الجمعة، 7 ديسمبر 2012

الدكتور وجدى غنيم انذار وتحذير للصليبين فى مصر 6-12-2012

نائب الرئيس - لابد من الاستفتاء على الدستور فى موعدة

ربنا يحرق قلبك يا برادعي انت وحمدين وعمرو موسي ام الشهيد

حرق المقر العام للإخوان بالمقطم بعد انسحاب الامن

كلمة الرئيس مرسي للشعب المصري حول احداث الاتحادية

الخميس، 6 ديسمبر 2012

من أهم أساليب الدعوة إلى الله عز وجل الموعظة الحسنة


بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد:
فإن من رأى تهافت الناس على الدنيا والفرح بها والجري وراء حطامها ليأخذه العجب.. فهل هذا منتهى الآمال ومبتغى الآجال؟! كأنهم ما خلقوا إلا لتحصيل المادة وجمعها واللهث ورائها. ونسوا يومًا يرجعون فيه إلى الله.
وهذا هو الجزء السابع من سلسلة «أين نحن من هؤلاء؟!» تحت عنوان «الدنيا ظل زائل» جمعت فيه نظر من كان قبلنا إلى هذه الحياة الدنيا وهم الذين أيقنوا وعلموا أنها دار ممر ومحطة توقف ثم بعدها الرحيل الأكيد والحساب والجزاء.
والكتاب فيه تذكير بالمعاد والمصير وتزويد للسائر على الطريق.
جعل الله أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم

مدخل
قال الله -جل وعلا- في وصف الدنيا: { إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } [غافر: 39] وحذر -سبحانه- من فتنة الأموال والأولاد، فقال -تعالى-: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [الأنفال: 28] ونهى جل وعلا عن النظر إلى ما في أيدي الناس { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [طه: 131].
والآيات الواردة في ذم الدنيا وأمثلتها كثيرة، وأكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا، وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة. فلا حاجة إلى الاستشهاد بآيات القرآن لظهورها (1) .
__________
(1) الإحياء باختصار: 3/216.

وها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتسم على لسانه نظرته إلى الدنيا بقوله: «مالي وللدنيا! إنما مثلي ومثل الدنيا: كمثل راكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه الألباني ولكثرة مشاغل الدنيا وأعمال الحياة. وحث -عليه الصلاة والسلام- على الاستعداد ليوم الرحيل والتزود للدار الآخرة، فقال: «كن في الدنيا: كأنك غريب أو عابر سبيل» رواه البخاري.
ومن رأى تهافت الناس على الدنيا وانكبابهم على جمع حطامها من حلال وحرام، تذكر قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا رأيت الله -عز وجل- يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج» رواه أحمد والبيهقي.
ومن تعلق بالدنيا الزائفة، وجرى في اللهث وراء المادة، فإن ذلك ربما يصرفه عن الطاعة، والعبادة، وعن تأدية الواجبات في وقتها، وعلى أتم وجه وأكمله.
قال - صلى الله عليه وسلم - : «اقتربت الساعة، ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصًا، ولا يزدادون من الله إلا بعدًا» رواه الحاكم.
أما جمع الدنيا بحلال وصرفه في حلال فهذه: عبادة، يتقرب بها إلى الله -جل وعلا- أما إذا كانت من حرام، أو وضعت في حرام، فبئست الزاد إلى النار.
قال يحيى بن معاذ: لست آمركم بترك الدنيا، آمركم بترك الذنوب، ترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات والفضائل.

والدنيا أخي الكريم: أعيان موجودة للإنسان، فيها حظ وهي الأرض وما عليها، فإن الأرض مسكن الآدمي، وما عليها ملبس ومطعم ومشرب ومنكم وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله -عز وجل- فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح، كما لا تبقى الناقة في طريق الحاج إلا بما يصلحها، فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور يمدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنفه الشره، وقع في الذم، فإنه ليس للشره في تناول الدنيا وجه، لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل عن طلب الأخرى، فيفوت المقصود، ويصير بمثابة من أقبل يعلف الناقة، ويرد لها الماء، ويغير عليها ألوان الثياب، وينسى أن الرفقة قد سارت، فإنه يبقى في البادية فريسة للسباع هو وناقته.
ولا وجه أيضًا للتقصير في تناول الحاجة، لأن الناقة لا تقوى على السير، إلا بتناول ما يصلحها، فالطريق السليم هي: الوسطى، وهي أن يؤخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك، وإن كان مشتهى، فإن إعطاء النفس ما تشتهيه عون لها وقضاء لحقها (1) .
قال عون بن عبد الله: الدنيا والآخرة في القلب: ككفتي الميزان، ما ترجح أحدهما تخف الأخرى (2) .

