلُ قولُه في الشرع، كما لا يُقبلُ خبرُ مَن ليس عدلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الفُتيا خبرٌ عن حكم الله تعالى.
تجزُّؤُ الاجتهاد
المقصود بتجزئة الاجتهاد : أنْ يكونَ الفقيهُ مجتهداً في بابٍ من أبواب الفقه دون غيره، أو في مسألةٍ دون مسألةٍ.
وهذه المسألةُ من المسائل التي طال كلامُ الأصوليين فيها، ويُمكنُ تلخيصُه فيما يلي :
1 ـ ليس من محلّ النزاع أنْ يجتهدَ في مسألةٍ فقهيةٍ مَن لم تتوافرْ فيه شروطُ الاجتهاد العامّة، وهي : معرفةُ العربية، ودلالات الألفاظ، والقدرة على الاستنباط، ومعرفةُ ما يحتاج إليه في المسألة من أصول الفقه. فمن لم يحصل هذه الشروط لا يُمكنُ أنْ يُعدَّ مجتهداً في شيءٍ من مسائل الفقه.
ولهذا قال ابنُ الزملْكانيّ : « فما كان من الشروط كلّياً، كقوّةِ الاستنباط، ومعرفةِ مجاري الكلام، وما يُقبَلُ من الأدلّة، وما يُردُّ، ونحوِه، فلا بدَّ من استجماعه بالنسبة إلى كلّ دليلٍ ومدلولٍ، فلا تتجزّأ تلك الأهليّةُ » ( ).
وإنما موضعُ النزاع أن مَن له قدرةٌ على النظر في الأدلّة والاستنباط منها، وحصّل الشروطَ العامّةَ للاجتهاد إذا لم يُحطْ بأدلّة الفقه كلِّها، هل له أنْ يجتهدَ في المسائل التي أحاط علماً بأدلّتها؟
2 ـ أخرج بعض الأصوليين عن محل النزاع تجزؤ الاجتهاد بالنسبة للمسائل في الباب الواحد، وقصر الخلاف على التجزؤ بالنسبة للأبواب. والصواب : شمول الخلاف للكل.
الأقوال :
قال جمهور العلماء : من حصل الشروط العامة له أنْ يجتهدََ في المسألة المستقلّة، إذا أحاط بأدلّتها، وقدر على النظر فيها، ولو لم يستطع الاجتهاد في مسألة أخرى لقصوره عن الإحاطة بأدلتها.
واستدلوا على ذلك بأن أكثرَ العلماء كانوا يتوقّفون في بعض المسائل، مما يدلُّ على أنهم لم يُحيطوا بأدلّتها، ويُفتون في غيرها لإحاطتهم بأدلّتها.
وذهب بعضُ العلماء إلى أن الاجتهادَ لا يتجزأُ، ومَن لم يُحطْ بأدلّة الفقه على الوجه الذي ذكرناه في شروط الاجتهاد ليس له أنْ يجتهدَ في بابٍ أو مسألةٍ.
وهذا القولُ منقولٌ عن أبي حنيفةَ، ولم ينصَّ عليه، ولكنهم أخذوه من قوله في تعريف الفقيه : « مَن له مَلَكَةُ الاستنباطِ في الكلّ »، فأخذوا من قوله : (الكلّ) أنه إذا قدِرَ على الاستنباط في البعض لا يُعدُّ فقيهاً مجتهداً، وقالوا : إن مَلَكَةَ الاجتهاد لا تتجزأُ، فمَن حصلتْ له فهو المجتهدُ، ومَن لا فلا.
واختار هذا القولَ الشوكانيُّ في « إرشاد الفحول ».
ودليلُه : أن مسائلَ الفقه متّصلٌ بعضُها ببعضٍ كسلسلةٍ متّصلةِ الحلَقات، ولا يُمكن أنْ يُحيطَ بأدلّة مسألةٍ ما لم يُحطْ بأدلّة المسائل الأخرى.
وذهب بعضُ العلماء إلى أنه يتجزأُ بالنسبة للأبواب لا بالنسبة للمسائل في الباب الواحد.
ودليلهم : أن المسائلَ في الباب الواحد مداركُها متّصلٌ بعضُها ببعضٍ، وأما الأبوابُ فليستْ كذلك.
والذي يظهر لي : أنه يجوز أنْ يتجزأَ الاجتهادُ، على المعنى الذي ذكرته سابقاً، بالنسبة للمسائل التي تكلَّم فيها الفقهاءُ السابقون دون النوازل. وذلك لأن المسائلَ التي اشتهر كلامُ الفقهاء فيها قد حُصرتْ أدلّتُها أو أغلبُها، فأمكنَ أنْ يطّلعَ عليها مَن لم يُحطْ بأدلّة الفقه كلِّها أو أغلبها، وأن يرجح ما يراه راجحا منها.
وأما مسائلُ النوازل فلم يشتهر البحثُ فيها، ولا يُمكنُ لمن لم يُحطْ بأكثر أدلّة الأحكام في جميع الأبواب أنْ يجتهدَ فيها.
هذا بالإضافة إلى أن كثيراً من النوازل لا يعرفُ حكمَها مَن لم تتكونْ عنده ملَكَةٌ فقهيةٌ كاملةٌ، وهي لا تحصلُ بمعرفة بعض المسائل أو الأبواب.
وتظهر ثمرةُ الخلاف : في الاعتداد بقول مَن لم يُحطْ بأكثر الأدلّة، وفي جوازِ فتواه، والعملِ بها من قِبَل العامّة، وانعقادِ الإجماعِ مع خلافه وعدمه.
اجتهادُ الرسول صلى الله عليه وسلم واجتهاد الصحابة في عهده
تكلّم الأصوليون في مسألتين، يُعدُّ الكلامُ فيهما كنقل السيرة، لا يترتّبُ عليه فروعٌ فقهيةٌ، وإنْ كان لا يخلو من فوائدَ.
والمسألتان هما : مسألة اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسألة اجتهاد الصحابة في عهده، ولنتكلم عن كل منهما باختصار.
1 ـ مسألةُ الاجتهاد من النبيّ صلى الله عليه وسلم :
والجمهور على أنه قد يجتهدُ، إذا لم يأته وحيٌ، وقد يتوقّفُ إلى نزول الوحي.
وإذا اجتهد : فمنهم مَن يقول : إنه مسدَّدٌ للحقِّ لا يُمكنُ أنْ يُخطئَ في اجتهاده.
ومنهم من يقول : إنه قد يُخطئُ في إصابة الحقّ، ولكن اللهَ يُصوِّبُه حالاً ويُبيّنُ له الحقَّ.
والنصوص التي تدلُّ على القول الأخير أصرحُ، كقوله تعالى : { } [التوبة43]، وقوله تعالى : { * * } [عبس1-3]، وقوله تعالى : { } [الأنفال67]، وغير ذلك، ففي هذه الآيات عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم من الله، ولا يعاتبه إلا على الخطأ.
وليس في هذا انتقاصٌ لمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما فيها دليلٌ على بشريّته، ودليل على صدقه وأمانته؛ حيث بلغ الأمة خطأه وتصويب الله له.
وأما قوله تعالى : { } [النجم3] فإن المنفيَّ النطقُ عن هوى، والاجتهادُ ليس كذلك. وقولُه : { } [النجم4] يرجع إلى القرآن.
2 ـ مسألة اجتهادِ الصحابة في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم :
وهذه المسألة اختُلف فيها على أقوالٍ، والصحيحُ منها – إن شاء الله – أن اجتهادَ الصحابة في غيابهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أو في حضوره بإذنه جائزٌ وواقعٌ، وما عدا ذلك فليس اجتهاداً.
والدليلُ على وقوع الاجتهاد من الغائب عن مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم : اجتهادُ الصحابة الذين بعثهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، وقال لهم : « لا يُصلِّينَّ أحدٌ العصرَ إلاّ في بني قريظة ». وقد تقدّم ذكرُه.
وكذلك اجتهادُ عليّ حينما بعثه إلى اليمن قاضياً في وقائعَ حدثت له. واجتهادُ عمارَ في التيمم للجنابة (متفق عليه).
وأما للحاضر بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم : فمثاله : اجتهادُ سعدِِ بنِ معاذٍ في الحكم على بني قريظة (متفق عليه عن أبي سعيد)، واجتهادُ عمرو بن العاص بإذنه (أخرجه أحمد والدارقطني والحاكم).
وأما الدليلُ على منع الحاضر إذا لم يُؤذنْ له فقولُه تعالى : { } [الحجرات1]، والاجتهادُ في مسألةٍ شرعيةٍ بحضرته بلا إذنٍ من التقدُّمِ بين يديه.
وأما قول أبي بكر لمن طلب سلَبَ القتيل الذي قتله أبو قتادةَ: لا ها الله! إذاً لا يعمدُ إلى أسد من أُسْد الله يُقاتل عن الله وعن رسوله فيُعطيك سلَبَه. (متفق عليه عن أبي قتادة) فليس اجتهاداً، بل أخذاً بالنصّ، فإن الرسولَ صلى الله عليه وسلم كان قد قال : « مَن قتل قتيلاً له عليه بينةٌ فله سلَبُه » (متفق عليه وهو طرفٌ من حديث أبي قتادة السابق)، وهو وعدٌ من الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس من عادته إخلافُ وعده، أو هو قضاءٌ سابقٌ ولم ينقُضه.
وقد نصَّ الرازيُّ وبعضُ الأصوليين أن المسألتين لا ثمرةَ لهما.
ومع ذلك فإنهما لا تخلوان من الفوائد، وإنْ لم تكنْ متفرِّعةً عنهما أو عن أحدِهما، ولهذا أُخذ من المسألتين حكمُ الرجوع إلى الظنّ مع إمكان اليقين، فأجازه مَن أجاز الاجتهادَ في المسألتين، ومنعه مَن منعه. وذلك مثل الوضوء من الماء الذي يغلبُ على الظنِّ طهارتُه، مع كونه على شاطئِ البحر، بحيثُ يتمكّنُ من الوضوء من ماء البحر المقطوع بطهارته. والإفطارُ بناءً على سماع الأذان أو النظر للساعة دون الخروج لرؤية غروب الشمس، ونحو ذلك من المسائل.
ولا يبعُدُ أنْ يكونَ للخلاف في اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم صلةٌ بحجّية الفعل المجرَّد من الرسول صلى الله عليه وسلم.
المصيبُ في مسائل الاجتهاد واحدٌ
هذه من المسائل التي طال البحثُ فيها، وتفرّع عنها بعضُ مسائل الاجتهاد الأخرى، وتُسمّى مسألةَ : « التصويب» أو « تصويب المجتهدين ». وقد عنون لها بعضُهم بنحو هذا العنوان.
وعنون لها بعضُهم بقوله : هل الحقُّ يتعدّدُ في مسائل الاجتهاد؟
وقال بعضُهم : هل لله في كلّ واقعةٍ حكمٌ معيّنٌ؟
ومحلُّ النزاع : إنما هو في المسائل الاجتهادية العملية، أما المسائل العملية القطعية، والعلمية الاعتقادية، فإن المصيبَ فيها واحدٌ، باّتفاقٍ، والحقُّ فيها لا يتعدّدُ.
ولم ينقلوا فيها خلافاً إلاّ عن القاضي العنبريّ، فإنه نُقل عنه قوله : كلُّ مجتهِدٍ في الأصول مصيبٌ. وعن الجاحظ مثلُ ذلك.
وقد حمله بعضُهم على تعدُّد الحقّ في المسائل العلمية الخبرية، وهو مخالفٌ لبدائه العقول؛ إذْ لا يُمكنُ أنْ يقولَ عاقلٌ إن اللهَ يُمكنُ أنْ يوصَفَ بهذه الصفة وبعدمها، وأن هذا الشيءَ واقعٌ وغيرُ واقعٍ.
وحمله بعضُهم على أنه لا يُؤَثّمُ المخطئُ من الكفار إذا بذل جهدَه في طلب الإيمان بالله فلم يصلْ إليه.
وحمله المحققون على أنه خاصُّ بالمجتهدين من أهل الملّة، إذا بذلوا جهدهم في إدراك الحقّ في مسائل الأصول أو الفروع، فأخطأوا، فإنهم لا يأثمون. ففسروا قولَه بالتصويب بأن المرادَ نفيُ الإثم.
وقد صحّح هذا التفسيرَ ابنُ تيميةَ، ودافع عن العنبريّ ـ وانتصر له، وقال: « إن المخطئَ من مجتهدي المسلمين مأجورٌ، سواء كان الخطأُ في الأصول أو الفروع، إذا بذل جهدَه ولم يصلْ إلى الحقّ ».
قال رحمه الله : « ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع، بل جعل الدين قسمين : أصولا، وفروعا، لم يكن معروفا في الصحابة والتابعين، ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين إن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع... وحكوا عن عبيد الله العنبري أنه قال : كل مجتهد مصيب، ومراده : لا يأثم، وهذا قول عامة الأئمة كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما » ( ).
والخلاصةُ : أن الكلامَ في مقامين :
الأول : هل يُقال لكلٍّ من المختلفين : إنه مصيبٌ؟
الثاني : هل يأثمُ إذا خالف ما هو الحقّ عند الله؟
فأما في المقام الأول : فإن المسائلَ العلميةَ الخبريةَ لا يُمكنُ أنْ يتعدّدَ الحقُّ فيها، فيكونَ الصوابُ مع كلٍّ منهما؛ إذْ لا يقول عاقلٌ إن اللهَ موصوفٌ بصفة الرحمة، وغير موصوفٍ! وإن اللهَ قد كتب السعادةَ أو الشقاءَ على الإنسان، ولم يكتبها! لوجود التناقُض الممتنع عقلاً.
وعلى ذلك : فإن مَن قال في شيءٍ من مسائل الاعتقاد : إن كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ، فلا يُحمَلُ قولُه على تعدُّد الحقّ فيها؛ لامتناعه عقلاً، وإنما يُحملُ على أنه معذورٌ في خطئه إذا لم يُخالفْ قاطعاً، وأما إذا خالف قاطعاً من غير تأويلٍ، فإنه يكونُ مقصِّراً.
والجمهور على تأثيمه إذا خالف دليلاً قطعياً، وعذرِه إذا خالف ظنّيّاً.
ولا خلافَ في تأثيم الكفار؛ لورود النصوص القطعية بذلك، كقوله تعالى: { } [فصلت23]، وقوله : { * * } [الكهف103-105].
وما نُقل عن العنبريّ لا يصحُّ؛ لأن كلامه في أهل القبلة.
وأما الجاحظ فليس من أهل الاجتهاد، فلا يُعتدُّ بقوله.
وأما المسائل العملية : فإن كانت قطعية، أي : قام عليها دليل قطعي، فالحق ما قام عليه الدليل؛ إذ لا يمكن مخالفة الدليل القطعي.
وأما العملية الظنية : فإن العقل لا يمنع من تصويب المختلفين فيها. ولذلك اختلفوا فيها أيقال: الجميع مصيبون أم المصيب واحد؟
والثاني أرجحُ، والدليلُ عليه من وجوهٍ :
1- أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سمّى أحدَ المجتهدَين مصيباً، والآخَرَ مخطئاً، فقال : « إذا حكم الحاكمُ فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجرٌ »، (متفق عليه)، فسمّاه مخطئاً.
2- أنه لو كان الجميعُ مصيبين مع اختلافِهم، لما كانتْ هناك حاجةٌ إلى المناظرة والاستدلالِ على المخالف؛ لأن الخلافَ يكونُ من باب اختلاف التنوُّع، والإجماعُ على خلاف ذلك.
3- أنه لو كان الحقُّ يتعدّدُ للزم اجتماعُ الضدّين في بعض صور الاجتهاد، كما إذا طلّق زوجتَه ثلاثاً، وهو ممن يرى الثلاث واحدةً، وهي ممن يرى الثلاثَ ثلاثاً، فهل يُقالُ له: لا تُفارقْها، ويُقالُ لها : فارقيه؟! وكيف يكون كلٌّ من القولين حقّاً في هذا الصورة؟!
4- إجماع الصحابة على إطلاق وصف الخطأ على بعض أنواع الاجتهاد، كما في قول ابن مسعود في المفوضة : أقول فيها برأيي فإنْ كان صواباً فمن الله، وإنْ كان خطأً فمني ومن الشيطان، وأستغفرُ الله » (أخرجه أحمد والنسائي) ولا يُعرَفُ له مخالفٌ.
وأما عن المقام الثاني : وهو مقام التأثيم، فإن الجماهيرَ متّفقون على أن كلَّ مجتهدٍ من المسلمين مأجورٌ، إما أجراً واحداً، أو أجرين، ولم يُنقلْ خلافٌ في ذلك، إلاّ عن ابن عُليّةَ وبعضِ الظاهرية.
والدليل على أن المخطئَ في مسائل الاجتهاد مأجورٌ : الحديثُ المتقدّمُ : «إذا حكم الحاكمُ فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجرٌ »، (متفق عليه).
وقد حكى غيرُ واحدٍ الإجماعَ على عدم تأثيم المخطئ في مسائل الاجتهاد.
وقد بنى بعضُ العلماء على الخلاف في تصويب المجتهدين اختلافَهم فيمن اجتهد في القبلة فصلى، ثم تبين له أنه صلى إلى غير الجهة الصحيحة، فهل عليه إعادةٌ؟
ذهب بعضُهم إلى إيجاب الإعادة، وبعضهم إلى عدم الإيجاب، وفرّق بعضُهم بين مَن كان داخلَ المصر فيُعيدُ، دون مَن كان خارجه.
ومن المسائل التي تُبنى على تصويب المجتهدين مع اختلافهم : موقف المجتهد إذا تعارضت عنده الأدلّةُ، فالقائلون بالتصويب قالوا : يتخيّرُ أحدَ القولين فيقضي به؛ لأن كلاًّ منهما صوابٌ.
ومَن قال المصيبُ واحدٌ، قال : يجبُ عليه التوقُّفُ حتى يترجّحَ له أحدَ القولين، وإنْ حضر وقتُ العمل فله أنْ يُقلِّدَ عالماً آخَر.
ومن تلك المسائل : إذا تعارضت فتوى عالمين، فما موقفُ المقلِّد؟
فمَن قال : كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ، قال : يتخير.
ومَن قال : المصيبُ واحدٌ، قال : يأخذُ بقول الأوثق منهما والأعلم، فإن تساويا فالأورعُ منهما والأتقى، فإن تساويا، سأل ثالثاً.
وقد فسّر بعضُ العلماء ما نُقلَ عن الشافعيّ من تصويب المجتهدين بأن المرادَ أنه أصاب في عمله بما توصَّل إليه اجتهادُه، وليس المرادُ أنه أصاب الحقَّ عند الله في واقع الأمر. والمسألةُ فيها كلامٌ طويلٌ للأصوليين، ولكن فيما ذكرتُه كفايةٌ إن شاء الله تعالى.
وقد ساق جماعةٌ من الأصوليين – منهم الغزالي والصفيُّ الهنديّ – المسألةَ على وجهٍ آخَر، فقالوا : الواقعةُ إما أنْ يكونَ عليها نصٌّ أو لا، فإنْ كان عليها نصٌّ، فإما أنْ يجتهدَ في طلبه أو لا، إن اجتهد : فإما أنْ يبذُلَ وُسعَه أو يُقصّرَ في البحث.