ومن يحمد الدنيا لعيش يسره ... فسوف لعمري عن قليل يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثيرًا همومها (3)

وقيل للحسن: يا أبا سعيد: من أشد الناس صراخًا يوم القيامة؟ فقال: رجل رزق نعمة؛ فاستعان بها على معصية الله (4) .
ولا شك أن من استعان على الدنيا بالطاعة، فإنه في خير عظيم، يتصدق، وينفق، ويساهم في نشر العلم وبناء المساجد. وهذه نعمة من الله له، أن وجهه لاستعمال هذا المال فيما ينفعه في آخرته.
والإنسان: محب للمال، جامع للذهب والفضة، يجري من مولده حتى موته خلف الدرهم والدينار، ولكن ماذا يبلغ.. وإلى أين ينتهي..؟!
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين: 211.
(2) تزكية النفوس: 129.
(3) بستان العارفين: 17.
(4) الحسن البصري: 47.



 يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... والنفس واحدة والهم منتشر
فالمرء ما عاش ممدود له أجل ... لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر

والدنيا مقبلة ومدبرة.. فمن غنى إلى فقر، ومن فرح إلى ترح، لا تبقى على حال، ولا تستمر على منوال.. فهذه سنة الله في خلقه.. والناس يجرون خلف سراب.. سنوات معدودة وأيام معلومة.. ثم تنقضي.

وما هي إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها (1)

قال عمر بن الخطاب: الزهد في الدنيا: راحة القلب والبدن (2) .
وقال الحسن: أدركت أقوامًا لا يفرحون بشيء من الدنيا أتوه، ولا يأسفون على شيء منها فاتهم (3) .
وجماع ذلك قول الإمام أحمد: الزهد في الدنيا: قصر الأمل (4) .
والمؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه فيها على جناح سفر (5) .
وهذا هو الفهم الصحيح.. والعلم النافع.. ذكر ذلك يحيى بن معاذ فقال: كيف لا أحب دنيا، قدر لي فيها قوت، أكتسب به حياة، أدرك بها طاعة.. أنال بها الجنة (6) .
هذا هو من يغبط في هذه الدنيا، لا أصحاب الدور والقصور.. المفرطون في العبادات، والمضيعون للطاعات.

إذا ما كساك الدهر ثوبًا لصحة ... ولم تخل من قوت يحل ويعذب
فلا تغبطن المترفين فإنه ... على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب (7)

وقال عبد الله بن عمر: إن الدنيا: جنة الكافر وسجن المؤمن.. وإنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه، كمثل رجل كان في سجن فأخرج منه، فجعل يتقلب في الأرض ويتفسح فيها (8) .
__________
(1) شذرات الذهب: 20/10.
(2) تاريخ عمر: 26.
(3) الزهد لأحمد: 230.
(4) مدارج السالكين: 2/11.
(5) جامع العلوم: 3780.
(6) تزكية النفوس: 128.
(7) الزهد للبيهقي: 116.
(8) شرح الصدور: 13.



 أيها الناس! إن سهام الموت صوبت إليكم، فانظروها، وحبالة الأمل قد نصبت بين أيديكم، فاحذروها، وفتن الدنيا قد حاطت بكم من كل جانب، فاتقوها، ولا تغتروا بما أنتم فيه من حسن الحال، فإنه إلى زوال، ومقيمة إلى ارتحال، وممتدة إلى تقلص واضمحلال (1) .

تمر بنا الأيام تترى وإنما ... نساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عائد ذاك الشباب الذي مضى ... ولا زائل هذا المشيب المكدر (2)

فمن تكفر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر (3) .
وقد لهونا في هذه الدنيا.. وتتابعت ذنوب خلف ذنوب.
أخي الحبيب... أين نحن من هؤلاء؟!
عن أنس بن عياض قال: رأيت صفوان بن سليم، ولو قيل له: غدًا القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة (4) .
عجبت لحالنا.. الدنيا مولية عنا، والآخرة مقبلة علينا، ونشتغل بالمدبرة، ونعرض عن المقبلة.. كأننا لن نصل إليها.. ولن نحط رحالنا فيها..
وقد قال عمر بن عبد العزيز في خطبته: إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا -رحمكم الله- منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وإذا لم تكن الدنيا للؤمن دار إقامة ولا وطنًا، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين، إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة (5) .

فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها ... ولكن إلى الملك القدير أصير
ومالي شيء غير أني مسلم ... بتوحيد ربي مؤمن وخبير (6)
__________
(1) العاقبة: 69.
(2) شذرات الذهب: 6/231.
(3) صيد الخاطر: 25.
(4) السير: 5/366.
(5) جامع العلوم: 379.
(6) شذرات الذهب: 2/119.



 والناس تتصارع وتتكالب على هذه الدنيا.. يفقد البعض دينه، وينسى الكثير أبناءه.. انتشرت الأحقاد.. وزرعت الضغائن.. وعمت البغضاء.. لنرى كيف نظر الفضيل إلى هذه الدنيا بقوله: لا يسلم لك قلبك حتى لا تبالي من أكل الدينا.
أخي الحبيب:

تبلغ من الدنيا بأيسر زاد ... فإنك عنها راحل لمعاد
وغض عن الدنيا وزخرف أهلها ... جفونك وأكحلها بطيب سهاد
وجاهد على اللذات نفسك جاهدًا ... فإن جهاد النفس خير جهاد
وما هي إلا دار لهو وفتنة ... وإن قصارى أهلها لنفاد (1)

قال بلال بن سعد ليذكرنا بمآلنا ومصيرنا: يا أهل التقى، إنكم لم تخلقوا للفناء، وإنما تنقلون من دار إلى دار، كما نقلتم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الخلود في جنة أو نار (2) .
ولذلك قال الحسن: إياكم وما شغل من الدنيا، فإن الدنيا كثيرة الاشتغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل، إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب (3) .
وقال ابن السماك: من جرعته الدنيا حلاوتها لميله إليها، جرعته الآخرة مرارتها لتجافيه عنها (4) .

أيا نفس ويحك جاء المشيب ... فماذا التصابي وماذا الغزل
تولى شبابي كأن لم يكن ... وجاء مشيبي كأن لم يزل
كأني بنفسي على غرة ... وخطب المنون بها قد نزل (5)

أخي الحبيب:
أساس كل خير أن تعلم: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فتتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه، فتشكره عليها، وتتضرع إليه أن لا يقطعها عنك، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك (6) .
عندما سئل إبراهيم بن أدهم: كيف أنت؟ قال:

نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
__________
(1) المنتخب: 401.
(2) السير: 5/91.
(3) الزهد، لابن المبارك: 189.
(4) شذرات الذهب: 1/304.
(5) وفيات الأعيان: 3/310.
(6) الفوائد: 127.



 فطوبى لعبد آثر الله ربه ... وجاد بدنياه لما يتوقع

إن من علامات حب الدنيا: حب أهل الدنيا، والتملق لهم، ومحاباتهم، وعدم إنكار منكرهم.. وقد أكد ذلك سفيان الثوري بقوله: إني لأعرف حب الرجل للدنيا، بتسليمه على أهل الدنيا (1) .
وانظر إلى الفقير الصالح المتعفف.. لا يتحدث معه.. بل ويسلم عليه سلام من يخاف أن يعديه بفقره.. السلام: بأطراف الأصابع.. والسؤال عن الحال: فيه عبوس وجه، وسوء أدب.
والتفت -أخي- يمنة لترى كيف وقف القوم .. يهللون ويرحبون .. من القادم؟ إنه من أهل الدنيا .. من حاز الدينار والدرهم.. وربما أنه لا يصلي..
وربما يصم الآذان، ويزكم الأنوف.. سوء عمله.. ولكن انظر الفرق.. بين من لو أقسم على الله لأبره، وكيف هو لا يسأل عنه، إن غاب أو حضر، وبين من لا يزن عند الله جناح بعوضة كيف استقباله والحفاوة به..
إنها الدنيا..

واعلم بأن المرء غير مخلد ... والناس بعد لغيرهم أخبار

قال عبد الله بن عون: إن من كان قبلنا كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم (2) .
أخي المسلم:
إن عمر الدنيا والله قصير، وأغنى غني فيها فقير، وكأني بك في عرصة الموت، وقد استنشقت ريح الغربة قبل الرحيل، ورأيت أثر اليتم في الولد قبل الفراق، فتيقظ إذن من رقدة الغفلة، وانتبه من السكرة، وأقلع حب الدنيا من قلبك، فإن العبد إذا أغمض عينه وتولى، تمنى الإقالة فقيل كلا (3) .
في يوم من أيام الحياة ستدبر الدنيا وتقبل الآخرة.. وما كان بعيدًا أضحى قريبًا.. وما كنت تراه في الذاهبين.. سيراه الأحياء فيك.. موت فجأة.. أو مرض بغتة.. أو أنت على فراشك تحمل إلى قبرك .. إنها عبر ترى ومصارع تترى.. ونحن في غفلتنا نائمون.. وفي غينا تائهون.

تبًا لطالب دنيا لا بقاء لها ... كأنما هي في تصريفها حلم
__________
(1) حلية الأولياء: 7/37.
(2) صفة الصفوة: 3/101.

صفاؤها كدر، وسراؤها ضرر ... أمانها غرر، أنوارها ظلم
شبابها هرم، راحاتها سقم ... لذاتها ندم، وجدانها عدم
لا يستفيق من الأنكاد صاحبها ... لو كان يملك ما قد ضمنت إرم
فخل عنها، ولا تركن لزهرتها ... فإنها نعم في طيتها نقم
واعمل لدار نعيم لا نفاد لها ... ولا يخاف بها موت ولا هرم (1)

قال أبو حازم: من عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء .. ولم يحزن على بلوى.
وقال علي بن أبي طالب: من جمع فيه ست خصال لم يدع للجنة مطلبًا ولا عن النار مهربًا، أولها: من عرف الله وأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الآخرة فطلبها (2) .