فإن وجد المجتهدُ نصّاً وحكم به، فهو مصيب ولا خلافَ في ذلك.
وإنْ وجده ولم يحكمْ به مع العلم بدلالته، فهو مخطئٌ آثمٌ.
وإنْ قصّر في البحث، فهو آثمٌ.
وإنْ لم يُقصِّرْ، فهو غير آثمٍ.
وإنْ كانت المسألةُ لا نصَّ فيها، فقد قال جمهورُ المتكلِّمين : ليس لله فيها حكمٌ معيَّنٌ قبلَ اجتهاد المجتهد، بل حكمُ الله تابعٌ لاجتهاد كلّ مجتهد. ولهذا قالوا : كلُّ مجتهدٍ فيها مصيبٌ.
وقال أكثرُ الفقهاء: لله فيها حكمٌ معيَّنٌ قبلَ الاجتهاد، والمصيبُ فيها واحدٌ، والمخطئُ معذورٌ.
وقال بعضُ المتكلِّمين : يوجدُ حكمٌ أشبهَ بحكم الله، وهو الحكمُ الذي لو حكم الله فيها لما حكم بغيره.
سبب الخلاف :
قال ابنُ دقيق العيد : إن سببَ الخلاف في التصويب والتخطئة اختلافُهم في أصلٍ، وهو هل لله في كلّ واقعةٍ حكمٌ معيَّنٌ، أو أن حكمَه في مسائل الاجتهاد تبَعٌ لاجتهاد المجتهدين؟
فعلى الأول : المصيبُ واحدٌ.
وعلى الثاني : كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ ( ).
تجديدُ الاجتهاد
المقصودُ بتجديد الاجتهاد : إعادةُ النظر في حكم الواقعة، لتجدُّد وقوعها أو السؤال عنها، مع سبق النظر فيها من المجتهد والتوصُّل فيها إلى حكمٍ يغلب على ظنه أنه الصواب.
مثاله : إذا سُئل المفتي عن حكم الإجارة المنتهية بالتمليك، وأفتى بتحريمها، ثم سُئل عنها بعد عامٍ، فهل له أنْ يُفتيَ بما أفتى به سابقاً، أو يجبُ عليه أنْ يُعاودَ النظرَ في المسألة؛ لاحتمال أنْ يظهرَ له دليلٌ لم يكنْ قد ظهر له أولاً؟ وهل يكونُ الحكمُ واحداً لو نسيَ طريقَ اجتهاده الأول أو ذكره؟
ويخرجُ عن محلّ النزاع إذا وجد ما يستدعي إعادةَ النظر في المسألة، كتغيُّر العرف في مسألةٍ مبنيةٍ على العرف، أو وجود نصٍّ يُخالفُ ما أفتى به سابقاً، ولا يعرفُ حالَ ذلك النصّ. فإنه في هذه الحال يجبُ عليه إعادةُ النظر.
وأخرج بعضُهم عن محلّ النزاع إذا لم يُوجدْ ما يحتملُ أنه يُؤدِّي إلى تغيُّر الاجتهاد، وكان المجتهدُ ذاكراً طريقَ اجتهاده السابق، فلا يجبُ عليه تجديدُ الاجتهاد.
واختلفوا فيما إذا تجدّد له ما يَحتملُ أنه يُؤدّي إلى رجوعه، وهو ذاكرٌ لاجتهاده الأول أو غيرُ ذاكر، أو لم يتجدّدْ ما يَحتمل أنْ يُؤدّي إلى رجوعه، وهو غيرُ ذاكرٍ لطريق اجتهاده السابق.
وقد ذكروا في المسألة أقوالاً، أشهرها ثلاثةٌ :
القول الأول : يجبُ عليه تجديدُ الاجتهاد في الصور الثلاث كلِّها.
وهو مذهب أكثر الحنفية، والحنابلةِ، واختاره القاضي الباقلانيّ، وأبو يعلى، وابنُ عقيلٍ، والشيرازيّ.
وحجتُهم : أنه إذا لم ينظرْ في المسألة الجديدة يكونُ مقلِّداً لنفسه.
وأيضاً فإن الاجتهادَ كثيراً ما يتغيّرُ بمعاودة النظر، فلا يأمنُ أنْ يكونَ الحقُّ في غير ما أفتى به أولاً.
القولُ الثاني : عدمُ وجوب إعادة النظر.
وهو قول بعض الحنابلة، وبعضِ الشافعية، وبعضِ الحنفية، واختاره ابنُ الحاجب، وابنُ الساعاتيّ، وصحّحه المطيعيّ في سلّم الوصول.
وحجّتهم : أن الأصلَ عدمُ تغيُّر الاجتهاد، فيجوزُ البناءُ عليه.
وأيضاً فإنه لو أُمرَ بتجديد الاجتهاد لكان إيجاباً من غير دليلٍ.
والثالث : أنه إنْ كان ذاكراً لطريق اجتهاده السابق فلا يجبُ عليه معاودةُ النظر، وإنْ كان ناسياً وجب عليه معاودةُ الاجتهاد والنظر.
وهو قول المحققين من الأصوليين، واختاره أبو الحسين البصريّ، وابنُ السَّمعانيّ، وأبو الخطّاب، والرازيُّ، وابنُ الصلاح، والنوويُّ، والآمديُّ، والبيضاويُّ، والسبكيُّ، والمرداويُّ، والشوكانيُّ. وهو الراجح.
دليله : أن المجتهدَ إذا كان ذاكراً لدليله السابق، ولم يظهرْ له ما يُعارضه، فهو باقٍ على اجتهاده السابق، ولا يجبُ عليه تجديدُ البحث؛ لأنه لا موجبَ له.
وأما إذا نسيَ دليلَه السابقَ فإنه لو حكم بما حكم به أولاً من غير نظرٍ كان كالمقلِّد؛ لأنه أخذ قولاً لا يعرفُ دليلَه.
والمجتهدُ لا يجوزُ له أنْ يقنعَ بالتقليد مع قدرته على النظر والاجتهاد.
وأدلّةُ الموجِبين تُحمَلُ على حالة النسيان؛ لأنه مع ذكر الدليل لا حاجةَ لمعاودة النظر والبحث.
وأما القائلون بعدم الوجوب مطلقاً، فليس معهم إلاّ التمسُّكُ باستصحاب الحكم السابق، ومعلومٌ أن المجتهدَ مع نسيانه للطريق التي توصَّل بها إلى القول بالتحريم أو الإباحة مثلا، يجعلُ البقاءَ على حكم الإباحة بقاءً على حكمٍ لا يَعرفُ دليلَه، والفتوى به مرةً ثانيةً فتوى بلا دليلٍ، وهي لا تصحُّ.
والاستصحابُ إنما يُفيدُ عدم نقض ما أفتى به أو حكم به بناءً على الاجتهاد السابق، أما الفتوى الجديدةُ فتفتقرُ إلى دليلٍ، وهو قد نسيه، ونسيَ طريقَ الوصول إلى الحكم السابق.
وهذه المسألة من أهمّ مسائل الاجتهاد؛ إذْ يترتّبُ على القول الراجح وجوبُ إعادة النظر في أكثر المسائل التي تحدث بعد تغيُّر الأحوال، لاحتمال أنْ تكونَ المصلحةُ فيها قد تغيّرتْ وتبدّلت.
وهذا يكفلُ للفقه الإسلاميّ التجدُّدَ المستمرَّ وعدمَ الوقوف عند اجتهاد المتقدِّمين.
وإذا عرفنا أن الإجماعَ قائمٌ على أنه إذا وجد دليلٌ جديدٌ، أو تبدّلت الأحوالُ أو الأعرافُ، وجب معاودةُ النظر في المسألة، عرفنا فائدةَ هذه القاعدة، وعرفنا ما يحملُه أصولُ الفقه من قواعدَ تُوجبُ التجديدَ المستمرَّ للفقه.
وينبغي أنْ لا نفهمَ من إعادة النظر والاجتهاد ضرورةَ تغيُّر الرأي في المسألة، بل قد نبقى على الرأي الأول، وقد تزيدُ المكتشَفاتُ الحديثةُ التدليلَ على صوابه.
وقد يُؤدّي معاودةُ النظر إلى ضرورة تقديم الحكم للناس بأسلوبٍ آخَرَ يُناسبُ العصر.
وقد يُؤدّي الاجتهادُ إلى تغيُّر الحكم في المسألة، ولا يُنكَرُ تغيُّرُ الأحكام بتغيُّر الأزمان.
وقد يكونُ التغيُّرُ ليس لذات الحكم، وإنما هو في تحقيق المناط، فقد يكونُ مناطُ الحكم لم يعدْ موجوداً في الصورة المسؤول عنها، فلا يُوجَدُ الحكمُ بل نقيضُه، ولا يُعدُّ هذا من تغيُّر الحكم إلاّ تجوُّزاً.
تغيُّرُ الاجتهاد
ينشأُ عن تجديد الاجتهاد – أحياناً – تغيُّرُ الاجتهاد السابق، فما كان يراه المجتهدُ جائزاً قد يراه غيرَ جائزٍ فيما بعدُ، والعكسُ كذلك.
وتغيُّرُ الاجتهاد ينشأُ عن أسبابٍ كثيرةٍ، أهمُّها :
1ـ الاطّلاعُ على دليلٍ لم يكنْ قد اطّلعَ عليه قبلَ ذلك.
2ـ التنبُّهُ إلى دلالة دليلٍ على الحكم لم يكنْ المجتهدُ قد تنبّه لها قبلَ ذلك، وقد يكونُ هذا التنبُّهُ من قبل المجتهد نفسِه، وقد يُنبِّهه على وجه الدلالة آخَرُ.