وحسن ظنك بالأيام معجزة ... فظن شرًا وكن منها على وجل

والوجل -أخي الكريم- هو الخوف مما ذكره الفضيل بن عياض بقوله: الدخول في الدنيا هين، ولكن الخروج منها شديد (3) .
الخروج أنفاس تتوقف.. ولحظات عصيبة.. تنتزع فيها الروح انتزاعًا.. وحتى إن كان الخروج سهلاً، فإن الجري وراء الدنيا واللهث وراء المادة.. يجلب تشتت الذهن وكثرة الهموم.. واضطراب النفس.

أرى الدنيا لمن هي في يديه ... هموما كلما كثرت لديه
تهين المكرمين لها بصفر ... وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه ... وخذ ما أنت محتاج إليه (4)

أخي الحبيب:
كن من أبناء الآخرة، ولا تكن من أبناء الدنيا، فإن الولد يتبع الأم، والدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها، فكيف تعدو خلفها (5) ؟

انفض يديك من الدنيا وساكنها ... فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا (6)

قالت امرأة حبيب بن محمد: كان يقول: إن مت اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني، وافعلي كذا واصنعي كذا، فقيل لامرأته: أرأى رؤيا؟ قالت: هذا قوله كل يوم (7) .
__________
(1) مكاشفة القلوب: 329.
(2) الإحياء: 3/221.
(3) الإحياء: 3/224.
(4) الإحياء: 2/344.
(5) الفوائد: 68.
(6) شذرات الذهب: 3/388.
(7) صفة الصفوة: 3/320.

أخي.. إذا استغنى الناس بالدنيا، فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم؛ لينالوا بهم العزة والرفعة، فتعرف أنت إلى الله، وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة (1) .
وخطب عمر بن عبد العزيز فقال في خطبته: لكل سفر زاد، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من عذابه، فترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلبكم. وتنقادوا لعدوكم، فإن الله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يمسي بعد إصباحه، ولا يصبح بعد إمسائه، وربما كانت له كامنة بين ذلك خطرات الموت والمنايا، وإنما يطمئن من وثق بالنجاة من عذاب الله وأهوال يوم القيامة، فأما من لا يداوي من الدنيا كلما إلا أصابه جارح من ناحية أخرى، فكيف يطمئن؟ أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي، فتخسر صفقتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق (2) .

يا لاهيًا بالمنايا قد غره الأمل ... وأنت عما قليل سوف ترتحل
تبغي اللحوق بلا زاد تقدمه ... إن المخفين لما شمروا وصلوا
لا تركنن إلى الدنيا وزخرفها ... فأنت من عاجل الدنيا ستنتقل
أصبحت ترجو غدًا يأتي وبعد غد ... ورب ذي أمل قد خانه الأمل
هذا شبابك قد ولت بشاشته ... ما بعد شيبك لا لهو ولا جدل
ماذا التعلل بالدنيا وقد نشرت ... لأهلها صحة في طيها علل (3)

قال محمد بن أبي عمران: سمعت حاتمًا الأصم وسأله رجل: على ما بنيت أمرك هذا في التوكل على الله؟ قال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري، فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة، فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت فأنا مستحي منه.
__________
(1) الفوائد: 152.
(2) البداية والنهاية: 9/283.
(3) التبصرة: 1/49.

زعم الذين تشرقوا وتغربوا ... أن الغريب وإن أعز ذليل
فأجبتهم إن الغريب إذا اتقى ... حيث استقل به الركاب جليل (1)

قال عبد الله بن المبارك: يابن آدم.. استعد للآخرة، وأطع الله بقدر حاجتك إليه، وأغضب الله بقدر صبرك على النار.
سبحانك ربنا لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. نعصيك بجهلنا وتعفوا برحمتك.
هذا الفضيل بن عياض يصور حال المؤمن في هذه الدار بقوله: المؤمن في الدنيا مهموم حزين.. همه مرمة جهازه، ومن كان في الدنيا كذلك، فلا هم له إلا التزود بما ينفعه عند العود إلى وطنه، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم (2) .

إنما الدنيا فناء ... ليس للدنيا ثبوت
إنما الدنيا كبيت ... نسجته العنكبوت (3)

قال وهيب بن الورد: اتق أن تسب إبليس في العلانية وأنت صديقه في السر.
فهذا إبليس، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى أرسو قلاعهم ليصدوا المسلم عن دينه ويزينوا له العثرات... فإنهم يعملون في هذه الدنيا لصده عن الحق وتزيين المعصية.
أخي الحبيب:
الدنيا مضمار سباق وقد انعقد الغبار وخفي السابق، والناس في المضمار بين فارس وراجل وأصحاب حمر معقرة...

سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار؟

ونحن نسير إلى آجالنا.. تنقص أعمارنا وتدنو نهاياتنا.. نسير: لاهون غافلون، لا نحسب لهذا اليوم حساب.. ولا نتجهز ليوم المعاد.
قال الحسن: تؤمل أن تعمر عمر نوح، وأمر الله يطرق كل ليلة (4) .

يؤمل دنيا لتبقى له ... فوافى المنية قبل الأمل
حثيثًا يروي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل (5)

قال أبو حازم سلمة بن دينار: إن كان يغنيك من الدنيا ما يكفيك، فأدنى عيش من الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيء يكفيك (6) .
__________
(1) شذرات الذهب: 6/349.
(2) جامع العلوم والحكم: 379.
(3) الشافعي: 54.
(4) الزهد: للحسن البصري.
(5) صفة الصفوة: 4/65.

فوالله رأينا من يملك الدنيا رحل بكفن.. ورأينا من لا يملك من الدنيا شيء رحل بكفن.. تساوى الجميع عند هذه الحفرة -القبر- واختلفوا في داخلها.. فإما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من
حفر النار.
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق
والليالي متجر الإنسان والأيام سوق (1)
عندما سئل أبو صفوان الرعيني: ما هي الدنيا التي ذمها الله في القرآن، والتي ينبغي للعاقل أن يتجنبها؟ فقال: كل ما أحببت في الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أحببت منها تريد به الآخرة فليس منها (2) .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصف الدنيا: حلالها حساب، وحرامها النار.
وقيل: أوحي إلى داود عليه السلام: يا داود: إني لأنظر إلى الشيخ في كل يوم صباحًا ومساءً وأقول له: يا عبدي، كبر سنك، ورق جلدك، ودق عظمك، وحان قدومك علي، فاستحي مني فإني استحي منك (3) .

يا بؤس للإنسان في الـ ... ـدنيا وإن نال الأمل
يعيش مكتوم العلل ... فيها ومكتوم الأجل
بينا يرى في صحة ... مغتبطًا قيل اعتلل
وبينما يوجد فيـ ... ـها ثاويًا قيل انتقل
فأوفر الحظ لمن ... يتبعه حسن العمل (4)

قال الحسن رضي الله عنه: يابن آدم، إنما هي أيام إذا مضى يومك ينقصك.
ولهفنا ولهثنا وراء الدنيا.. نخاف من الفقر ونطمع في جمع الحطام.. كأننا نخلد أو نبقى فيها إلى الأبد.. نخاف الفقر، ولا نخاف الحساب.. نخاف الجوع، ولا نخاف من التقريع والعقاب.
قال يحيى بن معاذ رحمة الله عليه: مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة (5) .
وانظر إلى حال من سلف كما قال عنهم الحسن البصري: والذي نفسي بيده، لقد أدركت أقوامًا كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه.

نذم زمانا ما له من جناية ... ونشكوه لو يغني عن المرء شكواه
ولا ذنب فيها للزمان وإنما ... جنينا فعوقبنا بما جنيناه
__________
(1) الزهد: للبيهقي 317.
(2) تزكية النفوس: 128.
(3) الزهر الفائح: 42.
(4) تاريخ بغداد: 10/367.
(5) الإحياء: 4/ 170.

هو القدر الجاري على الكره والرضا ... فصبر وتسليمًا لما قدر الله (1)

قال الفضيل، يفصل واقع الأيام، ويحكى سيرها: إنما أمس: فعل، واليوم: عمل، وغدًا. أمل (2) .

أخي المسلم:
إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادًا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك.
كتب بعض السلف إلى أخ له: يا أخي: يخيل إليك أنك مقيم، بل أنت دائب السير، تساق مع ذلك سوقًا حثيثًا، الموت متوجه إليك، والدنيا تطوى من ورائك. وما مضى من عمرك فليس بكار عليك يوم التغابن (3) .
ونحن نسير في ركب الزاهدين وتمر بنا قوافل الصالحين.. كيف نرى الجمع بين الدنيا والآخرة.. وبين الزهد والقناعة..
قال علي بن الفضيل: سمعت أبي يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع، كيف ذا؟ قال: يا أبا علي، إنما أفعل ذلك لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، قال: يا ابن المبارك.. ما أحسن هذا إن تم هذا!!
أخي الحبيب:
كيف ترانا على هذه الدنيا؟! ما أحسن الدنيا إذا أتت من حلال.. وصرفت في حلال.. فأوجه الخير لا تحصى.. فمن: صدقة، إلى إعانة ملهوف، ونجدة مصاب.. إلى رعاية أرامل، وكفالة أيتام.
أخي.. قال سفيان: احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك، واحذر أن يراك وأنت لا ترضى بما قسم لك، وأن تطلب شيئًا من الدنيا فلا تجده أن تسخط على ربك.
__________
(1) جنة الرضا: 2/260.
(2) السير: 8/ 427.
(3) جامع العلوم والحكم: 381.

إن من قسم الأرزاق في هذه الدنيا هو: الله، فلا بد أن ترضى لما قسم لك قل أو كثر.. أتى أو ذهب.. وسواء أقبلت الدنيا أو أدبرت.. لا بد أن ترضى بنصيبك منها ولا تشغل بالك.. فلا تتسخط لما قسم لك الله، ولا تنظر إلى من أعلى منك دنيا، ولكن انظر إلى الصالحين الأخيار..