3ـ تغيُّرُ الأعراف والعادات في مسألةٍ مبناها على العرف والعادة، مثلُ أنْ يكونَ من عادة الناس في بلدٍ أن المؤجِّرَ مطالَبٌ بدفع قيمة مصاريف الكهرباء، فيُفتي أو يَقضي بناءً على هذا العرف، ثم يتغيّرُ العرفُ ويُصبحُ المستأجِرُ هو المطالَبُ بذلك، فيُفتي به.
4ـ تغيُّرُ المصالح والمفاسد المترتّبة على الفعل، فقد يترتّبُ على الفعل مفسدةٌ أو مصلحةٌ في وقتٍ من الأوقات، فيُفتي بناءً على ذلك، ثم يتغيّرُ الحالُ فتتغيّرُ الفتوى، إذا كانتْ مبنيّةً على تحقُّق المصلحة أو المفسدة.
5ـ عدم تحقق المناط في الواقعة الجديدة، إما لفوات شرط أو وجود مانع، كما أوقف عمر القطع في السرقة عام المجاعة؛ لغلبة الاضطرار على الناس، والحد يمنعه الاضطرار إلى الفعل الموجب له.
القواعدُ المبنيةُ على تغيُّر الاجتهاد :
ينبني على تغيُّر الاجتهاد قواعدُ أصوليةٌ كثيرةٌ، أهمها :
1ـ قاعدة : الاجتهادُ لا يُنقضُ بالاجتهاد :
وهي قاعدةٌ عامّةٌ صحيحةٌ، تُفيدُ أن المجتهدَ إذا أفتى أو قضى قضاءً بناءً على اجتهادٍ، ثم تغيّر اجتهادُه فإنه لا يَنقضُ حكمه السابق، ولا يرجعُ فيه بعدَ نفاذه، وكذلك إذا أفتى بفتوىً وعمل بها المقلِّدُ، فإن رجوعَه لا ينقُضُ فتواه الني اتّصلَ بها العملُ.
ولا فرقَ في تطبيق القاعدة بين أنْ يكونَ اختلافُ الاجتهاد الثاني من المجتهد الأول أو من غيره، بل إذا كان الاجتهاد المتأخِّرُ من غير المجتهد الأول يكونُ أولى بعدم النقض.
2ـ الاجتهادُ يُنقضُ إذا خالف نصّاً صريحاً من كتابٍ أو سنّةٍ، أو خالف إجماعاً صريحاً ثابتاً :
ولا فرقَ – على الصحيح – بين أنْ يكون النصُّ قطعيَّ الثبوت أو ظنيَّ الثبوت، إلا أنه إذا كان ظنيَّ الثبوت فيُشترطُ لنقض الاجتهاد به أنْ لا يُعارضَه نصٌّ آخَرُ يُماثلُه أو يُقاربُه في القوّة، فإنْ عارضه نصٌّ آخَرُ فلا نقضَ.
3ـ هل يلزمُ المجتهدَ إخبارُ مَن أفتاه بتغيُّر اجتهاده؟:
اختلف العلماءُ في ذلك، والأكثر على أنه لا يلزمه ذلك.
وقيل : يلزمُه إنْ لم يتّصلْ به العملُ وأمكنه ذلك من غير مشقّةٍ.
وهو أرجح؛ لأنه من النصح لعامّة المسلمين، وقد أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعله من الدين، فقال صلى الله عليه وسلم : « الدينُ النصيحةُ »، قيل : لمن يا رسول الله؟ قال : « لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامّتهم »، (مسلم عن تميم الداري).
ولأنه من التعاون على البر والتقوى المأمور به في قوله تعالى : { } [المائدة2].
وهذا كلُّه إذا لم يكنْ خالف نصاً لا معارضَ له، فإنْ خالف نصّاً صحيحاً من كتابٍ أو سنةٍ لا معارضَ له، أو خالف إجماعاً صريحاً صحيحاً فيجبُ عليه إخبارُ مَن أفتاه بالفتوى الخطأ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « مَن أُفتي فتوىً من غير ثبتٍ فإنما إثمُه على مَن أفتاه » (أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارمي عن أبي هريرة) فإذا كان الإثم سيلحق المفتي وجب إبلاغ المستفتي بالخطأ حتى لا يزيد الإثم.
ولفعل ابنِ مسعودٍ ، حيث أفتى رجلاً بجواز نكاح أم الزوجة إذا لم يدخلْ بها، فأخبره الصحابة بتحريم ذلك، فرجع إلى الحيّ الذي فيه المستفتي وسأل عنه وأخبره بخطإ الفتوى.
ولأن الفتوى المخالفةَ لنصٍّ لا معارضَ له خطأٌ يقيناً، ولا عبرةَ بالظن البيِّن خطؤُه، أما في الاجتهاد فإنه لا يجزمُ بخطئه، وإنما يغلبُ على ظنه ذلك، لذا لم يجبْ عليه الإبلاغُ عند الأكثر.
4ـ لا يُنكَرُ تغيُّرُ الفتوى بتغيُّر الأزمان :
نصَّ العزُّ ابنُ عبد السلام، والقَرافيّ، وابن القيم، وغيرُهم على أن الحكمَ أو الفتوى قد يتغيّران في المسألة الواحدة لأجل تغيُّر الأعراف والعادات والأزمان، ونحو ذلك مما له أثرٌ في الحكم.
وقد توسّع في القاعدة بعض المتأخِّرين، ولم يقصروها على الأحكام التي ترجعُ إلى العرف والعادة.
وأنكرها بعضُ العلماء لمَّا فَهم منها العمومَ لجميع الأحكام، أو لما في ظاهرها من الاحتمال الباطل الذي يُوهمُ بأن الحكمَ في المسألة الواحدة بعينها قد يتغيّرُ عند الله جل وعلا بلا نسخٍ.
وحملوا ما يذكرُه العلماءُ من الأمثلة على تغيُّر الأحكام لتغيُّر الأزمان أو الأحوال على أن الحكمَ الشرعيَّ لم يتغيّرْ، وإنما تخلّف تعلُّقُه بالصورة المشابهة في الظاهر للصورة السابقة لعدم تحقُّق المناط، حيث كان موجوداً في الصورة السابقة وغيرَ موجودٍ في الصورة اللاحقة.
وهذا نظيرُ حكم النفقة للزوجة، فقد كان يُقدَّرُ بشيءٍ يسيرٍ من الطعام واللباس؛ لتعارُف الناس عليه، وفي هذا الوقت لم يعُدْ كافياً، وكذلك السُّكنى، فإن الشرعَ لم يُحدّدْ نوعَ البيت الذي يجبُ أنْ يُوفِّرَه الزوجُ للزوجة، وإنما تُرك ذلك للعُرف، ولقدرة الزوج ويُسره أو عُسره. فهذا الحكمُ لم يتغيّرْ، ولكنه جاء في صورة قاعدةٍ عامّةٍ، يُترَكُ تطبيقُها للقُضاة عند التخاصُم، والمعتمدُ في تحديدها عرفُ أهل البلد وعاداتُهم.
ولهذا فقد يكونُ البيتُ الشرعيُّ في عصرٍ أو بلدٍ غرفةً واحدةً .
وفي بلدٍ آخَرَ مكوناً مما لا يقلُّ عن أربع غرفٍ مع مرافقها.
وكذلك إنكار المنكر يكون واجبا حين يغلب على الظن زواله بالإنكار، ويحرم حين يغلب على الظن أن إنكاره يؤدي إلى منكر أعظم منه ( ).
ومع ذلك لا يُقالُ الحكمُ تغير، إلا بشيءٍ من التسامح في العبارة.
ولذا فإن القاعدةَ بحاجةٍ إلى ضبطٍ حتى لا يُفهمَ منها نسخُ الأحكام المنصوصةِ التي لا مدخلَ للعرف والعادة في تحديدها، مع وجود أسبابها.
ونص القاعدة - كما ذكرها ابن القيم - ليس فيه إلا عدمُ الإنكار على مَن تغيرت فتواه لتغير الأزمان والأحوال.
وكذلك الحكمُ القضائي كالفتوى؛ ولهذا اتفق العلماءُ على أن القاضيَ يجب أنْ يعرفَ عاداتِ الناس وأعرافَهم حتى يقضيَ بينهم، ولا يجوز أنْ يقضيَ مَن لا علمَ له بذلك.
الباب السادس
التقليد
تعريفه :
التقليدُ في اللُّغة : وضعُ القِلادة في العُنق.
وفي الاصطلاح : اختلف العلماءُ في تعريفه، وانبنى على ذلك الخلافِ اختلافُهم في حكمه.
فقد عرَّفه بعضُهم بأنه : قَبُول قولِ الغير من غير حجةٍ.
وهذا التعريفُ ذكره جماعةٌ من الأصوليين، منهم : الغزاليُّ، وابنُ قدامة، والآمديُّ، وابنُ الحاجب، وابنُ الهمام، والشوكانيُّ، وغيرهم.
ويَردُ على هذا التعريف إشكالٌ، وهو : أن قولَهم : « من غـير حجة » هل يُقصدُ به أن القَبُولَ لا حجةَ عليه؟ أو أن القولَ نفسَه ليس عليه حجةٌ؟
فإنْ أُريد أن القَبولَ لا حجةَ عليه لزم خروجُ اتِّباع العاميّ للعالم؛ لأن ذلك قد قامت حجّتُه، وهي قوله تعالى : { } [النحل43]، والإجماعُ على صحّة سؤال العاميّ للعالم.
وإنْ أرادوا أن الذي ليس عليه حجةٌ هو القولُ نفسُه، فهذا مشكِلٌ من جهة أن القولَ الذي يَعرف المقلدُ أنه لا حجةَ عليه لا يجوزُ اتباعُ العالمِ فيه عند أكــثر العلماء، بل حكي الاتفاق عليه.
والفريقُ الثاني عرَّفوا التقليدَ بأنه : قَبولُ قولِ القائل وأنتَ لا تَعرفُ من أين قاله ( ).
أو : أخذُ مذهب الغير بلا معرفةِ دليله ( ).
وقد ذهب إلى هذا جماعة من العلماء، منهم : القفالُ الشاشيُّ، والمرداويُّ، وابنُ النجار.
ومن الذين عبروا باللفظ الأول مَن قصد هذا المعنى، ولكنه ظن أن عبارته تفيده كابن قدامة رحمه الله، فإنه في أثناء كلامه أوضح أن مرادَه المعنى الذي ذكره الفريقُ الثاني.
ولو وازنا بين التعريفين لاخترنا تعريفَ الفريقِ الثاني، ولكن يرد عليه اعتراضٌ لا بدَّ من الاحتراز عنه. وهو : هل يخرج الإنسانُ من مرتبة التقليد إذا عَرف دليلَ المسألة، وإنْ لم يكنْ قادراً على دفع الشُّبَه عن الدليل والجواب عن أدلة القول الآخر؟
فالظاهر من حال أكثر الأصوليين والفقهاء أنهم لا يُخرجونه عن مرتبة التقليد بمجرَّد معرفة الدليل. ولهذا يجب أن يزيدوا قيداً فيقولوا : « أخذ مذهب الغير من غير معرفة رجحان دليله »، حتى يصدُقَ اسمُ المقلِِّد على مَن لا يعرفُ رجحانَ الدليل، وإن عرف الدليل.
وهذه الزيادة لا بدَّ منها لمن لا يرى واسطةً بين الاجتهاد والتقليد.
وأما مَن جعل مرتبةَ الاتّباع واسطةً بين الاجتهاد والتقليد فلا تلزمهُ هذه الزيادةُ؛ لأنه ربما جعل مَن يعرف الدليلَ متّبعاً وليس مقلِّداً، كما قال ذلك ابنُ حزم، وغيره.
والذي يظهرُ لي عدمُ جواز التسوية بين العاميّ الصِّرْف الذي لا يفقه الدليلَ حتى لو تُلي عليه، والمتعلمِ الذي يُمكنه معرفةُ الدليل ووجهُ دلالته، ولكنه لا قدرةَ له على ردّ أدلة القول المخالف أو لا علمَ له بها.
فالأول مقلِّدٌ، والأخيُر متَّبعٌ للدليل.
وعلى ذلك : فيمكن الأخذُ بتعريف الفريق الثاني للتقليد من غير زيادة.
أركانُ التقليد:
للتقليد ثلاثةُ أركانٍ، هي :
1- المقلِّدُ.
2- المقلَّدُ.
3- المقلَّدُ فيه.
فالأولُ هو العاميُّ، والثاني هو المجتهدُ، والثالثُ هو الحكمُ المأخوذُ عن المجتهد بطريق التقليد من غير معرفة دليله.
حكمُ التقليد:
تكلّم الأصوليون في حكم التقليد، ففرّقوا بين التقليد في الأصول والتقليدِ في الفروع، وحصل في نقل الأقوال خلطٌ كثيٌر، والسببُ عدمُ اتفاقِهم على تعريف التقليد.
فالذين عرّفوا التقليدَ بأنه : « قَبول قولِ الغير من غير حجةٍ » وقصدوا بهذا أن القولَ المقلَّدَ فيه لا حجةَ عليه إلا قولُ المجتهد أو فعلُه ذهبوا إلى تحريمه والمنعِ منه، وهو ما فعله ابنُ حزم وابنُ القيم والشوكانيُّ، ونقلوه عن جمهور العلماء.
ولا ينبغي أنْ يُفهمَ من هذا أنهم يمنعون العامةَ من سؤال العلماء، فإن هذا مجمعٌ عليه لا يُنكره أحدٌ، ولكنهم لا يُسمونه تقليداً، إذا كان العالِمُ أفتى بقول بناءً على الدليل.
وقد أوجب ابنُ حزم على العاميّ أنْ يسألَ المفتيَ عن دليله، فلا يَقبل فتواه إلا إذا ذكر له الدليلَ، أو قال له : إن هذا حكمُ الله جلّ وعلا.
وحينئذٍ عنده أن السائل لا يكون مقلِّداً، بل متَّبعاً لشرع الله الذي ظهر على لسان المفتي.
وأما ابنُ القيم والشوكانيُّ فقد اتجه ذمُّهما للتقليد إلى ما يفعله أتباعُ المذاهبِ من الفقهاء الذين يتّبعون مذاهبَ أئمتِهم ولو تبيّن لهم أن الدليلَ قامَ على خلافها! فلهذا حرّموا التقليدَ وشنّعوا على مَن أجازه.
ونقل الشوكانيُّ أن مذهبَ جماهير العلماء تحريمُه.
وما ذاك إلا لأنه فسّره بأنه : « قَبولُ قولُ الغيرِ دونَ حجةٍ » ( ).
وأما الفريقُ الثاني الذين عرّفوه بأنه: « قَبولُ قولِ الغير من غيِر معرفةِ دليلِه » أو نحو ذلك، فإنهم فرّقوا بين التقليد في أصول الإيمان، والتقليد في الفروع، فمنعوا الأولَ وأجازوا الثاني.
وفيما يلي بيانُ الخلاف المذكور في الموضعين.
التقليدُ في الأصول
محلُّ النزاع : ظنّ بعضُ الأصوليين أن المقصودَ بالأصول مسائلُ الاعتقاد عموماً.
والصوابُ : أن المرادَ الأصولُ التي يَدخل بها الإنسانُ في الإسلام، وهي : الإيمان بالله جل وعلا، واستحقاقُه العبادةَ وحده، والإيمانُ بصدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذه الأصولُ هي التي قال جمهور العلماء : إنها لا يجوزُ التقليدُ فيها، وإنما يجبُ على كلّ مسلمٍ أنْ ينظرَ في أدلّتها حتّى ترسخَ في قلبه، فلا يتزعزعُ إيمانُه بها لأدنى شبهة.
واستدلوا على ذلك بالآيات التي فيها ذمُّ التقليد، كقوله تعالى : { } [البقرة170]، وقوله تعالى في معرِض ذمّ المشركين : { } [الزخرف23].
وحملوا هذه الآياتِ على ذمّ التقليد في أصل الإيمان.
واستدلّوا بدليلٍ عقليٍّ، وهو : أن المقلِّدَ إما أنْ يكونَ شاكّاً في صدق مَن قلّده أو متيقِّناً صدقَه: فإنْ كان شاكّاً فلا يصحُّ إيمانٌ مع الشك. وإنْ كان متيقِّناً: فإما أنْ يكونَ بناء على نظرٍ واستدلالٍ، أو بناءً على ثقته بمَن قلّده.
فإنْ كان بناءً على نظرٍ واستدلالٍ فهو قد استدلَّ، وليس مقلِّداً.
وإنْ كان بناءً على ثقته بمَن قلّده وسكونِ نفسِه إليه، فما الفرقُ بين سكونِ نفسِه وسكونِ أنفُسِ المقلِّدين من النصارى إلى ما يقولُه القُسسُ والرهبانُ؟!
وقد خالف بعضُ العلماءِ في إيجاب النظرِ على الجميعِ، ظناً منهم أن المطلوبَ الاستدلالُ على طريقة المتكلمين، وهذا ليس مراداً عند المحقِّقين، وإنْ كان هناك مَن ظنّ أنه مرادٌ، حتى قال : مَن لم يعرفْ دليلَ التمانُع فلا يصحُّ إيمانُه!
والصحيحُ : وجوبُ النظرِ على القادرِ على ذلك، حتى لا يهتزَّ إيمانُه لأدنى شبهةٍ؛ لأن القادرَ على النظر إذا تركه كان مفرِّطاً في المحافظة على عقيدته من الزيغ والضلالة.
وليس المقصودُ المعرفةَ بدفع جميع الشُّبه في مجال الاعتقاد، وإنما المقصودُ النظرُ الدالُّ على وجود الله، ووحدانيته، واستحقاقِه للعبادة، وصدقِ الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما بقيةُ مسائلِ الاعتقادِ فيكفي فيها التقليدُ كمسائل الفروع الآتي ذكرُها.
ثمرة الخلاف :
ظن البعضُ أن ثمرةَ الخلاف أن مَن أوجب النظرَ لا يُصحّحُ إيمانُ مَن لم ينظرْ، ونقلوا عن أبي الحسن الأشعري عدمَ صحّة إيمانِ العوامِّ.
وهذا النقلُ لا يصحُّ. والبناءُ المذكورُ لا يصحُّ أيضاً.
وثمرةُ الخلافِ تظهرُ في أن مَن أوجبَ النظرَ في تلك المسائل يحكمُ بتأثيم مَن تركه مع قدرته عليه، أما مع العجز عنه فلا. ولا يعدُّه شرطاً لصحّة الإيمان، بل الإيمانَ صحيحٌ إذا لم يخالطْه شكٌّ، وإن لم يعرفْ ما يدلُّ عليه بالنظر.
التقليدُ في الفروع
المرادُ بالفروع هنا: ما ليس من الأصول التي يدخل بها الإنسانُ في الإسلام، فيدخلُ في الفروع بعضُ مسائل الاعتقاد، ومسائلُ أصولِ الفقه والفقهُ.
وقد اختلفوا في جواز التقليد في تلك المسائل.
فذهب الجمهورُ إلى جواز التقليد فيها.
واستدلوا بإجماع الصحابة على إفتاء العوام إذا سألوا، وعلى أن فرضَ الجاهلِ سؤالُ العالم.