من شاء عيشًا رحيبًا يستطيل به ... في دينه ثم في دنياه إقبالاً
فلينظرن إلى من فوقه ورعًا ... ولينظرن إلى من دونه مالا (1)

وخير من ذلك كله ما قاله -جل وعلا- في محكم كتابه: { لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [طه: 131].
قال إبراهيم الأشعث: سمعت الفضيل يقول: رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله وزهادته في الدنيا على قدر رغبته في الآخرة، من عمل بما علم استغنى عما لا يعلم، ومن عمل بما علم وفقه الله لما يعلم، ومن ساء خلقه شان دينه وحسبه ومروءته (2) .
قال بعض الزهاد: ما علمت أن أحدًا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها: بذكر، أو صلاة، أو قراءة، أو إحسان، فقال له رجل: إني أكثر البكاء، فقال: إنك إن تضحك مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك. وإن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه، فقال: أوصني، فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها، وكن في الدنيا كالنحلة إن أكلت أكلت طيبًا وإن أطعمت أطعمت طيبًا، وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه (3) .
أخي الحبيب:
ما تذكر أحد الموت إلا هانت الدنيا في عينه، وزالت الغشاوة من أمام ناظره.. فإنها سنوات معدودة مهما جمعت فيها ومهما حصلت على كنوزها؛ فإن وراء ذلك هادم اللذات ومفرق الجماعات.
قال الحسن: إن الموت فضح الدنيا، فلم يترك لذي لب فيها فرحًا (4) .
وأي فرح -أخي- وها هي الدنيا..
__________
(1) الإحياء: 4/ 131.
(2) السير: 8/ 426.
(3) الفوائد: 153.
(4) تاريخ بغداد: 14/444.

قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر أفنيته ... وجامع بددت ما يجمع (1)

قال أبو عبيدة الناجي -رحمه الله-: دخلنا على الحسن البصري -رحمه الله- في يومه الذي مات فيه، فقال: مرحبًا بكم وأهلاً، وحياكم الله بالسلام، وأحلنا وإياكم دار المقام، هذه علانية حسنة إن صدقتم وصبرتم، فلا يكونن حظكم من هذا الأمر أن تسمعوه بهذه الآذان، وتخرجوه من هذه الأفواه، فإن مَنْ رأى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآه غاديًا ورائحًا، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، ولكن رفع له علم فشمر إليه.. الوحا الوحا، النجاء النجاء، علام تعرجون؟ ارتبتم ورب الكعبة، كأنكم والأمر معًا، رحم الله امرءًا جعل العيش عيشًا واحدًا، فأكل كسرة، ولبس خلقًا، ولصق بالأرض، واجتهد في العبادة، وبكى على الخطيئة، وفر من العقوبة، وطلب الرحمة، حتى يأتيه أجله وهو على ذلك (2) .
قال النابغة الجعدي عن الدنيا وحال الإنسان فيها:

المرء يرغب في الحيا ... ة وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويبـ ... ـقى بعد حلو العيش مره
وتسوءه الأيام حتـ ... ـى ما يرى شيئًا يسره
__________
(1) طبقات الشافعية: 6/78.
(2) العاقبة: 89.

روى أبو كبشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الدنيا أربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا، ولم يرزقه مالاً؛ فهو صادق النية، فيقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا فهو يتخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم فيه لله حقًا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، وهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان؛ فهو بنيته فوزرهما سواء» (1) .
أخي الحبيب:
يكفي من الدنيا أنها مزرعة الآخرة، وأنها موسم العبادات وزمن الطاعات، فيها نتزود للآخرة.. ونسير مرحلة إلى الآجلة.

لا تتبع الدنيا وأيامها ... ذمًا وإن دارت بك الدائرة
من شرف الدنيا ومن فضلها ... أن بها تستدرك الآخرة (2)

قال الفضيل -رحمه الله-: جعل الله الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل الخير كله في بيت مفتاحه الزهد في الدنيا (3) .
أخي الحبيب.. أين نحن من هؤلاء؟
قال عبد الله بن داود: كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه، أي كان لا ينام طول الليل، يصلي ويسبح ويستغفر.. يستدرك ما مضى من عمره ويستعد لما أقبل من أيامه.