واستدلوا بقوله تعالى : { } [النحل43].
وبقول الرجل في قصة العسيف عند النبي صلى الله عليه وسلم : « وإني سألت أهلَ العلم فأخبروني أنّ على ابني جلدَ مائةٍ وتغريبَ عامٍ » (متفق عليه عن أبي هريرة)، ولم ينكرْ عليه الرسولُ صلى الله عليه وسلم سؤالَه لأهل العلم.
وبقول الرسولِ صلى الله عليه وسلم : « ألا سألوا إذْ لم يعملوا » (أخرجه أبو داود عن جابر).
ومنع من التقليد في الفروع ابنُ حزم والشوكانيُّ.
ومنعُهم مبنيٌّ على تعريفهم للتقليد، ولو وافقناهم على التعريف لوافقناهم على الحكم.
وأما إذا اخترنا أن التقليدَ هو: « الأخذُ بمذهبِ الغيِر من غيرِ معرفةِ دليله »، أو «... من غير معرفة رجحان دليله » فلا يمكنُ أنْ نمنعَ التقليدَ؛ لأن أكثرَ المسلمين يعملون بالأحكام من غير أنْ يعرفوا الأدلةَ الخاصّةَ عليها.
ومن منكري التقليد مَن منع التقليدَ بمعنى : التزام مذهب إمامٍ معيَّنٍ من غير بحثٍ عن حجّته، وأجاز للعاميّ تقليدَ مَن شاء.
والفرقُ بين هذا المذهب ومذهب الجمهور : أنه يمنعُ التَمَذْهُبَ بمذهبِ إمامٍ معيَّنٍ، ولا يمنعُ أصلَ التقليدِ، والجمهورُ يُجيزون التمذْهُبَ ويعدُّونَه فرعاً عن جواز التقليد.
وحجتهم على جواز التمذهب : أنه إذا جازَ لغير المجتهد تقليدُ مَن شاء من العلماء جاز له أنْ يختارَ منهم واحداً فيقلِّدَه دونَ غيره، لثقته في علمه وعدالته وورعه.
والمانع من التمذهب يحتجُّ بأنه لم يكنْ معروفاً في صدر الإسلام. وأنه يؤدِّي إلى التعصُّب وتركِ الحق.
ويُجابُ بأن عدمَ اشتهارِه في صدر الإسلام يُمكن منُعه، ولا يستطيعُ مدّعيه أنْ يُقيمَ الدلالةَ على عدم وجود التزام بعض العوامّ بسؤالِ واحدٍ بعينه من المفتين.
ولو سُلِّمَ، فإن عدمَ اشتهارِه في الصدر الأول لا يدلُّ على تحريمه. وأيضاً فإن المفتين في الصدر الأول لم تكنْ لهم مذاهبُ معروفةٌ في جميع مسائل الفقه. وهذا جعل المقلّدين يسألون مَن وجدوه حين تعرِض لهم المسألةُ.
وأما قولهم : إنه يؤدّي إلى التعصُّب وتركِ الدليل الشرعيّ، فيُجابُ بأن الممنوعَ هو التعصُّبُ المذهبيُّ وتركُ الدليل مع معرفتِه والعلمِ برُجحانه، وهذا غير لازمٍ من التمذهُب لزوماً بيِّناً، ولكنه قد يحدثُ.
والذي يظهر : أن الذين أنكروا التقليدَ بمعنى التمذهبِ حملهم على إنكارِه ما رأوه في عصرهم من التعصُّب الممقوت الذي يصدُّ عن الحـقّ، ويفرِّقُ الأمةَ، حتى أصبح الدينُ كأنه مللٌ شتّى. ومن مظاهره : قولُ بعضِ أتباع المذاهب ببطلان الصلاة خلفَ مَن يُخالفُ المذهبَ؛ لاحتمال أنه فعلَ ناقضاً من نواقض الوضوء التي لا يراها إمامُه ناقضـةً، وهي عند إمام المقتدي به ناقضةٌ.
ولا شكّ أن مثلَ هذا مخالفٌ لما عليه المحقّقون من أتباع المذاهب كافّة، وحكوا عليه الإجماع.
حكمُ تقليدِ المجتهد لمجتهد آخَرَ :
نقل كثيرٌ من الأصوليين الاتّفاقَ على أن المجتهدَ إذا نظر في الواقعة وتوصّلَ فيها إلى ظنٍّ غالبٍ بحكم الله، لا يجوزُ له أنْ يتركَ ما غلب على ظنه ويعملَ بظنِّ غيره.
وحصروا الخلافَ في المسألة فيما إذا لم ينظرْ في المسألة بعدُ، أو نظرَ فيها ولم يتوصّلْ إلى ظنٍّ غالبٍ.
وغلط بعضُهم فحصر الخلاف فيما إذا اتّسع الوقتُ للنظر والاجتهاد، وحكى الاتفاق على جواز التقليد للعالم إذا ضاق الوقت عن النظر. والصواب: دخولُ ذلك في الخلاف.
أهم الأقوال في المسألة :
الأول: عدمُ جوازِ التقليد للمجتهد مطلقاً. وهو مذهبُ جمهورِ الأصوليين.
واستدلُّوا بأدلّةٍ كثيرةٍ، منها :
1- حديث : « دعْ ما يريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ » (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان عن الحسن بن علي رضي الله عنهما)، فإن رأي المجتهدِ الآخَرِ مما يرتابُ فيه المجتهد، بخلاف رأيه هو.
وفي الاستدلال ضعفٌ، من جهة أن الحديثَ لا يُفيدُ أكثرَ من ترك المشكوكِ فيه والعملِ بالمقطوع. فلا ينطبقُ على مسألتنا.
2- الأدلّةُ الدالّةُ على ذمّ التقليد، فإنها تشمل تقليد المجتهد - القادر على النظر - لغيره.
3- أن التقليدَ إنما أُذنَ فيه للعاجز عن الاجتهاد، فلا يشملُ القادرَ؛ لقوله تعالى: { } [النحل43]. وعدمُ نظره في المسألة لا يُخرجُه عن كونه من أهل العلم.
القولُ الثاني: لا يجوزُ له التقليدُ، إلاّ إذا ضاق الوقتُ وحضر وقتُ العمل، ولم ينظرْ أو لم يتبيّنْ له فيها رأيٌ. وهو مذهب ابن سُريجٍ، واختاره ابنُ تيميةَ. وجعله بعضُ العلماء جائزاً باتّفاقٍ في هذه الحالة.
ودليلُه : أنه إذا لم يتمكّنْ من النظر لضيق الوقت، أو نظر فلم يظهرْ له حكمٌ معيَّنٌ يكونُ بمنزلة العاميّ؛ إذْ لا يُمكنه التوقُّفُ إلى الأبد.
ولأن اللهَ علّق جوازَ التقليد على عدم العلم بالبيّنات، والمجتهدُ في المسألة التي لم ينظرْ فيها لا علمَ له بأدلّتها.
القولُ الثالث : جوازٌ تقليدٍ المجتهد للأعلم منه، دون مَن هو مثلُه أو أقلُّ منه. وهو مذهب محمد بن الحسن الشيبانيّ.
واحتجَّ : بأن العالم مع مَن هو أعلمُ منه كالعاميّ مع العالم.
وهناك أقوالٌ أخرى: تُجوّز تقليدَ الصحابة وحدهم، أو الصحابة والتابعين.
والراجحُ : القول الثاني، وهو: جوازُ التقليد مع ضيق الوقت لا مع سعته، وكذلك إذا نظر ولم يظهرْ له حكمٌ جاز له التقليدُ؛ وذلك لأن العالمَ حينئذٍ إما أنْ يُقلّدَ، وإما أنْ يتركَ العملَ. ولا يجوزُ له تركُ العمل مع قدرته على سؤال غيره.
وأما إنْ نظر فلم يظهرْ له حكمٌ فلا ينبغي أنْ يقعَ خلافٌ في جواز التقليد له إذا احتاج إلى العمل.
وأما إذا لم يحتجْ للعمل بنفسه، وإنما سُئل عن الواقعة، فليس له أنْ يُفتيَ تقليداً، بل يدلُّ السائلَ على المفتي أو ينقلُ له فتواه.
سؤالُ العاميّ مَن شاءَ من المفتين :
يجوزُ للعاميّ أنْ يسألَ مَن شاء من المفتين، وله أنْ يسألَ المفضولَ مع وجود الفاضل، عند أكثر العلماء.
واستدلُّوا على ذلك: بالإجماع؛ أخذاً مما عليه الحالُ وقتَ الصحابة والتابعين، فإن العوامَّ كانوا يسألون المفضولَ فيُفتيهم، ولا يأمرُهم بسؤال الفاضل.
ولم يُعهدْ عن أحدٍ من الصحابة أنه كان لا يُفتي مع وجود الأفضل منه في البلدة، وقد أفتى ابنُ عباسٍ وابنُ عمر في حياة الخلفاء الأربعة، رضي الله عنهم أجمعين.
وأوجب بعضُ العلماء على العاميّ البحثَ عن الأعلم والأتقى ليسألَه. وقال : إن العاميَّ يجتهدُ في أحوال المفتين، فيبحثُ عن الأفضل منهم، كما يجتهدُ العالمُ في الأخذ بالأقوى من الدليلين المتعارضين.
موقفُ المستفتي من اختلاف المفتين :
إذا سأل المستفتي أكثرَ من عالمٍ فاختلفوا، أو اشتهرتْ فتاوى العلماء مع اختلافها، كما هو الحالُ في عصرنا الحالي؛ فإن العوامَّ ربما عرفوا فتوى أكثر من عالمٍ في المسألة الواحدة، فما موقفهم؟ وبم يأخذون؟.
الواجب على المستفتي إذا تعارضت الفتاوى : أنْ يأخذَ بفتوى الأعلم من المفتين، فإنْ تساووا أخذَ بقول الأتقى والأورع، فإنْ جهل الأعلمَ أو الأورعَ سأل العارفين بهم عن ذلك، ثم أخذ بمَن يغلب على ظنه أنه الأعلمُ أو الأتقى.
وقال بعضُ العلماء : يتخيّر.
وقال بعضُهم : يعملُ بالأحوط.
وقيل : يعملُ بالأسهل.
والأول هو الصحيحُ.
والدليل على صحّته : أن فتوى العالم عند العاميّ كالدليل عند المجتهد، وإذا تعارضت الأدلّةُ عند المجتهد وجب عليه طلبُ الترجيح، فكذلك العاميّ إذا تعارضتْ عنده الفتاوى.
تقليدُ الميت:
اختلف العلماءُ في حكم تقليد الميت، على أقوال :
الأول : مذهب الجمهور أنه جائزٌ، وربما حكى بعضُهم الإجماعَ عليه؛ أخذاً بعمل أتباع المذاهب.
واستدلَّ له بعضُهم بالقياس على شهادة الشاهد إذا مات، قبل الحكم بها.
واستدلّ بعضُهم بالضرورة؛ لأنّا لو لم نُجوِّزْ تقليدَ الميت لأدّى إلى حَيرة الناس لعدم وجود المجتهد المطلَق.
الثاني : المنع من تقليد الميت مطلقاً.
وهذا القولُ قد يفهم من كلام الرازي اختياره؛ حيثُ أجاز نقلَ الفتوى عن الأحياء دون الأموات، ولكنه أورد بعض أدلة المجيزين لتقليد الأموات ولم يجب عنها، وبه قال بعضُ المعتزلة، وهو قولُ الشيعة.
ودليلُه :
1- أن الميتَ لا يُعتدُّ بقوله في الإجماع؛ إذْ لو وجب الاعتدادُ بقوله ما ثبت إجماعٌ بعد موت أول عالمٍ.
2- أن تجديدَ الاجتهاد واجبٌ، كما قال كثيرٌ من العلماء، والميتُ لا يُمكنُ أنْ يُجدِّدَ اجتهادَه.
3- أن الوقائعَ تختلفُ صفاتُها المؤثِّرةُ في حكمها، وتغيُّرُها يُوجبُ إعادةَ النظر فيها، فما كان مفسدةً في وقتٍ قد يعودُ مصلحةً، أو قد يكونُ أقلَّ مفسدةً من غيره. وهذا لا يُمكنُ تقديرُه إلاّ من الأحياء.
والصوابُ : أن الوقائعَ التي أفتى فيها المتقدِّمون : إما أنْ يغلِبَ على ظننا أن تغيُّرَ العصر لا مدخلَ له في تغيُّرِ حكمِها، أو لا.
فإنْ غلب على ظننا أن الأعرافَ والعاداتِ والمصالحَ لم تتغيّرْ في هذا العصر عنها في العصر السابق، أو أن التغيُّرَ لا مدخلَ له في حكمِها، فلا بأسَ بنقل فتاوى المتقدّمين والعملِ بها من المقلّدين.
وإنْ لم يحصلْ ظنٌّ غالبٌ بذلك، لم يجز الفتوى فيها بنقل مذاهب الأموات، ولم يجزْ للمقلّد إذا اطّلع على فتوى المتقدّمين فيها : أن يأخذَ بها حتى يُراجعَ علماءَ العصر.
ونتيجةً لاكتفاء بعض علماء العصر بنقل مذاهب الأموات في مسائل الاجتهاد دون أنْ ينظروا في أثر تغيُّر الزمان والأعراف والمصالح في المسألة، وقع خللٌ كبيرٌ في الفتاوى، وتأخّر الفقهُ عن مسايرة تطوُّر الحياة.
وهذا الكلام خاصٌّ بمسائل الاجتهاد، التي لم يردْ فيها نصٌّ صريحٌ صحيحٌ، لا معارض له.
التلفيق
يُطلقُ التلفيقُ في الفقه وأصوله ويُرادُ به في الغالب: الإتيانُ في مسألةٍ واحدةٍ بكيفيةٍ لا تُوافقُ قولَ أحدٍ من المجتهدين السابقين.
وحين التمثيل للتلفيق المختلَفِ فيه يذكرون التلفيقَ الناشئَ عن الخلاف في شروط الفعل، أو في مبطلاته، ويعدُّون ذلك مسألةً واحدةً، مع إمكان أنْ يُقالَ إن كلَّ شرطٍٍ يُعدُّ مسألةً مستقلّةً.
مثاله : أن يتوضأ فيمسحَ على شعراتٍ من رأسه تقليداً للشافعيّ، ويمسَّ امرأةً فلا يتوضّأُ تقليداً لأبي حنيفةَ، ثم يُصلّي بهذا الوضوء.
فهذه الصلاةُ لا تصحُّ على مذهب أبي حنيفةَ؛ لعدم مسح ربع الرأس، ولا على مذهب الشافعيّ؛ لكون الوضوء عنده قد انتقض بلمس المرأة.
ويُطلق التلفيقُ على أعمّ من هذا المعنى عند بعضِ العلماء، حيثُ أدخلوا فيه أخذَ المقلِّد في مسألةٍ بمذهب إمامٍ، وفي مسألةٍ أخرى بمذهب إمامٍ آخَرَ، حتى ولو لم يكنْ بين المسألتين تلازمٌ.
وهذا لا يُمكنُ منعُه، إلاّ على قول مَن يُوجبُ على المقلِّد الالتزامَ بمذهبٍ واحدٍ في جميع ما يفعلُ أو يتركُ. وهو قولٌ فاسدٌ لا دليلَ عليه، أوقع فيه الإفراطُ في التقليد.
وقد قام الإجماعُ في عهد الصحابة والتابعين على أن للمقلِّد أنْ يسألَ مَن شاءَ من العلماء، وأن مَن سأل عالماً في مسألةٍ لا يُمنعُ من سؤال غيره في مسألةٍ أخرى.
وقد يُطلَقُ التلفيقُ على أخذ المجتهد بقولٍ جديدٍ مركَّبٍ من قولين مختلفين في المسألة، وهو ما يُسمّيه بعضُهم : « إحداث قولٍ جديدٍ ».
وقد سبق الكلامُ عن هذه المسألة في الإجماع، وبيانُ ما فيها من الخلاف.
وقد يُطلَقُ التلفيقُ على فتوى المجتهد بقولٍ مركَّبٍ من قولين مع عدم اعتقاد رُجحانه، وإنما يُفتي به تخليصاً للمستفتي من ورطةٍ وقع فيها. وهذا يدخلُ فيما يُسمّى بــ (مراعاة الخلاف).
والصحيحُ : أن المجتهدَ إذا رأى أن هذا القولَ أرجحُ في حقّ هذا المستفتي مراعاةً ليُسر الشريعة، ورفعاً للحرج، فيكونُ قد ترجّحَ عنده القولُ في هذه الصورة بخصوصها، وفتواه حينئذٍ صحيحةٌ.
وأما إذا كان يرى أن الصورةَ المعروضةَ عليه فيها قولٌ آخَرُ أرجحُ فليس له تركُه والفتوى بالمرجوح.
أما التلفيقُ بالمعنى المشهور، وهو : « الإتيانُ في مسألةٍ واحدةٍ بكيفيةٍ لا يقولُ بها أحدٌ من المجتهدين السابقين »، فقد اختُلف في جوازه. وهو قد يقعُ من المقلِّد بقصدٍ أو بغير قصدٍ.
فإنْ وقع بغير قصدٍ : فلا شكَّ في جوازه؛ للإجماع على أن له أنْ يعملَ برأي مَن استفتاه، ولا يمتنع أنْ يستفتيَ شافعياً في الوضوء ويستفتي مالكياً في نقض الوضوء، ثم يُصلي بوضوءٍ لم يُعمِّمْ فيه مسحَ الرأس ولا أكثره، وقد مسَّ امرأةً أجنبيةً.
وأما إنْ كان التلفيقُ مقصوداً : فإما أنْ يحصلَ من مجتهدٍ أو مقلدٍ.
فإنْ حصل التلفيقُ من مجتهدٍ فيفرَّقُ بين أنْ يرى رجحانَ القول الجديد المركَّب الذي أداه إليه اجتهاده إما مطلقاً أو في هذه الصورة التي استُفتي فيها، أو أنه لا يرى رجحانَه حتى في هذه الصورة.
فإنْ كان يرى رجحانَ القول مطلقاً أو في هذه الصورة ففتواه صحيحةٌ على الراجح؛ لأن المسألةَ خلافيةٌ لا إجماعَ فيها.
وإنْ كان لا يرى رجحانَه لا في هذه الصورة ولا مطلقاً ففتواه باطلةٌ.
وأما إنْ حصل التلفيقُ المقصودُ من مقلِّدٍ فلا يصحُّ، لاحتمال أنْ يقعَ في مخالفةِ نصوصِ شرعيةِ من حيثُ لا يعلمُ. ولأن العملَ بقولٍ جديدٍ من غير استفتاءٍ عملٌ بالهوى والشهوة، وهو ينافي التدينَ.
وقد اشترط بعض العلماء لصحة التلفيق شروطاً، أهمها :
1 ـ أن لا يخالف إجماعاً أو نصاً من كتاب أو سنة.
2 ـ أن لا يكون بقصد التحلل من عهدة التكليف.
تتبع الرخص
يُقصدُ بتتبُّع الرخص : الأخذُ بأخف الأقوال في المسائل الخلافية.
وهذا العملُ قد يحصُل من مجتهدٍ أو مقلدٍ.