إن لله رجالاً فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحي وطنا
جعلوا لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا

كان عبد الله بن ثعلبة يقول في موعظته: تضحك يا هذا ولعل أكفانك عند القصار!! (4) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم: 429.الحديث رواه أحمد والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح [تحفة الأحوذي 6/1615] وقال الشيخ الألباني، صحيح.
(2) أدب الدنيا والدين: 134.
(3) الإحياء: 4/257.
(4) العاقبة: 88

يا راقدًا وقد أوذن بالرحيل، يا مشيد البنيان في مدارج السيول، بادر العمل قبل انقضاء العمر.. لا تنس من يعد الأنفاس للقائك.
أخي الحبيب:

خذ من الرزق ما كفا ... ومن العيش ما صفا
كل هذا سينقضي ... كسراج إذا انطفا

قال يحيى بن معاذ: الدنيا ذات اشتغال، والآخرة دار أهوال، ولا يزال العبد بين الأشغال والأهوال حتى يستقر به القرار، إما إلى جنة وإما إلى نار (1) .
أخي المسلم:
من بذل وسعه في التفكر التام، علم أن هذه الدار رحلة، فجمع للسفر رحله، ويعلم أن مبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات، ثم إلى الدنيا، ثم إلى القبر، ثم إلى الحشر، ثم إلى دار الإقامة الأبدية، فدار الإقامة هي دار السلام من جميع الآفات، وهي دار الخلود، والعدو سبانا إلى دار الدنيا، فنجتهد في فكاك أسرنا، ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى. وليعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير ويقطع بالأنفاس، ويسير بالإنسان سير السفينة ولا يحس بسيرها وهو جالس فيها.
ولا بد له في سفره من زاد، ولا زاد إلى الآخرة إلا التقوى، فلا بد من تعب الشخص والتصبر على مرارة التقوى، لئلا يقول وقت السير: رب ارجعون، فيقال: كلا، فلينتبه الغافل من كسل مسيره، فإن الله تعالى يريه في قطع مسافة سفره آيات يرسلها تخويفًا لعباده، لئلا يميلوا عن طريقهم المستقيم، ونهجهم القويم، فمن مالت به راحلته عن طريق الاستقامة، فرأى ما يخاف منه، فليرغب إلى الله بالرجوع إليه عما ارتكبه من السبل، فيتوب من معصيته (2) .
والحال في الدنيا كما وصفها الربيع بن خثيم عندما سئل: كيف أصبحت يا أبا يزيد؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا (3) .
وكان شميط بن عجلان يقول إذا وصف أهل الدنيا: حيارى سكارى، فارسهم يركض، وراجلهم يسعى سعيًا، لا غنيهم ولا فقيرهم يقنع (4) .
أخي:
__________
(1) الزهد: للبيهقي، 248.
(2) عدة الصابرين: 330.
(3) صفة الصفوة: 3/67.
(4) صفة الصفوة: 3/ 346.

خذ القناعة من دنياك وارض بها ... لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن

ومن استعد للقاء الله، واستثمر أوقاته فيما يعود عليه نفعها في الآخرة؛ فإنه سيفرح يوم لا ينفع مال ولا بنون.. يوم تتطاير الصحف، وترتجف القلوب، وتتقلب الأفئدة.. وترى الناس سكارى وما هم بسكارى.. ولكن عذاب الله شديد.
قال أنس بن عياض: رأيت صفوان بن سليم.. لو قيل له غدًا القيامة، ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة (1) .
هؤلاء قوم جاهدوا أنفسهم.. وتفكروا في آخرتهم.. واستعدوا لمعادهم.

إذا ما عدت النفس ... عن الحق زجرناها
وإن مالت إلى الدنيا ... عن الأخرى منعناها
تخادعنا ونخدعها ... وبالصبر غلبناها (2)

قال محمد بن الحنفية: كل ما لا يبتغى به وجه الله يضمحل (3) .
فمن أراد الدنيا للدنيا انقطعت عنه مع أنفاسه الأخيرة.. وولت هاربة عنه في لحظاته الرهيبة.. ومن أراد الدنيا طريقًا إلى الآخرة وسبلاً إلى جنة عرضها السموات والأرض، فحسبه ما طرق.. وسبيله إلى دار السلام برحمة من الله ورضوان.
وأهل الطاعة والصلاح قوم مثلنا يحبون الدنيا وزينتها، ولكنهم قدموا باقية على فانية، فسهل الله لهم الطريق وأذل لهم الصعاب.

صبرت على اللذات لما تولت ... وألزمت نفسي صبرها فاستمرت
وكانت على الأيام نفس عزيرة ... فلما رأت عزمي على الذل ذلت
فقلت لها يا نفس موتي كريمة ... فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت
خليلي لا والله ما من مصيبة ... تمر على الأيام إلا تجلت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت (4)
__________
(1) حلية الأولياء: 3/ 159.
(2) صفة الصفوة: 4/ 114.
(3) حلية الأولياء: 3/176.
(4) شذرات الذهب: 2/364.