فالحاصل من المجتهد لا يجوز إلا أنْ يؤدّيَه اجتهادُه إلى رجحانه مطلقاً، أو في صورةٍ من الصور التي سئلَ عنها. كما تقدم في التلفيق.
وأما من المقلد فإن التتبعَ للرخص لا يكونُ إلا ممن له علمٌ بالمذاهب؛ وقد أجازه بعضُ العلماء. والصوابُ منعُه؛ لأن فرضَ المقلد سؤالُ أهل العلم، كما قال تعالى : { } [النحل43].
ولأن تتبعَ الرخص يؤدّي إلى التحلُّل من رِبقة التكاليف الشرعية، وهو عملٌ بالهوى بدون دليل. ولهذا قال بعضُ العلماء : مَن تتبّع الرخصَ فقد تزندق.
وينبغي أنْ يُعلمَ أن تتبعَ الرخص إنما يتحقّقُ في شأن مَن هذا ديدنُه في مسائل الخلاف.
وأما من أخذ في مسألة أو مسألتين بالقول الأخفّ لحاجته إليه : فهذا قد اختُلف في صحّة عمله، بناءً على ما ذكرناه سابقاً في مسألة العامي إذا سأل أكثر من عالم فاختلفوا فماذا يصنع؟ وقد ذكرت في المسألة أقوال كثيرة، منها : أن له أنْ يأخذَ بالأسهل.
ولكن الراجحَ أنه يطلبُ الترجيحَ فيأخذُ بفتوى الأعلم والأورع، فإنْ تساويا سأل ثالثاً.
وقد استأنس القائلون بجواز الأخذ بأسهل الأقوال بما رُوي عن الإمام أحمد أنه سأله رجلٌ عن مسألةٍ في الطلاق، فقال : إن فعل حنث. فقال له : يا أبا عبد الله، إن أفتاني إنسان (يعني: بعدم الحنث)، فقال : تعرف حلْقةَ المدنيين؟ ـ حلقة بالرّصافة ـ فقال له: إنْ أفتوني يحلُّ؟ قال : نعم ( ).
وهذا النقلُ ليس دالاًّ على تجويز الإمام أحمد اتّباع المقلِّد لرخص المذاهب؛ لأن القصةَ تدل – إن صحّتْ – على جواز أخذ المقلِّد في مسألةٍ اجتهاديةٍ لا نصَّ فيها بأسهل الرأيين، ولم يظهر من كلام السائل ولا من كلام الإمام أحمدَ ما يدلُّ على أن ذلك من عادةِ السائل وديدنِه في مسائل الخلاف.
وقد يُنازَع في دلالة القصة حتى على التخيُّر عند اختلاف المجتهدين ولو لم يُتّخذْ عادةً؛ لأن الإمامَ أحمدَ أرسله إلى علماءٍ ثقاتٍ يعرفهم، وقال له إنْ أفتوك بالحلّ فرأيُهم أرجحُ لكثرتهم، وللعاميّ عند اختلاف المفتين أنْ يأخذَ بقول الأكثر منهم؛ لأن الكثرةَ من المرجِّحات.
الخاتمة :
الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات وترفع الدرجات. أما بعد :
فقد انتهى هذا السفر الذي آمل أن يكون موافقا لصحيح الأدلة من المنقول والمعقول، محققاً لما رجوته من استيعاب أهم مسائل الأصول، على وجه يكفي قارئه عن كثير من المطولات، ويحرر كثيراً من المشكلات.
وإني لآمل من الله جل وعلا أن يجعل ما بذلته فيه من جهد زيادة في الحسنات وتكفيراً للسيئات.
وأرجو من القارئ الكريم أن لا يبادر إلى تخطئة ما يراه مخالفاً للمشهور قبل المراجعة والتأمل.
كما أرجو أن يكتب إليّ بما له من ملحوظات لتلافيها في الطبعات القادمة إن شاء الله تعالى؛ عملاً بقول الله جل وعلا : { } [المائدة2].
واللهَ أسأل أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل به، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
مقدمة 3
التمهيد : التعريف بأصول الفقه 5
نشأة أصول الفقه 5
تعريف أصول الفقه 10
تعريف الفقه 11
تعريف الأصول 14
تعريف أصول الفقه باعتباره علَماً 15
موضوع أصول الفقه 17
فوائد علم أصول الفقه 18
استمداد أصول الفقه 21
الباب الأول : الحكم الشرعي 24
تعريف الحكم الشرعي 24
أقسام الحكم الشرعي 28
تعريف الواجب 30
أقسام الواجب 32
تقسيم الواجب بالنظر إلى ذاته ووقته 32
الفرق بين الواجب الموسع والواجب المضيق 36
انقسام الواجب إلى عيني وكفائي والفرق بينهما 37
انقسام الواجب إلى محدد وغير محدد 39
ما لا يتم الواجب إلا به 40
زيادة الواجب غير المحددة هل تكون واجبة 42
المندوب تعريفه وطرق معرفته 43
أسماء المندوب 44
هل يلزم المندوب بالشروع فيه؟ 46
الحرام تعريفه وطرق معرفته 48
التضاد بين الحرام والواجب 49
المكروه تعريفه وطرق معرفته 51
المباح تعريفه وطرق معرفته 53
الحكم الوضعي تعريفه وأقسامه 55
أوصاف العبادة المؤقتة (الأداء القضاء الإعادة) 61
العزيمة والرخصة 62
الفرق بين الرخصة والمخصوص من العموم 63
الفرق بين الحكم التكليفي والوضعي 65
التكليف : تعريفه 68
صحة تسمية أوامر الشرع تكاليف 68
شروط التكليف 70
شروط الفعل المكلف به 73
التكليف بما لا يطاق 74
موانع التكليف 79
أهلية الوجوب وأهلية الأداء 79
الباب الثاني: أدلة الأحكام الشرعية 94
تعريف الدليل وأقسامه 94
الأصل في الأدلة الشرعية العموم 96
القراءة الصحيحة والشاذة والباطلة 98
تعريف السنة وأقسامها 103
شروط الراوي 109
حجية السنة 111
شروط الحنفية لقبول خبر الآحاد 116
أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم 119
الإجماع 124
حجية الإجماع السكوتي 130
أهل الإجماع 134
عمل أهل المدينة 137
القياس 142
تعريف العلة 146
شروط القياس 149
طرق معرفة العلة 160
أقسام القياس 169
حجية القياس 173
القياس في الحدود والرخص والكفارات 177
التعليل بالحكمة 179
قول الصحابي 184
شرع من قبلنا 189
الاستحسان 193
الاستصحاب 199
الاستصلاح 204
سد الذرائع 211
الباب الثالث : دلالة الألفاظ 214
تعريف الأمر 216
دلالة الأمر على الوجوب 222
دلالة الأمر على الفورية 226
دلالة الأمر علىالتكرار 231
سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته 236
اقتضاء الأمر الإجزاء بفعل المأمور به 243
الأمر بالأمر بالشيء 249
دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده 253
الأمر بعد الحظر 259
الأمر في الواجبات الكفائية 266
تعلق الأمر بالمعدوم 268
تعريف النهي وصيغته 270
اقتضاء النهي التحريم 273
اقتضاء النهي الفورية والاستمرار 275
النهي عن الشيء أمر بضد من أضداده 276
النهي بعد الأمر 277
اقتضاء النهي الفساد 278
تعريف العام والخاص 285
الفرق بين العام والمطلق 287
أقسام العام 289
العموم المعنوي 291
تقسيم العام باعتبار استعماله في عمومه أو عدمه 297
صيغ العموم 299
الخلاف في وضع صيغة للعموم 309
قوة دلالة العام 315
العام بعد التخصيص 318
تعريف التخصيص 321
المخصصات المتصلة 324
شروط الاستثناء 328
الاستثناء المتعقب للجمل 336
الاستثناء من النفي 342
الشرط الذي يحصل التخصيص به 345
المخصصات المنفصلة 348
العموم الوارد على سبب 358
دخول المخاطِب في عموم خطابه 361
دخول العبيد والكفار في الخطاب العام 363
العمل بالعام قبل البحث عن مخصص 364
المطلق والمقيد 367
المنطوق والمفهوم 374
دلالة الاقتضاء 375
دلالة الإشارة والإيماء 377
حجية مفهوم المخالفة 382
منهج الحنفية في تقسيم كيفية الدلالة 388
دلالة اللفظ من حيث الظهور والخفاء (النص والظاهر والمجمل) 390
تقسيم الحنفية دلالة اللفظ من حيث الوضوح والخفاء 401
تعريف البيان ومراتبه 406
تأخير البيان 410
التخريج على قاعدة تأخير البيان 413
الباب الرابع : التعارض وطرق دفعه 415
شروط التعارض 416
طرق دفع التعارض الظاهري 419
الجمع بين المتعارضين 420
النسخ 422
شروط الناسخ 423
طرق معرفة النسخ 427
الترجيح تعريفه وشروطه 429
الترجيح من جهة السند 432
الترجيح من جهة المتن 434
الترجيح لأمر خارجي 438
الترجيح بين محامل اللفظ الواحد 440
الترجيح بين المعقولين 442
الباب الخامس : الاجتهاد 448
تعريف الاجتهاد وأركانه 448
شروط الاجتهاد 451
تجزؤ الاجتهاد 455
اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة 458
المصيب في مسائل الاجتهاد واحد 461
تجديد الاجتهاد 467
تغير الاجتهاد والقواعد المبنية عليه 471
الباب السادس : التقليد 476
تعريف التقليد 476
أركان التقليد وحكمه 478
التقليد في الأصول 480
التقليد في الفروع 482
سؤال العامي من شاء من المفتين 486
تقليد الميت 487
التلفيق 489
تتبع الرخص 492
الخاتمة 494
فهرس الموضوعات 495