قال رجل للفضيل بن عياض: كيف أصبحت يا أبا علي؟ فكان يثقل عليه، كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟! فقال: في عافية، فقال: كيف حالك؟ فقال: على أي حال تسأل؟ عن حال الدنيا أو حال الآخرة؟ إن كنت تسأل عن حال الدنيا فإن الدنيا قد مالت بنا وذهبت بنا كل مذهب، وإن كنت تسأل عن حال الآخرة فكيف ترى حال من كثرت ذنوبه، وضعف عمله، وفني عمره، ولم يتزود لمعاده، ولم يتأهب للموت، ولم يخضع للموت، ولم يتشمر للموت، ولم يتزين للموت... وتزين للدنيا (1) .
وحال الكثير منا يصفه عوف بن عبد الله حينما قال: إن من كان قبلكم كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم اليوم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم (2) .
وما نراه اليوم من بذل الأوقات والجهد والأخذ والعطاء والتدقيق والتمحيص لأجل الدنيا لوجدنا العجب... حتى إن البعض لو أراد شراء حاجة حقيرة أشغل نفسه أيامًا عديدة، وأضاع من أوقاته ساعات ثمينة... ولو رأيته في المسجد لرأيت نقر الصلاة وعدم الاهتمام بركوعها وسجودها.. بل ومسابقة الإمام.. يؤديها بغير خشوع.. ولا ترى منه الدموع.
فالكثير من الناس مهموم مغموم في أمور الدنيا، ولا يتحرك له طرف إذا فاتته مواسم الخيرات أو ساعات تحري الإجابات.. تراه لاهيًا، ساهيًا.. شاردًا.. يجمع ويطرح، ويزيد وينقص.. وكأن يومه الذي يمر به سيعود إليه.. أو شهره الذي مضى سيرجع إليه؟!
قال بندار يتحدث عن يحيى بن سعيد: اختلفت إليه عشرين سنة، فما أظن أنه عصي الله قط (3) .
أخي المسلم:

اصبر على مضض الإدلاج بالسحر ... وفي الرواح على الطاعات والبكر
لا تضجرن ولا يعجزك مطلبها ... فالهم يتلف بين اليأس والضجر
إني رأيت في الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطلبه ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر (4)
__________
(1) حلية الأولياء: 8/86.
(2) تذكرة الحفاظ: 1/299.
(3) موارد الظمآن: 3/276.
(4) عدة الصابرين: 355.

قال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم.. طلبت الدنيا طلب من لا بد له منها، وطلبت الآخرة طلب من لا حاجة له إليها، والدنيا قد كفيتها وإن لم تطلبها، والآخرة بالطلب منك تنالها .. فاعقل شأنك.
أخي الحبيب:
من العجب كل العجب أن العبد يصدق بدار الخلود، وهو يسعى لدار الغرور، فمن أحبه الله حماه عن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه عن الماء، وقد ورد في الحديث مرفوعًا: «إن الله لم يخلق خلقًا أبغض إليه من الدنيا، وإنه منذ خلقها لم ينظر إليها».
وقيل لعلي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين صف لنا الدنيا؟
قال: وما أصف لكم من دار: من صح فيها أمن، ومن سقم فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها النار.
وقد وصف الدنيا يونس بن عبيد فقال: ما شبهت الدنيا إلا كرجل نائم، فرأى في منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك إذ انتبه (1) .
وكان شميط بن عجلان يقول: إنسانان معذبان في الدنيا: غني أعطي دنيا فهو بها مشغول، وفقير زويت عنه فهو يتبعها نفسه، فنفسه تقطع عليها حسرات (2) .
وحين ذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب قال: الدنيا دار صدق لمن صادقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها (3) .
وكثير يذم الدنيا وأنها السبب في الطغيان والبعد عن الطاعة.. وما علم أنها دار للاستزادة .. بها الطريق إلى الجنة يبنى.. وبها التزود من الدرجات العلا.. ولكن:

يعيب الناس كلهم الزمان ... وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا ... فلو نطق الزمان به رمانا (4)
__________
(1) عدة الصابرين: 355.
(2) صفة الصفوة: 3/347.
(3) أدب الدنيا والدين: 134.
(4) الزهد للبيهقي: 157.

قال الأوزاعي يعظ الناس: تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة؛ التي تطلع على الأفئدة، فإنكم في دار الثواء (الإقامة) فيها قليل، وأنتم فيها مؤجلون، خلائف بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا آنقها وزهرتها، فهم كانوا أطول منكم أعمارًا وأمد أجساما، وأعظم آثارًا، فجرودا الجبال، وجابوا الصخور، ونقبوا في البلاد مؤثرين ببطش شديد: وأجساد كالعماد، فما لبثت الأيام والليالي أن طويت مدتهم، وعفت آثارهم، وأخوت منازلهم، وأنست ذكراهم، فما تحس منهم من أحد أو تسمع له ركزًا (1) . كانوا بلهو الأمل آمنين، لبيان قوم غافلين ولصباح قوم نادمين (2) .
أخي الحبيب:
لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
النظر الأول:
النظر في الدنيا وسرعة: زوالها، وفنائها، واضمحلالها، ونقصها، وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها.
النظر الثاني:
النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا، فهي كما قال سبحانه: { وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } فهي خيرات كاملة دائمة (3) .

ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل

إلا نعيم الجنة؛ جعلنا الله من أهله وممن يتفيأ ظلالها عن اليمين وعن الشمال.
أخي المسلم:
__________
(1) الركز: الصوت الخفي.
(2) الشكر: 15.
(3) الفوائد: 123.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم